كتاب بستان الرهبان
بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين
القديس أنطونيوس الكبير
قال القديس أنطونيوس: «رأسُ الحكمةِ مخافةُ اللهِ. كما أنّ الضوءَ إذا دخل إلى بيتٍ مُظلمٍ طرد ظُلمَتَه وأنارَه، هكذا خوفُ اللهِ إذا دخل قلبَ الإنسانِ طرد عنه الجهلَ وعلَّمه كلَّ الفضائلِ والحِكمِ».
سيرة القديس أنطونيوس: من أهلِ الصعيدِ من جنسِ الأقباطِ، وسيرتُه عجيبةٌ طويلةٌ إذا استوفيناها شرحاً ... وإنما نذكرُ اليسيرَ من فضائِلِه:
إنه لما توفي والدُه دخل إليه وتأمَّل وبعد تفكيرٍ عميقٍ قال: «تبارك اسمُ الله، أليست هذه الجثةُ كاملةً ولم يتغير منها شيءٌ البتة سوى توقُّف هذا النَّفس الضعيف. فأين هي همَّتُك وعزيمتُك وأمرُك وسَطوتُك العظيمة وجمعُك للمالِ. إني أرى الجميعَ قد بَطُلَ وتركتَه ... فيا لهذه الحسرةِ العظيمةِ والخسارةِ الجسيمة». ثم نظر إلى والدِه وقال: «إن كنتَ قد خرجتَ أنت بغيرِ اختيارِك فلا أعجبَّن من ذلك، بل أعجبُ أنا من نفسي إن عملتُ كعملِك». ثم أنه بهذه الفكرةِ الواحدةِ الصغيرةِ ترك والدَه بغيرِ دفنٍ. كما ترك كلَّ ما خلَّفه له من مالٍ وأملاكٍ وحشمٍ، وخرج هائماً على وجهِهِ قائلاً: «ها أنا أخرجُ من الدنيا طائعاً كي لا يخرجوني مثلَ أبي كارهاً». ولم يزل سائراً حتى وصل إلى شاطئِ النهرِ حيث وجد هناك جميزةً كبيرةً وعندها بربا، فسكن هناك ولازَمَ النسكَ العظيمَ والصومَ الطويلَ، وكان بالقربِ من هذا الموضعِ قومٌ من العربِ، فاتَّفق في يومٍ من الأيامِ أن امرأةً جميلةَ الصورةِ من العربِ نزلت مع جواريها النهرَ لتغسلَ رجليها ورفعت ثيابَها وجواريها كذلك. فلما رأي القديسُ أنطونيوس ذلك حوَّل نظرَه عنهن وقتاً ما ظناً منه أنهن يمضين. ولكنَّهن بدأن في الاستحمامِ في النهرِ. فما كان من القديسِ إلا أنه قال لها: «يا امرأة أما تستحين مني وأنا رجلٌ راهب»؟ أمَّا هي فأجابته قائلةً له: «اصمت يا إنسان. من أين لك أن تدعوَ نفسَك راهباً؟ لو كنتَ راهباً لسكنتَ البريةَ الداخليةَ، لأن هذا المكانَ لا يصلُحُ لسُكنى الرهبانِ». فلما سمع أنطونيوس هذا الكلامَ لم يَرُدَّ عليها جواباً، وكثُرَ تعجُّبه لأنه لم يكن في ذلك الوقتِ قد شهد راهباً ولا عَرَف اسمَه. فقال في نفسِهِ: «هذا الكلامُ ليس من هذه المرأةِ، لكنه صوتُ ملاكِ الربِ يوبخني». وللوقتِ ترك الموضعَ وهرب إلى البريةِ الداخليةِ وأقام بها متوحداً. لأنه ما كان في هذا الموضعِ أحدٌ غيرُه في ذلك الوقتِ، وكانت سُكناه في قريةٍ قديمةٍ كائنةٍ في جبلِ العربةِ. صلاته تكون معنا آمين.
وكان يوماً جالساً في قلايتِهِ فأتى عليه بغتةً روحُ صغرِ نفسٍ ومللٌ وحيرةٌ عظيمةٌ، وضاق صدرُه، فبدأ يشكو إلى اللهِ ويقول: «يا ربُّ إني أحبُ أن أخلصَ لكن الأفكارَ لا تتركني، فماذا أصنعُ»؟ وقام من موضِعِه وانتقل إلى مكانٍ آخرَ وجلس. وإذا برجلٍ جالسٍ أمامه وعليه اسطوانةٌ ومتوشحٌ بزنارِ صليبٍ مثال الإسكيم، وعلى رأسِهِ كوكلس (أي قلنسوة) شبهُ الخوذةِ، وكان جالساً يُضفِّرُ الخوصَ. وإذا بذلك الرجل يتوقف عن عملِهِ ويقفُ ليصلي. وبعد ذلك جلس يُضفِّرُ الخوصَ ثم قام مرةً ثانيةً ليصلي، ثم جلس ليشتغلَ في ضفرِ الخوصِ، وهكذا ... أما ذلك الرجل فقد كان ملاكَ اللهِ أُرسِلَ لعزاءِ القديسِ وتقويتِهِ، إذ قال لأنطونيوس: «اعمل هكذا وأنت تستريح»، ومن ذلك الوقتِ اتَّخذ أنطونيوس لنفسِهِ ذلك الزي الذي هو شكلُ الرهبنةِ، وصار يُصلي ثم يشتغلُ في ضفرِ الخوصِ؛ وبذلك لم يَعُد المللُ يضايقه بشدةٍ. فاستراح بقوةِ الربِ يسوع له المجد.
من تعاليم القديس أنطونيوس:
قال:«إنّ أولَ كلِّ شيءٍ هو أن تصلي بلا مللٍ، واشكر اللهَ على كلِّ ما يأتي عليك. وإذا قُمتَ باكراً كلَّ يومٍ اسأل عن المرضى الذين عندك. لا تتحدث مع صبيٍ ولا تعاشره بالجملةِ ولا ترهبنه بسرعةٍ, ولا ترقد على حصيرةٍ واحدةٍ مع من هو أصغر منك، ولا تخالط علمانياً بالجملةِ، ولا تقترب إليك امرأةٌ ولا تَدَعها تدخلُ عندك، فالغَضَبُ يمشي خلفها، ولا تَعُدْ تفتقد أهلَك الجَسَدَانيين. ولا تُعطِ لهم وجهَك لينظروك. لا تُبقِ لك أكثرَ من حاجتِك، ولا تدفع أكثرَ من طاقتِك. وصدقتُك أعطِها لفقراءِ دَيرِك. وإذا حدثتْ عثرةٌ بسببِ شابٍ لم يلبس الإسكيمَ فلا تُرهبنه بل أخرجه من الديرِ بسرعةٍ».
حدث أنه لما دخل القديسُ البريةَ الداخلية، أن الشياطينَ نظرت إليه منزعجةً. فاجتمعتْ عليه وقالت له: «يا صبيَ العمرِ والعقلِ، كيف تجاسرتَ ودخلتَ بلادَنا، لأننا ما رأينا بشراً آدمياً سواك». وابتدَءوا يجاهدونه كلُّهم. فقال لهم: «يا أقوياءُ، ماذا تريدون مني أنا الضعيفُ المسكينُ. وما هو مقداري حتى تجمَّعتم كلُّكم عليَّ. أَلاَ تعلمونَ أني ترابٌ ووسخٌ وكلا شيءٍ، وضعيفٌ عن قتالِ أحدِ أصاغِرِكم». وكان يُلقي بذاتِهِ على الأرضِ ويصرخُ ويقول: «يا ربُّ أعني وقَوِّ ضعفي. ارحمني يا ربُّ فإني التجأتُ إليك. يا ربُّ لا تتخلَّ عني ولا يَقوَى عليَّ هؤلاء الذين يحسبون أني شيءٌ. يا ربُّ أنت تَعلَمُ أني ضعيفٌ عن مقاومةِ أحدِ أصاغر هؤلاء». فكانت الشياطينُ إذا سمعتْ هذه الصلاةَ المملوءةَ حياةً واتضاعاً تهربُ منه ولا تقدرُ على الدنوِّ منه.
وحَدَثَ أن جمعَ الأركونُ (أي رئيسُ الشياطينِ) كلَّ آلاتِ اللَّهوِ والطربِ واللَّذاتِ والنعيمِ والنساءِ وسائر أنواع الزنى ولذَّاتهِ. أما هو فكان يُغمِضُ عينيه ويقولُ: «عجباً منكم. كيف تجعلونَ لي مقداراً وتحتالون في سقوطي، مع إني ضعيفٌ عن مقاومةِ أحدِ أصاغركم. ابعدوا عني وعن ضعفي أنا المسكينُ الترابُ والرماد». وبذلك كانت الأفكارُ تسقطُ عنه بمعونةِ الله، والشياطينُ كانت تحترقُ لكثرةِ اتضاعِهِ. وفي مرَّاتٍ كثيرةٍ كانت الشياطينُ تُحضرُ له جميعَ أنواعِ التخويفِ والإزعاجِ والتهويلِ والعذابِ. وهو يصرخُ إلى اللهِ باتضاعٍ ويقول: «انجدني يا ربُّ بمعونتِك ولا تَبْعُد عن ضعفي». وللوقتِ كانت الشياطينُ تهربُ عنه. ومراراً كثيرةً أيضاً كانت الشياطينُ تهجمُ عليه وتضربهُ ضرباً مؤلماً. وهكذا أقام القديسُ أنطونيوس ثلاثين عاماً إلى أن نظرَ الربُّ يسوعُ المسيح إلى كثرةِ اتضاعِه وصبرهِ واحتمالِه وكَسَرَ عنه شدةَ الأعداءِ. صلاته تكون معنا آمين.
قال القديس أنطونيوس:«أدِّب بخوفِ الله ولا تُشفق. لا تأخذ بوجهِ كبيرٍ ولا صغيرٍ، بل اقطع بكلامِ الحقِّ باستقامةٍ. احرس ثيابَك لئلا تمشي عُرياناً في يومِ الحُكمِ فتُفتَضَح. كُلْ خبزَك بسَكينةٍ وهدوءٍ وإمساك. وجلوسُك يكونُ بأدبٍ. ولا تتبع جميعَ أفكارِك. إذا ضُربَ الناقوسُ لا تتوانَ عن الحضورِ إلى الكنيسةِ، ولا تتقمقم في عملٍ ما. لا تُعيِّر أحداً مهما كانت الأسبابُ. إذا مضَيْتَ إلى أخٍ فلا تُبطئ في قلايتِهِ. لا تتحدث في الكنيسةِ ولا تجلس في أزقَّةِ الديرِ. لا تحلف البتةَ لا بشكٍ ولا بحقٍ. لا تمضِ إلى كنيسةٍ يجتمعُ فيها الناسُ ولا تُلَبِّ دعوةَ وليمةٍ. لا تَقُم بعملٍ من الأعمالِ إلا بعد استشارةِ أبِ الديرِ. لا تُظهر صوتَك إلا في صلاةِ الفرائضِ. والزم الحزنَ على خطاياك كمثلِ من عنده ميتٌ. أَوقِد سراجَك بدموعِ عينيك. لا تتحدث بأفكارِك لجميعِ الناسِ إلا الذين لهم قوةٌ على خلاصِ نفسِك. واشتغل بكلِّ قوتِك ليتمجدَ أبوك الذي في السماواتِ. أدِّب ابنَك بلا شفقةٍ فدينونتُه عليك. لا تأكل حتى تشبع ولا تَنَمْ إلا يسيراً بقدرٍ. لا تكن مُقاتِلاً باللسانِ. اجعل كلَّ أحدٍ يباركُك، والربُّ يسوعُ المسيح يُعينُك على العملِ بمرضاتِهِ». له المجد إلى الأبد آمين.
وقال أيضاً:«كما أنَّ السمكَ إذا خرج من الماءِ يموتُ، كذلك الراهبُ إذا خرج من قلايتِهِ يموتُ خوفُ اللهِ من قلبهِ».
قيل: إن بعضَ الإخوةِ في الإسقيط اتفقوا على زيارةِ القديس أنطونيوس، فلما ركبوا المركبَ وجدوا فيها شيخاً من الآباءِ يُريد المضيَ إليه كذلك، ولم يكن الإخوةُ يعرفونه. ثم أنّ الإخوةَ اندفعوا يتحدثون حديثَ الآباءِ وبما جاء في الكتبِ ويذكرون أيضاً صناعةَ أيديهم. والشيخُ جالسٌ يسمعُ صامتاً. فلما صعدوا من المركبِ عَلِموا أن الشيخَ ماضٍ معهم إلى القديس أنطونيوس. فلما وصلوا إليه نظر إليهم القديسُ وقال للإخوةِ: «نِعْمَ الرفيقَ وجدتموه، أعني الشيخَ». ثم قال للشيخِ: «نِعمَ الرفقةَ وجدتَهم أيها الأبُ». فقال له الشيخُ: «أما هم فجيادٌ، ولكن دارَهم ليس عليها بابٌ، فإذا أراد أحدٌ الدخولَ إلى الإسطَبلِ ليحُلَّ الحِمارَ ويأخُذَه، ما كان له مانعٌ. أعني أنهم يتكلمون بكلِّ ما يجري على ألسنتِهم».
قيل: أتى إخوةٌ إلى الأنبا أنطونيوس وقالوا له: «يا أبانا، قُلْ لنا كيف نخلُص»؟ فقال لهم: «هل سمِعتم ما يقولُه الربُّ»؟ فقالوا: «من فَمِكَ أيها الأب». فأجابهم قائلاً: «من لَطَمَك على خدِك الأيمن حوِّل له الأيسرَ». فقالوا له: «ما نطيقُ ذلك». قال لهم: «إن لم تطيقوا ذلك فاصبروا على اللطمةِ الواحدةِ». فقالوا له: «ولا هذه نستطيعُ». فقال لهم: «إن لم تستطيعوا فلا تجازوا من يظلمكم». فقالوا له: «ولا هذا نستطيعُ». فما كان من القديسِ إلا أن دعا تلميذَه وقال له: «أصلحْ مائدةً واِصرِفهُم لأنهم مرضى. إن هذا لا يطيقون، وذلك لا يستطيعون، ووصايا الربِّ لا يريدون، فماذا أصنعُ لهم»؟!
قال الأنبا أنطونيوس:«إن للجسدِ ثلاثَ حركاتٍ: الأولى من الطبعِ تتحركُ فيه، ولكنها ليست عاملةً ما لم توافقها النيةُ. والحركةُ الثانيةُ تتولدُ من الراحةِ وترفيه البدنِ وتنعيمِهِ بالطعامِ والشرابِ. فيسخنُ الجسدُ ويهيجُ الدمُ ويُحرَّك إلى الفعلِ. ولذلك قال الربُّ: انظروا لئلا تَثقُل قلوبُكم بالشبعِ والسُكرِ. والرسولُ يقول: لا تسكروا بالخمرِ الذي منه الخلاعةُ. أما الحركةُ الثالثةُ فإنها تَهيجُ على المجاهدين من حسدِ الشياطين. وعلى ذلك فالحركةُ الأولى طبيعيةٌ والاثنتان الأخريان عرضِيَّتان، وفي استطاعتنا أن نقبلهما أو نرفضهما إذا شئنا».
وقال أيضاً:«الذي يطرُقُ سبيكةً من الحديدِ يسبقُ أولاً فيُمثِّل في فكرِهِ ما هو عتيدٌ أن يفعلَه، إما منجلاً أو سكيناً أو فأساً وهكذا. فسبيلُنا نحن أيضاً أن نفكرَ في كلِّ شيءٍ نبدأُ في العملِ فيه لئلا يكون عملُنا باطلاً».
وقال أيضاً:«إن الطاعةَ والتمسكنَ يُخضعان لنا الوحوشَ».
