الله يحطّم ألسنة السوء
المزمور الرابع والستون
1. المزمور الرابع والستون هو مزمور توسّل يطلب فيه المرتّل من الله أن يعينه على أعدائه الأشرار. ينشده باسم جميع المؤمنين بالرب المضطهدين لأجله، الملتجئين إليه في هيكله طلبًا للحماية. ويتساءل فيه عمّا يبرّر وجود الأشرار في العالم وكيف يرضى الله بالشر.
2. الرب يدين العدو المتربِّص بالبار والمسكين.
آ 2- 3: المقدمة: يتوسّل المؤمن إلى الرب طالبًا عونه على الذين اجتمعوا عليه. ثم يختفي هذا المؤمن وراء الجماعة، وقصته قصة الجماعة كلها، ليقول للرب إن الشعب كله مضطهد يقاسي الشر في العالم.
آ 4- 7: يصوّر المرتّل حالة العالم فيلخِّصها بشر اللسان، واللسان يزرع الموت وراءه كالسهام القاتلة والسيوف المسنونة. الأعداء يعملون في السر فلا يهاجمون وجهًا لوجه، بل يهيئون ضرباتهم في الخفاء ويختبئون في الجمّ كالاسد ويضربون بغتة: لم يرهم أحد، حتى الله لم يرهم.
آ 8- 9: ولكن الله رأى وسيتدخّل مستفيدًا من عامل المفاجأة، فيضربهم بغتة بسهام عدله فيقعون في حيرة، ويهز الرؤوس كل من رآهم ويهرب من وجه الرب.
آ 10- 11: بعد هذا الخلاص يخاف البشر الله فيخبرون بأعماله. أما الصديقون فيفرحون بالرب إلههم، لأنهم وجدوا فيه الملجأ الحصين الذي يحميهم.
3. يجد المرتّل نفسه أمام جدار يتكوّن من جماعة أعداء الله الذين أنكروا عهده فعزموا على إهلاك حبيبه. استعملوا ألسنتهم وقالوا فيه كلامًا كاذبًا يمكنه أن يصل به إلى الموت، كما حدث لنابوت اليزرعيلي (1 مل 21: 1 ي) وسوسنة ابنة حلقيا النقية (دا 13: 1 ي). فصارت حالة المرتّل كحالة إرميا (18: 18) وقد قال فيه أعداؤه: "هلموا نفكّر على إرميا أفكارًا شريرة... هلموا نضربه باللسان ولا نصغي إلى جميع كلماته". ولكن المرتّل (مثل إرميا) لا ينتظر أي عون بشري، بل يجعل كل اتكاله على الله ومنه ينتظر كل حماية، لأنه أقوى من كل عدوّ، وعمله يبدّل الشر خيرًا.
نجد في مزامير عديدة تلميحًا إلى أعمال السحر "والكتابة" والعرافة ضد المرتّل. والساحر يعمل في الخفاء ولا يجد من يعاقبه، لأنه لا يترك وراءه أثرًا يدلّ عليه. يحسّ المرتّل بالشر، ولكنه لا يستطيع أن يعطي الدليل لأن أشراك "الساحر" مخفية. ماذا يستطيع أن يفعل المرتّل ضد السحرة وأعمالهم؟ لا شيء إلاّ التوسّل إلى الله الذي ينزع كل قناع (مع 2: 2- 9). هذا الخوف من السحر والكتابة والعين، أحسّ به الناس على مر الأجيال، واستعملوا كلمات ووسائل تعاكس قدرة هذه الأعمال. أما المرتّل فاكتفى بالصلاة متّكلاً على قوة الله التي تغلب كل أعمال السحر (حملت عصا موسى قدرة الله فأهلكت عصا السحرة في مصر في خر 7: 12).
4. نقدر أن نقرأ هذا المزمور فنطبِّقه على يسوع المسيح الذي اضطهد فقال عنه أقاربه إنه "فقد صوابه" (مر 3: 21) واتهمه أعداؤه فقالوا "يطرد الشياطين بتعاطفه مع رئيس الشياطين". إنه يخدع السذّج (يو 7: 47) ويدعو الناس إلى الثورة والفتنة (لو 23: 2) ويجدف على الهيكل.
