تأملات في سفر نشيد الأناشيد (26)
إني أقوم وأطوف في المدينة.. (2) نش3:2
السبت 06 يوليو 2013
بقلم المتنيح: قداسة البابا شنودة الثالث
الروحيون يقرأون هذا السفر, فيزدادون محبة الله. أما الجسدانيون, فيحتاجون في قراءته إلي مرشد يفسر لهم, لئلا يسيئوا فهمه, ويخرجوا عن معناه السامي إلي معان عالمية..
إني أقوم وأطوف في المدينة.. (2) نش3:2
البحث عن الله:
أحيانا يخفي الله ذاته عنك, لكي تبحث عنه.. لا يسمح لك أن تراه, لكي تشتاق إلي رؤيته, يظهر حينا, ويختفي حينا آخر (مت2:9) مثل النجم الذي ظهر للمجوس.. لكي يتحرك القلب فيبحث ويسأل.
الله لا يريد أن تكون المحبة من طرف واحد: هو يحبك, وأنت راقد علي فراشك, يريدك أن تحبه كما يحبك, فتبحث عنه..
لهذا تجد أن العروس لما طلبته فلم تجده, قالت للتو: 'إني أقوم وأطوف في المدينة, في الشوارع وفي الأسواق, أطلب من تحبه نفسي'. ولاحظوا أنها لم تقل أقوم, بل إني أقوم, كنوع من التأكيد والإصرار علي البحث. وهكذا زال تكاسل النفس, إذ شعرت بالتخلي, ولو كان شكليا..
ياليت كل واحد منكم يخرج من اجتماعنا هذا أو من قراءة هذا المقال وهو يقوم ويطوف يبحث عمن تحبه نفسه, أعني الله الذي يحبه, كما قالت عذراء النشيد..
في الأسواق:
اذهب واشتر لك زيتا, لكي لا ينطفئ مصباحك (مت25:9). أو كما قيل في سفر الرؤيا: 'أشير عليك أن تشتري ذهبا مصفي بالنار, وثيابا بيضا لكي تلبس, فلا يظهر خزي عريتك' (رؤ3:18). أو كما قال الرب: 'ومن ليس له سيف, فليبع ثوبه ويشتر سيفا' (لو22:36).. اذهب إلي الأسواق, وادفع ثمن ما تشتريه وابحث عن الرب هناك.
طف وابحث أين تجد الله.. هل في الكنائس في الأديرة, في بيوت الخلوة, أو في أماكن الخدمة.. أم حيث تراه..
المهم أن تنشط وتبحث, ولا تستمر راقدا علي فراشك..
انظر أي طريق يوصلك إلي الله, وسرف فيه: طريق التوبة, طريق الصلاة والتأمل, طريق الخدمة, طريق القراءة والاجتماعات..
الطرق المؤدية إلي الله كثيرة. اختر ما يناسبك منها.
كلمة 'أقوم' تعطينا معني طيبا. فعلي الرغم من أن الخلاص يقوم به الله وحده, إلا أنه لابد لك من أن تشترك معه, من جهة الاستجابة لعمله فيك: أن تشترك معه, أن تطلبه وتبحث معه.. 'أقوم وأذهب معه إلي أبي' (لو15:18). هكذا قال الابن الضال.. أقوم وأرد أربعة أضعاف لكل من ظلمته, كما قال زكا العشار (لو19:8).
حقا, إننا في بعض أوقات نقول: 'قم أيها الرب الإله, وليتبدد جميع أعدائك' (عد10:35). والرب نفسه يقول: 'من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين, الآن أقوم, يقول الرب, أصنع الخلاص علانية' (مز12:5).
ولكن علي الرغم من كل ذلك, لابد أن تقوم مع المسيح, تعمل مع الرب.. ترفع الحجر, لكي يقيم الرب لعازر (يو11:41).
أنت تقدم الخمس خبزات, والرب يباركها ويشبع بها الألوف (يو6:9-12). أنت ترمي الشبكة, الرب يأتي بالسمك, أنت تغرس وتسقي, والله هو الذي ينمي (1كو3:6).