وقال أيضاً:«ليكن خوفُ اللهِ بين أعينِكم دائماً، واذكروا من يُميتُ ويُحيي، وأبغِضوا العالمَ وكلَّ ما فيه من نياحِ الجسدِ، ولا تهتموا بهذه الحياةِ الفانيةِ لتحيوا باللهِ. واذكروا ما وعدتم به اللهَ فإنه سوف يطالبكم به في يومِ الدينونةِ. جوعوا. اعطشوا. اسهروا. تعرَّوْا. نوحوا. ابكوا. تنهدوا واحزنوا في قلوبِكم، هل أنتم مستحقين للهِ؟ تهاونوا بالجسدِ لتحيا أنفسُكم».
سُئل القديس أنطونيوس:«ما هو العملُ الجيدُ»؟ فأجاب وقال: «إن الأعمالَ الجيدةَ كثيرةٌ، لأن الكتابَ يقول: إن إبراهيمَ كان مضيفاً للغرباءِ وكان اللهُ معه، وإيليا كان يؤثِرُ سكنى البريةِ والوحدةَ وكان الله معه، وداود كان متضعاً ووديعاً وكان الله معه، ويوسف كان حليماً عفيفاً وكان الله معه. فالذي يُحبهُ قلبُك من كلِّ هذا اعمله من أجلِ اللهِ واحفظ قلبَك. وإذا قاتلتْكَ أفكارٌ كثيرةٌ فقاتِل أنت رأسَها، فإن هزمتَه انهزم باقيها».
وقال أيضاً:«ينبغي لمن يُشتَم أن يعتقدَ في نفسِه أنه هو السببُ في شتمِهِ لسوءِ فعلِهِ. فيُصبحُ الشاتمُ مذلِّلاً له من الخارجِ، في الوقتِ الذي يُصبحُ هو مذلِّلاً لنفسِهِ من الداخلِ. مثلُه في ذلك مثلُ داود النبي الذي منع أصحابَه من قتلِ شاتِمِهِ إذ قال لهم: دَعُوه فإن الربَّ جَعَلَهُ يشتمُني. دَعُوه حتى ينظرَ الربُّ ذلِّي ويرحمني. وأن يتشبَّه (المشتومُ) بالسيدِ المسيحِ، لأنه لَمَّا شُتِم لم يَشْتِم. وأن تَفتكرَ في شاتِمِك أنه قد عتقَك من السُبحِ الباطلِ إن احتملتَه بمعرفةٍ. وأنه قد أَرسلَ لك على لسانِهِ الدواءَ النافعَ. أَقْسِر ذاتَك وتعوَّد قطعَ مشيئتِك، وبنعمةِ المسيحِ تبلُغُ إلى ممارسةِ كلِّ أمورِك بدونِ قَسْرٍ ولا حزنٍ. أَحسِن إلى كلِّ أحدٍ، وإن لم تقدر فأحبَّ كلَّ أحدٍ. وإن لم تستطعْ فلا أقلَّ مِن أن لا تبغضَ أحداً. ولن يتيسَّرَ لك شيءٌ من ذلك ما دمتَ تُحبُ العالميات».
وقال أيضاً:«إن حدَّثك أخٌ بأفكارِه فاِحْذَر أن تُظهرها لأحدٍ، بل صلِّ عنه وعنك كي تَخلُصا معاً. إن أُمِرتَ بشيءٍ يوافقُ مشيئةَ اللهِ فاحفظه. وإن أُمِرتَ بما يخالفُ الوصايا فقل إن الطاعةَ للهِ أولى من الطاعةِ للناسِ. واذكر قولَ الربِّ: إن غنمي تعرفُ صوتي وتتبعُني وما تتبعُ الغريبَ».
قالوا له:«هل جيدٌ للراهبِ أن يكتفي بذاتِهِ ولا يأخذُ من الإخوةِ ولا يعطيهم»؟ قال: «إن تَصَرَّفَ الراهبُ هكذا فهو يعيشُ بلا اتضاعٍ ولا رحمةٍ، ويَبْعُدُ بذلك من الخيراتِ المعدَّة للمتضعين والرحماءِ».
وسألوه أيضاً:«إن كان جيدٌ أن يكتفيَ الراهبُ بنفسِهِ. إذاً فلا هو يَخدِمُ أحداً ولا يدع أحداً يَخدِمُهُ كذلك»؟ فقال: «إنَّ الربَّ علَّمنا أن نَخدِمَ إخوتنا كما يَخدِمُ العبيدُ سادتَهم. وكما شدَّ هو وَسَطَه وغسل أرجلَ التلاميذِ. ولا نمتنع من أن نُخدَمَ، لأن بطرسَ لما امتنع من غسلِ رجليهِ، قال له المسيحُ: إن لم أغسلك فلن يكونَ لك نصيبٌ معي».
قالوا له:« ما معنى قولُ الرسولِ: افرحوا بالربِّ»؟ قال: «إذا فرحنا بإتمامِ الوصايا فهذا هو الفرحُ بالربِّ. فلنفرح بتكميل وصايا الربِّ وبنجاحِ إخوتنا. ولنحفظ أنفسَنا من فرحِ العالمِ والضحك إن أردنا أن نكونَ من خواصِ ربِّنا. لأنه قال: إن العالمَ يفرحُ وأنتم تبكون. كما قال أيضاً: الويلُ للضاحكين والطوبى للباكين. ولم يُكتب عنه قط أنه ضَحِكَ بل كُتب عنه أنه حَزِنَ ودمعت عيناه».
سأل أخٌالأنبا أنطونيوس قائلاً: «ماذا أعملُ لكي أجدَ رحمةَ اللهِ»؟ أجابه القديسُ قائلاً: «كلُّ موضعٍ تمضي إليه اجعل اللهَ بين عينيك، وكلُّ عملٍ تعمله يكونُ لك عليه شاهدٌ من الكتبِ، وكلُّ موضعٍ تسكنه لا تنتقل منه بسرعةٍ. احفظ هذه الثلاثةَ تجدَ رحمةً».
سأل الأنبا بموا القديسَ أنطونيوس عما يصنعُ لخلاصِهِ، فقال له: «لا تتكل على برِّكَ ولا تصنع شيئاً تندمُ عليه. وأمسك لسانَك وبطنَك وقلبَك».
قال الأنبا أنطونيوس لتلاميذِهِ: «أنا لا أخافُ اللهَ». فقالوا له: «ما هذا الكلامُ الصعبُ يا أبانا». قال: «نعم يا أولادي، لأني أُحبُّه، والحبُّ يطردُ الخوفَ».
وقال أيضاً:«إن شِئتَ أن تخلُصَ فلا تدخل بيتَك الذي خرجتَ منه. ولا تسكن في القريةِ التي أخطأتَ فيها. ولا تُبصر أبويك ولا أقرباءَك الجَسَدَانيين، وإلا فأنت تقيمُ زمانَك كلَّه بغيرِ ثمرةٍ. لا تأكل مع امرأةٍ. ولا تصادق صبياً البتة. لا يرقد اثنان منكم على حصيرةٍ واحدةٍ. وإذا نمتَ لا تُدخل يدَك داخلك لئلا تخطئ بغيرِ هواك. لا تَحُلَّ مِنطَقتَك وأنت قويٌ. وإذا تعريتَ فلا تنظر جسدَك، ولا تمسك خَدَّ قريبك ولا يدَه صغيراً ولا كبيراً. لا تعُد إلى الميناءِ التي أخطأتَ للهِ فيها دفعةً أخرى لئلا تقعَ في فخٍ وعثرةٍ. أتعِب نفسَك في قراءةِ كتبِ اللهِ فهي تُخَلِّصُك من النجاسةِ. إن جلستَ في خِزانَتِك قم بعملِ يديك. ولا تَخَلِّ اسمَ الربِّ يسوعَ، بل أمسكه بعقلِك ورتِّل به بلسانِك وفي قلبك. وقل: يا ربِّي يسوعَ المسيحِ ارحمني. يا ربِّي يسوعَ المسيح أعني. وقل أيضاً: أنا أُسَبِّحُك يا ربِّي يسوعَ المسيح. اختَر التعبَ فهو يُخلِّصُك من جميعِ الفواحش مع الصومِ والصلاةِ والسهرِ. لأنَّ تعبَ الجسدِ يجلِبُ الطهارةَ للقلبِ. وطهارةُ القلبِ تجعلُ النفسَ تُثْمِرُ. لا تجعل نفسَك معدوداً بالجملةِ وأنت تتفرغ لتبكي على خطيئتِك. إياك والكَذِب فهو يطردُ خَوفَ اللهِ من الإنسانِ. لا تتحدث بأفكارِك لكلِّ أحدٍ لئلا تكونَ عثرةً. لتكنْ مُتعَباً في شغلِ يديك فيأتيكَ خوفُ اللهِ. أحبَّ الاتضاعَ فهو يغطي جميعَ الخطايا. لا تكن قليلَ السمعِ لئلا تكونَ وعاءً لجميعِ الشرورِ. ضع في قلبِك أن تسمعَ لأبيك فتحلَّ بركةُ اللهِ عليك».
ادَّعوا مرةً على أخٍ في ديرٍ بأنه زنى. فخرج من ديرِهِ وجاء إلى جبلِ أنطونيوس. فجاء إخوةُ ديرِهِ ليردُّوه وبدءوا يوبِّخونه بأنه فعل كذا وكذا. أما هو فأجاب بأنه لم يفعل شيئاً من هذا. واتفق أنّ أنبا بفنوتيوس كان هناك. فقال لهم مثلاً: «رأيتُ رجلاً على شاطئِ النهرِ وقد رموه في الطينِ إلى رُكبتيهِ. فجاءه قومٌ ليساعدوه فغطَّسوه إلى كَتِفَيهِ». فلما أُنبئ أنبا أنطونيوس بكلامِ بفنوتيوس قال: «إن هذا الرجلَ قادرٌ أن يشفي ويُخلِّصَ النفوسَ». فلما سمع الإخوةُ ندموا على الكلامِ الذي قالوه وضربوا المطانية للأخِ وحملوه إلى ديرِهِ.
قال الأنبا أنطونيوس:«لا تَفتَرِ على أخيك ولو رأيتَه عاجزاً عن إتمامِ جميعِ الفرائض لئلا تقعَ في أيدي أعدائِك. الخطايا القديمةُ التي فعلتَها لا تفكر فيها لئلا تتجددَ عليك. لا تتوهم أنك عالمٌ وحكيمٌ لئلا يذهب تعبُك سُدَى وتَمُرَّ سفينتُك فارغةً. عوِّد لسانَك القولَ في كلِّ شيءٍ وفي كلِّ وقتٍ ولكلِّ أخٍ وللهِ تعالى: اغفر لي، فيأتيك الاتضاعُ. لا تذكر لَهْوََك ولذَّاتِك في زمانِ كسلِك، ولا تتحدث عنها لئلا يصبحَ ذكرُها لك عثرةً. إذا جلستَ في قلايتِك فلا تفارق هذه الأشياءَ: القراءةَ في الكتبِ، التضرعَ إلى اللهِ، شُغلَ اليدِ. اطلب التوبةَ في كلِّ لحظةٍ. ولا تدع نفسَك للكسلِ لحظةً واحدةً. تَفَكَّر في كلِّ يومٍ أنه آخِرُ ما بقيَ لك في العالمِ، فإن ذلك يُنقِذُك من الخطيئةِ. واعلم أن الاتضاعَ هو أن تَعُدَّ جميعَ البشرِ أفضلَ منك، متأكِّداً من كلِّ قلبك أنك أكثرُ منهم خطيئةً. ويكونُ رأسُك منكَّساً ولسانُك يقولُ لكلِّ أحدٍ: اغفر لي. لا تتكلم قط في همومِ الدنيا بشيءٍ. اِحْذَر من أن تحبَّ بلوغَ شهواتِك وأغراضك. اِبغِض الجسدَ وارفض لذَّاتِه فإنها ممتلئةٌ شروراً. ارفض الكبرياءَ واعتبر جميعَ الناسِ أبرَّ منك. لا تكتم خطيَّتَك التي صنعتَها. ارفض الردَّ على من يُبغضك ولا تفكِّر في قلبِك بشرٍّ. لا تقاتل أحداً وإن استفزَّك باطلاً فلا تغضب. اِحْذَر أن تتكلمَ بكلامٍ فارغٍ ولا تسمعه من غيرِك أو تفكر فيه. وليكن كلامُك في ذِكرِ اللهِ واستغفارهِ».
وقال أيضاً:«إن قوماً عذَّبوا أجسادَهم في النسكِ ولم يجدوا الإفرازَ. فصاروا بعيدين عن طريقِ اللهِ».
حَدَثَ أنأحدَ الإخوةِ لَحِقَته تجربةٌ من ديرِه فطردوه من هناك. فمضى إلى أنطونيوس إلى الجبلِ وسكن عِندَه مُدةً. وبعد ذلك أرسلَهُ إلى ديرِه فلم يقبلوه وطردوه مرةً أخرى. فرجع إلى الأنبا أنطونيوس وقال له: «إنهم لم يَرضوا أن يقبلوني يا أبي». فأرسل إليهم يقول: «مركبٌ غرق في اللجَّةِ وتَلِفَت حمولتُهُ. وبتعبٍ كثيرٍ سَلِمَ المركبُ وجاء إلى البَرِّ. فالذي نجا أتريدون أن تُغرِقوه مرةً ثانيةً»؟ أما هم فحالما رأوْا كتابَ الأبِ قبلوه بفرحٍ.
ثلاثةُ شيوخٍ كانت لهم عادةٌ في كلَّ سنةٍ أن يمضوا إلى الأنبا أنطونيوس. فكان اثنان منهم يسألانَه عن الأفكارِ وعن خلاصِ نَفْسَيهِما. أما الثالثُ فلم يسأله زمانَه كلَّه عن شيءٍ البتةَ. وبعد زمانٍ طويلٍ قال له الطوباني: «هذا الزمانُ كلُّه تجئَ عندي وما سألتني عن شيءٍ». أما هو فقال له: «يكفيني نظري إليك يا أبي».
قال الأنبا أنطونيوس:«إيَّاك والشَرَه فإنه يطردُ خوفَ اللهِ من القلبِ والحياءَ من الوجهِ، ويجعلُ صاحبَه مأسوراً من الشهواتِ ويُضلُّ العقلَ عن معرفةِ اللهِ. اجعل لك دفعةً واحدةً في النهارِ للقيامِ بحاجةِ الجسدِ لا للشهوةِ. لا تكن كسلاناً فتموتَ بأشرِّ حالٍ. أضعف جسدَك كمثلِ من هو مُلقىً على سريرٍ فتهرُبَ الأوجاعُ عنك. اجعل فكرَك في الوصايا كلَّ حينٍ وداوم على فِعلِها. إيَّاك أن تَعيبَ أحداً من الناسِ لئلا يُبغضَ اللهُ صلاتَك. إيَّاك واللعب فإنه يطردُ خوفَ اللهِ من القلبِ ويجعلُه مسكناً لجميعِ الفواحشِ. أتعب نفسَك في قراءةِ الكتبِ واتِّباع الوصايا فتأتي رحمةُ اللهِ عليك سريعاً. إن الراهبَ الذي يكونُ في خِزانتِهِ غيرَ ذاكرٍ للهِ تعالى ولا قارئاً في الكتبِ فهو يكونُ كالبيتِ الخَرِب خارجَ المدينةِ الذي لا تُفارِقُه الجيفُ النَتنة. وكلُّ من احتاج إلى تنظيفِ بيتِهِ من جِيفَةٍ رماها فيه. صلِّ أبداً صلاةً في قلايتِك أولاً قبلَ صلاتِك مع الإخوةِ. ألزم البكاءَ فيترحَّمَ اللهُ عليك. أبغض كلَّ أعمالِ الدنيا وارفضها، فإنها تُبعِدُ الإنسانَ عن اللهِ. اِحْذَر من أن تكونَ صغيرَ النفسِ لأن صِغرَ النفسِ يجلِبُ الأحزانَ. أحبَّ التعبَ واظلم نفسَك لكلِّ إنسانٍ فتملكَ الاتضاعَ. والاتضاعُ يغفرُ الخطايا كلَّها».
