مجمع أورشليم
أولاً: الظروف التي عقد فيها المجمع
أصبحت أنطاكية مدينة مهمة في زمن البشارة المسيحية الأولى، لأنها كانت نقطة إنطلاق الرسالة إلى العالم الوثني. انضمّ عدد كبير من الوثنيين، في أنطاكية والمدن المجاورة لها، إلى الكنيسة؛ أثار هذا الإنتشار الواسع للرسالة بين الأمم تحفّظات لدى بعض أعضاء كنيسة أورشليم. قبل ذلك الوقت بقليل، أذعن المسؤولون في كنيسة أورشليم لتصّرف بطرس في بيت قرنيليوس في قيصرية (أع 10) حيث عمّد عدداً كبيراً من الوثنيين، فاعتبروا أنّ مهمّة بطرسِ رافقتها علامات من الله توافق على تصّرفه. غير أن المشكلة الآن لها بعد آخر: أصبح عدد المسيحيين المرتدّين من الوثنية في أنطاكية وجوارها يفوق إلى حدّ بعيد عدد المسيحيين المتهوّدين في أورشليم؟ إضافة إلى ذلك، هؤلاء المسيحيون المرتدّون من الوثنية انضمّوا الى الكنيسة دون المرور بشريعة الختان. لم يعترض المسؤولون في كنيسة أورشليم على ارتداد الوثنيين إلى الكنيسة ولكنهم فرضوا شريعة الختان على هؤلاء المرتدّين كشرط أساسي لنيل الحلاص: "إن لم تختتنوا على شريعة موسى، لا تستطيعون أن تنالوا الخلاص" (15: 1). بهذه الطريقة تصبح منافسة الكنائس خارج أورشليم أقلّ وطأة للكنيسة الأمّ التي بقيت يهو- مسيحية، مرتبطة إلى حدّ ما بالمجمع اليهودي، بالصلوات والعادات اليهودية. أرسلت كنيسة أورشليم إلى أنطاكية بعض المرسلين ليفرضوا شريعة الختان، فأحدث وصولهم إلى أنطاكية بلبلة؛ وظهر خطر كبير لحدوث انشقاق تام بين كنيسة أورشليم. واليهودية من ناحية، وبين كنيسة أنطاكية والكنائس المحيطة بها من ناحية. أخرى. فكان من الضروري مناقشة المشكلة على أعلى المستويات؛ لذلك أرسلت كنيسة أنطاكية بولس وبرنابا وعدداً من المؤمنين لمناقشة الموضوع مع المسؤولين في كنيسة أورشليم وذلك في حدود العام 49.
ثانياً: الصعوبات التي يطرحها نمن المجمع على النقد الأدبي
لاحظ الشرّاح لدى قراءة نصّ مجمع أورشليم كما عرضه القديس لوقا، ان هذا النصّ يحتوي على مجموعتين أدبيّتين، تعالجان مواضيع متشابهة؛ فدمج لوقا هذه المواضيع نظراً لترابطها الوثيق فيما بينها. ولعلّ أبرز البراهين التي تؤكد وجود هاتين المجموعتين هي التالية:
1- إن سبب انعقاد مجمع أورشليم هو فرض شريعة الختان على الوثنيين كما ذكرنا أعلاه. غير أن قرارات المجمع التي أعلنها يعقوب لا تذكر شيئاً عن الختان بل تطلب من الوثنيين اجتناب نجاسة الأصنام والزنى والميتة والدم (15: 20).
2- في بداية انعقاد المجمع نلاحظ اجتماع الرسل والشيوخ (15: 6). ولكننا نلاحظ في (آ 12) ان الجماعة والرسل سكتوا بعد استماع خطاب بطرس. أضف إلى ذلك ان (آ 22) تعود فتذكر اجتماع الكنيسة كلها إلى جانب الرسل والشيوخ.
اننا نتساءل: هل انعقد المجمع بحضور رؤساء الكنيسة أم بحضور رؤساء الكنيسة والجماعة؟
3- من السهل ملاحظة وجود مقدّمتين متشابهتين للمجمع:
أ- نزل اناس من اليهودية... يقولون إذا لم تختتنوا على سنّة موسى لا تستطيعون أن تنالوا الخلاص (15: 1).
ب- قام أناس من الذين كانوا على مذهب الفريسيين ثم آمنوا وقالوا: يجب ختن الوثنيين وتوصيتهم بالحفاظ على شريعة موسى (15: 5).
إنّ المجتمعين أرسلوا قرارات المجمع بطريقتين:
أ- أرسل المجتمعون رسالة إلى أهل أنطاكية تتضمّن مقرّرات المجمع، فقرأها أهل أنطاكية وفرحوا بمضمونها (15: 30 ب- 31).
