خرجت من بوابة البناية. آلم عيني نورُ الصباح. انزعجتُ منه كانزعاج معتقل سلَّط المحققُ غدراً ضوء المصباح على وجهه. ظننتُ في البداية أن الجو ضبابي حتى أدركتُ أن هذا الضباب لا يتعدى جفني، يبدو أنه بقايا من الأمس ولا يقبل هذا الاحمرار تركها وحيدة أيضاً، بدأتُ السير متصيدة بعض التركيز من دون جدوى.
حتى وصلت إلى مكب القمامة فانتبهت عيناي بحثاً عن ذلك الكلب الأسود الذي عادة ما أراه وقت ذهابي للعمل، يبدو من هيئته أنه هجين الدوبر، كما أن تحركاته مختلفة بعض الشيء عن باقي الكلاب، ما أن رأيتُه حتى وجدتني ابتسم وأثبت عيني عليه قدر ما أستطيع لأني أعرف أن ابتسامتي ستتلاشى فور استدارتي، ها هو يصعد على غطاء سيارة مغبرة مركونة عند جانب الطريق ويجلس عليه كالحارس وقد بدا عليه الترقب لأمر ما، هي نفسها تلك النظرات الثابتة المتأهبة بعيدة المدى، تقصدتُ الاقتراب منه ومددت يدي نحوه أطرقع اصبعَي وناديته يا أنت، لكنه لم ينظر إليَّ حتى، واصلتُ السير من دون أن ألفتُ انتباه الحمقى الذين يتساءلون عن قصته، يبدو أنه يكره البشر حتى ما عاد يلتفت لأحد من هذا النوع من الكائنات المؤذية؟ هل هو مجرد كلبٍ ضال، أم أنه كان لدى عائلة ما وتخلوا عنه وتركوه جائعاً مشرداً؟ أتراه ما زال يتصرف كحارس كما علموه رغم أنهم تخلوا عن خدماته؟ أو أنه تاه عن صاحبه ولا يريد أن يقبل من غيره عطفاً وتدليلاً وفاء له، ولربما كان يراقب الطريق منتظراً علَّه يجده مقبلاً عليه ليعيده إلى البيت؟
وقفتُ لأعبرَ الطريقَ نحو سلم المترو وأخذت أنظر حولي قليلاً إن لم يكن تحاشياً للدهس تحت سيارة ما، فعلى الأقل لتستريح الأرض من نظراتي. يا لهذا القبح، سير الناس العشوائي، الغبار، الأرصفة المكسرة، الأشجار المحاصرة، محركات السيارات الهمجية، كل صيحة، كل سياج، كل لبنة في تلك الأبنية التي تمنع السماء، كل شيء يسير سريعاً، حتى دقات القلب.
عبرتُ الطريق وتابعت سيري بعضهم يتخطاني في المسير، لا أدرى منذ متى وخطواتي ثقيلة هكذا. أهي السجائر أم شيء آخر؟
وصلتُ أخيراً إلى رصيف المترو، يتكاثر الناس من حولي تدريجياً، ننتظر قدومه حتى لا نتأخر أكثر عن العمل. يتذمر بعضهم من الانتظار، ضحكتُ على مضض وأنا أراهم متلهفين للذهاب إلى أماكن لا يحبونها، كي يمارسوا عملاً ما لا يحبونه مع أناس لا يحبونهم أيضاً، يتذمرون لهفة للمحطة التالية. أنا مثلهم لكني لا أتذمر بينما انتظر.
ولكن ماذا انتظر؟ سرعان ما تحول الأمر في ذهني إلى سؤال وجودي، لكن المترو جاء وقطع شرودي، وبدأتُ أُدفع نحو بابه، لكني شعرتُ فجأة باستفاقة مخدوع، وتملصتُ سريعاً من تلك الجموع، وتراجعتُ مندهشة، لماذا أشارك في عملية التعبئة البغيضة تلك؟ المكان مكتظ بهولاء الذين لا أطيق نظراتهم تلك وكلامهم السمج وتلاصق الأجساد في نفور، وتحفزهم الدائم للفظاظة والصياح.
تذكرتُ مكبَّ القمامة، كيف أن الكلاب والقطط والطيور أكثر نظاماً ولطفاً، وكيف أن رؤية ذيول القطط ومخالب الكلاب تبعث على البهجة أكثر من وجوه المارة هؤلاء، أنا لا أعرف ماذا ينتظر ذلك الكلب لكني واثقة أنه أمرٌ جدير بالانتظار من مترو يعج بالبشر.