وقال أيضاً:«ينبغي للراهبِ الشابِّ أن يستشيرَ الشيوخَ قبلَ كلِّ خُطوةٍ يخطوها في قلايتِهِ وقبل كلِّ نقطةِ ماءٍ يشربها، لأني رأيتُ رهباناً كثيرين بعد أن تعبوا كثيراً وقعوا في دهشةِ عقلٍ لأنهم توكَّلوا على معرفتِهم فقط. إذ لم يُصغوا إلى الوصيةِ القائلةِ: اسأل أباك فيُخبرك ومشايخك فيقولون لك».
قيل: اجتمع جماعةٌ من الآباءِ عند الأنبا أنطونيوس، وتباحثوا في أيِّ الفضائلِ أَكمَلَ وأقدَرَ على حفظِ الراهبِ من جميعِ مصايدِ العدو. فمنهم من قال إن الصيامَ والسهرَ في الصلاةِ يقوِّمان الفكرَ ويلطِّفان العقلَ، ويُسهلان للإنسانِ سبيلَ التقرُّبِ إلى اللهِ. ومنهم من قال إنه بالمسكنةِ والزهدِ في الأمورِ الأرضيةِ يمكنُ للعقلِ أن يكونَ هادئاً صافياً خالصاً من همومِ العالمِ فيتيسَّرَ له التقرُّبَ من اللهِ. وآخرون قالوا إن فضيلةَ الرحمةِ أشرفُ جميعِ الفضائلِ، لأن الربَّ يقولُ لأصحابها كما وَعَدَ: تعالوا يا مبارَكي أبي رثوا المُلكَ المعدَّ لكم من قَبلِ كونِ العالمِ. فَمِن بعدِ انتهائِهم من المباحثةِ والكلامِ، قال الأنبا أنطونيوس: «حقاً إن كلَّ هذه الفضائلِ التي ذكرتموها نافعةٌ ويحتاجُ إليها كلُّ الذي يطلبون اللهَ، ويريدون التقرُّبَ إليه، إلا أننا قد رأينا كثيرين يُهلكون أجسادَهم بكثرةِ الصومِ والسهرِ والانفرادِ في البراري والزهدِ، حتى أنهم كانوا يكتفون بحاجةِ يومٍ واحدٍ ويتصدَّقون بكلِّ ما يمتلكون، ومع كلِّ ذلك رأيناهم وقد حادوا عن المسلكِ القويمِ وسقطوا وعَدِموا جميعَ تلك الفضائلِ وصاروا مرذولين. وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا الإفرازَ. إن الإفرازَ هو الذي يُعلِّمُ الإنسانَ كيف يسيرُ في الطريقِ المستقيمِ الملوكي وكيف يحيدُ عن الطريقِ الوعرةِ. إن الإفرازَ يُعلِّمُ الإنسانَ كيف لا يُسرق من الضربةِ اليمينية بالإمساكِ الجائرِ المقدار، وكيف لا يُسرقُ أيضاً من الضربةِ الشمالية بالتهاونِ والاسترخاء. إن الإفرازَ هو عيُن النفسِ وسراجُها، كما أن العينَ سراجُ الجسدِ. وبخصوصِ الإفرازِ يُحذِّرُ الربُّ قائلاً: اِحْذَر لئلا يكونَ النورُ الذي فيك ظلاماً. فبالإفراز يفحصُ الإنسانُ مشيئاته وأقواله وأعماله. وبالإفرازِ أيضاً يفهمُ الإنسانُ الأمورَ ويميزُ جيِّدَها من رديئها، ونتأكد من ذلك من الكتبِ المقدسةِ. فشاول الملك لما لم يمتلك الإفرازَ أَظْلَمَ عقلُهُ فلم يفطن إلى أهميةِ ما قاله اللهُ له بلسانِ صموئيل النبي. فأغضب اللهَ بذلك التصرفِ الذي به كان يظنُّ أنه يرضي الله، ونسي أن الطاعةَ للهِ أفضلُ من تقريبِ الذبائحِ. والربُّ يُسمِّي الإفرازَ ربّاناً ومدبِّراً لسفينةِ حياتِنا. والكتابُ يقولُ: إن الذين ليس لهم مدبِّرٌ يسقطون مثلَ الورقِ من الشجرِ. وأيضاً يقولُ الكتابُ: كَمِثلِ مدينةٍ غيرِ محصَّنةٍ وكلُّ مَن أرادَ دَخلها وأخذَ كنوزَها، كذلك الإنسانُ الذي يعملُ أمورَه بغيرِ مشورةٍ».
القديس مقاريوس المصري الكبير
جاء عن القديسِ مقاريوس المصري الكبير أنه قال: إني في حالِ شبابي كنتُ جالساً في قلايةٍ في مصرَ، فأمسكوني وجعلوني قساً لضيعةٍ, وإذ لم أؤثر أن أتقلَّدَ هذه الرتبةَ هربتُ إلى مكانٍ آخرَ. حيث كان يأتيني رجلٌ علماني تقي وكان يخدِمُني ويبيعُ عملَ يديَّ. وفي يومٍ من الأيامِ حدث أن بتولاً في ذلك المكانِ سقطت في زنى وحملت في بطنها. فلما أُشهرت سُئلت عمن فعل معها هذا الفعلَ، فقالت: «المتوحد»! وسُرعان ما خرجوا عليّ وأخذوني باستهزاءٍ مريعٍ إلى الضيعةِ وعلّقوا في عنقي قدوراً قذرةً جداً وآذانَ جِرارٍ مكسورةٍ. وشهَّروا بي في كلِّ شارعٍ من شوارعِ الضيعةِ وهم يضربونني قائلين: «إن هذا الراهبَ أفسدَ عفةَ ابنتنا البتول، أخزوه». وهكذا ضربوني ضرباً مُبَرِّحاً قربتُ بسببهِ إلى الموتِ، إلى أن جاءني أحدُ الشيوخِ فقال لهم: «إلى متى هذه الإهانةُ. أما يكفيه كلُّ ذلك خجلاً»، فكانوا يشتمونه قائلين: «ها هو المتوحدُ الذي شهدتَ له بالفضلِ، انظر ماذا فعل». وأخيراً قال والدُها: «لن نُطلِقَه حتى يأتينا بضامنٍ بأنه يتعهدُ بالقيامِ بإطعامِها». فقال الشيخُ لخادمي: «اضمنه»، فضمنني ومضيْتُ إلى قلايتي ودفعتُ إليه الزنابيل التي كانت عندي قائلاً: «بعها وادفع ثمنَها لامرأتي لتأكلَ بها». وخاطبتُ نفسي قائلاً: «كِدَّ يا مقارة، ها قد صارت لك امرأةٌ». فكنتُ أشتغلُ ليلاً ونهاراً وأتعبُ لأقومَ بإطعامِها. فلما حان وقتُ ولادةِ الشقيةِ مكثتْ أياماً كثيرةً وهي معذبةٌ وما استطاعت أن تلدَ. فقالوا لها: «ما هو هذا»؟ فقالت: «إن كلَّ ما أصابني كان بسببِ أني قد ظلمتُ المتوحدَ واتهمتُه وهو برئٌ لأنه ما فعل بي شيئاً قط. لكن فلانَ الشاب هو الذي فعل بي هذا». فجاء إليَّ خادمي مسروراً وقال لي: «إن تلك البتولَ ما استطاعت أن تلدَ حتى اعترفتْ قائلة: إن المتوحدَ لا ذنب له في هذا الأمرِ مطلقاً، وقد كنتُ كاذبةً في اتهامي له. وها هم أهلُ القريةِ كلُّهم عازمون على الحضورِ إليك يريدون أن يتوبوا إليك ويسألونك الصفحَ والغفرانَ». فلما سمعتُ أنا هذا الكلامَ من خادمي أسرعتُ هارباً إلى الإسقيطِ. هذا هو السببُ الذي لأجلهِ جئتُ إلى جبلِ النطرون.
قيل عن الأنبا مقاريوس إنه بنى لنفسِه قلايةً غربي الملاحات وسكن فيها. وصار يُضَفِّرُ الخوصَ ويعيشُ من عملِ يديه ويعبدُ الله كنحوِ قوتِهِ. فلما سمع به أناسٌ حضروا إليه وسكنوا معه. فكان لهم أباً مرشداً. ولما سمع بسيرةِ الأنبا أنطونيوس وبأعمالهِ الفاضلةِ، مضى إليه فقَبِلَه وعزاه وأرشده إلى طريقِ الرهبنةِ، وألبسه الزيَ ثم عاد إلى موضعِهِ. وكثُرَ الذين يحضرون إليه فكان يُلبسهم الزيَ ويرشدهم إلى طريقِ العبادةِ. فلما كَبُرَ عددُهم بنوا لهم كنيسةً هي الآن موضع البراموس، فلما ضاق بهم المكانُ ولم تعُد الكنيسةُ تسعهم، تحوَّل الأب من ذلك المكانِ وبنى كنيسةً أخرى.
قال الأب مقاريوس: ضجرتُ وقتاً وأنا في القلاية. فخرجتُ إلى البريةِ وعزمتُ على أن أسألَ أيَّ شخصٍ أقابلُه من أجلِ المنفعةِ. وإذا بي أقابلُ صبياً يرعى بقراً. فقلت له: «ماذا أفعلُ أيها الولدُ فإني جائعٌ»؟ فقال لي: «كلْ». فقلتُ: «أكلتُ، ولكني جائعٌ أيضاً». فقال لي: «كلْ دفعةً ثانيةً». فقلت له: «إني أكلتُ دفعاتٍ كثيرةً ولا زلتُ جائعاً». فقال الصبيُ: «لستُ أشكُ في أنك حمارٌ يا راهب، لأنك تحبُّ أن تأكلَ دائماً». فانصرفتُ ولم أردَّ له جواباً.
سُئل القديس مقاريوس:«أيُّ الفضائلِ أعظمُ»؟ فأجاب وقال: «إن كان التكبُّر يُعتبرُ أشرَّ الرذائلِ كلِّها حتى أنه طرح طائفةً من الملائكةِ من علوِ السماءِ، فبلا شكٍ يكون التواضعُ أكبرَ الفضائلِ كلِّها لأنه قادرٌ أن يرفعَ المتمسكَ به من الأعماقِ حتى ولو كان خاطئاً. من أجلِ ذلك أعطى الربُّ الطوبى للمساكين بالروحِ».
أتى الأب مقاريوس يوماً من الإسقيط إلى نيرس، فقال له الشيوخ: «قل كلمةً للإخوةِ أيها الأب». فأجابهم قائلاً: أنا لم أصر راهباً، لكني رأيتُ رهباناً. فقد كنتُ يوماً جالساً في الإسقيط في القلاية، وإذا أفكارٌ تأتيني قائلةً: اذهب إلى البريةِ الداخليةِ وتأمَّل فيما تراه هناك. ومكثتُ مقاتِلاً لهذا الفكرِ خمسَ سنواتٍ ظاناً أنه من الشيطانِ. لكني لما وجدتُ الفكرَ ثابتاً مضيْتُ إلى البريةِ فصادفتُ هناك بحيرةَ ماءٍ وفي وسطِها جزيرةٌ، وقد وافت وحوشُ البريةِ لتشربَ. وشاهدتُ بينها رجلين مجرَّدين (أي عاريين)، فجزعتُ منهما لأني ظننتُ أنهما روحان. لكنهما لما رأياني خائفاً جزعاً خاطباني قائليْن: «لا تجزع فإننا بشريان مثلك». فقلتُ لهما: «من أنتما؟ وكيف جئتما إلى هذه البريةِ»؟ فقالا لي: «كنا في كنوبيون وقد اتفقنا على تركِ العالم فخرجنا إلى ها هنا. ولنا منذ ذلك الوقتِ أربعون سنةً. وقد كان أحدُهما مصرياً والآخر نوبياً. فسألتُهما كيف أصيرُ راهباً. فقالا لي: «إن لم يزهد الإنسانُ في كلِّ أمورِ العالمِ فلن يستطيعَ أن يصيرَ راهباً». فقلت لهما: «إني ضعيفٌ فما أستطيعُ أن أكونَ مثلَكما». فقالا لي: «إن لم تستطع أن تكونَ مثلنا فاجلس في قلايتك وابكِ على خطاياك». فسألتُهما: «هل ما تبردان إن صار شتاءٌ. وإذا صار حرٌ أما يحترقُ جَسداكُما»؟ فأجاباني بأن اللهَ قد دبَّر لنا ألا نجدَ في الشتاءِ برداً ولا يضرُّنا في زمنِ الحصادِ حرٌ. وأخيراً قال القديسُ للإخوة: «لذلك قلتُُ لكم إني لم أصر بعدُ راهباً، بل رأيتُ رهباناً. فاغفروا لي».
وحدث مرة أن مضى الأنبا مقاريوس إلى القديس أنطونيوس في الجبلِ وقرع بابَه. فقال الأنبا أنطونيوس: «من يقرعُ البابَ»؟ فقال: «أنا مقاريوس أيها الأب». فتركه الأنبا أنطونيوس ودخل ولم يفتح له البابَ. لكنه لما رأى صبرَه فتح له أخيراً وفرح معه وقال له: «منذ زمانٍ وأنا مشتاقٌ أن أراك». وأراحه لأنه كان مجهداً من أثر تعبٍ شديدٍ. فلما حان المساءُ بلَّ أنطونيوس قليلاً من الخوصِ لنفسِهِ. فقال له مقاريوس: «أتسمح أن أبلَّ لنفسي أنا أيضاً قليلاً من الخوصِ»؟ فقال له: «بلّ». فأصلح حُزمةً كبيرةً وبلَّها وجلسا يتكلمان عن خلاصِ النفسِ. وكانت الضفيرةُ تنحدرُ من الطاقةِ. فرأى أنبا أنطونيوس باكراً أن مقاريوس قد ضَفَّرَ كثيراً فقال: «إن قوةً كبيرةً تخرجُ من هاتين اليدين».
ومرة نزل الأب مقاريوس من الإسقيط إلى الحصادِ وصَحِبَه سبعةُ إخوةٍ. وكانت امرأةٌ تلتقطُ خلفَ الحصَّادين وهي لا تكفُّ عن البكاءِ. فاستفهم الأب من رئيسِ الحصَّادين عن أمرِ هذه العجوز وعن سببِ بكائها دائماً. فأجابه: «إن رجلَها عنده وديعةٌ لإنسانٍ مقتدرٍ. وقد مات فجأةً ولا تعلم المرأةُ موضعَ هذه الوديعةِ. وقد عَزِمَ صاحبُها على أخذِ أولادَها عبيداً». فلما استراح الحصَّادون من الحرِّ، دعا الشيخُ المرأةَ وقال لها: «هلمي أريني قبرَ زوجِك». فلما وصل إليه صلى مع الإخوةِ. ثم نادي الميتَ قائلاً: «يا فلان، أين تركتَ الوديعةَ»؟ فأجابه: «إنها في بيتي تحتَ رِجلِ السريرِ». فقال له القديسُ: «نَمْ أيضاً». فلما عاين الإخوةُ ذلك تعجبوا. فقال لهم القديسُ: «ليس من أجلي كان هذا الأمرُ لأني لستُ شيئاً. بل إنما صنع اللهُ هذا من أجلِ الأرملةِ واليتامى». ولما سمعت المرأةُ بموضعِ الوديعةِ، انطلقتْ وأخذتها وأعطتها لصاحبها. وكلُّ الذين سمعوا هذا سبَّحوا الله.
قيل عن الأب مقاريوس: إنه كان قد جعل لنفسِه قانوناً وهو أنه إذا قدَّم له الإخوةُ نبيذاً كان لا يمتنع من شربهِ، لكنه عِوض كلِّ قدحِ نبيذٍ يشربه، كان يصومُ عن شربِ الماءِ يوماً. فأما الإخوة فلكي ما يكرِّموه كانوا يعطونه، وهو لم يمتنع بدورِهِ إمعاناً في تعذيبِ ذاتهِ. أما تلميذُهُ فلمعرفتِه بأمرِ معلمِه، طلب من الإخوةِ من أجلِ الربِّ ألا يعطوا الشيخَ نبيذاً لأنه يعذِّبُ ذاتَه بالعطشِ. فلما علموا الأمرَ امتنعوا من إعطائهِ نبيذاً منذ ذلك الوقتِ.