ب- يقول المجتمعون انهم أرسلوا يهوذا وسيلا ليبلّغا أهل أنطاكية الأمور مشافهة (15: 27 و32). لماذا قرّر المجتمعون إعطاء نفس التعليم بواسطة رسالة وبواسطة الصوت الحيّ؟
5- ولعلّ الأمور تزداد تعقيداً عند محاولتنا التوفيق بين معطيات كتاب الأعمال عن المجمع وبين ما رواه القدّيس بولس شخصياً عن المجمع في رسالته إلى أهل غلاطية (غل 2: 1- 10).
أ- معطيات القدّيس بولس
- عُقد المجمع خلال مجيء بولس الثاني إلى أورشليم التي زارها بولس برفقة برنابا وتيطس (غل 2: 1).
- صعد بولس إلى أورشليم بوحي (غل 2: 2).
- عرض بولس المشكلة أمام مجمع خاص (غل 2: 2).
- قرارات المجمع تناولت اقتسام حقول الرسالة (غل 2: 7) والإهتمام بالفقراء (غل 2: 10) ولم يفرض على بولس شيء آخر (غل 2: 6).
- ما يلفت انتباهنا أنّ بولس لا يذكر شيئاً من قرارات المجمع في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس (1 قو: 8- 10) وفي رسالته إلى أهل روما (روم 14) حيث يعالج بولس مواضيع مشابهة لقرارات المجمع.
ب- معطيات القديس لوقا
- عقد المجمع خلال صعود بولس الثالث إلى أورشليم بصحبة برنابا فقط (25:12).
- صعد بولس إلى أورشليم بتفويض من كنيسة أنطاكية (15: 2).
- عرضت المشكلة على الكنيسة وعلى الشعب (15: 6 و 12).
- قرارات المجمع تتعلّق باجتناب نجاسة الأصنام والزنى والميتة والدم (20:15).
إن وجود هاتين المجموعتين كما عرضنا أعلاه، دفع بعض الشرّاح إلى الإعتقاد أنه عُقد مجمعان في أورشليم: الأول وهو مجمع خاص حضره الرسل والشيوخ وكان بولس حاضراً، وقد عالج هذا المجمع موضوع الختان؛ المجمع الثاني هو مجمع عام شاركت فيه الجماعة وكان موضوع الإجتماع كيفية تسهيل مشاركة المائدة بين المسيحيين المتهوّدين. وبين المسيحيين المرتدّين من الوثنية وقد غاب بولس عن هذا المجمع. إذا كان اعتقاد هؤلاء الشّراح صحيحاً، فمعظم التناقضات تجد لها حلاًّ سهلاً. أما عن سبب جمع لوقا لحدثين لم يعقدا في فترة زمنية واحدة فيعود إلى أن لوقا يروي الأحداث بعد فترة طويلة على حدوثها، فدمج هذين الحدثين لارتباطهما الوثيق فيما بينهما. ان لوقا المؤرّخ لا يتمتّع بصفات المؤرخّ في القرن العشرين، بل كان هدفه التأكيد ان رسالة بولس بين الوثنيين حظيت بموافقة السلطات الكنسية في أورشليم، وقد خصّص بقية فصول كتابه لتأكيد هذا الهدف. لذلك جمع لوقا، بطريقته اللاهوتية، أحداثاً متعدّدة جرت في أورشليم ليصل إلى هدفه.
ثالثاً: أعمال المجمع
توالى على الكلام في المجمع بطرس فبرنابا وبولس ثم يعقوب.
1- خطبة بطرس
تكلّم بطرس لصالح حرية الرسالة وانتشار الإنجيل بين الوثنيين. ذكّر بطرس المجتمعين أن المبدأ الأساسي الذي يناقشونه قد تقرّر حيث قاده الله منذ سنين إلى بيت قرنيليوس، حيث سمع الوثنيون الإنجيل وحلّ الروح عليهم. ان الله الذي يفحص القلوب طهّر قلوبهم بحلول روحه عليهم (10: 44).
ويستنتج بطرس بالقول انه طالما ان الله لم يضع شروطاً ليقبل الوثنيين في الكنيسة فلماذا يجب أن نضع شروطاً على ارتداد الوثنيين، إذ نحمّلهم نيراً وجده اليهود وآباؤهم ثقيلاً؟ نلاحظ أن خطاب بطرس هو قريب جداً من تعليم القديس بولس الذي عالج هذه الأمور في رسائله.
