رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تَمَّ ذلكَ يَومَ ظَهَرَ يوحَنَّا المَعمَدانُ في البَرِّيَّة، يُنادي بِمَعْموديَّة تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا تشير عبارة "تَمَّ ذلكَ يَومَ ظَهَرَ" إلى بَدء كرازة يوحَنَّا المَعمَدانُ في سنة 26 ب. م. ومن المُرجَّح أنَّها كانت السَّنة السَّبتية مما مكّن الشَّعب الذي كان مُنقطعًا عن العمل، من الذِّهاب إليه في غور الأُردُنِّ؛ إذ يبدأ إنجيل مرقس مُعلنًا رسالة يوحَنَّا المَعمَدانُ دون ذكر خبر طفولته. فذكر مرقس يوحَنَّا المَعمَدانُ مُتمِّمًا للنبوءتين السَّابقتين (مرقس 1: 1، 2) وجعل كرازته مُقدِّمة لإنجيل يسوع وجزءً منه. أمَّا عبارة "يوحَنَّا " في الأصل اليُونَاني Ἰωάννης (لفظة مشتقة من العبرية יוֹחָנָן ومعناها الله حنون) فتشير إلى يوحَنَّا المَعمَدانُ الذي وُلد تقريبا سنة 7 ق. م. وهو ابن زكريا الكاهن وأليصابات ونسيب يسوع، دُعي وكُرِّس منذ ولادته ليكون سابقًا للمسيح (لوقا 1: 5 -25 و57 – 85). وتقول التَّقاليد أنه وُلد في قرية عين كارم المُتصلة بأورشليم من الجنوب (لوقا 1: 39)، وكان أبواه يسكنان اليهودية، يطَّا القريبة من حبرون(الخليل)، مدينة الكهنة. وكانا محرومين من بركة النَّسل فانعم الله عليهما بابن في شيخوختهما أسمياه يوحَنَّا؛ وأن مصدر عظمته الشَّخصية هو امتلاؤه من الرُّوح القُدُس، ومصدر عظمته الوظيفية يكمن في انه مُعدَّ لطريق الرَّبّ، ومُتمِّمًا النبوة التي كان يتوق إليها كل يهودي، وهي أن إيليا، يأتي قدام المسيح، ويُهيئ للرب شعبًا " إِن شِئتُم أَن تَفهَموا، فهُو إِيلِيَّا الَّذي سيَأتي" (متى 11: 14). ونراه في رجولته ناسكًا زاهدًا على خُطى إيليا النَّبِيِّ؛ وهناك تقارب بين ما نادى به إيليا وما نادى به يوحَنَّا؛ والتَّشابه أيضًا في مظهرهما الخارجي ولبسهما ومعيشتهما واضح للعيان من مقارنة قصة حياتهما. ويُقال أنّ يوحَنَّا المَعمَدانُ، كان لمُدّة من الزَّمن أحد أعضاء ألأسّينِيّين الذين اتخذوا مركزهم خربة قمران قرب بحر الميت. وحوالي نهاية سنة 27 أو مطلع سنة 28 أمر هيرودس انتيباس رئيس الرُّبع بزجه في السجن في مكاور، لأنَّه وبَّخه على فجوره (لوقا 3: 19 -20). وبعد ثلاثة أشهر أمر بقطع رأسه حسب رغبة هيروديا وابنتها سألومه؛ ويقول ايرونيموس "أنَّ تلاميذه حملوه إلى سبسطية ودفنوه هناك بجانب ضريح اليشاع وعوبديا". ويذكره القرآن الكريم باسم " يَحْيَى" المُغَطِّس: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا" (سورة مريم 7:19). أمَّا عبارة " ظَهَرَ يوحَنَّا المَعمَدانُ في البَرِّيَّة " فتشير إلى إتمام نبوءات العهد القديم التي ذكرت أن يوحَنَّا سيكون" صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة" (أشعيا 40: 3)؛ وبالتالي فهو حلقة الوصل بين نبوءة أشعيا وبشرى الإنجيل الـمُعلن بحسب مرقس. لذلك يصبح يوحنّا نموذجًا للمُبشر بمَجِيء الرب بكلامه وحياته. أمَّا فعل "ينادي" κηρύσσων (معناها يكرِز) فيشير إلى المُناداة باسم الملك (التَّكوين 41: 43)، وانتقل المعنى على الصَّعيد الدِّيني، وهو المناداة باسم الله (يوئيل 2: 1). وهي المناداة العلنيَّة بإعلان البِشارَة، والبِشارَة في المفهوم المسيحي هي الكرازة بمَجِيء يسوع المسيح على الأرض مُوجَّهة إلى جميع النَّاس (لوقا 2: 1)، وهذه البِشارَة هي عمل الله في يسوع المسيح. وهذا الإعلان هو مُهِمَّة الرُّسُل، كما صرّح بولس الرَّسول "فقَد لَقِينا في فيلِبِّيَ العَذابَ والإِهانَةَ كما تَعلَمون، ولكِنَّنا جَرؤْنا، لِثِقَتِنا بِإِلهِنا، أَن نُكلِّمَكم بِبِشارَة الله في جِهادٍ كَثير"(1 