رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
النبوة الرابعة [23-32]: يتكلون على أحلامهم. 23 أَلَعَلِّي إِلهٌ مِنْ قَرِيبٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلَسْتُ إِلهًا مِنْ بَعِيدٍ. 24 إِذَا اخْتَبَأَ إِنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ أَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ 25 قَدْ سَمِعْتُ مَا قَالَهُ الأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ تَنَبَّأُوا بِاسْمِي بِالْكَذِبِ قَائِلِينَ: حَلِمْتُ، حَلِمْتُ. 26 حَتَّى مَتَى يُوجَدُ فِي قَلْبِ الأَنْبِيَاءِ الْمُتَنَبِّئِينَ بِالْكَذِبِ؟ بَلْ هُمْ أَنْبِيَاءُ خِدَاعِ قَلْبِهِمِ! 27 الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ أَنْ يُنَسُّوا شَعْبِي اسْمِي بِأَحْلاَمِهِمِ الَّتِي يَقُصُّونَهَا الرَّجُلُ عَلَى صَاحِبِهِ، كَمَا نَسِيَ آبَاؤُهُمُ اسْمِي لأَجْلِ الْبَعْلِ. 28 اَلنَّبِيُّ الَّذِي مَعَهُ حُلْمٌ فَلْيَقُصَّ حُلْمًا، وَالَّذِي مَعَهُ كَلِمَتِي فَلْيَتَكَلَّمْ بِكَلِمَتِي بِالْحَقِّ. مَا لِلتِّبْنِ مَعَ الْحِنْطَةِ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ 29 «أَلَيْسَتْ هكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ الصَّخْرَ؟ 30 لِذلِكَ هأَنَذَا عَلَى الأَنْبِيَاءِ، يَقُولُ الرَّبُّ، الَّذِينَ يَسْرِقُونَ كَلِمَتِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. 31 هأَنَذَا عَلَى الأَنْبِيَاءِ، يَقُولُ الرَّبُّ، الَّذِينَ يَأْخُذُونَ لِسَانَهُمْ وَيَقُولُونَ: قَالَ. 32 هأَنَذَا عَلَى الَّذِينَ يَتَنَبَّأُونَ بِأَحْلاَمٍ كَاذِبَةٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الَّذِينَ يَقُصُّونَهَا وَيُضِلُّونَ شَعْبِي بِأَكَاذِيبِهِمْ وَمُفَاخَرَاتِهِمْ وَأَنَا لَمْ أُرْسِلْهُمْ وَلاَ أَمَرْتُهُمْ. فَلَمْ يُفِيدُوا هذَا الشَّعْبَ فَائِدَةً، يَقُولُ الرَّبُّ. يحاول الأنبياء الكذبة أن ينسبوا أنفسهم لله بكل الطرق، منها أنهم يتحدثون عن احلامٍ يدعون أنها من قبل الله. لا يعني إرميا النبي هنا "الأحلام" بمعناها الحرفي، إنما كتعبير مجازي، إذ يخدعون الناس بادعاءات وهمية أشبه بالأحلام غير الواقعية التي يقدمونها ويعطون لها تفاسير من عندياتهم، حاسبين هذه الأحلام انها كلمة الرب، وهي بعيدة كل البعد عنها. أحيانًا يستخدم الله الأحلام لتقديم رسالة إلهية كما حدث مع يوسف الشاب وهو في بيت أبيه، وأيضًا عندما فسّر الحلمين في السجن لرئيس السقاة ورئيس الخبازين، وأخيرًا فسّر أحلام فرعون. دانيال النبي أيضًا فسّر أحلام بعض الملوك، لكن بصفة عامة يتحدث الله مع شعبه خلال رجاله، خاصة الأنبياء، وليس خلال الأحلام. بدأ الحديث بتوبيخ الأنبياء الكذبة الذين يدعون أن الله يتحدث معهم بالأحلام، معلنًا أن الله الساكن في الأعالي يتطلع إليهم ويدرك كذبهم. "ألعَلِّي إله من قريب يقول الرب، ولست إلهًا من بعيدٍ؟! إذا اختبأ إنسان في أماكن مستترة، أفما أراه أنا يقول الرب؟! أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب؟!" [23-24]. لعلَّه بهذا يوبخهم لأنهم يحسبون الله كالبعل، محدود في حجمه وفي موضع سكناه، غير قادرٍ على إدراك ما يحل بالأماكن المستترة. يسكن الله في السماء في الأعالي، وكأن الأرض كلها صغيرة بالنسبة له، يراها بكل خطاياها، ولا يقدر أحد ما أن يختفي عنه. وفي نفس الوقت يملأ السماء والأرض، أينما هرب إنسان يجد الله حاضرًا... فهو بعيد ومنزه عن كل الخليقة، وقريب جدًا وملاصق لها. بمعنى آخر يقول: الله منزه عن كل التصرفات التي يمارسها الكذبة، هو في الأعالي يعرف ويرى كل شيء، وهو قريب يود أن يلتقي الكل به! يؤكد النبي أن الله عالٍ عن الأرض، بعيد كل البعد عن أفكارهم الأرضية الترابية، هو يدرك كل أسرارهم، أما هم فلا يدركونه. ليتخلوا عن التراب الذي التصقوا به، فيرفعهم بروحه إلى سمواته، ويكشف لهم إرادته، بهذا تُنتزع عنهم صفة "الكذب". أخيرًا جاءت هذه العبارات متناغمة مع كلمات المرتل: "يا رب قد اختبرتني وعرفتني... كل طرقي عرفت، لأنه ليس كلمة في لساني إلاَّ وأنت يا رب عرفتها كلها... أين أذهب من روحك؟! ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السموات فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت..." (مز 139). الله بعيد عن الأشرار، قريب من المتواضعين الذين يطلبونه من كل قلوبهم. * لو كان من جهة المكان هو بعيد عنا، لكنت تشك حقًا، لكنه إن كان حاضرًا في كل موضع لذاك الذي يجاهد، وقريب للغيور، فإنه يقول مع النبي: "لا أخاف شرًا لأنك معي"(مز 23: 4) . * ليتنا لا نستمر في الشر، ولا نيأس من المصالحة، بل لنقل نحن أنفسنا: "أقوم وأذهب إلى أبي"، ولنقترب إلى الله. فإنه هو نفسه لن يبعد عنا، وإنما نحن الذين نبتعد عنه. نقرأ: "أنا هو الله من قريب ولست إلهًا من بعيد" . مرة أخرى ينتهرهم على لسان النبي: "آثامكم صارت فاصلة بينكم وبيني" (راجع إش 59: 2) . القديس يوحنا الذهبي الفم * لأن قوة الله حاضرة دائمًا، متصلة بنا، تعمل للفحص والنفع والتعليم. القديس إكليمنضس الإسكندري * إنه في كل موضع هذا الذي لا يحده مكان. لا تتركه، فيكون معك. إن أردت أن تأتي إليه فلا تتباطأ... فإنه يأتي إليك وأنت في مكانك، إن كنت تؤمن وتحب! القديس أوغسطينوس * مخيف هو ملئه للمسكونة، فلا يوجد موضع يهرب من عمل الله حتى بالطيران إلى السماء، أو بدخول الهاوية، أو بالهروب إلى أقصى الشرق، أو الإغلاق على أنفسنا في الأعماق ونهايات البحر. القديس غريغوريوس النزينزي * الإنسان الذي ينتفع بالصلاة يصير مستعدًا أن يختلط بروح الرب الذي يملأ العالم كله، والذي يملأ الأرض كلها والسماء، القائل بالنبي: "أما أملأ أنا السموات والأرض؟ يقول الرب" (إر 23: 24). العلامة أوريجينوس * إننا لا نأتي إليه جميعنا بنفس الطريق، بل يأتي كل واحدٍ حسب قدرته (مت 25: 25). إما نأتي إليه مع الجماهير فينعشنا بالأمثال لهذا الهدف وحده: لئلا نخور في الطريق (مت 15: 32؛ مر 8: 3) من الأصوام الكثيرة. أو أننا نجلس دومًا بلا انقطاع عند قدميه، متحررين لأجل هذا وحده: لكي نسمع كلمته دون أن نرتبك قط بالخدمات الكثيرة، بل نختار النصيب الصالح الذي لا يُنزع عنا (لو 10: 39-42). بالتأكيد الذين يقتربون إليه هكذا ينالون من نوره أكثر. العلامة أوريجينوس يتساءل العلامة أوريجينوس أين رحلت رفقة لتطلب الرب (تك 25: 24)،ما دام الرب في كل موضع (إر 23: 24)؟ * أظن أنها لم ترحل من موضع إلى آخر، بل عبرت من حياة إلى حياة أخرى، من عملٍ إلى عملٍ، ومما هو صالح إلى ما هو أفضل. إنها انطلقت من الأشياء المفيدة إلى ما هي أكثر فائدة، وأسرعت مما هو مقدس إلى ما هو أكثر قداسة. العلامة أوريجينوس يكمل حديثه كاشفًا كذب هؤلاء الأنبياء: "قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمي بالكذب قائلين: حلمت حلمت. حتى متى يوجد في قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب؟! بل هم أنبياء خِداع قلبهم. الذين يفكرون أن يُنسوا شعبي اسمي بأحلامهم التي يقصونها الرجل على صاحبه، كما نسيَ آباؤهم اسمي لأجل البعل" [25-27]. يهاجم هنا ما يدعيه الأنبياء من رؤيتهم أحلامًا يفسرونها على أنها رسائل سماوية للأسباب: أولًا: كذبهم، إذ يقول كل منهم: "حلمت. حلمت"، ويتنبأون خلالها كذبًا. ثانيًا: ينسبون ما يتنبأون به للرب، وهذا أخطر، لأنهم ليس فقط يكذبون، لكنهم يتسترون تحت اسم الله وهم يكذبون. ثالثًا: شغل موضوع الأحلام أفكار الشعب حتى نسوا الله ووصاياه. نسى آباؤهم الله خلال عبادتهم البعل، أما هؤلاء فنسوا الله خلال انشغالهم بالأحلام، لا همّ لكل شخص إلا أن يروي أحلامًا أو يشتهي أن يسمع عن أحلام إخوته. بماذا يقيِّم إرميا النبي هذه الأحلام؟ يقارن الأحلام بكلمة الله، كالتبن بجانب الحنطة، يلزم فرز هذه عن تلك. "النبي الذي معه حُلم، فليقص حُلمًا، والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمتي بالحق. ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟! أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب؟! وكمطرقة تحطم الصخر. لذلك هأنذا على الأنبياء يقول الرب، الذين يسرقون كلمتي من بعضهم البعض" [28-30]. أحلام الأنبياء الكذبة كالقش يجب فرزها من كلام الرب، أي من الحنطة. ليس للأحلام فاعلية، أما كلمة الرب فكنارٍ تحرق الشر في القلب، وتلهبه بنار الحب الإلهي، وكمطرقة تحطم القلب الحجري لتجعله قلبًا لحميًا. بمعنى آخر كلمة الرب هي طعام (حنطة)، يشبع النفس، كما يغير طبيعتها، تنقيها كما بنارٍ، وتحطم كل فسادٍ فيها. بقوله: "ما للتبن مع الحنطة؟!" [28] يؤكد ضعف الأحلام في مواجهتها أو مقاومتها لكلمة الرب. إنها تشبه تبنًا أو عصافة لا تقف أمام ريح غضب الله. إنها تحترق أمام كلمة الله النارية وتتحطم بمطرقتها. يكشف إرميا عن جانب آخر خطير في حياة بعض الأنبياء الكذبة؛ أنهم أحيانًا لا ينطقون بكلمات كاذبة، ولا يدّعون أنهم يروا أحلامًا، إنما يسرقون كلمة الرب من بعضهم البعض [30]. يشير التبن إلى الأشرار والحنطة إلى أولًاد الله. وكما يقول القديس جيروم: [إن كان إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء والرسل لم يكونوا بلا خطية، وأن كان أفضل أنواع الحنطة به تبن ممتزج به، فماذا يُقال عنا نحن الذي كُتب عنا: "ما هو التبن للقمح يقول الرب؟" (إر 23: 28) ومع ذلك فالتبن يُحفظ للحرق المقبل، كما أن الحنطة في الوقت الحاضر ممتزجة مع القمح في نموها...]. ماذا يعني بسرقة كلمة الرب؟ إننا ننطق بكلمة الرب كأننا قد اختبرناها دون أن نسمع لها أو نمارسها في حياتنا، إنما نسرقها من أفواه الآخرين أو كتاباتهم. لهذا يليق بنا لكي لا نُحسب لصوص الكلمة أن نمارس ما ننطق به، أو نجاهد بإخلاص في ممارستنا إياها. ربما يقصد بسرقة كلمة الرب أن بعض الأنبياء الكذبة أرادوا أن ينطقوا بكلمة الرب، لكن فساد قلوبهم وسلوكهم دفعهم إلى تحريف الكلمة حسب أهوائهم الداخلية. ولعله أراد توضيح أن الأنبياء الكذبة غير أمناء ولا مخلصين حتى فيما بينهم، إذ يسرقون بعضهم البعض، فكيف يكونوا أمناء في تقديم الكلمة صادقة للشعب؟ أو أنهم فقراء في المعرفة، ليس لهم ما ينطقون به، فكل واحدٍ يسرق من الآخر، مدعيًا أنه يرى أحلامًا مباشرة من الله. بمعنى آخر فإنهم حتى وإن سرقوا كلمة الرب، لكن خلال هذه السمات التي سبق أن تحدثنا عنها يقدمونها بطريقة غير صادقة، ويحولونها لخدمة أغراضهم الشخصية. يختم حديثه عن الأنبياء المدعين أنهم أصحاب أحلام إلهية أو عن سارقي الكلمة، قائلًا: "هأنذا على الأنبياء يقول الرب، الذين يأخذون لسانهم ويقولون: قال، هأنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة يقول الرب، الذين يقصونها، ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم، وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم. فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة يقول الرب" [31-32]. بقوله "ياخذون (أو يستعملون) لسانهم ويقولون: قال" [31] يعني أنهم يستخدمون كلماتهم الشخصية في شكل حديث إلهي ويقولون: "قال الرب...". للمرة الثالثة يؤكد الرب: "هأنذا على (ضد) الأنبياء" الذين يبشرون بالأحلام الباطلة [30-32]. إنهم مخادعون ولا منفعة منهم [32]. |
|