إزاء هذه الأحمال الثقيلة التي يصعب حملها (مت 23: 4) حاول بطرس أن يطلب من المجتمعين أن يفرحوا ويتنعّموا بنير سيدهم الهيّن وحمله الخفيف (مت 11: 29- 30). انهم يعلمون ان خلاصهم ناجم عن نعمة المسيح فلماذا نحمّل الوثنيين حملاً مختلفاً؟ ان موقف بطرس كان واضحاً وقوته في الإقناع أثّرت في الجماعة التي حافظت على الصمت. يختفي بطرس من كتاب الأعمال بعد خطبته هذه وكان تشريع الرسالة بين الوثنيين هو فعلياً آخر عمل لبطرس، مثلما بدأ الرسالة عينها في بيت قرنيليوس.
2- تدخّل برنابا وبولس
لم يقدّم برنابا وبولس اللذان ورد اسمهما بهذا الترتيب في أعمال المجمع براهين لاهوتية بل اكتفيا بسرد أخبار انتشار الرسالة بين الوثنيين بمساعدة الله وان الآيات والعجائب التي رافقت البشارة المسيحية الأولى في أورشليم ساعدت على تبشير الوثنيين.
3- خطبة يعقوب
توجّهت الأنظار الآن إلى يعقوب أخي الربّ، ذاك الذي تمتّع بالإحترام والثقة. اختصر يعقوب في بداية حديثه خطاب بطرس (سمّاه باسمه الارامي سمعان)؛ وما يلفت انتباهنا انه لا يشير إلى التقرير الذي قدّمه برنابا وبولس؛ قد يكون يعقوب تعمّد عدم الإشارة إلى تقريرهما لأن رسالتهما بين الوثنيين هي التي أوقعت العثار لدى بعض أعضاء كنيسة أورشليم. نتوقّف عند موقفين أعلنهما يعقوب في خطبته:
أ- ان الله عُنيَ أن يتّخذ شعباً لاسمه بين الوثنيين (15: 14).
في العهد القديم اعتبر اليهود انهم شعب الله المختار وهم بذلك يتميّزون عن الوثنيين الذين لا يعرفون الله، الوثنيون (Ethnôn في اليونانية) (غوييم في العبرية) هي دائماً في تناقض مع عبارة الشعب (Laos في اليونانية) (عم في العبرية). غير أنّ يعقوب جمع هذين التعبيرين المتناقضين ليستطيع التوفيق بين هذين الشعبين اللذين يجب أن يندمجا في كنيسة المسيح الواحدة. ما يقوله يعقوب نجده في كتب العهد الجديد: "أما أنتم فإنكم ذرّية مختارة وجماعة الملك الكهنوتية، وأمّة مقدّسة وشعب اقتناه الله" (1 بط 9:2).
ب- من ناحية أخرى، ما يلفت انتباهنا هو أن يعقوب، المسؤول عن كنيسة أورشليم التي بقيت متعلّقة بعادات اليهود وتقاليدهم ومجمعهم، يستشهد بنبوءة عاموس (عا 9: 11 ي) بحسب الترجمة السبعينية ولم يستشهد بالنص العبري مع العلم ان السبعينية قرأت النصّ العبري بطريقة مختلفة.
يقول النصّ العبري: في ذلك اليوم اقيم كوخ داود الذي سقط وأسدّ ثلمه وأقيم أنقاضه وأعيد بناءه كما كان في الأيام القديم لكي يرثوا بقية ادوم وجميع الأمم التي أطلق إسمي عليها يقول الربّ الصانع هذا.
إن نصّ السبعينية اختلف بثلاثة تغييرات عن النصّ العبري.
النصّ العبري نصّ السبعينيّة
- في ذلك اليوم بعد ذلك سأعود
- الصانع هذا الذي صنع هذه الأمور
من الأزل
- ويرثوا أدوم المتجدّد الباقي من البشر يبحث عني.
إن المعنى الأول للنصّ العبري هو أنّ الله سيجدّد خيمة داود المتهدّمة فيحكم على كل الأراضي التي كانت تتضمنها مملكة داود، ليس فقط ما تركه الادوميون بل أيضاً كل الأمم الذين يدعون باسم الرب. إنّ إعادة الصياغة التي أجرتها السبعينيّة على النّص العبري تتضمّن نتيجة واحدة وهي التشديد على روح النصّ. إن رسالة إسرائيل لم تعد السيطرة العسكرية على مملكة داود بل أصبحت رسالته إيصال الأمم إلى معرفة الله الحقيقي.