ولكن الله سيقطع اشراكهم ويبطل مشوراتهم عندما يخرج الخير من الشرّ الظاهر (موت المسيح)، عندما يتمّ الخلاص العظيم الذي سيستفيد منه حتى ضطهدو يسوع. نتلو هذا المزمور في ساعات الضيق، ونتذكّر أن العدو يمكنه أن يكون من داخل شعب الله، كما كان يهوذا من مصاف الاثني عشر فخان الرب وباعه. ونعلم أن قوى الهدم الجهنمية تبدأ عملها باللسان: اللسان نار وهو يحرق الخليقة بأسرها ثم يحترق بنار جهنم (يع 3: 7).
5. تأمّل
هذا المزمور يتحدّث عن الشرّ بشكل عام كما في مز 11: "لأن الأشرار يحنون القسيّ ويسدّدون سهامهم في الظلام ليرموا كل مستقيم القلب" (آ 2). يصوّر المرتّل الوضع، ثم يحدّثنا عن تدخّل الرب، ويكلّمنا في النهاية على ردّة الفعل لدى الشعب: "يخاف البشر كلّهم، ويحدّثون بما عمله الله، ويتّخذون من عمله عبرة" (ودرسًا). هذا ما نراه في الأناجيل التي تتحدّث عن جموع تمجّد الله بعد أن فعل يسوع ما فعل.
تأمّل يبدو بشكل صلاة دراماتيكيّة. يتوجّه المرتّل إلى الله، ويشتكي له: يصوّر خوفه أمام أعداء يتحرّكون ويتآمرون. وبعد ذلك يختفي عن المسرح لكي يترك الله يعمل. وهو لن يعود إلاّ في النهاية لكي يعلن النصر الذي حصل عليه: "يفرح الصدّيق ويحتمي بالرب، ويتهلّل كل مستقيم القلب".
6. اذن، لنقل نحن أيضًا: "استمع يا الله إلى صوت شكواي. خلّص نفسي من خوف العدوّ". هجم الأشرار على الشهداء، فما كان طلب هذا الصوت المتوسّل، صوت جسد المسيح؟ طلب أن يُنتزع الشهداء من يد الأشرار فلا يقتلونهم. ولكن الشهداء لم يُستجابوا لأنهم قُتلوا. ومع أن التوبة كانت في قلوب هؤلاء الخدّام، تخلّى الله عنهم وترك الذين أملوا به! كلا ثم كلا. فمن دعا الربّ وتُرك؟ من ترجّاه فتخلّى عنه؟ اذن، استجيبوا وقتلوا. ومع ذلك انتزعوا من يد أعدائهم. وفي الوقت عينه خاف آخرون واستسلموا وظلّوا على قيد الحياة، ولكن أعداءهم ابتلعوهم. فالذين قُتلوا نجوا. والذين ظلّوا أحياء ابتلعوا. لهذا كانت كلمة الشكر: "كانوا سوف يبتلعوننا أحياء" (124: 3)
كثير ابتُلعوا أحياء. وكثيرون في هذا الوقت كانوا مائتين. أولئك الذي رذلوا الإيمان المسيحيّ كانوا موتى حين ابتُلعوا. والذين عرفوا أن الإنجيل حقّ، وأن المسيح هو ابن الله، آمنوا بذلك وظلّوا أمناء في الداخل ولكنّهم تراخوا أمام الآلام وذبحوا للأصنام، قد ابتلعوا أحياء.
لهذا هتف صوت الشهداء مصلّيًا: "نجّ نفسي من خوف العدوّ. لا لئلاّ يقتلني، بل لئلا أخاف من العدوّ الذي يقتلني. فعابد الله يطلب في هذا المزمور أن يتمّ فيه ما قاله يسوع لنا في انجيله: "لا تخافوا ممّن يقلون الجسد ولا يستطيعون أن يقتلوا النفس. بل خافوا ذاك الذي له سلطان أن يقتل الجسد والنفس في جهنّم النار" (مت 10: 28). وشدّد: "نعم أقول لكم، من هذا خافوا". من هم الذين يقتلون الجسد؟ أعداؤنا. وماذا يطلب منا الربّ؟ أن لا نخافهم. (أوغسطينس).