رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القديس يوحنا ذهبي الفم وسر المعمودية إن كانت المسيحية هي دخول إلى الحياة الإنجيلية العملية، فإنه ليس من دخول إلى هذه الحياة بدون التوبة، إذ لا يستطيع المؤمن أن يمارس هذه الحياة الفاضلة بنفسه دون عون إلهي. "من يريد أن يقتفي أثر الفضيلة يلزمه أولًا أن يدين الشر، بعد ذلك يسلك في الفضيلة... التوبة وحدها لا تقدر أن تنقي من الرذيلة، لذا يتعمد المؤمنون حتى يستطيعوا بنعمة المسيح أن يحققوا الأمور التي يعجزون عن تنفيذها بأنفسهم. لا تكفي التوبة للتطهير، لذا يقبل المؤمنون على المعمودية(8)". "يسمع الغير عن العماد فيحسبونه مجرد ماء، أما أنا فلا أرى مجرد المادة المنظورة، بل أرى تنقية النفس بالروح. هم يحسبونه غسلًا للجسد، أما أنا فأومن أن النفس تتنقى وتتقدس. إني أحسبه القبر المقدس، القيامة، التقديس، البرّ، الخلاص، التبني، الميراث، الملكوت السماوي، تدفق كامل للروح. لست أحكم على هذه الأمور حسب الظاهر بل حسبما تراه عيني عقلي(9). "ليس للعماد اسم واحد، بل يحمل عدة أسماء متباينة: من أجل التطهير يدعى "جرن التجديد"، إذ يقول: "خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس(10)". ويدعى أيضًا "استنارة". هكذا دعاه القديس بولس قائلًا: "لكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعد ما أُنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة(11)". يدعى أيضًا "معمودية"، "لأن كثيرين الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح(12)". يدعي "دفنا"، إذ يقول: "دفنا معه بالمعمودية للموت(13)". يدعى "صليبًا" إذ أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية(14). وهكذا يمكننا أن نورد أسماء أخرى غير هذه(15)...". "خلال المعمودية تقبلنا غفران الخطايا والتقديس وشركة الروح والتبني والحياة الأبدية، فماذا تطلبون بعد؟(16)". "عظيم هو العماد، بدونه يستحيل بلوغ الملكوت(17)". الروح القدس الذي كان يرف على وجه المياه يخلق، ينزل على المعمودية ويرف عليها، يعيد خلقتنا روحيًا... هذا هو سرّ المعمودية الذي فيه ننزع من الزيتونة البرية ونطعم في المسيح يسوع فنصير زيتونة جديدة(19) بفعل الروح القدس... في هذا السرّ ننال الميلاد الجديد حيث ننعم بالبنوة للآب(20)، فنصير أبناء الملكوت، لنا حق الميراث الأبدي كقول السيد نفسه لنيقوديموس: "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق فلا يقدر أن يعاين ملكوت الله... الحق الحق أقول إن لم يولد الإنسان من الماء والروح فلا يقدر أن يعاين ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو. والمولود من الروح هو روح(21)". أما أقوال القديس في هذا الشأن، فهي: "ليس بأم وأب، ليس باجتماع بشر، ولا بآلام المخاض نولد ثانية، ولكن من الروح القدس تصنع أنسجة طبيعتنا الجديدة، وفي الماء نشكل، ومن الماء نولد سرًا كما من الرحم... الرحم يحتاج إلى زمن كثير يتشكل فيه الجسد، أما الماء والروح فمنهما يتشكل حياة الروح، في لحظة، في طرفة عين(22)". "الذي يعتمد للمسيح لا يولد من الله فقط، بل يلبس المسيح أيضًا. لا نأخذ هذا بالمعنى الأدبي، كأنه عمل من أعمال المحبة، بل هو حقيقة. فالتجسد جعل اتحادنا بالمسيح وشركتنا في الألوهة أمرًا