الأحد الثّالِث من زمن الصوم ﴿أَنْتُم هَيكَلُ الله﴾

[Mary Naeem]

الأحد الثّالِث من زمن الصوم




﴿أَنْتُم هَيكَلُ الله﴾ (1قور 16:3)



﴿أَمَّا هُوَ فَكانَ يَعني هَيكَلَ جَسَدِهِ﴾ (يو 21:2). هَذا التَّعليقُ البَسيطُ الّذي أَتَى البَشيرُ يُوحَّنَا عَلَى ذِكرِهِ، يَدُلُّ عَلَى الحَالَةِ العَميقَةِ مِنْ عَدمِ الفَهمِ الّتي كَانَتْ تَنتَابُ اليَهودَ إِزاءَ مَا كَانَ يَسوعُ يَقول! فَفي الوَقتِ الّذي كَانَ يَعني بِكَلامِهِ شَيئًا، كَانَ اليَهودُ يَفهمونَ شَيئًا مُغَايرًا ومَغلُوطًا تَمامًا. وفِيهِم يَتمُّ قَولُ الكِتَابِ: ﴿تَسْمَعونَ سَماعًا ولا تَفهَمُون، وتَنْظُرونَ نَظَرًا ولا تُبْصِرون. فَقَدْ غَلُظَ قَلبُ هَذَا الشَّعبِ، وأَصَمُّوا آَذَانَهم، وأَغمَضُوا عُيونَهم، لِئَلاَّ يُبْصِروا بِعيونِهم، ويَسْمَعُوا بِآذانِهم، ويَفهَموا بِقُلوبِهم، ويَرجِعوا﴾ (متّى 14:13-15).



الجِدالُ بَينَ الْمَسيحِ وبَينَ اليَهود، مُمَثّلِينَ بِقَيادَتِهم الدِّينيَّةِ والْمَدَنيّة، كَانَ جِدَالًا عَقيمًا، أَفضَى إلى نَتِيجَةٍ دَمَويَّةٍ، تَمثَّلَت بِصَلبِ الْمَسيحِ وقَتلِه. كَانَ جِدَالًا صَعبًا، اِصْطَدَمَ فِيهِ الْمَسيحُ بِنُفُوسٍ صَمَّاء، وعُقولٍ جَوفَاء، وقُلوبٍ عَجمَاء تَنْضَحُ مَكرًا وخُبثًا ولُؤمًا! وعَليهِم يَنطَبِقُ قَولُ الشَّاعِر: لَقَدْ أَسمَعتَ لَوْ نَاديتَ حَيًّا وَلَكِنْ لا حَيَاةَ، لِمَنْ تُنَادِي؟ والْمَسيحُ الّذي: ﴿لَم يَطمَئِنَّ إليهم لِأنَّهُ كَانَ يعرِفُهم كُلَّهم﴾ (يو 24:2)، قَالَ كَلِمَتَهُ في وُجوهِهم صَراحَةً وبِوُضُوح، دُونَ مُدَاهَنَةٍ وبِلا مُوَارَبَة. وهِيَ الكَلِمَةُ الّتي لِأجلِهَا دَفَعَ ثَمَنًا غالِيًا.



في دَعْوَتِه لِإرمِيا، يُخَاطِبُهُ الرَّبُّ مُشَدِّدًا عَزائِمِهُ، قَائِلًا: ﴿قُمْ وكَلِّمْهم بِكُلِّ مَا آَمُرُكَ بِهِ. لا تَفزَعْ مِنْ وُجُوهِهِم، وإِلَّا أَفزَعتُكَ أَمَامَهُم. فإِنِّي جَعَلتُكَ مَدينَةً حَصينةً، وعَمُودًا مِنْ حَديد، وأَسْوارًا مِن نُحاس. فَيُحَارِبونَكَ ولا يَقوَونَ علَيكَ، لِأَنِّي مَعَكَ يَقولُ الرَّبّ لِأُنقِذَكَ﴾ (17:1-19). وقَالَ أيضًا عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الْمَزامير: ﴿يَدعُوني فَأُجيبُهُ، أَنَا مَعَهُ في الضّيقِ فَأُنقِذُهُ وأُمَجِّدُهُ﴾ (15:91).



وَأَنْتَ أَيُّهُا الْمُؤمِن، أَمَامَ مَظَاهِرِ الشَّرِّ والنِّفَاقِ والاعوِجَاجِ والفَسَاد، أَمَامَكَ خَيَارَانِ لا ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا أَنْ تَسكُتَ وتصمِتَ وتَنْتَظِمَ في "طابور" الْمُنَافِقين والْمُعوَجِّين. وإِمَّا أَنْ تَقولَ كَلِمَةَ حَقٍّ في وَجهِ البَاطِلِ وأَهلِهِ، مُتَحَمِّلًا تَبِعَاتِ ذَلِك، مُلْقِيًا عَلَى الرَّبِّ اتِّكَالَكَ، عَالِمًا بِأنَّكَ لا تَخزَى، حَتَّى وإنْ شَرِبتَ كَأسَ الآلامِ الْمُرَّة. لِأنَّهُ كَمَا يَقولُ عَنترةُ بنُ شَدَّاد: لا تَسْقِني مَاءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ بَلْ فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ!



