رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
فَجاءَ إلى ناحِيَةِ الأُردُنِّ كُلِّها، يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا، تشير عبارة "فَجاءَ ناحِيَةِ الأُردُنِّ كُلِّها" إلى قدوم يوحَنَّا المعمدان البَرِّيَّة منفردا مناديا في ناحية الأردن، وكان فيها عدد لا بأس فيه من السكان، نتيجة للأبنية التي شيَّدها هيرودُس الكبير وهيرودُس أرخلاوس. وكانت تشكل هذه الناحية مكاناً لنشاط يوحَنَّا المعمدان، كما أنَّ الجليل واليهودية كانا يشكِّلان مكان نشاط يسوع. بدأ يوحَنَّا حياته في البَرِّيَّة ولكنه كرَز في نواحي الأردن. أمَّا عبارة "ناحِيَةِ" في الأصل اليوناني περίχωρος, (تعني منطقة مستديرة) فتشير إلى الأماكن المحيطة بالأردن. وهذا الأمر يدلُّ على أن يوحَنَّا كان يجول للكرازة في تلك المنطقة غير مقيم بمكان واحد. أمَّا عبارة "يُنادي" في الأصل اليوناني κηρύσσω وفي العبرية יִּקְרְאּ فتشير إلى المناداة باسم الملك كما هو الشأن مع يوسف في مصر "نَزَعَ فِرعَونُ خاتَمَه مِن يَدِه وجعَلَه في يَدِ يوسف، وأَلبَسَه ثِيابَ كَتَّانٍ ناعِم وجَعَلَ طَوقَ الذَّهَبِ في عُنُقِه، وأَركَبَه مَركَبَتَه الثَّانِيَة، ونادَوا أَمامَه: ((اِحذَرْ)). وهكذا أَقامَه على كُلِّ أَرضِ مِصْر"(تكوين 41: 42-43). ثم انتقل المعنى إلى الحقل الديني أي المناداة العلنية باسم الله "أُنفُخوا في البوقِ في صِهْيون وآهتِفوا (نادوا) في جَبَلِ قُدْسي ولْيَرتَعِدْ جَميعُ سُكَانِ الأَرض فإِنَّ يَومَ الرَّبِّ آتٍ وهو قَريب "(يوئيل 2: 1). ويُستعمل هنا هذا الفعل "يُنادي" للدلالة على كرازة يوحَنَّا المعمدان، ويطلقه لوقا الإنجيلي أيضا على كرازة يسوع الأولية (لوقا 4: 18-19) وعلى تبشيره العادي (لوقا 4: 44 و8: 1) وعلى كرازة الرسل (لوقا 9: 2 و12: 3) وعلى كرازة بولس الرسول (أعمال الرسل 9: 20) وسائر المُرسلين (لوقا 8: 39)، وعلى كرازة الكنيسة الأولى (أعمال الرسل 8: 5). ويجدر بالذكر أن فعلي "نادى" و"بَشَّر" هما شبه مترادفين؛ أمَّا عبارة ِ"مَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا" فتشير إلى مضمون المناداة. وفي إنجيل متى، يرد مضمون المناداة بإيجاز بعبارة " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات " (متى 3: 2)، أو يُشار إليه بعبارتي "بشارة الملكوت" (متى 4: 23) أو "البشارة" (متى 26: 13). فمعمودية التوبة هي علامة التوبة. والمراد بها الإشارة إلى أن الذين اعتمدوا فتطهَّروا من الخطايا السالفة وأخذوا يحيون حياة جديدة (متّى 3: 1-11) ومرقس 1: 4-6). ولم تكن المعمودية الخارجية ذات قيمة إلا َّبما سبقها واقترن بها من التوبة الحقيقية القلبية. وكانت التوبة مقترنة بالاعتراف كما جاء في إنجيل متّى ومرقس " مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم" (متى 3: 6، مرقس 1: 5). وكانت المعمودية علامة المغفرة بالنظر إلى الله كما أنها كانت علامة التوبة علامة المغفرة بالنظر إلى الإنسان. أمَّا عبارة "مَعمودِيَّةِ" فتشير الاغتسال الذي كان يُمارس في الدين اليهودي للأطِّهار من النجاسات الطقسية (مرقس 7: 4)؛ أمَّا معمودية يوحَنَّا فأنها تختلف عنها حيث لا تُمنح إلا مرَّة واحدة، كاستعداد أخير إلى الدينونة أي إلى معمودية آخر الأزمنة (مرقس 1: 8)، إذ جاء يوحَنَّا بمعموديَّته يُهيئ الطريق لمعموديّة السيِّد المسيح. وهي تحتوي على شرط جوهري، أي التحول الباطني (متى 3: 2). وتهدف هذه المعمودية إلى مغفرة الخطايا، التي كانوا ينتظرونها منذ ذلك الحين حيث أنها هبة من ملكوت الله المُعلن عنه كما جاء ف نبوءة أشعيا " فأغتَسِلوا وتَطَهَّروا وأَزيلوا شَرَّ أَعْمالِكم مِن أَمامِ عَينَيَّ وكُفُّوا عنِ الإِساءَة " (أشعيا 1: 16). أمَّا عبارة "تَوبَةٍ" في الأصل اليوناني μετάνοια (تغيير في العقلية) فتشير إلى تبديل في القلوب والنظر في الأمور. وهو موضوع رئيسي عالجه إرميا والأنبياء في العهد القديم، ورد بلفظة عبرية שׁוּבָה أي تغيير الطريق والعودة دون شرط إلى إله العهد. فالتوبة موقف تحوُّل من الخطيئة إلى البِّر، لذلك تقتضي التوبة تغييراً في السلوك واتخاذ اتجاهاً جديداً في أسلوب الحياة كلها، وبالتالي فهي لا تكتفي بالانتماء إلى نسل إبراهيم لنيل الخلاص، بل بتبديل عميق على مستوى السلوك، والانفتاح على ما يطلبه يوحَنَّا المعمدان. وهي من وصايا يسوع الأخيرة لرسله "تُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم" (لوقا 24: 37). الله الذي يعمل وما علينا إلاَّ أن نتجاوب مع ندائه بعمل ظاهر. فعلامة التوبة هي قبول العماد. أمَّا عبارة "غُفرانِ الخَطايا" فتشير إلى ستر الخطيئة للمؤمن فرداً كان أو شعباً وعدم حساب الله لها ومحو المعاصي والآثام وستر وجه الله عنها كما ترنَّم صاحب المزامير " طوبى لِمَن مَعصِيَته غُفِرَت وخَطيئَته سُتِرَت" (مزمور 32: 1) وعدم تذكرها (أشعيا 43: 25 وعبرانيين 8: 12). وهنا صدق قول الشاعر والكاتب الإنكليزي وِلْيَمْ شكسبير: "الإنسان يغفر والله ينسى". والغفران هو حقا صفة من صفات الله المقدسة (مرقس 2: 5ـ 12). وعطية الله للمؤمن (أعمال الرسل 13: 38) بواسطة كفارة المسيح عن بني البشر (عبرانيين 9: 9ـ 28). وإن الخطايا سيتم غفرانها تماماً على صورة الجبال التي ستُخفض وتزول كما اعلم يوحنا المنعدمان "كُلُّ وادٍ يُردَم وكُلُّ جَبَلٍ وتَلٍّ يُخفَض والطُّرُقُ الـمُنعَرِجَةُ تُقَوَّم والوَعْرَةُ تُسَهَّل" (يوحنا 3: 5). |
|