واقعًا(23)". تحدث القديس عن هذا الميلاد الجديد كميلاد فائق للطبيعة يرمز إليه بميلاد إسحق من سارة العاقر الحرة، الذي تحقق بوعد إلهي فائق للطبيعة "ميلادنا ليس حسب الطبيعة، إنما يتم بالكلمات التي ينطق بها الكاهن، والتي يعرفها المؤمنون، فيكون جرن المعمودية أشبه برحم فيه يشكل المعمد ويولد، إذن نحن أولاد العاقر، نحن أحرارًا(24)". "في العماد يتحقق عربون ميثاقنا مع الله: الموت والدفن والقيامة والحياة. يحدث هذا كله دفعة واحدة. عندما نغطس برؤوسنا في الماء يدفن الإنسان العتيق كما في القبر من أسفل، يغطس بكماله إلى الأبد. وإذ نقيم رؤوسنا من جديد يقوم فينا الإنسان الجديد عوض العتيق. كما يسهل علينا أن نغطس برؤوسنا ونقيمها ثانية، هكذا يسهل على الله أن يدفن الإنسان القديم ويظهر الجديد. هذا يحدث ثلاث دفعات لكي تعلموا أن ما يتم إنما هو بقوة الآب والابن والروح القدس. ولئلا تظنوا أن ما أقوله هو على سبيل الحدس اسمع ما يقوله بولس(25): "دفنا معه بالمعمودية للموت"، وأيضًا "إنساننا العتيق قد صلب معه"، "متحدين معه بشبه موته". ليس فقط المعمودية تدعى صليبًا، بل والصليب أيضًا يدعى معمودية، إذ يقول المسيح: "بالمعمودية التي اعتمد بها تتعمدان(26)"، "لي معمودية اعتمد بها(27)". وكما يسهل علينا أن نغطس رؤوسنا ونقيمها ثانية، هكذا في أكثر سهولة مات المسيح وقام حين أراد ذلك وأن كان قد بقي ثلاثة أيام من أجل تدبير السر(28). "العماد هو الصليب. ما قد حدث بالنسبة للمسيح في الصلب والدفن يصنعه العماد معنا، وأن كان ليس بذات الطريقة. لقد مات المسيح بالجسد ودفن، أما نحن فنموت عن الخطية وندفن... إن كنت تشاركه الموت والدفن، فبالأولى تشاركه القيامة والحياة(29)". يكرر القديس ذات العبارات تقريبًا في عظاته على الرسالة إلى العبرانيين، إذ يقول: "العماد هو صليب... كما مات المسيح بالصليب، هكذا نموت نحن في المعمودية، لكننا لا نموت حسب الجسد، بل نموت عن الخطية. انظر. يوجد موتان: موت المسيح حسب الجسد، أما نحن فدفن إنساننا العتيق وقام إنساننا الجديد حاملًا شكل موته... ما هو العماد إلا دخول في الموت والقيامة؟(30)". مرة أخرى يتحدث عن المعمودية كموت وقيامة، هدم وبناء، قائلًا: "لا تعجب من حدوث ولادة وهلاك في المعمودية... هذا هو عمل النار، تصهر الشمع وتستهلكه، وتحل العناصر المعدنية في الأرض وتخرج ذهبًا. قبل العماد كنا أرضا، وبعده نصير ذهبًا، "الإنسان الأول من الأرض ترابي، والإنسان الثاني الرب من السماء(31)".... "هنا يخلق الإنسان لا من الماء ولا من الأرض، إنما يخلق في برّ الحق وقداسته... يخلق الله في المعمودية ابنًا له(32)". ويعلق القديس على كلمات القديس بولس: "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ(33)"، قائلًا: "يشير بذلك إلى المعمودية... معلنا طريق الحياة لتي تعيشها أعضاؤنا الميتة... فإنها لا تفعل شيئًا لا يوافق المسيح(34)". يقول: "أقامنا معه(35) بواسطة جرن المعمودية، فكيف يجلسنا معه...؟ إن كنا نتألم معه فسنملك أيضًا معه(36)، إنما إن كنا نموت معه فسنحيا معه. حقًا إننا محتاجون إلى الروح والإعلان لنتفهم أعماق هذه الأسرار(37)". مرة أخرى يقول: "بالمعمودية لم يجعلنا ملائكة ولا رؤساء ملائكة، بل أبناء الله المحبوبين لديه... إذ تذكر هذا أظهر حياتك مستحقة لحب ذلك الذي دعاك. أظهر مواطنتك لذاك العالم (السماوي) وللكرامة التي أعطيت لك أعلن بوضوح أنك مواطن في المدينة السماوية. لا تهتم بالأرضيات فإن كان جسدك لم ينتقل بعد إلى السماء إلا أن رأسك ماكث هناك في الأعالي(38)". كشف القديس يوحنا الذهبي الفم النظرة الكنسية الأصيلة لسر العماد، فإن الإنسان مهما بلغ جهاده أو أخلاقياته أو سلوكه لا يقدر أن ينعم بالنبوة لله بغير التمتع بشركة الصلب والدفن والقيامة خلال المعمودية، وفي نفس الوقت ليست المعمودية عملًا جامدًا يمارسه المؤمن في حياته مرة وانتهت، لكنها هي حياة دائمة مستمرة، تبقى فاعلية المعمودية طوال حياة المؤمن تبثه على الجهاد الروحي والسمو المستمر. أدرك أهمية المعمودية فأعلن أسفه على من لم ينعم بها، إذ يقول في إحدى عظاته: "أي موت مفاجئ قبل التكريس (المعمودية) يدفع بالنفس بالرغم من جميع فضائلها الزمنية إلى جهنم، وكأسها المسموم ونارها الأبدية؟.. "ابك على غير المؤمنين، واندب الذين لا يختلفون عنهم في شيء، هؤلاء الذين رحلوا دون أن ينعموا بالاستنارة، وبغير أن ينالوا الختم. هؤلاء بحق يستحقون سكب الدموع عليهم، ويستوجبون تنهداتنا، لأنهم مطرودون من المواضع الملوكية مع المجرمين الذين تحت الحكم، فقد قيل(39): الحق أقول لكم إن لم يولد الإنسان من الماء والروح لن يدخل ملكوت السموات(40)". يحزن القديس أيضًا على الذين يرجئون نوالهم سرّ العماد إلى النفَس الأخير خشية أن يخطئوا، ظانين أنهم بهذا ينعمون بالحياة الأبدية دون خطية(41) أنهم يشوِّهون السرّ، فإنه قد أعطى لنا كسر قوة حية وعاملة فينا للجهاد والنمو، لهذا نجده يقول: "قبول العماد قبل النفس الأخير بمثابة تسجيل الإنسان اسمه في قوائم الجيش قبيل انتهاء الحرب مباشرة، أو تكون بمثابة مصارع يخلع ثيابه بينما يبدأ جمهور المشاهدين مغادرته الحلبة... لقد وهبنا السيد المسيح العماد لا لنتقبله ونموت، بل لنعيش ويثمر(42)". يحدث الموعوظين عن العماد كبداية جهاد، قائلًا: إذ تتقبل الختم تصير جنديًا مهيئًا حسنًا للنصرة على الشيطان(43)". ويحدث المؤمنين الذين نالوا هذا السرَ، قائلًا: "ليس للشيطان أن يهاجمك إلا عندما يراك قد نلت كرامة أعظم(44)". "ليس الماء مجردًا هو الذي يعمل بل نعمة الروح التي تتقبلها المياه والتي تغفر خطايانا"، "العماد يجعل الإنسان أخًا وشريكًا في الأسرار الإلهية(45)". إذ نتقبل العمد ننال غفران خطايانا ونتمتع بالشركة مع الثالوث القدوس وندخل إلى الأسرار الإلهية خلال عمل روح الله فينا. هذا الثمر الحامل للرائحة الإلهية الذكية يتطلب من جانبنا جهادًا مستمرًا. "إننا نُمسح في المعمودية، فتفوح فينا رائحة ذكية، أما من جانبنا فيليق بنا أن نهتم بالبقاء في هذه الرائحة(46)". "يليق بالمؤمن أن يكون مشرقًا لا بما يتقبله من الله فحسب (في المعمودية) وإنما بما يساهم به من (جهاد). يليق به أن يكون متعقلًا في كل شيء، في مشيه ونظراته وملابسه وصوته(47)". "في حالة استنارتنا عندما يزرعنا المسيح وينعم علينا أن نرتوي بالروح إن لم تظهر ثمرًا تنتظرنا نار جهنم غير المنطفئة(48)". حياتنا تحتاج إلى جهاد مستمر بواسطة النعمة الموهوبة لنا في المعمودية... وأن ضعُفنا فلا نكف عن التوبة لنعيش كما يليق كأولاد لله. "الله لا يسمح أن نسقط في ضيقات (خطايا) عظيمة