تسالونيقي 2: 2). فقد نادى يوحَنَّا المَعمَدانُ الشَّعب بمَعْموديَّة التَّوبة، ودعا النَّاس إلى قبولها وطالبهم أن يقوِّموا حياتهم، ويتخلّوا عن طرقهم الأنانية، ويتركوا خطاياهم، ويطلبوا المَغفرة من الله. وهذا يسترعي الانتباه بأن البُشرى السَّارة عن مَجِيء المسيح بدأت بانتفاضة دينيَّة، وليس بثورة سياسيَّة كما هو في العادة. والمناداة بالبِشارَة هي من لغة المسيحيَّة القديمة (1 تسالونيقي 2: 9)، وقد أطلقها لوقا الإنجيلي على مناداة يسوع الأولى العلنيَّة (لوقا 4: 18-19) وعلى تبشيره العادي (لوقا 4: 44) وعلى تبشير الرُّسُل (لوقا 9: 2) وتبشير بولس الرَّسول (أعمال الرُّسُل 9: 20) وسائر المُرسلين (لوقا 8: 39). أمَّا كلمة "مَعْموديَّة" فهي تستعمل في العهد الجديد على ثلاث دلالات: تشير أولا إلى الاغتسال الذي يُمارسه اليهود للتطهير من النجاسات الطَّقسية، كما ورد في الإنجيل "وإذا رجَعوا مِنَ السُّوق، لا يَأكُلونَ إِلاَّ بَعدَ أَن يَغتَسِلوا بِإِتْقان. وهُناكَ أَشياءُ أُخرى كَثيرةٌ مِنَ السُّنَّةِ يَتمسَّكونَ بها، كَغَسْلِ الكُؤُوسِ والجِرارِ وآنِيَةِ النُّحاس"(مرقس 7: 4)؛ والدَّلالة الثَّانية هي مَعْموديَّة يوحَنَّا وهي معروضة لجميع النَّاس وليس لليهود فقط ولا تُمنح إلاَّ مرّة واحدة، وكان الشَّخص المُعَّمد قد قرَّر تغيير حياته متخلّيًا عن حياة الخطيئة والأنانية وعائدًا إلى الله، وهي مَعْموديَّة التَّوبة وتقوم بوضع الماء على الشَّخص إشارة إلى توبته عن الخطيئة وكُرْهِه إيَّاها وإصلاح سيرته. وبالتَّالي تُعدُّ هذه المَعْموديَّة النَّاس لعطية الملكوت، وهي عطية مَعْموديَّة السَّيد المسيح "أنا عَمَّدتُكم بِالماء، وأَمَّا هُوَ فيُعَمِّدُكم بِالرُّوحِ القُدُس"(مرقس 1: 8). أمَّا الدَّلالة الثَّالثَّة فتشير إلى مَعْموديَّة يسوع؛ وهي ترتبط بموت المسيح وقيامته " وهي رَمزٌ لِلمَعْموديَّة الَّتي تُنَجِّيكُم ُالآنَ أَنتم أَيضًا، إِذ لَيسَ المُرادُ بِها إِزالَةَ أَقْذارِ الجَسَد، بل مُعاهَدةُ اللهِ بضميرٍ صالِح، بِفَضْلِ قِيَامَةِ يسوعَ المسيح" (1بطرس 3: 21)، وتحتوي على التَّحوّل الباطني " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات" (متى 3: 2)، وتهدف إلى مغفرة الخطايا. وهي هبة من ملكوت الله المُعلن عنه. أمَّا كلمة " التَّوبة " في الأصل اليُونَاني (μετάνοια) (معناها تغيير في العقلية، وتغيير في القلب ثم في العمل) فتشير في العهد الجديد إلى معنى أعمق وهو رجوع الإنْسَان إلى نفسه لتغيير في عقليته وسلوكه (لوقا 3: 1-20). فالتوبة تدلُّ على موقف به يتحوّل الإنْسَان من الخطيئة إلى البِرِّ، وتبديل الحياة والانفتاح على ذاك الذي يُهيئ له يوحَنَّا الطَّريق، وعودة غير مشروطة إلى المسيح. وعلامة التَّوبة هي قبول المَعْموديَّة على يد يوحَنَّا. ومن هنا يُستدل على أنَّ يوحَنَّا كان يقف في خط الأنبياء الذين نادوا بالتَّوبة (هوشع 5: 3-4). وقد بدأ يوحَنَّا يكرز بالتَّوبة في منطقة الأُردُنِّ مُستخدمًا المَعْموديَّة علامة للتوبة مُتمِّمًا بذلك نبوءة أشعيا "أغتَسِلوا وتَطَهَّروا وأَزيلوا شَرَّ أَعْمالِكم مِن أَمامِ عَينَيَّ وكُفُّوا عنِ الإِساءَة"(أشعيا 1: 16). وهذه التَّوبة هي استعداد لنوال الخلاص، وهي تُعدُّ النَّاس لعطيَّة الملكوت. أمَّا عبارة "غُفرانِ الخَطايا" فتشير إلى تبدُّل القلب، والإقرار بالخطايا والانطلاقة في حياة جديدة. وتوضِّح هذه الآية ماهية خدمة يوحَنَّا المَعمَدانُ الإعدادية وتأثيرها ورسالته وقوتها الأدبية، وهي" ِمَعْموديَّة تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا" لإعداد قلوب النَّاس لملاقاة المسيح. |
|