صعد الأب مقاريوس مرةً من الإسقيط إلى البريةِ. فأتى إلى ناووس (أي هيكل وثني) حيث كانت هناك جثثٌ يونانيةٌ قديمةٌ. فأخذ القديسُ جمجمةً ووضعها تحت رأسِهِ. فلما رأى الشياطينُ جسارتَه حسدوه وأرادوا أن يُزعجوه. فنادوا بصوتٍ عالٍ باسمٍ مستعارٍ لامرأةٍ قائلين: «يا فلانة، قد أخذنا الصابونَ والأشنانَ وأدواتِ الحمامِ، وها نحن في انتظارك لتكوني معنا». فخرج صوتٌ من الجمجمةِِ من تحتِ رأسِهِ قائلاً: «إن عندي ضيفاً وهو رجلٌ غريبٌ متوسدٌ عليَّ فلا يمكنني المجيء، امضوا أنتم». أما القديسُ فإنه لم ينزعج ولكنه رفع رأسَه عنها وحرَّكها بيدهِ قائلاً: «ها أنذا قُمتُ عنكِ، فإن استطعتِ الذهابَ فانطلقي معهم إلى الظلمةِ». ثم عاد ووضع رأسَه عليها. فلما رأي الشياطينُ ذلك منه تركوه بخزيٍ عظيمٍ وصرخوا قائلين: «امضِ عنا يا مقاريوس»، وهربوا.
انطلق الأب مقاريوس مرةً من الإسقيط حاملاً زنابيل فأعيا من شدةِ التعبِ، ووضع الزنابيلَ على الأرضِ وصلَّى قائلاً: «يا ربُّ، أنت تعلمُ أنه ما بقي فيَّ قوةٌ»، وإذ به يجدُ نفسَه على شاطئ النهرِ.
أتى أخٌ إلى الأب مقاريوس وقال له: «يا معلم قل لي كلمةً تنفعُني». فقال له القديسُ: «امضِ إلى المقابرِ واشتم الموتى». فمضى الأخُ وشتمهم ورجمهم وعاد وأخبر الشيخَ بما عَمِله. فقال له الشيخُ: «أما خاطبوك بشيءٍ»؟ فقال: «لا». فقال له الشيخُ: «امضِ غداً وامدحهم». فمضى الأخُ ومدحهم قائلاً: «يا قديسينَ، يا أبرار، يا صديقين». وعاد وأخبر الشيخَ بما صنعه. فقال له: «أما أجابوك بشيءٍ»؟ قال: «لا». قال الشيخُ: «إن كنتَ حقاً قد مُتَّ مع المسيحِ ودُفنتَ معه فاصنع هكذا مثلَ أولئك الأمواتِ، لأن الميتَ لا يحسُ بكرامةٍ ولا بإهانةٍ. وبذلك تستطيعُ أن تخلصَ». فانتفع الأخُ بذلك.
قال الأب مقاريوس: حدث يوماً وأنا جالسٌ بالإسقيط أن أتاني شابان غريبان. أحدُهما متكاملُ اللحيةِ، والآخر قد بدأت لحيتُه. فقالا لي: «أين قلاية الأب مقاريوس»؟ فقلتُ لهما: «وماذا تريدان منه»؟ أجاباني: «نريدُ مشاهدته». فقلت لهما: «أنا هو». فصنعا مطانيةً وقالا: «يا معلم نشاءُ أن نقيمَ عندك». فلما وجدتُ أنهما في حالةِ ترفٍ ومن أبناءِ نعمةٍ وغنىً، أجبتُهما: «لكنكما لا تحتملان السكنى ها هنا». فأجابني الأكبرُ قالاً: «إن لم نحتمل السكنى ها هنا فإننا نمضي إلى موضعٍ آخر». فقلتُ في نفسي: «لماذا أنا أطردهما وشيطانُ التعبِ يشكِّكهما فيما عزما عليه»؟ فقلت لهما: «هلما فاصنعا لكما قلايةً إن قدرتما». فقالا: «أرنا موضعاً يصلح». فأعطيتُهما فأساً وقُفّةً وكذلك قليلاً من الخبزِ والملحِ وأريتهما صخرةً صلبةً، وقلتُ لهما انحتاها هنا، وأحضِرا لكما خُصّاً من الغابةٍ وسقِّفا واجلسا. وتوهمتُ أنهما سوف ينصرفان من شدةِ التعبِ. فقالا لي: «وماذا تصنعون ها هنا»؟ فقلتُ لهما: «إننا نشتغلُ بضَفرِ الخوصِ». وأخذتُ سعفاً وأريتُهما بدءَ الضفيرةِ وكيف تُخاط، وقلت لهما: «اعملا زنابيل وادفعاها إلى الخفراءِ ليأتوكما بخبزٍ»، وعرَّفتهما ما يحتاجان من معرفةٍ ثم انصرفتُ عنهما. أما هما فأقاما ثلاثَ سنواتٍ ولم يأتياني. فبقيتُ مقاتِلاً الأفكارَ من أجلِهما، إذ لم يأتيا إليّ ولا سألاني في شيءٍ. ولم يحاولا الكلامَ مع أحدٍ قط. ولم يُبارِحا مكانَهما إلا كلِّ يومِ أحدٍ فقط، حيث كانا يمضيان إلى الكنيسةِ لتناول القربان وهما صامتان. فصليّتُ صائماً أسبوعاً كاملاً إلى الله ليُعلنَ لي أمرَهما. وبعد الأسبوعِ مضيتُ إليهما لأفتقدَهما وأعرف كيف حالهما. فلما قرعتُ البابَ عرفاني وفتحا لي وقبَّلاني صامتيْن فصليتُ وجلستُ. وأومأ الأكبرُ إلى الأصغرِ بأن يخرجَ. أما الأكبرُ فجلس يُضَفِّرُ في الضفيرةِ ولم يتكلم قط. فلما حانت الساعةُ التاسعةُ أومأ إلى الشابِ فأتاه وأصلحا مائدةً وجعلا عليها ثلاثَ خبزاتٍ بقسماطات وداما صامتيْن. فقلتُ لهما: «هيا بنا نأكلُ». فنهضنا وأكلنا وأحضرا كوزَ ماءٍ فشربنا. ولما حان المساءُ قالا لي: «أتنصرف»؟ قلتُ لهما: «لن أنصرفَ. لكني سوف أبيتُ ها هنا الليلةَ». فبسطا حصيرةً في ناحيةٍ وبسطا أخرى لهما في ناحيةٍ أخرى. وحلا إسكيميهما ومنطقتيهما ورقدا قدامي على الحصيرةِ. فصليتُ إلى اللهِ أن يعلنَ لي ماذا يعملان. وإذ كنتُ راقداً ظهر فجأةً في القلايةِ ضوءٌ كضوءِ النهارِ قدامي، وكانا يشاهدانه، فلما ظنَّا أني نائمٌ، نَخَسَ الأكبرُ الأصغرَ وأقامه. وتمنطقا وبسطا أيديهما إلى السماءِ. وكنت أراهما وهما لا يبصرانني. وإذا بي أرى الشياطينَ مقبلين نحو الأصغرِ كالذبابِ. فمنهم من كان يريدُ الجلوسَ على فمِهِ، ومنهم من كان يريدُ أن يجلسَ على عينيه. فرأيت ملاكَ الربِ حاملاً سيفاً نارياً وهو يحيطُ بهما ويطردُ الشياطينَ عنهما. أما الأكبرُ فلم يقدروا على الاقترابِ منه. فما أن حان الفجرُ حتى وجدتهما وقد طرحا نفسيهما على الأرضِ وناما. فتظاهرتُ كأني استيقظتُ وهما كذلك. فقال لي الأكبرُ هذه الكلمةَ فقط: «أتشاءُ أن نقولَ الاثني عشرَ مزموراً». فقلتُ: «نعم». فقرأ الصغيرُ خمسةَ مزاميرَ وفي نهايةِ كلِّ ستةِ استيخونات الليلويا واحدة، ومع كلِّ كلمةٍ كان يقولها كان يبرزُ من فمِهِ شِهابُ نارٍ يصعدُ إلى السماءِ. كذلك الكبيرُ إذ كان يفتحُ فمَه ويقرأ كان مثلُ حبلِ نارٍ خارجاً وصاعداً إلى السماءِ. فلما انقضت الصلاةُ انصرفتُ قائلاً: «صلِّيا من أجلي». فصنعا لي مطانيةً وهما صامتان. وبعد أيامٍ قليلةٍ تنيح الأكبرُ وفي ثالثِهِ تنيح الصغيرُ كذلك. ولما كان الآباءُ يجتمعون بالأب مقاريوس كان يأخذهم إلى قلايتهما ويقول: «هلموا بنا نعاين شهادةَ الغرباءِ الصغار».
كان الأب مقاريوس يقولُ للإخوةِ: «إذا سُرِّحت الكنيسةُ فرُّوا يا إخوةُ فرُّوا». فقال أحدُ الآباءِ: «أيها الأب، إلى أين نفرُّ أكثرَ من هذه البريةِ»؟ فضرب بيدِهِ على فمِهِ وقال: «من هذا فرُّوا».
أتى إلى القديسِ مقاريوس يوماً أحدُ كهنةِ الأصنامِ ساجداً له قائلاً: «من أجلِ محبةِ المسيحِ عمِّدني ورهبني». فتعجب الأبُ من ذلك وقال له: «أخبرني كيف جئتَ إلى المسيحِ بدونِ وعظٍ». فقال له: كان لنا عيدٌ عظيمٌ وقد قُمنا بكلِّ ما يلزمنا. ومازلنا نصلي إلى منتصفِ الليلِ حتى نام الناسُ. وفجأةً رأيتُ داخلَ أحدِ هياكلِ الأصنامِ ملكاً عظيماً جالساً وعلى رأسِهِ تاجٌ جليلٌ وحوله أعوانه الكثيرون. فأقبل إليه واحدٌ من غلمانِهِ فقال له الملكُ: «من أين جئتَ»؟ فأجاب: «من المدينةِ الفلانية». قال: «وأيَّ شيءٍ عملتَ»؟ قال: «ألقيتُ في قلبِ امرأةٍ كلمةً صغيرةً تكلمتْ بها إلى امرأةٍ أخرى لم تستطع احتمالها، فأدى ذلك إلى قيامِ مشاجرةٍ كبيرةٍ بين الرجال، تسبَّب عنها قتلُ كثيرين في يومٍ واحدٍ». فقال الملكُ: «أبعدوه عني لأنه لم يعمل شيئاً». فقدَّموا له واحداً آخر فقال له: «من أين أقبلتَ»؟ قال: «من بلادِ الهندِ». قال: «وماذا عملتَ»؟ أجاب وقال: «دخلتُ داراً فوجدتُ ناراً قد وقعت من يدِ صبيٍ فأحرقت النارُ الدارَ، فوضعتُ في قلبِ شخصٍ أن يتهمَ شخصاً آخر، وشهد عليه كثيرون زُوراً بأنه هو الذي أحرقها». قال: «في أيِّ وقتٍ فعلتَ ذلك». قال: «في نصفِ الليلِ». فقال الملكُ: «أبعدوه عني خارجاً». ثم قدموا إليه ثالثاً. فقال له: «من أين جئتَ»؟ أجاب وقال: «كنتُ في البحرِ وأقمتُ حرباً بين بعضِ الناسِ. فغرقتْ سفنٌ وتطورت إلى حربٍ عظيمةٍ، ثم جئتُ لأخبرَك». فقال الملك: «أبعدوه عني». وقدموا له رابعاً وخامساً، وهكذا أمر بإبعادِهم جميعاً بعد أن يصفَ كلٌّ منهم أنواعَ الشرورِ التي قام بها حتى آخرِ لحظةٍ. إلى أن أقبل إليه أخيراً واحدٌ منهم فقال له: «من أين جئتَ»؟ قال: «من الإسقيط». قال له: «وماذا كنتَ تعملُ هناك»؟ قال: «لقد كنتُ أقاتِلُ راهباً واحداً، ولي اليوم أربعونَ سنةً وقد صرعتُهُ في هذه اللحظةِ وأسقطتُّه في الزنا وجئتُ لأخبرَك». فلما سمع الملكُ ذلك قام منتصباً وقبَّله ونزع التاجَ من على رأسِهِ وألبسه إياه، وأجلسه مكانَه ووقف بين يديه وقال: «حقاً لقد قمتَ بعملٍ عظيمٍ». فلما رأيتُ أنا كلَّ ذلك وقد كنتُ مختبئاً في الهيكلِ قلتُ في نفسي: «مادام الأمرُ كذلك فلا يوجد شيءٌ أعظمَ من الرهبنةِ». وللوقت خرجتُ وجئتُ بين يديك. فلما سمع الأبُ منه هذا الكلامَ عمَّده ورهبنه. وكان في كلِّ حينٍ يَقَصُّ على الإخوةِ أمرَ هذا الرجلِ الذي أصبح بعد ذلك راهباً جليلاً.
جاء عن القديس مقاريوس أنه كان في وقتٍ ما سائراً في أقصى البريةِ. فأبصر شخصاً هرماً حاملاً حملاً ثقيلاً يُحيطُ بسائرِ جسمِه، وكان ذلك الحملُ عبارةً عن أوعيةٍ كثيرةٍ في كلٍّ منها ريشةٌ، وكان لابساً إياها بدلاً من الثيابِ. فوقف مقابله وجهاً لوجه يتأمَّله. وكان يتظاهر بالخجلِ تظاهُرَ اللصوصِ المحتالين. فقال للبارِّ: «ماذا تعملُ في هذه البريةِ تائهاً وهائماً على وجهِك»؟ فأجابه الأبُ قائلاً: «أنا تائهٌ طالبٌ رحمةَ السيدِ المسيح. ولكني أسألُك أيها الشيخُ باسمِ الربِّ أن تعرِّفني من أنت؟ لأني أرى منظرَك غريباً عن أهلِ هذا العالمِ، كما تُعرِّفني أيضاً ما هي هذه الأوعيةُ المحيطةُ بك؟ وما هو هذا الريشُ أيضاً»؟ وقد كان الثوبُ الذي عليه مثقّباً كلَّه، وفي كل ثقبٍ قارورةٌ. فأقرَّ العدوُ بغيرِ اختيارهِ وقال: «يا مقاريوس، أنا هو الذي يقولون عنه شيطانٌ محتالٌ. أما هذه الأوعيةُ فبواسطتِها أجذبُ الناسَ إلى الخطيةِ، وأقدِّمُ لكلِّ عُضوٍ من أعضائهم ما يوافقه من أنواعِ الخديعةِ. وبريشِ الشهواتِ أُكحِّل من يُطيعُني ويتبعُني. وأُسَرُّ بسقوطِ الذين أغلبهم. فإذا أردتُ أن أُضِلَ من يقرأ نواميسَ اللهِ وشرائعَه، فما عليَّ إلا أن أدهنَه من الوعاءِ الذي على رأسي. ومن أراد أن يسهرَ في الصلواتِ والتسابيح فإني آخذ من الوعاءِ الذي على حاجبي وألطِّخُ عينيه بالريشةِ وأجلِبُ عليه نُعاساً كثيراً وأجذبه إلى النومِ. والأوعيةُ الموجودةُ على مسامعي فهي مُعدةٌ لعصيانِ الأوامرِ وبها أجعلُ من يسمعُ إليَّ لا يُذعن لمن يشيرُ عليه. والتي عند أنفي بها أجتذبُ الشابَّ إلى اللَّذةِ. أما الأوعيةُ الموضوعةُ عند فمي فبواسطتها أجذِبُ النساكَ إلى الأطعمةِ، وبها أجذِبُ الرهبانَ إلى الوقيعةِ والكلامِ القبيحِ. وبذورُ أعمالي كلُّها أوزعُها على من كان عاشقاً، ليعطي أثماراً لائقةً بي. فأبذرُ بذورَ الكبرياءِ، وأغلُّ من كان على ذاتِهِ متكلاً، بالأسلحةِ التي في عنقي. والتي عند صدري فهي مخازن أفكاري ومنها أسقي القلوبَ مما يؤدي إلى سُكر الفكرِ، وأشتِّتُ وأُبعِدُ الأفكارَ الصالحةَ من أذهانِ أولئك الذين يريدون أن يذكروا مستقبلَ حياتِهم الأبدية. أما الأوعيةُ الموجودةُ في جوفي فهي مملوءةٌ من عدم الحسِّ وبها أجعلُ الجهالَ لا يحسون، وأُحسِّن لهم المعيشةَ على نهجِ الوحوشِ والبهائمِ. أما التي تحت بطني من شأنها أن تسوقَ إلى فعلِ سائرِ أنواعِ وضروبِ الزنى والعشقِ واللَّذاتِ القبيحة. والتي على يدي فهي معدةٌ لضروبِ الحسدِ والقتلِ. والمعلقةُ وراء ظهري ومنكبيَّ فهي مملوءةٌ من أنواعِ المحنِ المختصة بي وبها أُقارع الذين يرومون محاربتي، فأنصبُ خلفهم فخاخاً. وأُذِلُّ من كان على قوتهِ متكلاً. والتي على قدمي فهي مملوءةٌ عثراتٍ أُعرقِلُ بها طرقَ المستقيمين. ومن شأني أن أخلطَ في بذورِ فلاحتى صنوفاً من الحسكِ والشوكِ. والذين يحصدون منها يُساقون إلى أن يُنكروا طريقَ الحقِ». وبعد أن قال هذا صار دخاناً واختفى. وأن القديسَ ألقى بنفسِهِ على الأرضِ وابتهل إلى اللهِ بدموعٍ لكي يحاربَ بقوتهِ عن الضعفاءِ سكانِ البريةِ ويحفظهم.
