رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الْغَمْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ فِيَّ، وَالْبَحْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ عِنْدِي [14]. كأن الطبيعة بكل ما فيها من إبداع وجمال وإمكانيات تحاور الإنسان، وتوجه نظره إلى الخالق كمصدر الحكمة الحقيقية، فلا يطلبها الإنسان من الطبيعة ولا من الكتب ولا من الأحداث، وإنما من الله نفسه. يرى القديس أغسطينوس أن الله جعل الحكمة مخفية، ليس لأنه يُريد أن يحرمنا منها، بل لكي يشوقنا إليها فنطلبها بجدية. *"الغمر يقول ليست هي فيٌ، والبحر يقول ليست هي عندي" [14]. كثيرًا ما يشخصن الكتاب المقدس أمورًا كثيرة جامدة كمثال: "البحر يقول: ليست هي عندي" وهكذا. "العمق يقول: ليست هي فيٌ"، "السماوات تعلن مجد الله" (مز 1:19). وأيضًا يصدر الأمر إلى السيف (زك 7:13)، وتُسأل الجبال والتلال عن وثبها بمرحٍ (مز 6:114). إننا لا نتذرع بأي واحدٍ منهم، وإن كان بعض سلفائنا استخدموها كبرهانٍ قويٍ. لنحسب أن هذا التعبير قد اُستخدم عن مخلصنا نفسه، الحكمة الحقيقية. الأب غريغوريوس النزينزي مرة أخرى عندما قال بأن ثمنها غير معروف بواسطة إنسان [15]، ثم أكمل: "لا يُعطي ذهب خالص بدلها" لم يظهر ما هو ثمنها، بل ما هو ليس بثمنها. فمن الواضح للكل أن هذه الحكمة لا يمكن لإنسانٍ أن يجدها في موضعٍ ما، ولا أن يشتريها بالغنى. لكن الإنسان القديس إذ هو مملوء بأفكار سرائرية ينطلق بنا لاكتشاف أمورٍ أخرى، فلا يطلب حكمة مخلوقة، بل الحكمة الخالق. فإننا ما لم نبحث الأعماق المخفية للرمزية في هذه الكلمات، بالتأكيد ما يُنطق به يكون غير ذي قيمة، إن كانت تُفسر من الجانب التاريخي وحده... هكذا إذن ما هي الحكمة التي يتأملها الإنسان القديس سوى ما يقوله بولس الرسول: "المسيح قوة الله، وحكمة الله" (1 كو 24:1)؟ كتب عنها سليمان: "الحكمة بنت بيتها" (أم 9: 1). ويقول عنها المرتل: "في الحكمة خلقت كل شيء" )مز 24:104). عن هذه الحكمة عينها "لا يعرف الإنسان الثمن"، إذ لا يجد شيئًا يمكن به أن يقدرها... ليس من وسيلة للحصول عليها... ماذا نعطي لكي نتأهل لنوال هذه الحكمة، التي هي المسيح؟ فإننا بالنعمة نحن مخلصون... فالإنسان يستحق شيئًا واحدًا في طريق العدالة (وهو الموت)، وينال شيئًا آخر بخصوص النعمة... يقول بولس: "ونحن بعد خطاة مات المسيح في الوقت المعين لأجل الفجار" (رو 8:5، 6). إذن نحن الذين وُجدنا فجارًا، عندما جاء الحكمة، أي شيء صالح قدمناه لكي ننال به هذه الحكمة؟ "لا يعرف إنسان ثمن هذه الحكمة"... "لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله، ليس من أعمالٍ، كيلا يفتخر أحد" (أف 8:2-9). ويتكلم عن نفسه قائلًا: "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا" (1 كو 10:15). * إلى ماذا يشير "البحر" إلا إلى الأذهان الدنيوية التي تعاني من الاضطراب المر، فتدخل في عداوة مع الغير في غباوة، وتنطلق بالعداوة من نحو شخصٍ إلى آخر بالتناوب، وتحطم الأذهان بعضها البعض، مثل أمواج تصطدم بعضها ببعضٍ. بحق تدعى حياة الأشخاص الدنيويين بحرًا، لأنها في حالة هياج بواسطة العواصف المثيرة، فتُحرم من الهدوء وثبات الحكمة الداخلية. على نقيض هذا حسنًا قيل بالنبي: "على من يستقر روحي، إلا على المتواضع والهادئ والمرتعب من كلامي" (راجع إش 2:66)... يدعونا الرب ونحن في جراحات الاضطراب هذا، قائلًا: "تعالوا إلىٌ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (مت 28:11-29). أي شيء منهك أكثر من أن يكون الإنسان محمومًا بالشهوات الأرضية؟ أو أي شيء أكثر راحة هنا من ألا يشتهي الإنسان شيئًا من هذا العالم؟ لهذا السبب تسلم الإسرائيليون حفظ السبت كهبة... فإن الشعب الذي يتبع الله يتقبل السبت - أي راحة الروح - بعدم الارتباك بهذه الحياة، وذلك بعدم الانهماك في الملذات الجسدية... لكن كيف يمكننا أن نعرف أن أغلب الآباء القدامى تمسكوا بهذه الحكمة في حياتهم الداخلية، بينما من الخارج كانوا يديرون شئون العالم؟ هل نحسب يوسف محرومًا من نوال هذه الحكمة الذي في وقت المجاعة أُلقى على عاتقه شئون كل مصر، ليس فقط لتدبير احتياجات المصريين فقط، وإنما بمهارته الفائقة اهتم بحفظ حياة الشعب الغريب أيضًا القادم إليه؟ هل كان دانيال غريبًا عن هذه الحكمة، هذا الذي لما أُقيم رئيسًا على الحكام بواسطة ملك الكلدانيين في بابل كان مشغولًا بمسؤوليات عظيمة...؟ إذن من الواضح غالبًا حتى الصالحون ينشغلون بالتزامات أرضية دون ارتباك... هؤلاء الذين لهم هذا الهدوء، مهما كانت متاعب أعمالهم الخارجية لن تدخل هذه المتاعب إلى أعماقهم الداخلية... فإن قلوبهم مملوءة بهذه الحكمة، فلا ترتبك ولا تضطرب... الأذهان المضطربة بالأمور العالمية تصرخ لمجرد عدم هدوئها وعزلها عن الحكمة الحقيقية. البابا غريغوريوس (الكبير) |
|