رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
كاهن روحي: لم يكن داود النبي كاهنًا ولا لاويًا... لكنه وقد التزم بالهروب من وسط شعبه ومن العبادة الجماعية في بيت الرب المقدس يُعلن من الجانب السلبي أنه لا يشترك مع الأشرار مخالفي الناموس المنافقين حياتهم الشريرة؛ وأما من الجانب الإيجابي فقد أدرك أنه وهو اشبه بالطريد يحضر بقلبه ليس فقط وسط شعب الله وإنما يشارك الكهنة خدمتهم المقدسة، إنه حاضر بالروح في الخيمة يغسل يديه مع الكهنة لا بمياه المرحضة وإنما بنقاوة القلب الداخلي، ويطوف حول المذبح لا بجسده وإنما بشوقه الداخلي وحبه الناري الملتهب، يسمع التسبيح السماوي بأذنيه الروحيتين، ويتحدث عن عجائب الله... وكأنه لا توجد قوة ما أن تمنعه من التمتع بجمال بيت الله والوجود في موضع مسكن مجد الله. هذا ما عبّر عنه بقوله: "أغسل يديَّ بالنقاوة. وأطوف بمذبحك يا رب. لكيما أسمع صوت تسبيحك، وانطق بجميع عجائبك يا رب أحببت جمال بيتك وموضع مسكن مجدك [6-8]. تدل هذه العبارة على أنه حفظ نفسه من خطية عبادة الأوثان. كان داود النبي يغسل يديْ نفسه أمام الله قلبيًا، كما كان ملاصقًا لمذبح الله الروحي. كانت عادة الكهنة أن يطوفوا حول المذبح أثناء تقديم الذبيحة، وغالبًا ما كان مقدموا الذبيحة أيضًا يمارسون ذات الفعل من بُعد، مشيرين بهذا إلى اجتهادهم وجديتهم بخصوص ما يُفعل (تقديم الذبيحة عنهم)، وأنهم يصغون بجدية إلى خدمة الرب . كان غسل الأيدي عملًا رمزيًا للنقاوة، لكن غالبية اليهود ركزوا كثيرًا على ذات الفعل في ذاته. فقد قيل بين اليهود: "كل من يحتقر غسل الأيدي يُقطع من المجمع، ويصيبه الفقر، وسوف يُنتزع من العالم!" وفي قول آخر: "كل من كان له مقعد في أرض إسرائيل، ويأكل طعامه العام بطهارة (يدين)، وينطق باللغة المقدسة، ويردد صلواته صباحًا ومساءً، فليتيقن أنه سينال حياة الدهر الآتي". ويخبرنا اليهود أن أحد أفاضلهم R.Aquiba إذ كان في السجن ولم يكن لديه ماء كافٍ ليشرب ويغسل يديه اختار أن يمارس العمل الأخير، قائلًا: "من الأفضل لي أن أموت عطشانًا عن أن أتعدى التقليد". ربما عنى داود النبي بغسل يديه بالنقاوة إظهار براءته من الاتهامات الموجهة ضده، ومن الجرائم التي نُسبت إليه ظلمًا. ونحن أيضًا إذ نلتقي بالسيد المسيح المصلوب نغسل أيدي نفوسنا من الماء والدم اللذين يفيضان من جنبه، فإن مياه العالم كله لا تقدر أن تُطهر الأعماق، بل مياه المعمودية المرتبطة بالإيمان بدم المسيح الكفاري تجدد طبيعتنا وتُطهر أعماقنا. مادمنا في العالم نحتاج إلى غسل مستمر خلال التوبة "المعمودية الثانية"، وذلك بفعل كلمة الله وروحه القدوس. كلام الله روح وحياة... قادر أن يخترق النفس إلى أعماقها ليهبها نقاوة وتقديسًا... * "أغسل يديَّ بالنقاوة"، وليس بماءٍ منظور. إنك تغسل يديك عندما تنجز أعمالك خلال أفكار مقدسة ونقية في عينيْ الله، فإنه يوجد مذبح أمام عينيْ الله، الذي يدخل إليه الكاهن (المسيح) الذي قدم نفسه أولًا ذبيحة من أجلنا. هذا المذبح عالٍ، لا يستطيع أحد أن يدركه إلا من يغسل يديه بالنقاوة. القديس أغسطينوس * تلاحظون أن الشماس يقدم ماءً للكاهن ليغتسل كما أيضًا للكهنة الذين هم حول المذبح الإلهي؛ وهو بالتأكيد لا يقدمه بسبب افتقادهم للطهارة الجسدانية، فليس هذا هو السبب، إذ نحن بلا دنس جسدي عند دخولنا الكنيسة. لكن الغسل هو رمز للنقاوة من كل أعمال خاطئة وتعديات؛ فاليدان هما رمز للعمل، وبغسلهما ندخل إلى الطهارة والسلوك بلا لوم. ألم تسمعوا تلك الافتتاحية المطوّبة لهذا السرّ ذاته، إذ يقول: "أغسل يدي وسط الأبرياء فأطوف بمذبحك يا رب"؟ فغسيل الأيدي هو من ثم رمز للحصانة ضد الخطية . القديس كيرلس الأورشليمي إذ يتمتع المؤمن بنقاوة القلب وطهارة اليدين، أي قداسة الأعماق والأعمال، تستطيع أذناه الداخليتان أن تسمعا صوت التسبيح الملائكي وتتجاوب معه بالفرح الداخلي وتهليل النفس ولهج اللسان بالتسبيح والتماجيد حيث يعلن الإنسان بحياته الداخلية وسلوكه عن عجائب الله معه، فيقول: "لكيما أسمع صوت تسبيحك، وانطق بجميع عجائبك" [7]. لعل داود النبي يُريد أن يقول بأنه وسط كل افتراءات الأعداء لا تميل اذناه إلى كلماتهم ولا ينشغل فكره حتى بالدفاع عن نفسه أمامهم، لأن صوت التسبيح المفرح يملأ كل كيانه ويشبع حياته، فعوض الشكوى ضد الأعداء أو التذمر على ما يحل به، يتحدث عن كل أعمال الله العجيبة التي ترفعه كما إلى الحياة السمائية بالروح القدس. يرى القديس أغسطينوس أن الآية "لكيما أسمع صوت تسبيحك" تعني أن صوت الروح القدس في تماجيد الكنيسة يعلمني كيف أُمجدك. كما يقول أيضًا: [إن تسمع الله لا يعني أن تلتقط الأصوات المسموعة. كم من أناس صُمّ لا يسمعون الله! يلزمك أن تسمع صوت التمجيد هكذا بأنك لا تمجّد ذاتك قط، مهما كُنت صالحًا. الاتضاع يجعلك صالحًا والكبرياء يجعلك خاطئًا[527]]. * لكيما أسمع صوت التسبحة"... كثيرون لهم آذان، لكنهم ليست تلك الآذان التي تحدث عنها يسوع عندما صرخ قائلًا: "من له أذان للسمع فليسمع" (مت 13: 9)... أن تسمع صوت التسبحة يعني أن تدرك داخليًا أن كل ما كان فاسدًا فيك بالخطية مصدره ذاتك، وأن كل ما هو جيد، كل ما يُعمل للصلاح مصدره الله. هكذا يجب عليك أن تسمع صوت التسبيح بأن لا تمجد ذاتك قط، مهما كانت فضيلتك وإلا تصير ملومًا... القديس أغسطينوس تتقدس الآذان الداخلية فتسمع صوت التسبيح، عندئذ ينفتح لسان القلب ليشترك في تمجيد الله والحديث عن كل عظائمه دون أن ينسب مجدًا ما للذات أو الأنا. وأيضًا تتقدس البصيرة فتعاين مجد بيت الرب، عندئذ ينفتح القلب بالحب مشتاقًا أن يكون له موضع في مسكن مجده، إذ يقول المرتل: "يا رب أحببت جمال بيتك، وموضع مسكن مجدك" [8]. يقصد داود النبي بالبيت هنا الخيمة، لأن الهيكل لم يكن قد بُني بعد. وكأن داود الطريد يشتهي ألا يُحرم من الخيمة المقدسة وتابوت العهد رمز الحضرة الإلهية، وألاّ يُطرد من بين شعب الله، وفي نفس الوقت يطلب بيت الله المقدس والبهي في أعماق قلبه! * يتجلى جمال بيت الله في الذين كُللوا بجمال القداسة داخل الكنيسة. القديس أثناسيوس الرسولي * هذا الحب (حبنا لله) بدونه لن يقوم التركيب الخاص بالبناء الروحي الذي مهندسه بولس، مهما كانت المهارة ممتازة؛ ولا نستطيع أن يكون لنا المنزل الجميل الذي اشتاق إليه الطوباوي داود في قلبه لكي يُنقيه للرب، قائلًا: "يا رب احببت جمال بيتك وموضع مسكن مجدك" [8]. بدون الحب يقيم الإنسان في قلبه - بغير بصيرة - منزلًا غير جميل لا يليق بالروح القدس، ولا يكون له شرف استقبال القدوس الذي يقطن (في القلب)، إنما يسقط في الحال وينهدم البناء في بؤس. الأب إبراهيم * يشتهي الله أن نصنع له مسكنًا، واعدًا إيانا برؤيته كمقابل لذلك... أما مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة... بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه. العلامة أوريجينوس |
|