﴿أَمَّا هُوَ فَكانَ يَعني هَيكَلَ جَسَدِهِ﴾. إذَا فَكَّرنَا جَليًّا بهذِهِ الجُزئيّةِ البَسيطَة، نَكتَشِفُ العُمْقَ الكامِنَ فِيهَا! فالْيَهودُ يا أَحِبّة كَانُوا مُبْهُورينَ بِعَظَمَةِ هَيكَلِهِم الحَجَريّ، وَمَأخُوذينَ بِسحرِهِ وجَمالِه. أَينَ هُوَ هَذَا الهَيكَلُ الآن؟ ﴿لم يُترَك مِنهُ حَجَرٌ عَلَى حَجَر﴾ (لوقا 6:21)، كَمَا سَبَقَ لِلرّبِّ أَنْ أَنْبَأ! نحنُ البَشَر عُمُومًا، عُشَّاقُ مَظَاهِر، مُدمِنُونَ عَلَى الشَّكلِيَّات، نَتَبَاهَى بالسَّطحِيَّات، نَبحَثُ دَومًا عَمَّا يُدغدِغُ كِبريَاءَنا، ويُغَذّي غُرُورَنا أَمَامَ النَّاس. ولَكِن، كَيفَ هُوَ حَالُ البَاطِنِ والجَوهر؟ كَيفَ هُوَ هَيكَلُكَ الدَّاخِليّ الّذي يَرَاهُ الله، ويَسبِرُ أَعمَقَ مَكنُونَاتِهِ؟! هَلْ هُوَ جَميلٌ بِقَدرِ جَمالِكَ الّذي تَغتَرُّ بِهِ؟



للْمسيحِ نَظرةٌ أُخرَى! هوَ يَنظُرُ إلى هَيكلِ الإنسانِ الدَّاخِليّ، يَنظُرُ إلى الجَوهَرِ والبَاطِن، وهَوُ البِنَاءُ الأهَم. فالهَيكَلُ والكَنيسَةُ، مَا هي إلّا وَسَائِلُ بُنِيَت، لِتُساعِدَ الإنسانَ عَلَى التَّقَرُّبِ مِنَ الله. ولَكِن مَا الفَائِدَةُ مِنْ كُلِّ جَمَالِها الخَارجِيّ، إنْ لم يَنْعَكِس عَلَى جَمالِنَا الدَّاخليّ، جَاعِلًا مِنَّا بَشَرًا أَكثرَ شَبَهًا بالْمَسيحِ الإلهِ والإنْسَان؟! وفي هَذَا الشَّأنِ يَكتُبُ القِدّيسُ بُولُسُ في رِسالِتِهِ الأولَى إلى أَهلِ قورنتوس، قَائِلًا: ﴿أَمَا تَعلَمُونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حَالٌّ فِيكُم؟ مَنْ هَدَمَ هَيكَلَ اللهِ هَدَمَه الله، لأَنَّ هَيكَلَ اللهِ مُقَدَّس، وهَذَا الهَيكَلُ هُوَ أَنتُم﴾ (1قور 16:3-17). ثُمَ يُضيفُ قَائِلًا: ﴿أَوَمَا تَعلَمونَ أَنَّ أَجسَادَكُم هِيَ هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُس، وهو فيكُم قد نِلتُمُوه مِنَ الله؟ فَمَجِّدوا اللهَ إِذًا بِأَجسادِكُم﴾ (19:6-20).



فَإذا كُنتَ أَيُّها الْمَسيحيُّ هَيكَلَ الله، فَابْني هَيكَلَكَ بالتَّقوَى، ودَعِّم أُسُسَهُ بأَعمَالِ البِرِّ والرَّحمَة، وَزَيّنهُ بالقَدَاسَة، واجعَلهُ يَعبَقُ بِبخورِ الأخلاقِ وَحُسنِ السّيرَة. عَلَى العُموم، كُلُّ إنسانٍ "بِشقَّهِ الخَارِجيّ" هُوَ بِنَاء، كَهيكلِ أورشليم. وكُلُّ بِنَاءٍ وإنْ طالَ فَمَصيرُهُ الزّوال، أيضًا مِثلَ هيكلِ أورشليم. والسّنونُ الّتي تَتوالَى عَليك سَنَةً تِلوَ سَنة، تهدِمُ بِنَاءَكَ حَجرًا تِلوَ حَجَر، إلى أنْ تَأتي سَاعتُكَ ولَنْ يَبقَى فيك حجرٌ عَلَى حَجر. وعِندَها، مَاذا سَيكونُ بَينَ يَديك لِتُقدِّمَهُ لله؟ مَسَاحِيقُ التَّجميل ومَصاريفُ عَمَليّاتِ الشّد لإخفَاءِ تَجاعِيدِ سَحنَتِكَ...؟