رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الواحد في الثالوث بقلم المتنيح: الأنبا غريغوريوسليس ثمت تناقض في الإيمان المسيحي بين القول بالوحدانية, والقول بالثالوث القدوس...فالله واحد في جوهره وذاته العلية...ولكن يوجد في هذا الجوهر الواحد ثلاثة أقانيم...والأقنوم...هو خاصية أو صفة ذاتية في الله...أي صفة أو خاصية تقوم بها الذات الإلهية, وبدونها تنعدم الذات الإلهية... وعلي ذلك ففي الجوهر الإلهي ثلاث خاصيات أو صفات ذاتية: الخاصية الأولي هي خاصية الوجود... ذلك أن الله هو أصل الوجود. وهو واجب الوجود, وبدونه لا يمكن تفسير الوجود, فإذا لم تكن لله صفة الوجود...فيكون الله معدوما... هذه الصفة الذاتية في الله هي التي تسمي(الآب)... والآب كلمة سامية سريانية معناها الأصل أو الوجود أو الكيان الإلهي...والخاصية الثانية...هي خاصية العقل والحكمة.. ذلك أن الله عاقل, وهو مصدر العقل والحكمة في كل الوجود سواء في الكائنات العاقلة أو في الكائنات غير العاقلة التي تحكمها القوة العاقلة في الكون المنظم الجميل...والذي ينطق جماله ونظامه بأن وراء الطبيعة عقلا جبارا هو عقل مهندس الكون الأعظم... فإذا لم يكن الله عاقلا فليس لله وجود, لأن الله عقل كله وليس فيه جسم...هذه الصفة الذاتية, صفة العقل أو الحكمة في الله هي التي نسميها(الابن) أو الكلمة... والخاصية الذاتية الثالثة هي خاصية (الحياة)... ذلك أن الله حي, وهو مصدر الحياة في كل الوجود...فإذا لم يكن الله حيا, كان ميتا...وبالتالي ليس له وجود...فالله إذن حي, وهو الحياة... هذه الخاصية الذاتية في الله...هي خاصية الحياة...هي التي نسميها(الروح القدس) لأن الروح هي الحياة... ومن هذا كله نتبين: 1- أن الأقانيم خاصيات في ذات الإله الواحد, وعلي ذلك فالجوهر واحد, لكن الخاصيات الذاتية ثلاث... 2-إن الأبوة بالنسبة للآب, والبنوة بالنسبة للابن لا علاقة لهما بالأبوة والبنوة كما نفهمها في عالم الحس أو في عالم الإنسان أو عالم الحيوان... بينما أن البنوة في الثالوث القدوس ليست مادية علي الإطلاق....هي بنوة روحية عقلية, لأن الله روح وعقل وليس فيه مادة... ب- والبنوة في عالم الحيوان أو الإنسان تقتضي الزمان, بحيث أن الوالد يكون أولا ثم بعد ذلك يجئ الولد. الوالد إذن أسبق في الزمان علي ولده.... أما البنوة في الثالوث القدوس فليست زمانية علي الإطلاق. وهنا خطأ أريوس وخطأ شهود يهوه, لأن هؤلاء الأريوسيين فهموا البنوة في الثالوث القدوس علي نفس المستوي مع البنوة في عالم الحيوان, لذلك يقولون إنه جاء وقت كان (الآب) فيه كائنا ولم يكن (الابن) كائنا معه. فالابن عند الأريوسيين وشهود يهوه ليس أزليا مع الآب...لأنهم قالوا مادام آب وابن, وولادة, فالآب أسبق في الزمان, وفاتهم أن الألفاظ المستعملة بالنسبة إلي الثالوث القدوس بعيدة كل البعد عن معانيها في اللغة البشرية...