عند الخروج من مصر
المزمور المئة والرابع عشر
1. المزمور المئة والرابع عشر هو مزمور مديح ينشده المرتّل لله الملك العامل في تاريخ الخلاص كما تمّ في الماضي وكما ننتظره في المستقبل: يهوذا مكانه المقدس، واسرائيل موضع سلطانه. يتلوه الشعب في ليتورجية الفصح، عيد الخلاص، لأنه يذكر عمل الله الخالق الذي روّض الكون، وعمل الله المخلّص الذي عمل ما عمل من أجل شعبه.
2. الله مخلّص اسرائيل في الماضي وهو يرافقه في الحاضر وفي المستقبل. يتوقّف المزمور على موضوع قدرة الله العاملة في مسيرة الله مع شعبه، منذ مصر إلى أرض الميعاد، وهذه القدرة بدّلت في عناصر الطبيعة فلا يقف عائق بوجه شعب الله.
ينطلق المرتّل من الخروج من مصر، ونحن نعلم أي دور لعب هذا الحدث في الوحي الكتابي وفي العقلية الاسرائيلية. فالخروج من مصر يجمع كل الأعياد، حتى تلك التي تنشد أورشليم (عيد رأس السنة)، حتى إنه يوم هُدمت أورشليم بقي في ذهن الشعب قصّة الخروج من مصر، الذي هو عربون كل خلاص في المستقبل، كما هو عربون إعادة بناء أورشليم وإعادة بناء شعب الله.
وتتردّد صور تدلّ على ظهور الله: تراجعُ المياه، هربُ الجبال لدى رؤية وجه الله المخيف. الكون يبتهج أمام الله الذي يقود شعبه وقد صار مقدسًا بيد الله. ومكانا سلطان إقامته، يهوذا واسرائيل، يُرعبان العالم لأن الله ساكن فيهما. وهذا ما يجعلنا في جوّ أشعيا الثاني: البحار والجبال وجدت سيّدها، وهو اله يعقوب المسلّط على كل نظام، سياسيًا كان أو كونيًا. والمياه الخارجة من الصخر تذكّرنا بحادثة نقرأها في سفر الخروج (17: 6)، كما تدلّ على عمل الله في الكون بصورة اجمالية (107: 35). الماضي خير شاهد على عمل الله، وعلى أساسه ينتظر الشعب عمل الله في المستقبل، ساعة الرجوع من المنفى.
انتصار الله المخلّص نراه في مرافقته لاسرائيل من البحر الأحمر إلى نهر الاردن، عبر الصحراء، والوصول به إلى أرض الميعاد. سوف يملك الرب ويملك معه شعبه. وانتصار الله الخالق نراه في انتصاره على المياه الكونية الاولى، وعلى الجبال التي هي عروش الآلهة... حتى صار قعر البحر ومجرى النهر طريقًا لبني اسرائيل، كما أن المياه التحتية تحوّلت إلى ينابيع وعيون تسقي الأرض وتوزِّع خيرات الرب في شعبه.
3. تذكّر المزمور الخروج من مصر، حيث أجبر اسرائيل على العيش في أرض العبودية، وربط هذا الحدث بزمن داود يوم صارت أورشليم عاصمة القبائل الاثنتي عشرة. وهكذا تبدو مراحل تاريخ الخلاص، من موسى إلى داود، كتقدّم الله الملك من نصر إلى نصر، قبل أن يجعل مكانه المقدّس في مدينته. وقدرة الله على كل قوّة معادية يذكرها المزمور في أحداث الخروج (البحر، النهر، الجبل، جبل سيناء) التي هي رمز عن أحداث تعيدنا إلى زمن الخلق الأول: المياه تتراجع. وهل تتراجع المياه؟ الجبال تتحرك. وهل أثبت من الجبال؟ المياه تعبّر عن خوفها ورهبتها، والجبال عن فرحها وابتهاجها أمام الرب. ماذا ينتظر شعب الله بعد ذلك ليعلن إيمانه بربِّه واتكاله عليه؟
4. الله المخلّص والمنتصر هو أيضًا إله العهد الجديد. وما عمله لاسرائيل عمل لنا أيضًا، ولهذا وجب علينا أن نمدحه. وما وعد به من خلاص بدأ يتحقّق، والخلاص من مصر هو صورة عن سر الفداء في المسيح. فنحن بالقيامة والصعود قد حُملنا بعيدًا عن قوى الله المعادية (الخطيئة، الموت، الشيطان) إلى شواطئ الحياة حيث تجري في آخر الازمنة ينابيع ماء الحياة في فردوس الله (رؤ 7: 17؛ 21: 6). ولهذا جعلت الكنيسة من هذا المزمور صلاتها في عيد الدنح (الغطاس) لتذكّر المعمّدين بأن المسيح هو ينبوع الماء الذي يعطي الحياة الابدية.
5. أعطى الملك النبيّ هنا برهانًا على رحمة الله العظيمة وحنانه اللامحدود. وما هو هذا البرهان؟ بدأ فدلّ على قدرته. ثم طلب من البشر أن يعبدوه. ذاك هو معنى هذه الكلمات: "عند خروج بني اسرائيل من مصر، كرَّس الشعب اليهوديّ لخدمته". جعل قدرته تسطع بالمعجزات التي أجراها في مصر وفي البريّة، وعند ذاك ربط بشخصه شعب اليهود بواسطة رباطات خاصّة.
وكان سلوكه مماثلاً بالنسبة إلى آدم. فبعد أن خلق الكون ودلّ على حكمته وقدرته في كل اتساعهما، كوّن الانسان وفرض عليه شريعة العبادة. وابن الله الوحيد أيضًا لم يطلب الايمان إلاّ بعد أن أعطى البراهين عن رسالته الالهيّة بواسطة عجائب عديدة ومتنوّعة. لهذا، لم يطلب من الذين تعلّقوا به في البدء أي برهان عن لاهوته قبل أن يروا أيّة علامة: أتؤمن أنني أستطيع أن أصنع هذه المعجزات؟ كان يجريها أمام عيونهم.
ولكن حين ترك في كل فلسطين شهادات صحيحة عن قدرته، فردّ العافية إلى المرضى، وطرد الشرّ وأعلن، ملكوت السماوات، وثبّت شروط الخلاص، عند ذاك طلب الايمان من الذين أرادوا أن يتعلّقوا به. فالناس لا يريدون أن يعملوا خيرًا إلاّ بعد أن يُحكموا سيطرتهم. أما الله فبدأ بنشر حسناته.
وهل أحتاج أن أذكر حين أراد ابن الله أن يحتمل موت الصليب ليصير سيّد الكون ويبرهن هكذا عن عظمة حبّه لنا؟ تلك هي الحقيقة التي أراد المرتّل أن يعبّر عنها. (يوحنا الذهبيّ الفم).