رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
فهم الكتب فهمًا روحيٌّا في الكتاب الرابع من مقال المبادئ، عرض أوريجان تعليمه حول الإلهام في الأسفار المقدَّسة، وحوْلَ مختلف مضامين النصِّ البيبليّ. وتكفي جولة قصيرة في هذه الصفحات لكي تبيِّن لنا كم هو مَدين للقدِّيس بولس. لا شكَّ في أنَّه كانت تأثيرات أخرى مُورست عليه. فأوريجان عرف أساليب التفسير التي كان يمارسها أصحابُ الصرف والنحو وفلاسفة العالم القديم. وعرف بشكل خاصٍّ التأويل عند فيلون، الذي وسَّع في قلب العالم اليهوديّ الهلِّنستيِّ، استعارات (أليغوريّات) عديدة بالنظر إلى أولى أسفار البيبليا. ولكن سبق هنري ده لوباك وبيَّن أنَّ التأويل الذي توسَّع فيه أوريجان هو من طابع مختلف جدٌّا، لأنَّه يستند أوَّلاً إلى الإيمان بالمسيح الذي يوصل الكتب المقدَّسة إلى تمامها. وهكذا أحبَّ أوريجان أن يورد لو 24: 27 حيث القائم من الموت شرح خلال لقائه مع تلميذيه في الطريق إلى عمّاوس »ما يعنيه في كلِّ الكتب«. وشدَّد على الأهمِّيَّة الخاصَّة التي يتمتَّع بها إنجيلُ يوحنّا، هذا الإنجيل »الذي لا يستطيع أحدٌ أن يدرك معناه إن لم يَنَم على صدر يسوع ولا يتقبَّل مريم كأمِّه«(7). فيبقى أنَّ الكتابات البولسيَّة هي هنا المرجع الرئيسيُّ لأوريجان، كما يبيِّنه بشكل خاصٍّ العرضُ في مقال المبادئ. ونقرأ أوَّلاً ما يلي: »النور الذي تتضمَّنه شريعةُ موسى التي كانت مخفيَّة من قبل تحت حجاب، شعَّت مع مجيء يسوع الذي نزع الحجاب وعرَّفنا شيئًا فشيئًا على الخيرات التي فيها امتلك الحرفُ الظلَّ«(8). هذا النصُّ يلمِّح إلى 2 كو 3: 14-16 (ذلك القناع... لا ينزعه إلاَّ المسيح). عاد أوريجان مرارًا إلى هذا النصِّ في مؤلَّفاته، وذكره ليبيِّن أنَّ اليهود لم يصلوا إلى الفهم الحقيقيِّ للأسفار المقدَّسة، لأنَّهم لبثوا في المعنى الحرفيِّ بدلاً من أن يقرأوها في روح المسيح. وفي مقال المبادئ يواصل أوريجان القراءة فيشرح أنَّ معنى الإنجيل يفرض، لكي نفهمه، نعمةً أعطيَتْ في الماضي لبولس. ويستعير أيضًا كلام الرسول: »نحن لنا فكر المسيح لكي نعرف ما منحنا الله: ما نقوله، لا نقوله في كلمات تعلِّمها الحكمة البشريَّة، بل في كلمات يعلِّمها الروح« (1 كو 2: 16. ثمَّ آ12-13). عندئذٍ يعرض أوريجان تعليمه حول معاني الأسفار المقدَّسة، ولهذا يستعيد المثلَّث الجسد والنفس والروح (1 تس 5: 23). ويوسِّع في توافق مع هذا المثلَّث، النظريَّةَ التي ينبغي بموجبها أن يُفهم النصُّ البيبليّ، لا بحسب مفهومه المباشر فقط (أي في حرفيَّته أو »بشريَّته«، على مستوى »اللحم« (والدم)، بل أيضًا بحسب معنى يوافق النفس (المعنى الخلقيّ)، وحسب معنى للإنسان »الكامل« (المعنى الروحيّ). ويورد، بالنسبة إلى هذا المعنى الأخير، 1 كو 2: 6 (نتحدَّث عن حكمة بين الكاملين). ويضيف إنَّ »الكامل« تبنيه »الشريعةُ الروحيَّة التي تتضمَّن ظلَّ الخيرات الآتية«(9). وها هي بعض أمثلة تعطي صورة عن المعاني الثلاث للأسفار المقدَّسة. واحد من هذه المعاني، أي المعنى الخلقيّ، أُخذ من 1 كو. نذكر أنَّ أوريجان أورد فيه فريضة من الشريعة (لا تكمَّ الثور في الدياس، تث 25: 4)، وقدَّم الشرح التالي: »هل يهتمُّ الله بالبقر؟ أو هل يقول هذا من أجلنا فقط؟ لأجلنا كُتب هذا، لأنَّ الذي يفلح ينبغي أن يفلح في الرجاء، والذي يدوس الحَبَّ على رجاء أن يأخذ حصَّته« (1كو 9: 9-10). ولكنَّ الأمثلة المتعلِّقة بالمعنى الثالث، بالمعنى الروحيّ، هي التي تبيِّن بشكل خاصٍّ الأساس البولسيَّ للتعليم الذي يتوسَّع فيه أوريجان: »قال الرسول في مكان ما، مستفيدًا من بعض نصوص سفرَيْ الخروج والعدد أن ''هذا حصل مثل أنماط τυπικως ولكنَّه كُتب من أجلنا نحن الذين وصلنا إلى نهاية الدهور''. ويستفيد من المناسبة ليفهم الذي جعل هذه الأحداث أنماطًا τυποιحين يقول: »كانوا يشربون من صخرة روحيَّة كانت ترافقهم، وهذه الصخرة هي المسيح«(10). عاد أوريجان هنا إلى 1 كو 10: 4، 6: فهم بولسُ أنَّ »الصخرة« التي شرب منها العبرانيّون دلَّت بشكل رمزيٍّ على المسيح. وإن كان مجمل العبرانيِّين لم يرضوا الله، وإن »كانت جثثهم ملأت البرِّيَّة«، فهذه الأحداث »حصلت لتكون لنا مثالاً (أنماطًا) لئلاَّ نشتهي الشرَّ كما اشتهوه هم«. وهكذا أعطى بولس أساسًا جوهريٌّا للتأويل »الأليغوريّ« (أو: الأنماطيّ)، سوف يتوسَّع فيه أوريجان بشكل كبير في مجمل عمله التأويليّ. فمعلِّم الإسكندريَّة عاد إلى عب 8: 5: »تصنع كلَّ شيء بحسب المثالτυπον الذي أُظهر لك على الجبل«. وذكر بشكل خاصٍّ الأليغوريا البولسيَّة حول هاجر وسارة (غل 4: 21-23). في الرسالة إلى الغلاطيِّين، أراد أن يلوم أولئك الذين يظنُّون أنَّهم يقرأون الشريعة ولا يفهمونها، ويحسبون أنَّهم لا يفهمونها لأنَّهم يعتبرون أنَّ لا أليغوريّات (أو: استيعارات) في هذه الكتابات، فكتب لهم: »قولولي، أنتم الذين تريدون أن تكونوا تحت الشريعة، أما تفهمون الشريعة؟ كُتب أنَّه كان لإبراهيم ابنان، واحد من الأمة وآخر من المرأة الحرَّة؟ فذاك الذي من الأمة وُلد بحسب اللحم (والدم، σαρζ)، وذاك الذي من المرأة الحرَّة، بحسب الوعد: هي أليغوريَّات (استعارات). هذان هما العهدان(11). لا شكَّ في أنَّ التأويل الأوريجانيّ عاد أيضًا في حالات عديدة إلى أليغوريّات لا علاقة لها بسرِّ المسيح. ويمكن القول إنَّ حُكمَه على التأويل اليهوديّ يجب أن يُكمَل بل أن يُصحَّح، بقدر ما هذا التأويل لا يتوقَّف فقط عند المعنى الحرفيّ. ويبقى أنَّ أوريجان كان على حقٍّ حين قال من الوجهة المسيحيَّة، إنَّ مجيء المسيحيّ يحوِّل قراءة الأسفار المقدَّسة، فيدعونا لنقرأ تحت حجاب الحرف، الصوَرَ المسبقة ونبوءات السرِّ الذي كشفته الآن كتابات العهد الجديد. وتدلُّ بالحقيقة إيراداتُه للنصوص البولسيَّة، كم كان واعيًا لكي يجعل نفسه هنا في خطِّ الرسول بالذات، فيجد فيه مثال التأويل الروحيّ »في فكر المسيح«. وهذا التأويل هو في النهاية، »من أجلنا«، بمعنى أنَّ سرَّ المسيح الذي خُفي أوَّلاً تحت حجاب الشريعة، ثمَّ تجلَّى في أيّام التأنُّس، يجب أن يتَّخذ جسدًا في حياة المؤمنين المدعوِّين لكي يصيروا »مسحاء«(12) آخرين ويحيوا من روحه. |
|