خائف الرب المترفق
فَرَّقَ، أَعْطَى الْمَسَاكِينَ.
بِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ.
قَرْنُهُ يَنْتَصِبُ بِالْمَجْدِ [9].
يتسم الإنسان التقي بثبات قلبه، فلا يفقد سلامه الداخلي وهدوءه وشجاعته. أما سرّ هذا فهو ثقته في الله. يحمل المؤمن الحقيقي شخصية سوية، لا تهزه التجارب مهما اشتدتْ وتنوعتْ.
إذ يفتح المؤمن قلبه بالحب العملي للمساكين، يرُد الله هذا الحب بتقديم روح القوة (القرن) والمجد.
عندما هدد قيصر فالنس القديس باسيليوس الكبير، قال له: "إن هذا البُعبع Bugbears يوضع أمام الأطفال". وكأنه حسب هذه التهديدات مهما بدتْ خطيرة وأيا كان مَرْكز الذي يهدده أشبه بخيالات وهمية يخيفون بها الأطفال غير الناضجين. وأما القديس أثناسيوس الرسولي قال: "إنه ضباب حالًا ينقشع".
* الإنسان البار فيه حنو، البار يقرض. كل عالم الغنى يخضع عند قدمي الحكيم والبار. الإنسان البار يحسب أن ما هو للكل كأنه له؛ وما هو له مِلْكٌ عام.
القديس أمبروسيوس
* أقرض الله أموالك، فتكون غنيًا بالحقيقة. يُعَلِّمنا الطريقة التي بها تقرض: "بيعوا ما لكم، وأعطوا صدقة. اعملوا لكم أكياسًا لا تفنى، وكنزًا لا ينفذ في السماوات". يعلمنا أيضًا إياه داود الطوباوي في المزامير، حيث يتكلم عن كل رجل صالح ورحوم: "فرَّق، أعطي المساكين، برَّه يبقى إلى الأبد".
* لا تشير كلمة "قرن" إلى القوة فحسب، بل وإلى السلطان الملوكي، فإن المسيح مخلصنا الذي ظهر من أسرة داود الملك هو ملك الملوك وقوة الآب العظيمة .
القديس كيرلس الكبير
* دعونا نرى أي مُعطٍ للصدقة يقصد، ذاك الذي يعطي من الفيض الذي عنده، أو ذاك الذي يحرم نفسه مما لديه. واضح جدًا أنه يقصد الشخص الذي يحرم نفسه مما عنده، الذي يُقَدِّم ما لديه بسخاءٍ، وذلك كما يطلب بولس: "من يزرع بالبركات، فبالبركات أيضًا يحصد" (2 كو 9: 6).
لاحظوا كيف يستخدم أيضًا الكاتب الموحي إليه كلمات بطريقة رائعة. لم يقل: "وزَّع" ولا "قسَّم"، وإنما "فرَّق dispersed". وهي تشير إلى السخاء المُعطِي ونثر المادة التي يقدمها... هكذا يفعل المزارعون، ولكن بينما يفعلون هذا دون التأكد من المحصول، فإن الأرض هي التي تقبل البذور. أما انتم ففي يد الله حيث لا يتبدد شيء منها.
* "يرتفع قرنه بالمجد" إنه يشير دومًا على وجه الخصوص إلى ما يرغب فيه الناس. وهو الشهرة والسمعة، الاثنان يرافقانهم في الحياة القادمة وفي هذه الحياة يأتيان بوفرة عظيمة. ليس أحد له شهرة هكذا مثل الشخص الرحوم... الفضيلة موضوع مديح حتى بالنسبة للذين لا يمارسونها، كما أن الرذيلة توجد مشينة وموضوع اتهام حتى بواسطة الذين يمارسونها.
* هل ترغب في السيطرة على المال أو تشتهي أن تحفظه؟! لا تقم بشرائه، بل أعطه في أيدي الفقراء. لأن المال وحش مفترس، إن أمسكته بإحكام يهرب، وإن تركته بلا رباط يبقى. إذ قيل: "فرق، أعطي المساكين، برّه قائم إلى الأبد" (مز ١١٢: ٩).
وزِّعه إذن، حتى يبقى معك، ولا تدفنه لئلا يهرب منك.
يسرني أن أسأل الذين رحلوا: "أين هو الغنى؟!" وأنا لا أقصد بقولي هذا التوبيخ. الله لا يسمح. ولا أقصد إثارة القروح القديمة، بل أسعى لإيجاد ملجأ لكم بعيدًا عن الهلاك الذي أصاب الآخرين .
* "باطل الأباطيل، الكل باطل" (جا 2: 4). اسمع أيضًا ما يقوله النبي: "يجمع ذخائر، ولا يدري لمن يضمها" (مز 39: 6). باطل الأباطيل هي المباني الفخمة التي لك، وغناك المتسع، وقطعان العبيد... فإن هذا لم يأتِ من يد الله، إنما هو من صُنعِك أنت. ولماذا هذه الأمور باطلة؟ لأنه ليس لها هدف نافع. الغنى يكون باطلًا إن أُنفق على الترف، ولكنه يكف عن أن يكون باطلًا عندما يُفرَّق ويعُطى للمساكين (مز 112: 9).