(فالآب) معناه كما قلنا الأصل أي أصل الوجود أو بالأحري أن الله هو أصل الأصول, و(الابن) معناه العقل الإلهي, وكما أن العقل ينبع من الوجود ولكن ليس في زمان, كذلك الله الابن مولود من الله الآب ولكن ليس في زمان. بل إنه لم يمر زمان كان الآب كائنا, ولم يكن الابن كائنا معه, وإلا كيف يمكن أن نتصور الله كائنا لحظة واحدة من الزمان من دون أن يكون عاقلا بالأقنوم الثاني (الابن) أو حيا(بالروح القدس). (فالابن) إذن كائن مع(الآب) في الذات الإلهية منذ الأزل وكذلك(الروح القدس) كائن مع الآب والابن في الذات الإلهية منذ الأزل... جـ -والبنوة في عالم الحيوان أو في عالم الإنسان تقتضي الانفصال والاستقلال بعد الولادة...فالولد يخرج من جسم أمه. ويصبح جوهرا وحيوانا جديدا مستقلا تماما عن أبيه وأمه بحيث قد يموت الأب أو تموت الأم ويبقي ولدهما حيا... أما البنوة في الثالوث القدوس فليس فيها انفصال ولا استقلال عن الجوهر الإلهي والذات الإلهية. فالابن قائم مع الآب وفي الآب,(أنا في أبي وأبي في) (يوحنا14:10) وكما أن الابن كائن مع الآب في الذات الإلهية منذ الأزل كذلك الابن كائن مع الآب, والروح القدس, في الذات الإلهية إلي الأبد... وإذن فالبنوة في الثالوث القدوس لا تربطها بالبنوة اللحمية أو الجسدية أو المادية أية رابطة فهي بنوة روحية, وبنوة عقلية, تناسب الذات الإلهية. والله روح ليس فيه مادة, وعقل وليس فيه جسم...كما أن الله كائن لا في زمان أو مكان. لأن أبعاد الزمان والمكان هي فقط بالنسبة للكائنات المادية والمحدودة. أما الله فهو غير متناه, وغير محدود..وبسيط ليس فيه تركيب... وهنا ننبه إلي تحذير... د- إن البنوة في الثالوث القدوس مع هذا ليست بنوة بالوضع وإنما هي بنوة (بالطبع). فآدم مثلا سمي(ابن الله) ولكن بالوضع لا بالطبع. وكذلك المؤمنون بالمسيح المعمدون باسم الثالوث القدوس صاروا أبناء الله(وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم السلطان لأن يكونوا أبناء الله, أولئك هم المؤمنون باسمه, الذين ولدوا لا من دم, ولا من مشيئة جسد, ولا من مشيئة إنسان, وإنما من الله ولدوا) (يوحنا1:12, 13) لكن هذه البنوة بنوة بالوضع لا بالطبع كما قلنا. مثلها في عالمنا الحاضر مثل الذي ليس له ولد من صلبه, فيتبني ولدا ينفق عليه ويعوله ويربيه, كأنه ابنه, ولكن ليس هو ابنه علي الحقيقة. أما البنوة في الثالوث القدوس فليست بنوة بالوضع أبدا,وإنما هي بنوة(بالطبع)...أي أن(الابن) هو من ذات جوهر(الآب) وطبيعته, (يوحنا7:29)( نور من نور, إله حق من إله حق) إنه والآب (جوهر واحد) وطبيعة واحدة... وعلي العموم يجب أن نطلق من أذهاننا كل تصور بشري وكل فهم مادي عندما نتأمل علاقة الأقنوم الثاني بالأقنوم الأول في الثالوث القدوس....إنها بنوة فريدة من نوعها...ليس لها نظير أبدا في عالم المادة. ولذلك سمي الكتاب المقدس الأقنوم الثاني أنه(الابن الوحيد الجنس) (يوحنا 1:18), (1:14), (3:16, 18), (1.يوحنا 4:9). لماذا سمي الأقنوم الثاني بالابن؟ فإذا لم يكن الأقنوم الثاني ابنا بالمعني اللفظي الحسي المفهوم في عالمنا المادي, فلماذا سماه الكتاب المقدس بالابن, وابن الله , وابن الله الوحيد؟ ولماذا خلق الكتاب المقدس لنا هذا الارتباك الذي قد يقود إلي الهرطقة والزيغان عن الإيمان؟؟ الواقع أن السبب مرجعه إلي ضيق لغة البشر...