القيامة هي دليل الإيمان
يسرني أن أهنئكم جميعًا بعيد القيامة المجيد، لأننا إذ نفرح بقيامة السيد المسيح، إنما نفرح أيضًا بالقيامة ذاتها، قيامة جميع البشر. وما تحمله هذه القيامة من معان روحية عميقة، ترفع من قيمة الإنسانية، وتظهر ما أعده الله لها من خير ومتع في العالم الآخر.
إنما نقول أولًا إن القيامة هي دليل الإيمان..
إنها تدل بلا شك علي إيمان الإنسان بالله، وإيمانه بالروح وبالخلود وبالحياة الأخرى. وإيمانه بالدينونة العامة التي بعد القيامة، بالثواب والعقاب. وبالتالي إيمانه بالسماء والسمائيين، وبملكوت الله..
لأن الملحدين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالعالم الآخر..
ومن هنا كانت حياة الإنسان في نظرهم لا تختلف عن حياة الحيوان، من جهة فناء كليهما بالموت. حقًا ما أتفه فناء كليهما بالموت. حقًا ما أتفه حياة الإنسان في نظر الملحدين. إن كانت تقتصر علي بضع سنوات يقضيها علي هذا الكوكب، ثم ينتهي إلي لا شيء..! وما أقسي الموت وأبشع في نظر الملحدين، إذ أنه كممحاة يمحو كل ما في البشر من وجود ومن ذكاء وعلم، وبه يصبحون عدمًا.
ومن هذا النوع كان جماعة الصدوقيين الذين قيل عنهم في الإنجيل إنهم كانوا لا يؤمنون بالقيامة ولا بالروح ولا بالملائكة، وكذلك كان الابيقوريون الذين يقولون "لنأكل ونشرب، لأننا غدًا نموت"..!
والشيطان بلا شك هو وراء إنكار القيامة..
إنه هو الذي أوحي بهذا الادعاء إلي الملحدين من فلاسفة وجهلاء حتى إذا ما أقنعهم بأنه لا حياة بعد الموت، ينغمسون حينئذ في الحياة الدنيا، ومشاغلها وملاذها، غير مفكرين في أبديتهم ولا في الوقوف أمام الله في يوم الدين، وهكذا يهلكون.
أما المؤمنون، ففي إيمانهم بالله يؤمنون بالقيامة واليوم الآخر.
فالقيامة تدل علي قدرة الله غير المحدودة..
عند الموت تقف كل قدرة البشر. تقف كل مقدرة الذكاء وكل مقدرة العلم ويظهر الإنسان بكل عقله عاجزًا تمام العجز. ولكن الكتاب يعلمنا أن "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله" (مر10: 27). إن الله قادر علي كل شيء. بيده الحياة والموت، هو الذي يحيي ويميت. إنه يقدر أن يقيم الإنسان بعد موته، لأنه هو الذي خلق الإنسان من تراب الأرض، فيستطيع أن يرجعه إلي الحياة بعد أن يندمج جسده بالموت في تراب الأرض.. إن الذي له القدرة علي الخلق من العدم، له أيضًا القدرة علي أن يقيم من الموت.
والقيامة هي أيضًا دليل علي محبة الله وجوده..
إنه الله الذي لم يشأ أن يكون في الوجود وحده، إنما خلق كائنات فوجدت. ومنها الإنسان. ولما مات الإنسان لم يسمح الله بأن يفني هذا المخلوق، وإنما من جوده ومحبته وهبه حياة بعد الموت، ليستمر وجوده، ليس فقط إلي حين. وإنما إلي الأبد. وهكذا وهب الله للإنسان المائت حياة أبدية..
إن القيامة شيء مفرح. به يلتقي الناس بأحبائهم الذين انتقلوا..
ماذا عن الأحباء الذين ترتبط قلوبهم معًا خلال فترة حياتهم معًا علي الأرض. ثم يفترقون بالموت؟ أتراه يكون فراقًا أبديًا إلي غير لقاء؟! يقينًا إن محبة الله لا تسمح بهذا. إنما يلتقي هؤلاء في القيامة. تلتقي أرواحهم بعد الموت. وبالقيامة يلتقون روحًا وجسدًا.
إنه لقاء عام، نلتقي، نلتقي فيه ليس بأحبائنا فقط، إنما بكل الأجيال عبر التاريخ. وستكون حفلة تعاف كبري. تلك التي سيقيمها لنا الله بعد القيامة..
تلك الحفلة العجيبة التي نتعرف علي كل شخصيات التاريخ التي قرأنا عنها ولم نرها، ولم نعرف شكلها، ولا لهجتها وأسلوبها. سواء من أحكام أو القادة أو الأدباء أو المفكرين.. ولعل الله سيرسل لنا ملائكة يعرفوننا أيضًا بجميع الآباء والأنبياء: حيث نري آباءنا آدم ونوحًا وإبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب.. ونري أمهاتنا حواء وسارة وأليصابات ورفقة وراحيل، وقد تقدمتهن جميعًا أمنا العذراء القديسة مريم..
