رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الله يرفع الأبرار
المزمور الثاني والخمسون 1. المزمور الثاني والخمسون هو مزمور تعليميّ يذكّر المؤمن بالحياة الأخلاقيّة الأدبية. لماذا تفتخر بالسوء؟ الله يرفع الأبرار، ويحطّ المترفّعين والمتكبّرين. كتبه أحد مساكين الرب بمناسبة دعوى يقيمها عليه رجلٌ غنيّ وقدير يتّكل على كثرة غناه ويعتزّ بفساد أعماله. توسّل المرتّل إلى الربّ، فنجّاه من يد الظالم، فجاء يُنشد صلاته في الهيكل أمام إخوته في الإيمان وفي الضيق. 2. الله يرفع الصدّيقين ويحطّم المتكبرين. آ 3- 6: صورة عن العدو المتكبّر وسؤال يوجَّه إليه: لماذا تفتخر بالسوء؟ يتوجّه المؤمن بحديثه إلى "الكافر"، ويبيّن له أخطاءه: لسانُك يختلق المفاسد. تحبّ الشرّ أكثر من الخير. تحبّ كل كلام مهلك، يا لسان المكر. آ 7: الله يحكم على المنافق: يفنيك إلى الأبد، يخطفك ويقلعك من مسكنك. أيكون هذا الكلام تمنيًا على الله، أم يكون تأكيدًا أن الله سوف يقاصص الشرير وقد صبر عليه إلى آخر حدود الصبر؟ آ 8- 10: سعادة الأبرار. لا شكّ في أن الله سوف يسمع لهم، ولهذا فهم واثقون بالربّ، متّكلون على رحمته ومحبّته: إتّكل على رحمة الله إلى الأبد. البارّ هو كالزيتونة، ومن يتوكّل على الرب يكون كالشجر المغروس على المياه (إر 17: 8). يسمّي الرب شعبه زيتونة خضراء جميلة ذات ثمر (إر 11: 16). أتكون الزيتونة علامة تدلّنا على أن المرتّل كاهن من الكهنة (زك 4: 3- 11؛ سي 50: 11)؟ ربّما. آ 11: الخاتمة: يعد المرتّل الله بأن يشكر له ما عمله من أجله. أيكون قد حصل على طلبه؟ أيكون الله قد أعطاه علامة على أنه سيستجيبه؟ مهما يكن من أمر، فنحن نفهم ثقة المرتّل بربّه، وفرحَه لوجوده في هيكل الرب. 3. قال الرب بلسان إرميا (9: 2): "لا يفتخر الجبّار بجبروته، ولا يفتخر الغنيّ بغناه". ونقرأ في هذا المزمور أن "الشرير يفتخر بشرّه. وهو يرمي أن يُهلك عدوّه جسديًا وأدبيًا، مستعملاً لسان المكر والكذب. ولكن الله سوف "يتدخّل ليهدمه ويستأصله" (أي 19: 10)، فيبيد ذكرُه في الأرض، ولا يكون له اسم في الساحات (أي 18: 17). بيتُ الله يشبه الفردوس، وفيه ماء الحياة والخصب. الزيتونة الخضراء هي رمز لأشجار الفردوس. سعادة آدم كان سببها حضور الله. وكذلك كانت سعادة مساكين يهوه تامّة عند حضورهم إلى بيت الله. 4. المسيح يُفني الكذب ويُسكن المساكين في بيت الآب. والكنيسة تتّكل على محبّة الله ورحمته ليعطي أبناءها الحياة والراحة. ولا ننسى أن المسيح والكنيسة لا يجدان الراحة في هذا العالم، لأن الأعداء في هذا العالم كثيرون، وهم يريدون أن يمحوا اسم الرب وكنيسته (راجع سفر الرؤيا 12 والوحش المتربّص ليبتلع الطفل الذي ستلده المرأة). ولهذا تُنشد الكنيسة مع المرتّل: أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله، توكّلت على رحمة الله دائمًا أبدًا. 5. داود والمزامير * عندما نقرأ عناوين المزامير نقتنع باثنين. الأول: لم تُوضع هذه العناوين بطريقة فوضويّة، بل انطلاقًا من روح المزمور ومعناه. الثاني: نُسبت بعض هذه المزامير لداود، لا لأنه كان فقط ملكًا وشاعرًا، بل لأنه حصل على وعد سيحيا منه شعبُ اسرائيل أجيالاً عديدة. فحين نتذكّر أن جوهر التعليم في شعائر العبادة كان تاريخ الخلاص، نفهم أن أحد عناصر هذا التعليم كان تاريخ داود. فداود لم يكن