قيل عن القديس مقاريوس إنه كان يوصي تلاميذَه قائلاً: «اهربوا من كلامِ النساءِ المؤدي إلى الهلاكِ». وكان يقول: «احذروا ألا تكون بينكم وبين صبيٍ دالةٌ، لأن الصبيَ إذا رأيتَه صاعداً إلى السماءِ فهو سريعُ السقوطِ. فما عليكم إلا أن تطلبوا من المسيحِ إلهِنا أن يُعينَه».
بلغ الأب مقاريوس عن راهبٍ متوحد داخل البريةِ منذ خمسين عاماً لم يأكل خبزاً قط. وقد كان يقول عن نفسِه إنه قتل ثلاثةَ أعداءٍ: الزنى وحب المال والسُبح الباطل. فمضى الأب مقاريوس إليه، فلما رآه المتوحد فرح كثيراً وكان رجلاً ساذجاً. فسأله الشيخُ عن عزائِهِ وعن أحوالهِ وعن جهادهِ، فقال له: «إنه استراح من قتالِ الزنى وحبِّ المال والسُبحِ الباطل». قال له الأب: «لي بعضُ أسئلةٍ أريدُ أن أوجهها إليك فأجبني عنها، وهي: إذا اتفق لك أن عثرتَ على ذهبٍ ملقى وسط حجارةٍ فهل يمكنك أن تميزَ الذهبَ من الحجارةِ»؟ قال: «نعم، ولكني أتغلبُ على فكري فلا يميلُ إلى أخذ شيءٍ منه». قال: «حسناً. وإذا رأيتَ امرأةً جميلةً أيمكنك ألا تفكرَ فيها أنها امرأةٌ»؟ قال: «لا، لكني أُمسكُ فكري ألا يشتهيها». قال: «مباركٌ. وإن سمعتَ أن أخاً يحبُّك ويمجدُك وعن آخرِ يبغضُك ويشتمُك، واتفق أن حضر إليك الاثنان، أيكونا أمامك في منزلةٍ واحدةٍ»؟ قال: «لا. لكني أُمسكُ أفكاري فلا أكافئه حسب أعمالهِ وأقوالهِ وشتيمتهِ، بل أُظهرُ له المحبةَ». أخيراً قال له الأب مقاريوس: «اغفر لي يا أبي فإنك حسناً جاهدتَ وقاتلتَ وصبرتَ من أجلِ المسيحِ، لكن أوجاعَك ما ماتت بعد، بل ما زالت حيةً لكنها مربوطةٌ. فتُب واستغفر اللهَ، ولا تَعُد إلى ما كنتَ تصفُ به نفسَك لئلا تثورَ عليك الأوجاعُ بالأكثرِ». فلما سمع المتوحدُ ذلك الكلامَ انتبه من غفلتِهِ وسجد بين يدي الشيخ قائلاً: «اغفر لي يا أبي، فلقد داويتَ جراحَ جهلي بمراهمِ وعظِك الصالح».
قيل عن الأب مقاريوس مرة إنه مضى إلى البهلس ليقطع خوصاً، فأتاه الشيطانُ وأخذ منه المِنجلَ وهمَّ ليضربه به. أما هو فلم يفزع بل قال له: «إن كان السيدُ المسيح قد أعطاك سلطاناً عليِّ فها أنا مستعدٌ لأن تقتلَني»؛ فانهزم الشيطانُ وانصرف عنه هارباً.
قيل عن الأب مقاريوس إنه كان يوصي تلاميذَه بأن لا يقتنوا مقتنياتٍ البتة. فقد كان يخاطبهم بقوله: «إن الراهبَ له جبة مع أنه لا يساوي عند نفسِه جبة». وكان يقول أيضاً: «إن محبي المسيح الذين أرادوه قد تركوا نعيمَ الدنيا ولذَّاتها. وصارت منزلةُ العالمِ عندهم كمنزلةِ العُوَيْد الصغير، فلم يتألموا على فقدِ شيءٍ منه. إن الإنسانَ الذي يأسف على فقدان شيءٍ منه فليس بكاملٍ بعد. فإن كنا قد أُمرنا أن نرفضَ أنفسَنا وأجسادَنا فكم بالحري المقتنيات. إن الشياطين تحترقُ بهذه الفضيلةِ وأمثالها عندما يرون إنساناً غيَر ملتفتٍ إلى الأشياءِ وليس بمتأسفٍ عليها إذا فقدها، لا سيما إذا علموا أنه يمشي على الأرضِ بغيرِ هوىً أرضي. إن نيَّاتِ الناسِ مختلفةٌ حتى أنه يمكن لإنسانٍ بنيةٍ نشيطةٍ وحارةٍ أن يتقدمَ في ساعةٍ واحدةٍ ما لا يمكن لغيرهِ أن يتقدَّمه في خمسين سنةً إذا كانت نيَّتهُ متوانيةً. والشياطينُ إذا رأوْا إنساناً قد شُتم أو أُهين أو خسر شيئاً ولم يغتم، بل احتمل بصبرٍ وجَلَدٍ فإنها ترتاع منه، لأنها تعتقد وتعلم بأنه قد سلك في طريقِ اللهِ».
وحدث مرةً أن أرسلَ شيوخُ الجبلِ إلى الأنبا مقاريوس يقولون له: «سِرْ إلينا لنشاهدَك قبل أن تنصرفَ إلى الربِّ ولا تضطرَّ الشعبَ إلى المجيءِ إليك». فلما سار إلى الجبلِ اجتمع إليه الشعبُ كلُّه. وطلب إليه الشيوخُ قائلين: «قل للشعبِ كلمةً أيها الأب». فقال: «يا أولادي الأحباء، عظيمٌ هو مجدُ القديسين، فينبغي أن نفحصَ عن تدبيرِهم الذي نالوا بواسطتهِ هذا المجدَ، وبأي عملٍ وفي أي طريقٍ وصلوا إليه. وقد علمنا أنهم لم يشتروه بغنى هذا العالم ولا حصَّلوه بصناعةٍ ما أو بتجارةٍ ما. ولا اقتنوه بشيءٍ مما يملكون، إذ أنهم تمسكنوا وتغربوا عن هذا العالمِ، وجالوا جياعاً فقراءَ، فعلى ما أراه أجدُ أنهم نالوا ذلك المجدَ العظيمَ بتسليمهم ذواتهم وتدبيرِ أمورِهم ونيَّاتهم للهِ، فأخذوا إكليلَ المجدِ السمائي، فما الذي كان لهم وليس هو لنا سوى أنهم تركوا أهويتهم كلَّها من أجلِ الربِّ وتبعوه حاملين الصليب؛ ولم يفصلهم حبُّ شيءٍ آخر عن محبتهِ تعالى. لأنهم لم يحبوه أكثرَ من الأولادِ فقط مثل إبراهيم، بل وأكثر من ذواتِهم أيضاً، كما يقول بولس الرسول لا شيء يستطيعُ أن يفصلَه عن حبِّ الله.
فالآن أيها الأحباء جاهدوا واصبروا إلى الموتِ كالقديسين لتصيروا مسكناً للهِ. إن أحببتم بعضُكم بعضاً فإن اللهَ يسكنُ فيكم. وإن كان في قلوبِكم شرٌ فلن يسكنَ اللهُ فيكم. احذروا الوقيعةَ لئلا تصيروا كالحيةِ أوانيَ للشيطانِ. احفظوا أسماعَكم من كلامِ النميمةِ فتكون قلوبُكم نقيةً. واهربوا من كلِّ ما ينجِّسُ القلبَ. أكرموا بعضُكم بعضاً ليكونَ السلامُ والمحبةُ بينكم. إن غضب أحدٌ على أخيه وأحزنه فلا يستريح له بالٌ قبل أن يصالحَه بحلاوةِ المحبةِ. فقد كُتب: لا تغيب الشمسُ على غيظِكم. قبِّلوا بعضُكم بعضاً بقبلةِ السلامِ، وذلك ليخزى عدو السلامِ ويفرحَ إلهُ السلامِ، وتكونوا له بنين، لأنه قال: إن فاعلي السلام يُدعوْن أبناءَ اللهِ. صلُّوا بالروحِ دائماً كما أمر الرسولُ. اتَّضعوا لإخوتكم واخدموهم حسب قوتِكم لأجلِ المسيحِ لتنالوا منه الجزاءَ، فقد قال له المجد: ما تصنعون بهم فبي تصنعونه. إن كلَّ أعمالِنا نجدها ساعةَ مفارقةِ أنفسنا لأجسادنا. فقد كُتب: إن الله ليس بظالمٍ حتى ينسى عملَكم وودَّكم الذي أظهرتموه باسمِهِ إذ خدمتم الأطهارَ وتخدمونهم أيضاً. ليكن تعبُ أجسادِكم هَوَاكُم ومُشتهاكم ومحبوباً لديكم. ولا تستسلموا للانحلالِ والكسلِ فتندموا يومَ القيامةِ. بينما يلبسُ أكاليلَ المجدِ أولئك الذين قد أتعبوا أجسادَهم، وتوجدون أنتم عراةً بخزيٍ أمام منبرِ المسيح بمحضر الملائكةِ والناسِ جميعاً. لا تُنَعِّموا أجسادَكم في هذا الزمنِ اليسيرِ بالطعامِ والشرابِ والنومِ لئلا تُعدموا الخيرات الدائمة التي لا توصف. فمن ذا الذي تكلَّل قط بدونِ جهادٍ؟ ومن استغنى بدونِ عملٍ؟ ومن ربح ولم يتعب أولاً؟ أيُّ بطَّالٍ جمع مالاً؟ أو أيُّ عاطلٍ لا تنفذ ثروتُه؟ إنه بأحزانٍ كثيرةٍ ندخلُ ملكوت السماوات. فليحرص كلٌّ منكم على قبولِ الأتعاب بفرحٍ عالماً أنَّ مِن ورائها كلَّ غنى وكلَّ راحة. أما الذي لا يستطيعُ أن يحتملَ الأتعابَ لضعفٍ أو أمراضٍ، فليمجِّد أولئك الذين يتعبون ويغبِّطهم كما يفرحُ معهم في خيراتِهم.
لا تقبلوا في فكرِكم ولا تَصِفوا في كلامِكم أيَّ إنسانٍ بأنه شريرٌ، لأن بطرسَ الرسولَ يقولُ: إن اللهَ أراني وأوصاني أن لا أقولَ عن إنسانٍ إنه نجسٌ أو رجسٌ. فالقلبُ النقي ينظرُ كلَّ الناسِ أنقياءَ. فقد كُتب: إن كلَّ شيءٍ طاهرٌ للأطهارِ والقلبُ النجسُ ينجِّسُ كلَّ أحدٍ، لأن كلَّ شيءٍ للأعمى ظلامٌ. هو ذا الربُّ قد حَّلنا من عبوديةِ الشيطانِ فلا نعودُ نربطُ أنفسَنا أو نستعبدها بسوءِ رأينا.
احفظوا ما كلمتُكم به ليكونَ لأنفسِكم منه دواءٌ وصحةٌ، ولا تجعلوه شاهداً عليكم، لأنه سيأتي وقتٌ فيه تُطَالبون بالجواب عن كلامي هذا. تمسَّكوا بالتوبةِ واحذروا لئلا تُصطادوا بفخِ الغفلةِ. لا تتهاونوا لئلا تكونَ الطلبةُ من أجلِكم باطلةً. داوموا على التوبةِ ما دام يوجدُ وقتٌ. فإنكم لا تعرفون وقتَ خروجِكم من هذا العالمِ. لنعمل ما دام لنا زمانٌ لنجد عزاءً في وقتِ الشدةِ. فمن لم يعمل ويتعب في حقلِهِِ في أوانِ الشتاءِ لن يجدَ في الصيفِ غلَّةً يملأُ بها مخازنَه ليقتاتَ بها. فليحرص كلُّ واحدٍ على قدرِ طاقتِهِ، فإن لم يمكنه أن يربحَ خمسَ وزناتٍ فليجاهد كي يربحَ اثنتين. أما العبدُ الكسلانُ الذي لا يعملُ ولا يربحُ فمصيرُهُ العذاب. طوبى لمن يجاهدُ بكلِّ قوَّتهِ فإن ساعةً واحدةً في نياحه تنسيه جميعَ أتعابهِ. فويلٌ وويلٌ لمن تغافل وكسلَ لأنه سيندمُ حيث لا ينفعُ الندمُ. لا تكمِّلوا شهوةَ الجسدِ لئلا تُحرموا من خيراتِ الروحِ. فإن الرسولَ قد كتب: إن اهتمامَ الجسدِ هو موتٌ، واهتمامَ الروحِ هو حياةٌ. افرحوا بكمالِ إخوتكم وضعوا نفوسَكم لهم وتشبَّهوا بهم واحزنوا على نقصِكم. اصبروا للتجارب التي تأتي عليكم من العدو واثبتوا في قتالهِ ومقاومتهِ، فإن اللهَ يعينُكم ويهبكم أكاليلَ النصرةِ، فقد كُتب: طوبى للرجلِ الذي يصبرُ للبلايا ويصبحُ مجرَّباً فإنه ينالُ إكليلَ الحياةِ. لا غَلَبة بدونِ قتالٍ ولا إكليل بدونِ غَلَبةٍ. اصبروا إذاً فقد سمعتَ قولَ الربِّ لأحبائِه: أما أنتم الذين صبرتم معي في تجاربي، ها أنا أُعدُّ لكم الملكوتَ كما وعدني أبي. وقوله أيضاً: إن الذي يصبرُ إلى المنتهى فهذا يخلصُ. وقد قدم لنا نفسَه مثالاً كيف نصبرُ إلى المنتهى. ففي الوقت الذي كان فيه يُسَبُّ ويُعَير ويُهان من اليهودِ نراه يتراءف عليهم ويحسنُ إليهم ، فكان يشفي أمراضَهم ويعلِّمهم. وقَبِلَ الآلامَ بجسدهِ وصبر حتى الصلبِ والموتِ. ثم قام بالمجدِ وصعد إلى السماءِ وجلس عن يمينِ اللهِ.