باختصار لو استشهد يعقوب بالنصّ العبري لما استطاع أن يصل إلى النتيجة التي وصل إليها باستشهاده بنصّ السبعينية. لقد أكّد كتاب الأعمال سابقاً (2: 25- 36؛ 13: 23 و32- 37)، أن المسيح بموته وقيامته أصبح ابن داود الذي تمّم الوعود الموعودة لداود. ما يضيفه يعقوب هنا عن المواعيد الممنوحة لداود هو انتشار مملكة داود وامتدادها من خلال رسالة الكنيسة بين الوثنيين.
ونلاحظ أن الإستشهاد بعاموس لا يعالج موضوع الختان ولكنه حين يعلن ان المؤمنين المرتدّين من اليهودية يجب أن لا يضيّقوا على المرتدّين من الوثنية فهو بذلك يكرّر بعبارات أخرى ما ذكره بطرس حول النير الثقيل الذي لا يجب أن يوضع على أعناق المرتدّين وهو من دون شكّ الختان.
ج- بقي على جدول أعمال المجمع موضوع أخير وهوٍ أنه في معظم المدن كان المسيحيون المرتدّون من الوثنية يعيشون جنباً إلى جنب مع المسيحيين المرتدّين من اليهودية الذين كانوا لا يزالون يراقبون شريعة العهد القديم (لا 17-18) المتعلّقة ببعض المأكولات الممنوعة وتحاشي الإيصال قدر الإمكان بالوثنيين.
لذلك عالج يعقوب بقراره هذا الموضوع ليسهّل التعايش بين هاتين المجموعتين؛ طلب يعقوب اجتناب نجاسة الأصنام والزنى والميتة والدم (20:15).
إن نجاسة الأصنام هي منع كل اللحوم المذبوحة في الإحتفالات الطقسية الوثنية؛ وقد تكون نجاسة الأصنام تعني فقط الإمتناع عن شراء اللحوم التي تباع في الأسواق؛ إن الزنى يمكن فهمه بالمعنى الواسع للكلمة أو بشكل محدّد في إطار الزواجات المحرّمة، إمّا بين الأقارب الادنين وإمّا بين المؤمنين. أمّا الميتة فهي إشارة إلى ما ورد في (تك 9: 4) "لحماً بدمه لا تأكلوا" وأخيراً الدم الذي لا يجب شربه.
هكذا يكون يعقوب قد عرض حلاً للمشكلة المطروحة دون أن يسيء إلى إحدى المجموعتين:
من ناحية لا يطلب من الوثنيين المرتدين المرور بالختان لينضمّوا إلى شعب الله: هذا ما يبعث الفرح في نفوس الوثنيين المرسلين من كنيسة أنطاكية.
من ناحية أخرى يطلب يعقوب من المسيحيين المرتدين من الوثنية التقيّد ببعض الممنوعات حتى يستطيعوا أن يتعايشوا بسلام مع الاخوة المرتدين من اليهودية: هذا يبعث الإرتياح لدى الاخوة المرتدين من اليهودية.
خاتمة
ذكر لوقا خطاب بطرس ويعقوب فقط أثناء المجمع. غير أن لوقا أراد أن يعرف القارىء أنّ بطرس ويعقوب ليسا مسؤولين منعزلين عن الكنيسة، لذلك ذكر إلى جانبهما اجتماع الكنيسة كلها: الرسل والشيوخ ومعهما الكنيسة كلها (15: 22) ليؤكّد على تضامن الكنيسة كلها وتعاونها لحلّ الصعوبات المطروحة عليها.
وهكذا قرّر المجمع عدم فرض الختان على الوثنيين وقد استطاع لوقا المؤرخ الوصول إلى هذا الهدف من خلال عرضه عدة براهين تثبت ذلك:
- عبرّ الله عن إرادته بارتداد الوثنيين في حادثة ارتداد قورنيليوس (7:15-9).
- لم يقو آباء اليهود ولا هم على حمل نير الشريعة (15: 10).
- أجرى الله على أيدي بولس وبرنابا المعجزات بين الوثنيين (12:15).
- نبوءة عاموس تعلن أن ظهور إسرائيل المسيحاني المتجدد في نهاية الأزمنة سوف يسهم في ارتداد الأمم.
إن الصراع الذي كاد يعيق انتشار الإنجيل بين الوثنيين، تمّت معالجته بواسطة حل معقول. لقد أنقذ المجمع وحدة الكنائس المتحدّرة من أصل يهودي وتلك المتحدّرة من أصل وثني. لم تتبع الكنيسة الأمّ في أورشليم تعليمات بعض أفرادها الذين أرادوا أن تبقى الكنيسة يهو- مسيحية. هكذا شّرعت الكنيسة رسالة بولس بين الوثنيين وسوف يخصّص لوقا لهذا الهدف بقيّة فصول كتابه