فقط الملك النموذج والملك المثال الآتي من الماضي، بل الملك الجديد الذي ينتظره الشعب. فالوعد الذي أعطي لداود (2 صم 7: 1 ي) فُهم فيما بعد كإعلان داود جديد لمُلك لا نهاية له يرعى شعب اسرائيل (78: 70- 72). ولهذا بدا في فترة من تاريخ الشعب وفي وقت من السنة أن جوهر العبادة يقوم برواية تاريخ داود كما بدأ مع صموئيل واغتنى فيما بعد. ولكن من الصعب أن لا تستفيد الجماعة من الخبر التاريخيّ من أجل ليتورجيتها. لهذا أدخلت مزامير ماضية في صلاتها، ونسبتها إلى الملك الشاعر. وهكذا تكون هذه المزامير المنسوبة لداود مجموعة صلوات كل الجماعة التي تعيش مصير داود بعظمته وضعفه، والتي تنتظر داود الجديد في كل مجده مع جماعته المجدّدة. كل هذا يدلّ على أن هذه المزامير لم تُكتب في البداية من أجل ليتورجيا خاصة. ويمكن أن يكون كتب بعضَها الملكُ نفسه، وهذا ما ساعد على إدخالها في ليتورجيا ملكية. * ثم إن مُلك داود ترافقه ميزتان مأخوذتان من شعائر عبادة بني اسرائيل. الأولى: مُلك الرب الذي لم يظهر واضحًا إلاّ في أيام داود، يوم اتّسعت حدود أرض اسرائيل إلى موآب وعمون. الثانية: إختيار أورشليم كمقام للرب وعرشه. وستصبح أورشليم لا عاصمة العالم العبرانيّ وحسب، بل أمّ جميع الشعوب (87: 1 ي). وهذا يعني أنها تكون أصل ونهاية كل التاريخ وكل البشريّة، والمكان الذي منه خرج كل إنسان وإليه يعود كل إنسان. ونضيف إلى ذلك أن العناوين وُضعت في الزمن القديم بحيث لم تعد مفهومة في زمن الترجمة السبعينية (القرنان الثالث والثاني ق م). وهذا ما يجعلنا نتساءل: أما يكون جوهر عيد بني اسرائيل العظيم هو تاريخ داود وملك الله واختيار صهيون؟ أيكون هذا العيد رأس السنة كما أخذه العبرانيون من الشرق القديم فهتفوا فيه: "الرب ملك"؟ ولكن هذا الملك تأسّس بصورة نهائيّة حين اختار الله أورشليم وسلّم ملكه الشخصي لسلالة بشرية. وهكذا يُصبح عيد رأس السنة عيد أمانة ذلك الذي دعا داود، والذي سيدعو ملكًا آخر يكون قلبه ثابتًا (51: 12) ويكون كاهنًا إلى الأبد (110: 1 ي). إذًا تذكر النسبةُ إلى داود ملكَ الله، وتجمع إليها داود والشعب (من صلّى مزامير داود صار وكأنه داود)، وتربط شعائر العبادة بالتاريخ العظيم، وتدفع المؤمنين إلى مستقبل يرجو مجيء داود الجديد. 6. الآباء والمزامير المزامير تقال باسم المسيح وتتوجّه إلى المسيح. إذا أردنا أن نفهم المزامير، نميّز باسم من يجب أن نفهم أن الكلمات قيلت أو لمن قيلت. هذا التنبّه من هيلاريوس، أسقف بواتييه في فرنسا، يساعدنا على تفسير المزامير. بما أن سفر المزامير هو عالم الكتاب المقدس الذي يجمع في داخله كما في بيت المؤن أو في حديقة نبات، نماذج من كل الفنون الأدبية ومن كل التعاليم التي يحويها الكتاب، فقد قُرئ حسب الأساليب التي سادت سائر الأسفار: التفسير الرمزيّ والنمطيّ. فالتفسير الرمزيّ لا يكمن في أن نهرب من المعنى الحرفيّ للنصّ لنخلق تفسيرًا اعتباطيًا. التفسير الرمزيّ يقوم على فكرة تقول إن العهد القديم يصيب سر المسيح ويُخفي داخل المعنى الحرفي معنى مسيحيًا. أما التفسير النمطيّ، فهو يقوم على فكرة تعلن أن الله يحقّق مخطّطه الخلاصي بتدخّلات في التاريخ، من التهيئة مع الآباء وشعب العهد القديم، إلى الكمال في المسيح، قلب الزمن، وإلى التأوين (قراءة النص كأنه كُتب الآن) مع المسيحيّين. فالتهيئة والكمال والتأوين تتقابل، وهذا ما يدعونا للنظر إلى الأحداث التي تقتسم التاريخ المقدّس. ولكن تفسير المزامير يتضمّن أسلوبًا آخر غير الرمزيّة والنمطيّة. في هذا الأسلوب نتساءل عن هويّة الأشخاص الذين على المسرح: من يتكلّم (وهو غير صاحب المزمور الذي يتكلّم في شخص أو باسم...) وإلى من يتكلّم؟ كان الأسلوب الذي يشدّد على الوعد والكمال مؤسّسًا على التاريخ، وتلك مقولة أساسيّة في المسيحيّة. أما الاسمائيّة (باسم من يتكلّم) فتتعرّف إلى الشخص الذي يتكلّم، وتُبرز علاقات بين الكاتب والمتكلّم، بين المتكلّم والجماعة التي باسمها يتكلّم. فالآباء انطلقوا من التاريخ ليشرحوا سفر المزامير، وانطلقوا أيضًا من البُعد الشخصيّ ليفهموا نصوصه. تساءل الآباء: هل تحلن مزاميرُ التوسّل صلاةَ شخص فرد، أو صلاة يعتبر من يصلّيها نفسه شخصًا فردًا؟ وقالوا: ذكرُ آساف وبني قورح في العنوان يُوحي أن مرتّلاً ألَّف هذه المزامير ليُنشدها هؤلاء الأشخاص فيعبّرون عن حالهم وعواطفهم. وقالوا: هل يتكلّم داود، صاحب كل المزامير، باسمه الخاصّ أو باسم آخر غيره، ومن هو هذا الآخر؟ أجاب الآباء إنه يتكلّم باسم المسيح، باسم البار المسيحيّ والشهيد المسيحيّ والكنيسة والرسل. ولم يشذ عن هذه القاعدة إلاّ ديودورس الطرسوسي، وتيودورس المصيصي اللذين يجعلان "أنا" المزامير داخل العهد القديم. تبدأ الاسمائيّة مع فيلون الاسكندراني ويوستينوس الشهيد. إنطلق يوستينوس من آيات كتابيّة، فأعلن أنها تعني المسيح في العهد القديم. مع أوريجانس الذي كان أول من شرح المزامير كلها شرحًا منظمًا، انتقل المعنى اللاهوتي من المسيح إلى الكنيسة. فالعهد الجديد يضع في فم المسيح آيات من المزامير. ينطلق المفسّر من هذا الواقع، فينسب المزامير كلّها إلى المسيح، وخصوصًا مزامير الصدِّيق المتألّم: فالمتكلّم يبسط ضيقه أمام الله، ويدعوه لمساعدته، ويرفع آيات الشكر للخلاص الذي تمّ. وينطلق المفسّر من هذا الكلام البشريّ، فيميّز ما يقوله المسيح كإنسان ويحلّل عناصر شخصيته: الضعف والعجز وسرعة العطب أمام الألم (ضد الأريوسية). ثم وعي الذات وحريّة الاختيار والحنان، وكل هذا يدلّ على أنه كان ليسوع نفس حيّة (ضد أبوليناريوس). وأخيرًا الميزات الالهيّة كعلاقته بالآب، وعدم وجود الخطيئة، وتحرّر من الموت، وسلطة مطلقة على كل شيء. كل هذا جعلنا أمام كرستولوجيّة توحيديّة: فالأقنوم الواحد يشهد عن نفسه كإله وإنسان. وفي بعض المزامير التي نسبها العهد الجديد إلى المسيح، يعترف المرتّل أنه خاطئ. مثل هذا الاقرار يفسَّر على ضوء التعليم التكفيريّ (رج أش 53): لقد أخذ المسيح عليه خطايا البشر بصورة حقيقيّة. فصارت كأنها خطاياه، مع أنه هو البارّ الكلّي البرارة. هو يتكلّم باسم شعبه كضحيّة متشفّعة، وكسفير متضامن مع أخصّائه، وكعضو يشعر بآلام سائر الأعضاء، وكممثّل للبشريّة. هذا التفسير الذي قدّمه أوريجانس وردّده الآباء، ينطبق على الاقرار بالضعف والضيق اللذين هما علامة تضامُن بشريّة المسيح مع كل البشريّة. ويجتمع التأويل الكرستولوجي والتأويل الاكليزيولوجي، فتبدو الكلمة خارجة من فم المسيح الذي مات وقام على عهد بيلاطس البنطي، ومن فم الذين يجمعهم في شخصه بالتجسّد الفدائي. وسيعود أوغسطينس إلى التقليد، فيعلن أنه يسمع من خلال المزامير صوتَ المسيح الكامل: الرأس والجسد.، العريس والعروس، صوتين في صوت واحد |
|