وتقدم لنا القيامة أفراحًا أخري، هي أفراح العشرة مع الملائكة والقديسين، بل المتعة بالله نفسه. التي أمامها يقف العقل مبهورًا في دهشة. لا يستطيع ان يعبر. إنما يكفيه أن يذوق ويتمتع..
القيامة تحمل في داخلها عملية توازن وتعويض..
فالذين لم يأخذوا حقهم علي الأرض، يأخذونه كاملًا في السماء بعد القيامة. والذين ظلمتهم البشرية، ينالون العدل الإلهي كاملًا بعد القيامة.
كذلك ينال أجرهم هناك، الذين عملوا الخير في الخفاء. ولم يشعر بهم احد ولكن الله كان يسجل لهم كل أعمال برهم ليكافئهم عليها. كذلك سيعطي كل الذين لم يكافأوا علي الخير الذين عملوه في الأرض. ولم ينالوا عليه ما ينتظرونه من تقدير..
سيشعر الناس في القيامة أن أحكام الله غير أحكام الناس. وأنه سيكمل عدل الله في السماء.
ويتمتع بهذا العدل أيضًا منن قد ولدوا بظروف معينة، أو في بيئات معينة لم تكفل لهم الخير والسعادة والتكافؤ الاجتماعي. سيعوضهم الله عن كل ما تنقصهم في الدنيا. كما تشرح لنا قصة الغني ولعازر (لو 16).
وفي القيامة يرد الإنسان إلي رتبته الأولي. ترجع إلي روحه هيبتها، ويرجع إلي الجسد بهاؤه..
ينال الجسد لونًا من التجلي يعطيه مجدًا، وكذلك النفس.. وتخلص الجسد من كل نقائصه. وكذلك النفس..
لذلك حسنًا قال الكتاب عن الجسد إنه "يزرع في هوان، ويقام في مجد. يزرع في ضعف ويقام في قوة. يزرع جسمًا حيوانيًا، ويقام جسمًا روحانيًا" (1 كو 15: 43، 44).
بالقيامة يتخلص الجسد من كل أمراضه وعاهاته وتشوهاته، ويظهر كاملًا في بهاء. وكذلك النفس تتخلص من كل أمراضها ونقائصها: من الخوف والشك والتردد والقلق والشهوة والجبن ومال إلي ذلك.
والفلاسفة الذين كانوا يبحثون عن السوبرمان superman، سيجدونه في القيامة.
لن يحمل ديوجين مصباحًا فيما بعد، ليبحث عن إنسان، فإنسان القيامة سيكون بالصورة المثلي. ولكن كل واحد حسب مستواه الكل منيرون. ولكن نورًا يفوق آخر في الضياء.
ويتحقق حلم البشرية في وجود مجتمع بار كامل..
هناك في مدينة "مدينة الله "التي تشرح شيئًا عنها القديس أوغسطينوس. مجتمع ينتهي فيه الصراع والشقاق. ولا يوجد فيه خلاف ولا كراهية، لا أنانية، ولا تنافس. مجتمع تسوده المحبة وتسوده القداسة.
وفي القيامة يحيا الناس الحياة البريئة البسيطة، ويكونون -كما قال الكتاب- "كملائكة الله في السماء".
في القيامة تزول الخطية، إذ لا يصبح الجسد خاضعًا للخطية ولا للفساد. بل يتطهر منها تمامًا تمامًا. يغسله الله، فيبيض أكثر من الثلج (مز 50). ويحيا في مستوي روحي يليق بالسماء وطهرها..
وفي القيامة ينتصر الأصيل علي الدخيل..
ينتصر الحق علي الباطل. لأن الحق هو الأقدم، هو الأصيل، والباطل دخيل علي العالم. وفي القيامة تنتصر الحياة علي الموت، لأن الحياة هي الأصيل، والموت دخيل..
الإنسان من روح ومن الجسد. الروح حية بطبيعتها وستبقي هكذا. أما الجسد الذي كان علي الأرض قابلًا للموت، يصبح بعد القيامة جسدًا حيًا روحانيًا لا يموت فيما بعد.
وتصبح للإنسان بصيرة روحية، فلا يعتمد كلية علي حواس الجسد..
من أجل هذا كله، يجاهد الإنسان حاليًا للتمتع بأمجاد القيامة هذه..
ذلك لأنه ليس الجميع يتمتعون بكل ما ذكرناه. إنما المتعة هي فقط للمستحقين. إذ أن بعد القيامة الدينونة، ويقف الناس جميعًا أمام عدل الله. الذي يجازي كل واحد حسب أعماله (رؤ 22: 12) وطوبي لمن يكون مستحقًا لأمجاد الأبدية وسعادة العشرة مع القديسين.
فليبذل كل منا جهده. وليعمل خيرًا علي الأرض. لكي يلقاه هناك..
وليكن كل واحد أمينًا في علاقته مع الناس، وفي واجبه نحو نفسه، وواجبه نحو المجتمع الذي يعيش فيه، فيصنع خيرًا نحو الكل، وتكون له ذكري طيبة علي الأرض ومكافأة حسنة في السماء.