اشكروا الربَّ في تعبكم من أجلِ الرجاءِ الموضوعِ أمامكم. اصبروا في البلايا لتنالوا أكاليلَ المجاهدين. اغفروا لبعضِكم بعضاً لتنالوا الغفرانَ. فقد قال الربُّ: اغفروا يُغفر لكم. داوموا على حفظِ هذه الوصية فإن ربحَها عظيمٌ ولا تعب فيها. كونوا أبناءَ السلامِ ليَحُلَّ سلامُ الربِ عليكم. كونوا أبناءَ المحبةِ لتُرضوا مُحبَّ البشرِ. كونوا بني الطاعةِ لتنجوا من المحتالِ. إن أولَ العصيانِ كان من آدم أبينا في الفردوس لسببِ شهوةِ الطعامِ. وأولُ الجهادِ من سيدنا المسيح كان في البريةِ في الصيام. وتعلَّمنا من التجربةِ أن الراحةَ والطعامَ هما أسبابُ الضلالِ. والصومُ هو سببُ الغَلَبةِ والنُصرةِ. فصوموا مع المخلصِ لتتمجدوا معه وتغلبوا الشيطانَ. والصيامُ بدونِ صلاةٍ واتضاعٍ يُشبه نسراً مكسورَ الجناحين. احتفظوا بحرصِكم ولا تهربوا من أتعابكم. فإن الطوبى لمن لازم التوبةَ حتى يمضى إلى الربِّ. لازموا السهرَ وقراءةَ الكتبِ وثابروا على الصلاةِ وأسرعوا إلى الكنيسةِ، ونقُّوا قلوبَكم من كلِّ دنسٍ لتستحقوا التناولَ من جسدِ السيد المسيح ودمهِ الأقدسين فيثبُتَ الربُّ فيكم. فبهذا السرِّ العظيم تُحفظون من الأعداءِ. فمَن يتهاون بهذا السرِ فإن قواتَ الظلمةِ تقوى عليه فيبتعدَ عن الحياةِ بهواه. فلنتقدم إلى الأسرارِ المقدسة بخوفٍ وشوقٍ وإيمانٍ تام، ليبعُدَ عنا خوفُ الأعداءِ بقوةِ ربِنا يسوع المسيح، الذي له المجد إلى الأبد آمين».
وقال أيضاً:«من يريدُ أن يأتي إلى اللهِ ليستحقَ الحياةَ الدائمة، وليكونَ مسكناً للسيدَ المسيح، ويمتلئ من الروح القدس، ينبغي له أولاً أن يكون له إيمانٌ ثابتٌ باللهِ، وأن يتفرغَ لعملِ وصاياه، ويرفض العالمَ بالكمالِ. فإذا كان عقلُه مشغولاً بشيءٍ مما يُرى فحينئذ عليه أن يلازمَ الصلاةَ، ويكلِّف نفسَه بالقيامِ بكلِّ عملٍ صالحٍ. وإن كان قلبُه لا يريدُ، إما بسببِ قتالٍ أو لتأصُّل عادةٍ رديئةٍ أو لعجزٍ وقلةِ صبرٍ، فليجاهد ليختطفَ ملكوتَ السماوات، لأن الغاصبين يختطفونه. وليحرص أن يدخلَ من البابِ الضيقِ ويسير في الطريقِ الكربةِ الموصلة إلى الحياةِ الأبدية، ويجعل اللهَ بين عينيه دائماً أبداً، مداوماً على عملِ ما يرضيه وحده. فإذا درَّب الإنسانُ نفسَه على أن تتعودَ على ذلك، ذاكراً الربَّ دواماً مترجياً إياه بشوقٍ كثيرٍ، فحينئذ يخلِّصه الربُّ من الأعداءِ ومن الخطيةِ الساكنةِ فيه، ويملأه من نعمةِ الروح القدس. وهكذا يستطيعُ أن يعملَ الفضائلَ بالحقيقةِ بدون تعبٍ ولا تكلُّفٍ لأن الربَّ يعينه».
وقال أيضاً:«لنبكِ أيها الإخوةُ ولتَسِل دموعُنا من أعيننا قبل أن نمضي إلى حيث تَحرِقُ دموعُنا أجسادَنا بدونِ نفعٍ». فلما قال هذا بكى وبكى الكلُّ معه، وخروا على وجوهِهم قائلين: «أيها الأب صلِّ من أجلنا».
سأله الشيوخُ مرة:«كيف نصلي»؟ فقال: «نبسط أيدينا إلى الله ونقول: يا الله أهدنا كما تحبُّ وكما تريدُ. وإن أصابتنا ضيقةٌ قلنا: يا ربُّ أعنا. فهو يعرف ما هو خيرٌ لنا ويصنع معنا كرحمتِه ومحبتهِ للبشرِ».
وقال أيضاً: إن الذي يلازمُ الصلاةَ يقتني أفضلَ الأعمالِ، إذ هو محتاجٌ إلى جهادٍ أكثر من سائرِ الأعمالِ. لذلك ينبغي له الحرصُ الدائم والصبرُ والتعبُ دائماً، لأن الشريرَ يناصبه العداءَ، ويجلبُ عليه نعاساً وكسلاً وثقلَ جسدٍ، وانحلالاً وضجراً وأفكاراً مختلفة، وطياشةَ عقلٍ وحيلاًكثيرةً محاولاً إبطال الصلاة. لذلك يلزمه الجهادُ إلى الدمِ مقابل أولئك الذين يطلبون إبعادَالنفسِ عن اللهِ. وليتيقظ مراقباً ذهنَه. مطارداً الأفكارَ المضادة بشدةٍ. وطالباً من اللهِ عوناً وفهماً».
وقال أيضاً:«إن أردتَ أن يقبلَ اللهُ دعاءَك فاحفظ وصاياه. أنت عبدُ اللهِ فلا تعمل لغيرِه، ولا تتكل على غيرِه، ولا تَدْعُ غيرَه. وإذ قد علمتَ أنك ستأتي للدينونةِ، فاسْعَ فيما يخلِّص نفسَك منها. اذكر الموتَ وتأهب لموافاته. الوحدةُ هي حفظُ العينين والأذنين واللسان والاشتغالُ بالقراءةِ والصلاةِ. الوحدةُ هي مرآةٌ تُبيِّنُ للإنسانِ عيوبَه. كما أن عصا هرون أزهرت وأثمرت في ليلةٍ واحدةٍ، كذلك الراهب إذا حلَّ فيه الربُّ فإن نفسَه تُزهرُ وتُثمرُ أثمارَ الروحِ القدس بمعونةِ خالقِها السيد المسيح له المجد».
وقال أيضاً:«داوم ذكرَ الاسم القدوس، اسم ربنا يسوع المسيح، فهذه هي الجوهرةُ التي من أجلِها باع التاجرُ الحكيمُ كلَّ أهويةِ قلبِهِ واشتراها، وأخذها إلى داخلِ بيتِهِ فوجدها أحلى من العسلِ والشهدِ في فمِهِ. فطوبى لذلك الإنسان الذي يحفظُ هذه الجوهرةَ في قلبِهِ فإنها تعطيه مكافأةً عظيمةً في مجدِ ربِنا يسوع المسيح».
قال له أخٌ:«إني جبانٌ بسبب خطاياي فماذا أعمل يا أبي»؟ قال له الشيخُ: «تقوَّ وتمسك برجاءِ الحياةِ والرحمةِ التي لا حدَّ لها، الذي هو اسمُ ربنا يسوع المسيح».
حدث أنْ زار الأنبا بيمين الأنبا مقاريوس، فقال الأنبا بيمين: «يا أبي ماذا يعملُ الإنسانُ كي يقتني الحياةَ». فقال الأنبا مقاريوس: «إن داومتَ كلَّ حينٍ على طعامِ الحياةِ الذي للاسمِ القدوس، اسم ربنا يسوع المسيح، بغير فتورٍ، فهو حلوٌ في فمِك وحلقِك، وبترديدك إياه تَدْسَمُ نفسُك وبذلك يمكنك أن تقتني الحياةَ».
قال شيخٌ:«إن كان كلُّ ملءِ اللاهوت قد حلَّ في السيدِ المسيح جسدياً كقول الرسول، فلا نقبلُ زرعَ الشياطين الأنجاس عندما يقولون لنا: إنكم إذا صِحتُم باسمِ يسوع فلستم تدعون الآبَ والروح القدس. لأنهم يفعلون ذلك مكراً منهم لكي يمنعونا من الدعاءِ بالاسمِ الحلو الذي لربنا يسوع المسيح، لعلمِهم أنه بدونِ هذا الاسم لا ولن يوجد خلاصٌ البتةَ، كقولِ الرسول بطرس: إنه ليس اسمٌ آخر تحت السماءِ أُعطي للإنسانِ به ينبغي أن نخلصَ، ونحن نؤمنُ إيماناً كاملاً بأننا إذا دَعوْنا باسمِ ربنا يسوع إنما ندعو الآبَ والابنَ والروحَ القدس، لأننا لا نقبلُ البتة فرقاً ولا انقساماً في اللاهوت، ونؤمن أيضاً أن ربَّنا يسوع المسيح هو الواسطةُ الذي به يحصلُ الناسُ على الدنو من الله والحديثِ معه، كقولِ الرسول: وفي هذه الأيامِ كلَّمنا في ابنِهِ».
قال شيخٌ مثلاً:«كان لإنسانٍ في قريةٍ أختٌ جميلةٌ. ولما كان يومُ عيدِ تلك القريةِ، سألته أختُه أن يأخذها إلى موضعِ ذلك العيد. وإذ كان أخوها يخافُ أن يرسلَها وحدها لئلا يحصلَ لقومٍ عثرةً بسبب شبابِها، فقام ومضى بها إلى مكانِ عيد القريةِ وهو ممسكٌ بيدها. وكان ينتقلُ بها من مكانٍ لآخر وهو ممسكٌ بيدها، لأنه قال: إن هي مالت إلى فعلِ جَهالةٍ فإنها لن تستطيعَ لأني ممسكٌ بيدها. وهكذا فقد كان الكثيرون ينظرون إلى الصبيةِ ويشتهونها من أجلِ جمالِها ولكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا بها شيئاً لأن أخاها كان ممسكاً بيدها. وهي كذلك كانت تنظرُ إلى الصبيانِ الذين يشتهونها وتميلُ بضميِرها للَّذةِ، ولكنها لم تتمكن من إكمالِ شهوتها لأن أخاها كان ممسكاً بيدها. ثم قال الشيخُ الذي ذَكَرَ هذا المثلَ: ما دامت النفسُ ذاكرةً اسم ربنا يسوع المسيح الذي صار لنا أخاً بالتدبير، فإنه يكون في كل وقتٍ ممسكاً بيدِها. وإن أراد الأعداءُ غيرُ المنظورين خداعَها فلا يستطيعون أن يفعلوا بها شيئاً لأن أخاها ممسكاً بيدِها. وإن هي خضعت للأفكارِ ومالت لِلَذّات العالمِ، فلن تستطيعَ إكمالَ الخطية لأن أخاها ممسكاً بيدها إن هي تمسكت في كلِّ وقتٍ بالاسمِ المخلص الذي لربنا يسوع المسيح ولم تُرخِهِ. أرأيتَ يا حبيب كيف أن التمسُّكَ بهذا الذِكرِ الصالحِ الذي لاسمِ ربنا يسوع المسيح هو خلاصٌ عظيمٌ وحصنٌ منيعٌ وسلاحٌ لا يُقهَر وخاتمُ خلاصِ النفسِ؟ فلا تتوانَ عن أن تقتني لنفسِك هذا الكَنزَ الذي لا يُسرق، وهذه الجوهرةَ الكثيرةَ الثمن التي هي اسم ربنا يسوع المسيح، ذلك الاسم المخلِّص. فإن سألتني قائلاً: وكيف أقتني هذا الكنزَ العظيم؟ أجبتُك قائلاً: بالعزلةِ عن كلِّ أحدٍ، وعدم الاهتمام بكافةِ الأشياء. وإتعاب الجسد بقدرٍ، والصوم بمداومةٍ، فهذه كلها تَلِدُ الاتضاعَ والدموعَ الصادقة. وتجعلُك أن تكونَ تحتَ كلِّ الخليقةِ. فإذا ما حصلتَ على كلِّ ذلك صرتَ ابناً لله وأنت على الأرضِ. وتنتقلُ من الأرضِ إلى فوق السماءِ وأنت كائنٌ في الجسدِ. كلُّ نعمةٍ هي منك ولك يا ربُّ. إنك تصنعُ الرحمةَ مع ضعفِنا حتى تنقلنا إلى ملكوتِك».
قال شيخٌ:«الأنبياءُ والرسلُ دوَّنوا ما في الكتبِ، فَعَمِلَ بها آباؤنا ومَن أتى بعدهم. فلما جاءت هذه القبيلةُ وهذا الجيلُ، كتبوها ووضعوها في الكُوَى بغيرِ فائدةٍ».
سأل أخٌ شيخاً قائلاً:«يا أبي، ماذا أعملُ بهذه الحروب الكائنةِ معي»؟ فقال له الشيخُ: «إن مداومةَ اسم الرب يسوع تقطعُ كلَّ آكِلَةٍ».
قال شيخٌ:«ليس هناك فضيلةٌ من الفضائلِ تشبه فضيلةَ مداومة الصلاةِ والتضرع باسمِ ربنا يسوع المسيح في كلِّ وقتٍ، إما بالعزلةِ بالشفتين، وإما بالقلبِ بغيرِ تنزه».
قال شيخٌ:«إذا ما رفض الذهنُ أوامرَ الروحِ القدس تَبعُد القوةُ ذاتها، وتثور أوجاعُ القلبِ. فإذا ما رجع القلبُ إلى اللهِ وحفظ أوامرَ الروحِ القدس كان عليه سِترٌ، وحينئذ يعلمُ الإنسانُ أن مداومةَ ذكرِ اسمِ القدوس ربنا يسوع المسيح هو الذي يحرسه تحت سِترِ رحمتهِ».
سأل أحدُهم شيخاً قائلاً:«يا أبي عرِّفني كيفيةَ الجلوسِ في القلايةِ». فقال له الشيخُ: «هذا هو ما يُعمَلُ في القلايةِ: كُلْ مرةً واحدةً كلَّ يومٍ مع عملِ اليدين وكمالِ الصلوات الفرضية. وأفضل الجميع أن تكونَ مداوماً ذكر اسم ربنا يسوع المسيح بغير فتور. وفي كلِّ لحظةٍ ارفع عينيك إلى فوق وقل: يا ربي يسوع تحنن عليَّ، أنا أسبحُك يا ربي يسوع المسيح».
قال شيخٌ:«إذا كنتَ جالساً في القلايةِ نشِّط نفسَك. لتكن خدمةُ القلبِ عندك أفضلَ من خدمةِ الجسدِ، لأن اللهَ يريدُ القلبَ أن يكونَ ملازِماً اسمه القدوس كلّ حينٍ مثل عبدٍ ملازمٍ سيده وخائفٍ منه».
سأل أخٌ شيخاً:«كيف أجدُ اسمَ ربي يسوع المسيح»؟ قال له الشيخُ: «إذا لم تحب الأتعابَ أولاً لا تستطيع أن تجده».
وسأله أخٌ آخر قائلاً:«كيف تقتني النفسُ خوفَ الله»؟ أجابه: «إذا لم تنظر النفسُ اللهَ لا تخافه». قال له: «وبماذا يظهرُ اللهُ للنفسِ»؟ أجابه: «بالعزلةِ والضيقةِ والصراخ كلِّ حينٍ بشوقٍ، ولا يَفْتُر عن أن ينادي قائلاً: يا ربي يسوع المسيح. فإذا ما كان ذِكرُه دائماً في قلبِك كلّ حينٍ فإنه يجيءُ ويسكنُ فيك، ويعلِّمك كلَّ الأعمالِ الصالحة».
وأيضاً سأل أخٌ شيخاً قائلاً:«أتريدُني أن أتركَ قلبي عند خطاياي». قال: «لا». قال: «فهل أتركُه عند جهنمٍ»؟ قال: «لا. بل اتركُه عند يسوع المسيح فقط، والصق عقلَك به لأن الشياطين يريدون أن يأخذوا ضميرَك إلى حيث يُبعدونك عن الربِّ يسوعَ المسيح». فسأله: «وبأي شيءٍ يلتصقُ الضميرُ بالربِ يسوعَ المسيح». قال له: «بالعزلةِ وعدمِ الهمِّ، والتعبِ الجَسَدَاني بقدرٍ».