واللغة البشرية ليست ضيقة فقط, ولكنها مادية أيضا, بمعني أن اللغة في نشأتها محاكاة لأصوات الطبيعة, ولذلك فإن معاني الكلمات في أصلها مادية, وبعد ذلك تجئ الاستعمالات المعنوية والاستعارات والمعاني المجردة. وهذا هو السبب في أن لفضا واحدا قد يأتي في جملة ما بمعني خاص, بينما يأتي في جملة أخري بمعني آخر...والذي يدعونا إلي الأخذ بهذا المعني وترك المعني أو المعاني الأخري إنما هو السياق والقرائن التي يستعمل فيها اللفظ... فإذا كنا نجد هذه الصعوبة في المعاني البشرية كما ترد في كتب العلماء والفلاسفة والمفكرين,فكم تكون الصعوبة إذن في التعبير عن الطبيعة الإلهية؟؟... عندما تكلم مخلصنا مع نيقوديموس عن الولادة من فوق, وقع معلم الناموس في حيرة, ولم يفهم, فسمع القضية من المعلم الأعظم, إن كنت قد كلمتكم عن الأرضيات, ولم تؤمنوا, فكيف تؤمنون إن كلمتكم عن السمائيات؟(يوحنا 3:12) فإذا كانت الولادة الثانية التي من فوق, تعد في نظر مخلصنا من الأرضيات, بمعني أنها في مستوي حياتنا الأرضية ولغتنا البشرية, فكم تكون حقا الأمور السمائية..؟وكم يكون أصعب منها التعبير عن طبيعة الذات الإلهية التي لا يمكن أبدا ولا إداركها فهمها, أو حتي الاقتراب منها؟؟... لهذا فإن الوحي عبر عن العلاقة بين الأقنوم الأول والأقنوم الثاني بلفظي (الآب) و(الابن), وذلك فقط لأنهما اللفظان البشريان المناسبان, والقريبان إلي لغتنا, وإلي فهمنا. ومع ذلك فالفرق واسع جدا بين معني اللفظ في لغتنا البشرية وبين الحقيقة كما هي في طبيعة الله نفسه. وهناك سبب واحد...لاستعمال لفظ الآب والابن بالنسبة للأقنوم الأول والثاني ذلك هو سر التجسد...الذي عن طريقه ظهر الأقنوم الثاني في عالمنا. ولما كان الأقنوم الثاني المتجسد قد أظهر لنا في شخصه صفات الله غير المنظور, بحيث أننا في شخص الأقنوم الثاني عرفننا صفات الله غير المنظور, لذلك عبر الكتاب المقدس عن الأقنوم الثاني بالابن وعن الأقنوم الأول بالآب, تماما كما يحدث لنا عندما نعرف إنسانا من ابنه عن طريق الصفات المشتركة بينهما في السحنة والشكل...ولعل هذا هو السبب في أن سر التثليث لم يعلن إلا في العهد الجديد بعد التجسد. وهناك سبب آخر هو أن اليهود في العهد القديم كانت أذهانهم قريبة من فكرة تعدد الآلهة, فإعلان حقيقة الثالوث لم يكن مناسبا في العهد القديم. وعلي ذلك فإيمان المسيحيين بالتثليث لا يتعارض مع إيمانهم بالتوحيد. لأن التثليث ليس تثليث ذوات, لكنه تثليث أقانيم, والأقانيم صفات وخاصيات في الإله الواحد, لكنها صفات وخاصيات ذاتية وليست مجرد صفات نسبية. والصفات والخاصيات الذاتية ما تقوم به الذات. وعندهم إن الله الواحد كائن بذاته, ناطق بكلمته, حي بروحه. ولذلك يقولون في البسملة( باسم الآب والابن والروح القدس, الإله الواحد). والخلاصة, إن المسيحية قدمت عن الله درسين متممين الواحد للآخر: الدرس الأول عن التوحيد, والدرس الثاني عن التثليث, والدرسان لا يتعارضان, وإنما الدرس الثاني ينبني علي الدرس الأول, وهو يكمل معرفتنا عن الله الواحد, إذ يدخل بنا إلي طبيعته وصفاته, ولم تقدم الدرس الثاني إلا بعد أن استقر الدرس الأول في أذهان الناس: إن الله واحد أحد, وليس غيره إله. |
|