الأحد الثّالِث من زمن السنة
﴿هَاءَنَذا أَرْسِلْني﴾ (أشعيا 8:69)
إنَّ اللهَ كُليَّ القُدرَة، الَّذي لا يُعجِزُهُ شَيء، اِرتَأى أَنْ يَدعُوَ بَشَرًا مِثلَنَا، إِلَيهم يَعهَدُ بِحملِ الرِّسَالَةِ لِسَائِرِ النَّاس! وهَذهِ الدَّعوةُ تَرتَبِطُ دَومًا بالْمُنَادَاةِ إلى التَّوبَة، والوَعدِ بالخَلاص. فَهَا هُوَ الرَّبُّ في قِرَاءَةِ هَذا الأحدِ الأُولَى، يُفْرِدُ يُونانَ النَّبيّ، لِيَنطَلِقَ إلى مَدينَةِ نِينَوَى، دَاعِيًا أَهلَهَا إلى التَّوبَةِ والرُّجُوعِ إلى الله. وَمِنْ قَبلِ يُونَان، كَانَتْ دَعوَتُهُ تَعالَى إلى إبراهيمَ الخَليلِ أَبي الآبَاء، ومِنْ بَعدِهِ إلى مُوسَى كَليمِ الله، وإلى إيليَّا نَبيِّهِ الْمُقْتَدِر.
وَلَعَلَّ اللهَ الكُليَّ الحِكمَة، والّذي بالرَّغمِ مِنْ عِلْمِهِ الكَامِلِ بِمَدَى ضُعفِنا البَشريِّ، وكَثرَةِ آَثامِنَا، وقِلَّةِ أَمَانَتِنَا، إلّا أَنَّهُ لا يَنْفَكُّ يَدْعُو ويُقيمُ أُناسًا مِنَّا رُسُلًا ومُبَشِّرين. فَعِندَمَا دَعَا اللهُ نَبِيَّهُ أشعيا، كانَ يَعلَمُ بإثمِه، ومَعْ ذلِكَ دَعَاه. فَنَقرَأُ في الفَصلِ السَّادسِ كَيفَ وَصَفَ أَشعيا نَفسَهُ ودَعوَتَهُ، قَائِلًا: ﴿وَيلٌ لِي لِأَنَّي رَجُلٌ نَجِسُ الشَّفَتَين. فَطَارَ إِلَيَّ أَحَدُ السَّرافين، وبِيَدِه جَمرَةٌ، ومَسَّ بِها فَمِي، وقَال: هَا إنَّ هَذهِ قَدْ مَسَّت شَفَتَيكَ، فأُزيلَ إِثمُكَ وكُفِّرَتْ خَطيئَتُكَ. وسَمِعتُ صَوتَ السَّيِّدِ قَائلًا: مَنْ أُرسِلْ، ومَنْ يَنطَلِقُ لَنَا؟ فَقُلتُ: هَاءَنذا فَأَرسِلْني﴾ (أش 5:6-8).
أَمَّا في دَعوتِهِ لِإرميا، فَنَرَى كَيفَ أنَّ الرَّبَّ يُشَدِّدُ إرمِيَا، ويَدْعُوهُ إلى نَبذِ الخَوف، لأنَّهُ نَاصِرُهُ، فَيَقول: ﴿إنَّكَ لِكُلِّ مَا أُرسِلُكَ لَهُ تَذْهَب، وكُلَّ مَا آَمُرُكَ بِهِ تَقول. لا تَخَفْ مِنْ وُجوهِهم، ولَا تَفْزَع. فَإِنِّي جَعَلتُكَ مَدينَةً حَصِينَة، فَيُحَارِبونَكَ ولا يَقوَونَ علَيك، لِأَنِّي مَعَكَ لِأُنقِذَكَ﴾ (راجِع إر 4:1-19). فَاللهُ دَاعِينَا، والعَارِفُ بِمَا فينَا، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَشفينَا، وبِنعمَتِهِ يُقَوِّينَا، لِلقِيامِ بالرِّسَالةِ الّتي يُوكِلُهَا إِلينَا.