قال أنبا يعقوب: إنني زرتُ أنبا إيسيذوروس دُفعةً، فوجدتُه يَنسخُ، وإني جلستُ عنده فرأيتُه في كلِّ وقتٍ قليلٍ يرفعُ عينيه إلى السماءِ وتتحرك شفتاه، ولا أسمعُ له صوتاً البتة. فقلتُ له: «لماذا تعمل هكذا يا أبي»؟ قال لي: «إن لم تفعل أنت هكذا، فما صرتَ بعدُ راهباً ولا ليومٍ واحدٍ». وهذا هو ما كان يقولُه: «يا ربي يسوع المسيح أعني، يا ربي يسوع المسيح ارحمني، أنا أسبِّحُك يا ربي يسوع المسيح».
سأل أخٌ شيخاً:«عرِّفني يا أبي كيف أتمسكُ باسمِ الربِّ يسوع المسيح بقلبي ولساني؟» أجابه الشيخُ: «مكتوبٌ أن القلبَ يؤمَنُ به للبرِّ، والفمَ يُعتَرفُ به للخلاصِ. فإذا هدأ قلبُك فإنه يرتلُ باسمِ الربِ يسوعَ دائماً. أما إن أصابه عدمُ هدوءٍ وطياشةٌ، فعليك أن تتلو باللسانِ حتى يتعود العقلُ. فإذا نظر الله إلى تعبِك أرسل لك معونةً عندما يرى شَوْقَ قلبِك. فيبدد ظلمةَ الأفكارِ المضادة للنفس».
الأنبا باخوميوس
جاء عن القديس باخوميوس: كان والدُُه من الصعيدِ الأعلى عابداً للأصنامِ. ففي ذاتِ يومٍ تجنَّد باخوميوس ضمن جنودِ الملكِ. فحدث بينما كانوا مسافرين وهم بحالٍ سيئةٍ للغايةِ، أن أتاهم قومٌ مسيحيون من إسنا بطعامٍ وشرابٍ في المعسكر. فسأل باخوميوس: «كيف أمكن لهؤلاء الناسِ أن يتحنَّنوا علينا وهم لا يعرفوننا قط»؟ فقيل له: «إنهم مسيحيون، وإنهم يفعلون ذلك من أجلِ إلهِ السماءِ». فلما سمع باخوميوس هذا الكلامَ قرَّر في نفسِهِ أنه لو أُتيحت له فرصةٌ يصيرُ مسيحياً ويخدم المحتاجين. وبتدبيرِ اللهِ غلب الملكُ أعداءَه وأصدر أوامرَه بتسريح الجنودِ. فرجع باخوميوس وتعمَّد. وبعد ثلاث سنين ترهبن عند راهبٍ قديس اسمه بلامون. ولوقته شَرَعَ في إقامةِ شركةٍ حتى يساعدوا بعضُهم بعضاً، ويقوموا بإعالةِ المحتاجين والضعفاء. فاجتمع إليه كثيرون وبنوا أديرةً واتخذوا لهم عيشةً مشتركةً. وكان القديسُ يرسل لهم قانونَ العبادةِ وشُغلَ اليدِ والتصريفَ اللائق، ويدبِّرهم في الجلوسِ والقيامِ والسكوتِ والكلامِ. ويتشدد في ذلك إلى أبعدِ حدٍ.
قيل عن القديس باخوميوس: إنه مضى دفعةً في أمرٍ مع الإخوةِ وكان ذلك الأمرُ يحتاج إلى أن يحملَ كلُّ واحدٍ منهم كميةً من الخبزِ. فقال له أحدُ الشبانِ: «حاشاك أن تحملَ شيئاً يا أبانا، هوذا أنا قد حملتُ كفافي وكفافك». فأجابه القديسُ: «هذا لا يكون أبداً. إن كان قد كُتب من أجلِ الربِ أنه يليقُ به أن يتشبّهَ بإخوتهِ في كلِّ شيءٍ، فكيف أُميِّزُ نفسي أنا الحقير عن إخوتي حتى لا أحملَ حملي مثلهم. وهذا هو السببُ في أن الأديرةَ الأخرى كائنةٌ بانحلالٍ لأن صغارَهم مستعبدون لكبارِهم وليس من اللائقِ أن يكونَ هذا، لأنه مكتوبٌ: من يريدُ أن يكونَ كبيراً فيكم فليكن لكم عبداً».
قال القديس باخوميوس:«اسمع يا ولدي وكن مُتأدِّباً واقبل التعليمَ. كن مطيعاً مثلَ إسحق الذي سمع لأبيهِ وأطاعه كخروفٍ ساذجِ القلبِ، وتشبَّه بعفةِ يوسف وحكمتِهِ وصبرِه واحسد سيرتَه وكن عَمّالاً ولا تكسل، وتمم نذرَكَ الذي قرَّرتَه مع اللهِ خالقك وربِك. كن صبوراً وتجلَّد لأن القديسين صبروا فنالوا المواعيدَ. كن واسعَ القلبِ لتُكلَّل مع عساكِرِه الأطهار. داوم على الصومِ وصلِّ ولا تمل واصبر للبلايا حتى يرفعها الربُ عنك. اجعل السلامَ بينك وبين إخوتِك فيسكنَ الربُ في قلبِك. الزم البكوريةَ في أعضائك والطهارةَ في قلبِك وجسدِك. ليكن رأسُك منكَّساً ونظرُك إلى أسفل، واتضع بقلبِك واهزم الكبرياءَ وابتعد عن الهمِّ. التصق بمخافةِ اللهِ وكن متواضعاً لتكونَ فرحاً. لأن الفرحَ رفيقُ الاتضاعِ. كن متضعاً ليحرسَك الربُ ويقويك. فإنه يقول إنه ينظرُ إلى المتواضعين. كن وديعاً ليحكّمك الربُ ويملأك معرفةً وفهماً، لأنه مكتوبٌ: إنه يُهدي الودعاءَ بالحكمِ ويعلم المتواضعين طرقَه. وحينئذ يثبتك أمامه ويهيئ لك السلامةَ في جميعِ سبلِك. لا تُعطِ لعينيك نوماً ولا لأجفانِك نعاساً لتنجوَ من الفخِ مثل الطائرِ. كن قويَ القلبِ واقتنِ لك شجاعةً منذ الابتداءِ لتقدرَ على الوقوف قبالة غضبِ التنين. لأنه يُصعِّب قتالَك منذ الابتداءِ لا سيما إذا وجدَك غيرَ مستعدٍ لمقاومتهِ وذلك ليجعلَك جزعاً من أولِ الطريقِ، كي لا تستطيعَ الوصولَ إلى منتصفِها. لا تحتقر أحداً من الناسِ ولا تدينه ولو رأيتَه ساقطاً في الخطيةِ، لأن الدينونةَ تأتي من تعاظمِ القلبِ، أما المتضعُ فإنه يَعتبرُ كلَّ الناسِ أفضلَ منه. فبأيِّ حقٍ تدينُ عبداً ليس لك، فإن سقط فلربِهِ، وربُه قادرٌ أن يُقيمَه. إن كنتَ غريباً فاعتكف ولا تدخل عند أحدٍ ولا تختلط بصنائعِ الدنيا. وإن كنتَ بائساً فداوم على العملِ بدونِ مللٍ. أحبَّ الذي يؤدِّبك بخوفِ اللهِ. واجعل جميعَ الناسِ يستفيدون منك وابنِهِم بفضائلِ الأعمالِ والكلامِ الصالح».
وقال أيضاً:«يا ابني إذا جعلتَ توكُّلَك على اللهِ فإنه يصيرُ لك ملجأً ويخلِّصك من جميعِ شدائدك. إن سلَّمتَ كلَّ أمورِك إلى اللهِ فآمن أنه قادرٌ أن يُظهرَ عجائِبَه لقديسيه. جميعُ المعلمين والآباء والكتبُ المقدسة تأمُرُ بالصبرِ الكثير وتُحِثُّ عليه. وانظر لأيِّ درجةٍ حتى اللعابَ الذي ييبس في فمِك وأنت صائمٌ لا ينساه الله. وتجد ذلك عند شدَّتِك في وقتِ انتقالك. اتضع في كلِّ شيءٍ وإذا كنتَ تعرفُ جميعَ الحكمةِ فاجعل كلامَك آخرَ الكلِّ، لأنك بذلك تكمِّلُ كلَّ شيءٍ. تقبَّل كلَّ التجاربِ بفرحٍ، عالماً بالمجدِ الذي يتبعُها، فإنك إن تحققتَ من ذلك فلن تملَّ من احتمالها. لدرجةِ أنك تطلبُ من اللهِ أن لا يصرفها عنك. جيدٌ لك أن تتنهدَ وتبكي فتخلص، لأن الراحةَ تضرُّك وتفرِّح أعداءَك. لا تترك قلبَك يُسبى مع الغرباءِ لئلا يقال لك: لأنك لم تثق بالربِ فأقم الآن في أرضِ العبوديةِ. لا تُخلِ قلبَك من ذِكرِ اللهِ أبداً لئلا تغفل قليلاً فيظفرَ بك الأعداءُ المترصدون لاصطيادك، بل اغلبهم بتركِ الكبرياء واحذر من طلبِها لئلا تُفرِّح أعداءَك. اسلك طريقَ الاتضاع لأن اللهَ لا يردُّ المتواضع خائباً. لكنه يُسقط المتكبرَ وتكون سقطتُه شنيعةً.. إذا ضَعُفتَ عن أن تكون غنياً باللهِ فالتصق بمن يكونُ غنياً به لتسعَد بسعادتِه وتتعلم كيف تسيرُ حسبَ أوامرِ الإنجيل. ما أكثر فخر الصابرين على التجارب، فكن صبوراً وقاتل جميعَ أفكارِك ليعطيكَ المسيحُ المواعيدَ التي أعطاها للقديسين. احفظ نفسَك من الشهوةِ فهي أمُّ جميعِ الخطايا والشِباك، والمُقتنَصُ بها يَضِلُّ عقلُهُ فلا يعود يعلمُ شيئاً من أسرارِ اللهِ. احرس نفسَك من الامتلاءِ بالطعامِ، لأن الطريقَ المؤديةَ إلى الحياةِ كربةٌ، والبابَ ضيقٌ، والامتلاءَ يجعلُك خارجَ الجنةِ. إياك والنجاسة فهي تفصلُ الإنسانَ عن اللهِ. احذر من تكبر القلبِ لأنه أشنعُ الرذائلِ كلِّها. تيقَّظ بكل قوتِك كي تكونَ أميناً على مالِ سيدِك وتدخلَ إلى ملكوتِهِ بفرحٍ، له المجد دائماً أبدياً آمين».
وقال أيضاً:«سألني أحدُ الإخوةِ مرةً قائلاً: قل لنا منظراً من المناظر التي تراها لنستفيدَ منه. فأجبته قائلاً: إن من كان مثلي خاطئاً لا يُعطَى مناظر، ولكن إن شئتَ أن تنظرَ منظراً بهياً يفيدُك بالحقِ فإني أُدِلُّكَ عليه وهو: إذا رأيتَ إنساناً متواضعَ القلبِ طاهراً فهذا أعظمُ من سائرِ المناظر. لأنك بواسطتهِ تشاهدُ اللهَ الذي لا يُرى. فعن أفضلِ من هذا المنظرِ لا تسأل».
وقال أيضاً:«يا ابني، في كلِّ شيءٍ اطلب اللهَ بطولِ روحٍ مثل الزارع والحاصد فإنك تملأ أهراءَك من نِعمِ اللهِ. ارفض إرادتَك بالكليةِ وافلح للهِ بكلِّ قدرتِك. إذا جاءك فكرٌ بخصوصِ حبِّ الأجسامِ أو بغضٍ أو غضبٍ أو أيِّ رذيلةٍ من الرذائلِ، فكن قويَ القلبِ، وقاتل كالجبارِ حتى تهزمها مثل عوج وسيحون وباقي ملوك الكنعانيين، وحينئذ ترثُ جميعَ مدنِ أعدائك. اطرح عنك ضعفَ القلبِ لئلا يتملكك الكسلُ وقلةُ الإيمانِ فيطمع فيك أعداؤك. اجعل قلبَك كقلبِ سَبْعٍ واصرخ كبولس وقل: من ذا الذي يستطيعُ أن يفصلني عن محبةِ اللهِ ربي؟ إن كنتَ في البريةِ فقاتل بالصلواتِ والتنهدِ والصوم، وإن كنتَ في وسطِ الناس فكن وديعاً كالحمامِ وحكيماً كالثعبانِ. إن افترى عليك أحدٌ فلا تفتَرِ أنت عليه. بل افرح واشكر اللهَ. وإذا أكرمك إنسانٌ فلا يفرح قلبُك، بل احزن، لأن بولس وبرنابا لما أكرمهما الناسُ شقَّا ثيابَهما. وبطرس وباقي الرسل لما افتروا عليهم وجلدوهم فرحوا لأنهم حُسبوا أهلاً لأن يُهانوا من أجلِ الاسمِ الأعظم. يا ابني اهرب من مجدِ الناسِ ومن جميعِ ملذاتِ الدهرِ الحاضر، ولا تَكسَل، ولا تؤجِّل التوبةَ لئلا يفاجئك المُرسَلون ويأخذونك وأنت غيرُ مستعدٍ فتصيبك شدةٌ عظيمةٌ وتعاين حينئذ الوجوهَ الشنيعةَ التي تحيطُ بك بقسوةٍ وتمضي بك إلى المنازلِ المظلمةِ المملوءة فزعاً ونيراناً. لا تحزن إذا افترى الناسُ عليك، بل بالحري احزن إذا أخطأتَ إلى الله. لقد طلبتْ حواءُ مجدَ الألوهيةِ فتعرَّت من المجدِ الإنساني. كذلك من يلتمسُ مجدَ الناسِ يُحرم من مجدِ اللهِ. تلك لم يُكتب لها كتبٌ، ولا رأت مثالاتٍ فاختطفها التنينُ، أما أنت فقد علمتَ بهذه الأمورِ من الكتبِ المقدسةِ ومن كافةِ الذين تقدموك، فلن تستطيعَ أن تدافعَ عن نفسِك وتقول: لم أسمع. لأن أصواتَهم خرجت إلى كلِّ الأرضِ وكلامَهم بلغ إلى أقصى المسكونةِ. إذا رذلك الناسُ وافتروا عليك فلا تحزن لأن ربَك دُعيَ ضالاً وبعلزبول وبه شيطان ولم يتذمر. فاقتنِ لك وداعةَ القلبِ واذكر أن ربَّك وإلهَك سِيقَ كخروفٍ للذبحِ ولم يفتح فاه، له المجد إلى الأبدِ».
قيل إنه في أحدِ الأيامِ سمع الأبُّ باخوميوس أحدَ الإخوةِ يخاطبُ صبياً قائلاً: «الآن أوانُ العنبِ». فانتهره الأبُ قائلاً: «هو ذا أجسادُ الأنبياءِ الكذبةِ قد ماتت، ولكن أرواحَهم الآن تطوفُ بين الناسِ تلتمسُ مسكناً فيهم. وأنت الآن لماذا أعطيتَ للشيطانِ موضعاً كي يتكلمَ من فيك. أما سمعتَ الرسولَ قائلاً: كلُّ كلمةٍ رديئةٍ لا يجب أن تخرجَ من أفواهِكم، بل لتخرج كلُّ كلمةٍ صالحةٍ لبناءِ الجماعة، لكي تعطيَ السامعَ نعمةً. ألا تعلم أن الكلمةَ التي قُلتَها لا تبني رفيقَك بل تهدمه. ولماذا نطقتَ بها؟ ألم يُكتب: نفسٌ بنفسٍ؟ ألم تعلم أن نفسَك تؤخذُ عِوضاً عن نفسِه. فإني الآن أشهدُ لكم أن كلَّ كلمةٍ بطالةٍ أو استهزاءٍ أو لعبٍ أو مزاحٍ أو جهلٍ هذه كلها زنى للنفس. ولكي أبينَ لكم مقدارَ غضبِ اللهِ الذي يكونُ على ذلك الإنسانِ الذي يتكلمُ بالكلامِ البطالِ وبكلامِ الاستهزاء، أقول لكم المثلَ الآتي: دعا رجلٌ غنيٌ أناساً إلى وليمةٍ لكي يأكلوا ويشربوا ويفرحوا. وفي أثناءِ الوليمةِ قام بعضُ المتكئين يمزحون، فكسروا الأواني الموجودةَ في بيتِ ذلك الغني. تُرى ماذا عمل الغني؟ إنه غضب عليهم ووبخهم قائلاً: يا عديمي الشكر، لقد دعوتُكم لكي تأكلوا وتشربوا، فكيف تمزحون وتكسرون الأواني؟ هكذا يغضبُ الربُّ على أولئك الذين دعاهم لدعوتِهِ قائلاً لهم: دعوتُكم لكي تتوبوا عن خطاياكم وتخلصوا، ولكنكم هدمتم نفوسَكم ونفوسَ الذين جمعتُهم لي ليخلصوا، بالضحكِ والكلامِ الباطلِ».