المهم أن تقوم وتعمل مع الرب.
إنني حينما أعمل عملا, إنما أبرهن علي محبتي للرب ورغبتي في الخير, فالله لا يرغمني إرغاما علي عمل الخير, ولكني أقوم من نفسي.
علي فراشي قد أحلم بالرب, ولكني لا أجده إلا إذا قمت.
تأكدوا أن الملائكة يفرحون في السماء, وهم يرون هذه النفس تقوم وتطوف في المدينة وفي الشوارع بحثا عن الرب (لو15:7).
هناك أشخاص يبدلون عبارة 'وعلمنا طرق الخلاص' في القداس الإلهي بعبارة 'طريق الخلاص' علي الرغم أن الكلمة القبطية تعني حرفيا (طرق), مفسرين ذلك بأن للخلاص طريقا واحدا هو الفداء.
هذا حق أنه من جهة الله هناك طريق واحد, هو الصليب وقد تم, ولكن من جهتنا لا ننال بركات الفداء إلا بطرق هي الإيمان والمعمودية والتوبة.
كما أن حياتنا الروحية اللازمة للخلاص لها طرق تؤدي إلي الله: منها الخدمة أو الوحدة, الزواج أو البتولية, الحزم أو الطيبة.. والمهم أن يتخذ كل واحد نوع الطريق الذي يناسبه وكما قال مارإسحق:
'لمعرفة الله باختلاف الطبائع البشرية, لم يجعل طريقا واحدا مؤديا إلي الخلاص, لئلا يفشل من لا يستطيع السير فيه, وإنما جعل أمام الإنسان طرقا عديدة. حتي أن الذي لا يناسبه طريق لصعوبته, يسير في الآخر لسهولته'.
وما دامت هناك طرق عديدة فلا تيأس. إن لم تجد في نفسك قابلية للصلاة, الجأ إلي القراءة والتأمل. وإن لم تجد قابلية للقراءة رتل. وإن لم تستطع شيئا من ذلك كله اخرج وافتقد واخدم.
ولكن لا تيأس أبدا. ابحث في الطرقات والشوارع والأسواق..
ولهذا لا يجوز لأب الاعتراف أن يجعل أبناءه صورة منه!
ولا يجوز أن يجعلهم كلهم صورة واحدة من بعضهم البعض!
فربما ما يناسب واحدا منهم, لا يناسب غيره.. لاختلاف نفسياتهم.. كذلك أنت: إن أعجبك طريق في الحياة, لا تشجع كل إنسان علي السلوك فيه! ربما ما يناسبك, لا يناسبه.
عروس النشيد طافت في الطرقات, ولم تجد الرب. فلم تعتذر وتكف عن البحث. وإنما قابلت الحرس الطائف وسألتهم (نش3:3).
هؤلاء الحرس, هم حراس المبادئ والقيم. أقامهم الرب علي شريعته وعلي رعيته, يرشدون الناس إلي الطريق..
وما أن جاوزتهم قليلا, حتي وجدت من تحبه نفسها.. لم تقل شيئا مما قالته للحرس, ولا ما قد قالوه لها, وإنما ركزت علي هدفها, وهو الوصول إلي حبيبها..
يوجد أشخاص يكفي أن تقول لهم المشكلة. فتنحل..
حتي بدون إرشادات أو حلول تسمعها منهم, تكفي بركتهم وصلواتهم.
الملاحظة الأخيرة, هي أن هذه العروس تعبت كثيرا حتي وجدت من تحبه نفسها, ولم تجده من أول طلب, ولا من أول بحث, وكانت وراء ذلك حكمة إلهية, لكي تتمسك بمن تعبت لأجله.
قال القديس باسيليوس الكبير: 'إن الأشياء التي تحصل عليها بسهولة, قد تفقدها أيضا بسهولة, لهذا أحيانا لا يستجيب الله بسرعة'.
ولأن هذه العروس تعبت حتي وجدت من تحبه نفسها, لذلك عندما وجدته قالت : 'أمسكته ولم أرخه' (نش3:4)
|