وفي العَهدِ الجَديد، عَهدِ النِّعمَةِ والحَق، يَستَمِرُّ اللهُ مِنْ خِلالِ كَلِمتِهِ يَسوعَ الْمَسيح، في نَفسِ نَهجِ الدَّعوَةِ والاختِيَار. فَهَا نحنُ نَراهُ في إنجيلِ هَذا الأحدِ الثَّالِثِ مِن زَمنِ السَّنَة، يَدْعُو بُطرسَ وأَندراوسَ ويَعقوبَ ويُوَحَنَّا. وجَميعُهم كَانُوا رِجَالًا بُسطَاءَ عَادِيّين، صَيَّادي سَمك. لَيسَ ذَلِكَ فَحَسب، بَلْ اختَارَ أَيضًا عَشَّارًا مُحِبًّا لِلمَالِ فِيمَا سَلَف، اسمُهُ مَتّى. واختَارَ أيضًا يَهوذَا الإسخريوطيّ، الّذي رُبَّما كَانَ بإمكَانِهِ أنْ يَتَوبَ ويَرجِع، ولَكِنَّهُ فَضَّلَ اليَأسَ والانتِحَار. بِنَاءً عَلَى كُلِّ هَذا، نَسْتَخلِصُ مَا يَلي:
أَوّلًا: صَلُّوا لِأجلِ رُعَاةِ نُفُوسِكُم. فَالرِّسَالَةُ إلى العِبرانيّين تَقول: ﴿إِنَّ كُلَّ عَظيمِ كَهَنَةٍ يُؤخَذُ مِنْ بَينِ النَّاس، ويُقامُ مِن أَجلِ النَّاس، لِيُقَرِّبَ قَرابينَ وذَبائِحَ كَفَّارَةً لِلخَطايا. وهُوَ نَفْسُهُ مُتَسَربِلٌ بِالضُّعْف، فَعَلَيهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ الضُّعْف، أَن يُقَرِّبَ كَفَّارَةً لِخَطاياه، كَمَا يُقَرِّبُ كَفَّارةً لِخَطايا الشَّعْب﴾ (عب 1:5-3). فالأساقِفَةُ والكَهنَة، لَيْسُوا مَلائِكةً هَبَطُوا عَلَينَا مِنَ السَّمَواتِ العُلَى، ولا هُمْ بَشَرٌ خَارِقُون مِنْ جَبلَةٍ أُخرَى، بَلْ بَشرٌ مِثْلُنَا، يُجَرَّبُونَ ويُخطِؤون. وعَلينَا أَنْ نَرفَعَ الدُّعاءَ لأجلِهم باستِمرار، لِيَظَلُّوا أُمَنَاءَ لِلرّسَالةِ الّتي أُعطِيَتْ لَهم.
ثانيًا: إيمانُكَ يَقومُ فَقَط عَلَى الْمَسيح، ولَيسَ عَلَى الأشخَاص. فالرُّعاةُ هُمْ وَسيلَةٌ اختَارَهَا اللهُ، لِحملِ الإيمانِ وخِدمَةِ البِشَارَة. لِذَلِك، إنْ أَنكرَ بَعضُ الرُّعاةِ كَبُطرس، أَو خَانَ بَعضُهم كَيَهوذَا، فَلا يَتَزَعزَعَنَّ إيمانُكَ، ولا يَضْطَرِبنَّ قَلبُكَ. وعَلَيه، لا تُعَلِّقْ قَلبَكَ بالرُّعَاة، ولا تَعقِدْ عَلَى البَشَرِ الرَّجَاء، مَهمَا بَلَغُوا مِنَ دَرَجاتِ التَّقوَى والقَدَاسَة، وهوَ أَمرٌ جَيِّدٌ وَصَالِح. ومعْ ذلِكَ، أَلْقِ الاتِّكَالَ والثِّقَةَ فَقَط عَلَى اللهِ وبِهِ وَحَدَهُ، الّذي هُوَ ثَابِتٌ لا يَتَغيّر، حَتّى لا يخيبَ رَجُاؤُكَ يَومًا وتُحبَط.
ثالِثًا: ﴿لا تَدينوا لِئَلَّا تُدَانوا﴾ (متّى 1:7). أُترُكُوا الحُكمَ للحَاكِمِ الْمُطْلَق، والقَضَاءَ لِلْقَاضي الأزَليّ. وعِوَضًا عَنْ إدانَةِ الرُّعاةِ وجَلدِهِم وذَمِّهم عِندمَا يُخطِؤون، اهْتَمُّوا بِتَخليصِ نُفوسِكُم، والدُّعاءِ لأجلِهم، حَتَّى يَتُوبوا ويَرجِعُوا. فَمَا دُمنَا في سِجلِ الأحياءِ عَلى وَجهِ هَذهِ الفانِيَة، فَنحنُ كُلُّنا، رُعَاةٌ ومُؤمِنون، عُرضَةٌ للسَّيرِ في طُرقِ الهَلاك، فَلِكُلٍّ مِنَّا قَدرٌ كَافٍ وَافٍ مِنَ الخَطايا والآثام. ولِذلكَ نحتاجُ جميعُنَا بلا اسْتِثناء لِرَحمةِ اللهِ ونِعمَتِه، لِنُوجَدَ أَهلًا لِلنّجاةِ يَومَ نَمثُلُ أَمَامَ قَضَاءِ اللهِ العَادِلِ يومَ الدَّينُونَة!
وعَليه، دَعُوني أَعودُ وإيّاكُم، إلى مَا قَالَهُ أشعيا النّبيّ: ﴿وَيلٌ لي قَدْ هَلَكتُ، لِأَنَّي رَجُلٌ نَجِسُ الشَّفَتَين، وأَنا مُقيمٌ بَينَ شَعبٍ نَجسِ الشِّفَاه﴾. (أش 5:6). فَلْنَكُفَّ إذًا عَنِ الْمُزاوَدَةِ عَلَى بَعضِنا البَعض، فَكُلُّنا نحتاجُ إلى التَّوبَة، وكُلُّنا نحتاجُ إلى الارتِداد.
وتَذَكَّر يا صَديقي، أَنَّكَ إنْ كُنتَ اليوم تَلعَبُ دَورَ البَطلِ الْمُنزَّه الجَلَّاد، لأنَّكَ تُجيدُ إخفَاءَ مَا عِندِكَ مِنْ قُبحٍ، فَقَد تُصبِحُ غَدًا الضَّحيةَ الْمَعيوبَ الْمُساقَ إلى الجَلد. فَارْحَمُوا علَّكُم تُرْحَمُون. واللهُ مِنْ وراءِ القَصد!