هكذا، فنخطئ بعد نوالنا سرّ العماد. لكن إن حدث هذا فالله رحوم، أعطانا طرقًا كثيرة لنوال المغفرة. إلا أن الذين يخطئون بعد نوالهم العماد يعاقبون بأكثر قسوة من الموعوظين. أما الذين يعرفون طرق العلاج بالتوبة ولا يتوبون فهؤلاء عقابهم أشد(49)". "لقد وهبنا الحياة لنبقى أحياء ولا نعود إلى موتنا السابق، لأن المسيح لا يموت أيضًا، لأن الموت الذي ماته قد ماته لأجل الخطية مرة واحدة(50). أنه لا يريدنا أن نخلص بالنعمة وحدها كأننا دائمًا فارغون من كل شيء لكنه يريدنا أن نشترك بنصيب من جانبنا. لنساهم نحن في حفظ حياة النفس(51)". "إذ دُفعت خطايانا في المعمودية لا تعود تظهر بل تختفي ما دمنا نود التوبة(52)". "هذا هو عمل الله فينا: أن نولد سريًا، ونتنقى من كل خطايانا السابقة خلال المعمودية. أما أن نبقى في المستقبل أتقياء بلا عيب فهذا من سلطاننا وبجهادنا(53)". لئلا نفهم سلطاننا وجهادنا أنه مجهود ذاتي من عندياتنا يقول: "في المعمودية تُدفن الخطايا وتمحى الأمور القديمة(54)، ويصير الإنسان حيًا تنقش النعمة في قلبه كما على لوح..."، أي يصير جهاده بعمل النعمة المنقوشة في قلبه مرة أخرى يؤكد أن الروح القدس هو سرّ حياتنا. "العهد الجديد لا يهب فقط الحياة، بل يهبنا الروح واهب الحياة، الذي هو أعظم من الحياة ذاتها(55)". يقارن بين الخلقة الأولى حيث وجد الإنسان، جنة عدن وبين تجديد الخلقة في جرن المعمودية قائلًا: "هناك كان العبد مع سيده، أما هنا فيتم الميثاق بين صديق وصديقه. هناك قيل "يوم تأكل منها موتًا تموت"، فكان التهديد هو الوسيلة، أما هنا فلا أثر للتهديد... هنا يوجد عري كما كان هناك، لكن العري هناك سببه الخطية، أما هنا فيتم العري لكي يتحرر الإنسان من الخطية. هناك خلع الإنسان مجدًا سبق أن ناله، أما هنا فيخلع إنسانه العتيق، يخلعه بسهولة كما يخلع ثوبه قبل صعوده من المعمودية. هنا يدهن ليحسب مصارعًا مدرجًا اسمه في قائمة المصارعين. هنا يتم الميلاد مرة واحدة وليس تدريجيًا... هناك أخذ الله ترابًا من الأرض وخلق الإنسان، أما هنا فلا أثر للتراب، إنما الروح القدس هو الذي يشكله ويجعله صالحًا... الله لا ينطق هنا (ليخلق) في الفردوس، بل في السماء، فإن ما يحدث لا يتم على الأرض بل ينقلك إلى السماء في حضرة الملائكة. يرفع الله نفسك إلى فوق ويصلحها، ويقيمها بجوار عرشه الملوكي. في الماء يتشكل الإنسان، فيتقبل الروح عوض النفس، ولا يحضر له الله حيوانات بل يأتي إليه بالشياطين مع رئيسها، قائلًا له: "تطأ الحيات والعقارب(56)". يقيمك الله لا لتحفظ الجنة بل لتصير مواطنًا سماويًا. لا تعود تبصر أودية أو أشجار أو ينبوعًا، بل تنال الرب نفسه وتختلط بجسده العلوي الذي لا يقدر الشيطان أن يقترب إليه... فإنك مادمت لا تنزل إليه لا يقدر هو على الصعود إليك، لأنك في السماء، أنه لا يقترب إلى السماء. هنا لا توجد شجرة معرفة الخير والشر، بل توجد شجرة الحياة وحدها. لا يعود يخلق من جنبك امرأة، إنما قد أخذنا نحن جميعًا من جنب المسيح(57)...". |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
القديس يوحنا ذهبي الفم المعمودية والفردوس الأول |
القديس يوحنا ذهبي الفم يا لقوة المعمودية |
القديس يوحنا ذهبي الفم ومن سمه |
القديس يوحنا ذهبي الفم |
كتب القديس يوحنا ذهبى الفم |