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بقوله "فرّق" دل على السخاء في عطائه، وعلى أن الصدقة تُنثر مثل الزرع الذي يغرسه الفلاح بدون بُخل آملًا في زيادة المكسب. فإن من يبذر الزرع في الأرض المرتاب في خصوبتها ينال محصولًا، فكم بالأحرى ذاك الذي يذخر للسماوات أمواله يلزمه أن يقدمها بسخاء.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* إن التصق إنسان بالأمور الثقيلة يستحيل عليه أن يكون خفيفًا. لهذا يليق بنا أن نميل إلى الأمور العلوية. لنصير فقراء في الأمور التي تحدرنا إلى أسفل، حتى نرحل في المواضع العلوية...
الإنسان الذي يعطي الفقير سيشاركه في ذاك الذي صار فقيرًا، فلا تخافوا من الفقر.
لكن ذاك الذي صار فقيرًا لأجلنا، يملك على كل الخليقة. لهذا إن صرتَ فقيرًا لأنه صار فقيرًا، فستملك أنت أيضًا، لأنه هو يملك. "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات".
القديس غريغوريوس النيسي
* لا يدين الرسول من يملك الغنى، بل من يشتهيه، وذلك عندما يقول: "الذين يطلبون أن يكونوا أغنياء، يسقطون في تجربة وشباك الشيطان".
الأب قيصريوس أسقف آرل
* عندما نُقَدِّم الضروريات للذين في حاجة نعطيهم في الحقيقة ما هو لهم وليس لنا. إننا بالحري ندفع دين العدالة، ولا نقوم بأعمال الرحمة. لذلك عندما يتكلم الحق الإلهي ذاته عن الاحتراز والحيطة التي نحتاج إليهما في أعمال الرحمة يقول: "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس" (مت 6: 1) . يتفق هذا مع ما كتبه صاحب المزامير: "فرَّقَ، أعْطَى المساكين، بِرُّهُ (عدله) قائمٌ إلى الأبد" (مز 112: 9). وهنا عندما يذكر العطية المُقدَّمة للفقراء، يذكر كلمة "عدل"، وليس كلمة "رحمة". لأن العطية التي وهبنا الله إياها هي بالتأكيد شأن من شئون العدالة، وهي أننا نُقَدِّم العطية للصالح العام. لذلك يقول سليمان النبي: "أما الصديق فيعطي ولا يمسك[41]" (أم 21:26) .
الأب غريغوريوس (الكبير)
* يوجد صالح يخلق صالحين، وصالح يمكن به أن يصنع صلاحًا. الصالح الذي يخلق صالحين هو الله، لأنه لا يستطيع أحد أن يجعل إنسانًا صالحًا إلا الصالح إلى الأبد، لذلك فلتدعُ الله لكي ما تكون صالحًا، ولكن يوجد صالح يمكن به أن تفعل صلاحًا، وذلك هو كل ما تملكه. يوجد ذهب وتوجد فضة وهما أشياء صالحة، ولكنهما لا يجعلانك صالحًا، بل يمكن أن تصنع بهما صلاحًا.
لديك ذهب وفضة، وأنت ترغب في المزيد منهما. لديك كليهما وتريد زيادة، فأنت مرتوي وظمآن. إنه مرض وليس غنى، عندما يمرض البشر بمرض الاستسقاء، فإنهم يكونون مرتوين بالماء، ومع ذلك فهم عطشى دائمًا. فكيف يسر هؤلاء بثروتهم، الذين لديهم تلك الرغبة المريضة بمرض الاستسقاء؟
أنت تملك ذهبًا وهو شيء صالح، ومع ذلك فإنه ليس لديك ما يجعلك صالحًا، بل ما يمكن أن تصنع به صلاحًا.
أتسأل أي صلاح أفعله بالذهب؟ ألم تسمع في المزمور "فرَّق، أعطى المساكين، برّه قائم إلى الأبد" (مز 112: 9)، هذا صالح. هذا هو الشيء الصالح الذي به تصيرون صالحين، أي إن كان لديك الصالح الذي به تصير صالحًا.
فلتصنع صلاحًا، بذلك الصالح الذي لا يستطيع أن يجعلك صالحًا.
لديك مالٌ، استخدمه بسخاء، فباستخدامه بسخاء تزداد برًا. لأنه "فرَّق أعطي المساكين، برّه قائم إلى الأبد".
انظر ماذا ينقص وماذا يزداد. تنقص أموالك، ويزداد برّك. ينقص ما ستفقده قريبًا، ينقص ما ستتركه بعدك عن قريب، ويزداد ما ستملكه إلى الأبد .
القديس أغسطينوس