أن عمق تواضعها لم يكن يحضر في عقلها تصوراً هذه صفته، بل أن كلمات ذاك المديح لم تفعل فيها شيئاً آخر سوى دخول الخوف العظيم على قلبها بهذا المقدار، حتى أنها حسبما يقول القديس بطرس الذهبي النطق: كما أن المسيح مخلصنا قد أراد أن يظهر له في بستان الزيتون ملاكٌ ليشجعه ويقويه. فهكذا لزم الأمر أن جبرائيل لملاحظته شدة الخوف الذي أعترى قلب هذه الفتاة من قبل سلامه وكلامه لها أن يأخذ في أن يشجعها ويقويها بقوله لها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرتِ بنعمةٍ أمام الله: وكأنه يريد بذلك قائلاً: لا تجزعي ولا يأخذكِ أنذهالٌ من قبل ما نعتكِ أنا به نعتاً عظيماً، لأنكِ اذا كنتِ أنتِ عند ذاتكِ هكذا حقيرةً تعتدين شخصكِ أدنى ما يوجد في البشر، فالله الذي يرفع المتواضعين قد أهلكِ مستحقةً أن تجدي النعمة التي أضاعها البشريون كافةً، ولذلك قد حفظكِ تعالى سالمةً ناجيةً بريئة من الدنس العام الذي ألتحق ببني آدم أجمعين، ومن ثم منذ الدقيقة الأولى من الحبل بكِ قد زينكِ بنعمةٍ عظمى فائقة على كل النعم، التي حازها من الله القديسون الآخرون كلهم، ولهذا الآن قد رقاكِ الى مقام والدةٍ له.