وقال أيضاً:«يا بُني، لا تميز موضعاً عن موضعٍ قائلاً: سوف أرى اللهَ هنا أو سوف أراه هناك، لأن اللهَ في كلِّ موضعٍ. لأنه يقول: أنا أملأُ السماءَ والأرضَ. إن أحببّتَ أن تعبرَ مياهاً كثيرةً فاحذر لئلا تغمرك. لا تفتش على اللهِ لئلا تُتلف حياتَك. احفظ القدسَ فقط فهوذا اللهُ داخلك. انظر أين كان اللصُ فورث الجنةَ، أو أين كان يهوذا فاستحقَّ المشنقةَ، أو كيف حُسِبت الزانيةُ مع الأطهارِ، أو كيف أَغوى الشيطانُ حواء في الفردوس، أو كيف أُصعد إيليا إلى السماءِ، أو كيف سقطت الملائكةُ من هناك. فاطلب ولا تكسل. اطلب اللهَ فتجدَه. لا تقضِ أيامَك بالتواني، كما مرَّ العامُ الماضي كذلك هذا العام. وكما مرَّ أمسُ كذلك اليوم. فإلى متى تكسل؟ استيقظ وأيقظ قلبَك قبل أن يوقِفَك مُكرهاً في يومِ الحكمِ لتعطي الجواب عن جميعِ ما صنعتَ. إن صرتَ في حربِ الموتِ لا تجزع، فإن روحَ الله يُنقذُك. لأنه مكتوب: إني لا أخشى شراً لأنك معي».
وقال أيضاً: «يا ابني لا تسكن حيث توجد امرأةٌ لأن هُوَّةَ الهلاكِ كائنةٌ في شفاهِها, وإن تملَّقك الجسدُ قائلاً: إننا منذ زمانٍ طويلٍ قد تحنَّكنا بالتجربةِ، أو إنني قد صرتُ ضعيفاً أو عجوزاً، أو إن الحزنَ والصومَ قد أذلني ولا أستطيعُ مخالفة أمرك. فإياك أن تغترَّ به، لأن الأعداءَ داخله يَكمُنونَ لك، لئلا يَحلِقونَ شعرَ رأسِك أي أفكارَ عقلِك، فيفارقَك روحُ الله وتضعف قوتُك، فيأتي الغرباءُ ويربطونك ويذهبون بك إلى موضعِ الطحنِ حيث تُصبحُ أضحوكةً وألعوبةً، فيقلعون عينيك ويصيِّرونك أعمى لا تعرف طريقَ الخلاصِ. ولن تنفكَّ من أسرِك حتى تموتَ عند الغرباءِ بحزنٍ عظيم. فالآن يا ابني استيقظ واعرف مواعيدك واهرب من القاسي القلب الغاش لئلا يقلع عيني عقلك. تحفَّظ من الزنى واذكر العذابَ المعدَّ للدنسين. اهرب من مصرَ ولا تشرب مياهاً من جيحون التي هي الأفكارُ العاهرة. إذا أحببتَ الأطهارَ فإنهم يكونون لك أصدقاءً ومعهم تصل إلى مدينةِ الله المملوءة نوراً».
في أحدِ الأيامِ جمع الأب باخوميوس الإخوةَ وقال لهم: «أريدُ الآن أن أقولَ لكم وصايا لكي تحفظوها كلُّكم خلاصاً وثباتاً لنفوسِكم، لا سيما لأولئك الذي لم يقووا بعد في الإيمانِ والأعمالِ حتى لا يقعوا في فخِ إبليس، وإياكم أن يشكَ أحدٌ منكم في هذا الكلامِ الذي أقولُه لكم، واذكروا الكلامَ المكتوب: إنكم لا تؤمنون ولا تفهمون. وهذا هو الكلامُ الذي أريدُكم أن تحفظوه: لا يرافق أحدُكم آخرَ لقضاءِ الحاجةِ معاً في مكانٍ واحدٍ. لا يمسك أحدٌ منكم يدَ رفيقِهِ أو يلمس أيَّ شيءٍ من جسدِهِ من غير أمرٍ ضروري إلا في حالةِ رجلٍ مريضٍ أو في حالةِ وقوعِ أحدٍ فيساعدَه آخر حتى يقوم، ويحتاجُ الأمرُ حينئذ أن يمسكَه حتماً ويلمسه. على أنَّ ذلك أيضاً يكونُ بحرصٍ وحَذَرٍ. لا يجلس أحدٌ منكم مع رفيقِهِ في متكأ في عزلةٍ ليتهامسا معاً، بل كونوا بعيدين بعضُكم عن بعضٍ قليلاً حين الكلام مع بعضِكم البعض. لا يرقد أحدُكم على مرقدٍ ليس هو له. لا يَدخل أحدٌ منكم إلى موضعِ رفيقِهِ بغيرِ رسالةٍ أو حاجةٍ، كي لا يجدَ العدو له فينا موضعاً البتةِ».
وقال أيضاً:«يا ابني جرِّب كلَّ شيءٍ واختَر لنفسِك الأفضلَ. لا تكن متعظمَ العينِ بل كن متواضعاً. اجتهد في شبابِك لتفرحَ في كِبرك. احتفظ بالقدسَ لئلا تُفتضح في موضعِ الحكمِ. فيبصرَك معارفُك ويعيرونك قائلين: كنا نظنُّك حملاً فوجدناك ذئباً. أين تستر وجهَك وكيف تفتح فاك. وبماذا تتخلَّص من عملِك الملتصق بك كالصبغةِ بالثوبِ وماذا تصنع؟ حينئذ تبكي ولا ينفع البكاءُ. تسأل ولا يُسمع منك. الآن يا بُني ارفض هذا العالم وارذله وامشِ مستقيماً. لا تصادق صبياً ولا تحادث امرأةً ولا تدخل عندها. لأن الحديدَ إذا وقع على الحجرِ قَدَحَ ناراً. احرص على طهارةِ جسدِك وسلامةِ قلبِك. فإنك إن تحقَّقت من نوالهِما أبصرتَ الله ربَكَ. لا تحقد على الناسِ لئلا تصبح مرذولاً من اللهِ. اجعل لك سلاماً مع أخيك لتكونَ محبوباً من ربِك. إذا صرتَ طاهراً في كلِّ شيءٍ ولكن بينك وبين أخيك عداوةً فأنت غريبٌ عن اللهِ. لأنه مكتوبٌ: اتبعوا السلامةَ والقداسةَ اللتين بدونِهما لا يعاينُ أحدٌ الله. وقد قال الربُّ: اغفروا يُغفر لكم. فإن لم تغفر لأخيك لا يغفر هو لك. لأنه يقول: هكذا يصنعُ بكم أبي السماوي إن لم تغفروا لإخوتِكم من كلِّ قلوبِكم. فإن حقِدتَ على أخيك فهيئ نفسَك للعذابِ، لأنه يقول: إنه أسلمه للمعذِّبين. الآن قد صرنا مسكناً للإلهِ الصالح بالعمادِ، فلا ندعه يتركنا بأعمالِنا السيئة. لأنّ كلَّ الذين جازوا في البحرِ الأحمرِ تبدَّدوا في القفرِ لأنهم قاوموا إرادةَ اللهِ وتبعوا أغراضَ قلوبهم. الرهبنةُ هي: الصومُ بمقدارٍ والصلاةُ بمداومةٍ وعفَّةُ الجسدِ وطهارةُ القلبِ وسكوتُ اللسانِ وحفظُ النظرِ والتعبُ بقدرِ الإمكان، والزهدُ في كلِّ شيءٍ. جميعُ آبائنا القديسين بجوعٍ وعطشٍ وحزنٍ كثيرٍ أكملوا سَعيَهم ونالوا المواعيدَ. إن كنتَ قد نذرتَ للهِ بكوريةً بمحبةٍ واشتياقٍ، فاطلبه من كل قلبِك واسلك حسبَ وصاياه. وحينئذ يجعلُك اللهُ ابناً له ويباركك. ويصيِّر بِرْكَتُك نهراً ونهرُك بحراً، ويجعلُك كبِرْكةِ نارٍ، وسراجُه يضيءُ عليك. وتمتلئُ نوراً من الإشراقِ الإلهي. ويُعطيك الإلهُ مجداً مثلَ مجدِ القديسين. فتضعُ ثِقلاً على أراكنةِ الظلمةِ وترى قوةَ اللهِ في يمينك، وتُغرق فرعون وجنودَه في بحرِ الملحِ، وتُخَلِّص شعبَك من عبوديةِ الغرباءِ، وتورِّثهم أرضَ الخيراتِ التي تفيضُ لبناً وعسلاً. التي هي كمالُ سعيِّك وخروجِك من هذا العالمِ بسلامٍ، آمين».
قيل عن الأب باخوميوس إنه كان يديمُ الصلاةَ بنسكٍ زائدٍ وسهرٍ. وإذا أراد أن يرقدَ لم يكن يرقدُ ممتداً، ولا على مصطبةٍ، بل كان يجلسُ مستنداً إلى الحائطِ. وكان إذا مضى إلى موضعٍ خارجِ الديرِ مع الإخوةِ واضُطروا إلى المبيتِ هناك، كان يأمرهم أن يحفرَ كلُّ واحدٍ منهم لنفسِهِ حفرةً في الأرضِ مثل مراقدهم في الدير، قائلاً لهم: «إنه من الواجبِ على الإنسانِ الراهبِ أن يُتعبَ نفسَه في مَرقَدِهِ لكون روحُ الزنا تقفزُ على الرجلِ لتجرِّبَه بشدةٍ، لا سيما إذا رقد على فِراشٍ، ممتداً براحةٍ».
وقال أيضاً:«يا ابني احفظ قلبَك كي لا يفرحَ أعداؤك، لأن الإنسانَ إذا لم يحفظ قلبَه وقع في الشَرَكِ. لا تكسل عن أن تتعلَّم خوفَ اللهِ كطفلٍ صغيرٍ. كن رجلاً قوياً جباراً في جميعِ تدابيرك، ولا تُفسد يوماً واحداً من عملِك وتحقَّق مما تقدِمُه للهِ الحقيقي كلَّ يوم. اجلس وحدك مثلَ والٍ حكيمٍ ودِنْ أفكارَك، فما كان نافعاً وموافقاً أبقِهِ واحفظه، وأما ما كان ضاراً فاطرده عنك. الآن يا ابني اجعل ناموسَ اللهِ في قلبِك والزم البكاءَ واجعله لك صديقاً. وليكن جسدُك قبراً لك حتى يقيمك اللهُ ويعطيك تاجَ الغَلَبةِ».
حَدَثَ بينما كان الإخوةُ يقومون بالحصادِ وتادرس يعملُ معهم وهو صائمٌ، أن لَحِقه حرٌ في رأسِه. ومن بعد فروغ العمل جلس يستظلُّ؛ فجاز به الأب باخوميوس وقال له بوجعِ قلبٍ: «يا تادرس، أتستظل»؟ فقام تادرس بسرعةٍ. ولما كان المساءُ تقدم تادرس إليه وقال: «يا أبي إني أشعرُ بألمٍ في رأسي بسبب ضربةِ الشمسِ». قال له الأب: «يا تادرس، رجلٌ راهبٌ يسلكُ طريقَ الكمالِ إذا مكث يعاني مرضاً في جسدِهِ عشرين عاماً وهو متألمٌ، لا يجبُ أن يشكوَ لأحدٍ من الناسِ إلا من تلك الأمراضِ التي لا يمكنه أن يخفيها. وهذه الأخرى أيضاً عليه أن يحتملَها على قدرِ قوتِهِ وألا ينيحَ نفسَه إلا في أمرٍ يفوق طاقته، لأنه مكتوبُ: إن الروحَ مستعدةٌ والجسدَ ضعيفٌ. هل تظن أن تقطيعَ الأعضاءِ والحريقَ وحدَه شهادةٌ؟ لا! بل تعبُ النسكِ والضربات التي من الشياطين والأمراض. فمن يحتملُ كلَّ ذلك بشكرٍ فذلك هو الشهيد، وإلا فما الحاجةُ لأن يكتب بولس الرسول: إني أموتُ كلَّ يومٍ. فإنه لم يكن يموت في الظاهرِ كلَّ يومٍ، بل كان بصبرٍ يحتملُ ما يأتي عليه. وكذلك رجالُ اللهِ اليومَ إذا كانوا في أمراضٍ ويُخفونها عن الناسِ فإنهم يُعتبرون شهداءً أيضاً».
وقال أيضاً:«إذا توبَّخ أحدُنا من أحدِ إخوانِه ولم يقبل، بل حقد عليه، فقد اغتال الشياطينُ نفسَه. ولستُ أقولُ ذلك فقط، بل وإن لم تعتبره كطبيبٍ معالجٍ فقد ظلمتَ نفسَك، لأنه ماذا تقولُ فيما أصابك. ألستَ تعلمُ أنه قد نظَّف أوساخَك؟ فسبيلُك أن تعترفَ له كطبيبٍ أرسله المسيحُ إليك. فإن كنتَ تُحبُّ المرضَ فلا تحتجَّ على الربِّ. أما هذا الوجعُ الذي ظهر لك فذلك دليلٌ على ضعفِ نفسِك. ولولا ذلك ما كنتَ تحزنُ من الدواءِ. لذلك ينبغي أن تعترفَ بالفضلِ للأخِ لأنك به عرفتَ مرضَك القاتل. فعليك أن تقبلَه مثلَ دواءٍ شافٍ مُرسَل من عند يسوع المسيح، ولو أنك لم تقتصر على عدمِ شكرِه فقط بل خلقتَ حوله شكوكاً، وقد كان الأحرى بك أن تقولَ ليسوع المسيح: لستُ أريد أن تشفيني، ولا أشاءُ أن أقبلَ شيئاً من أدويتك. الأحزانُ هي مكاوي يسوع، فمن أراد أن يبرأ من أسقامِه، يلزمه حتماً أن يصبرَ على ما يَرِد عليه من الطبيبِ. ولعمري أن المريضَ ليس من شأنِه أن يستلذَّ الكيَ والبترَ أو شربَ الدواءِ المنقي، بل من طباعِهِ أن يُبغضَ الأدويةَ، ولكنه لإيقانِه أنه بلا علاجٍ لن يحصلَ على الشفاءِ، ولذلك نجده يدفعُ ذاتَه للطبيبِ عالماً أنه بالأدويةِ المُرةِ يتخلَّص من الأخلاطِ الضارةِ الرديئةِ. فمكوى يسوع هو ذاك الذي يُهينُك، لأنه إن كان يشتمُك إلا أنه يريحُك ويخلِّصُك من السبحِ الباطل. ودواءُ يسوع المنقي هو من يُرذلك ويوبخك، لأنه يريحك من التنعم، فإن لم تحتمل شربَ الأدويةِ تَظلِمُ نفسَك وحدَك. أما الأخ فلم يسبب لك ضرراً ما».
وقال أيضاً:«سبيلُ الراهبِ ألا يكتفي بنسكِ الجسدِ وتعبِه وحده، بل عليه أن يحصلَ على خوفِ اللهِ ساكناً فيه، فإنه هو الذي يحرقُ الأفكارَ الرديئة ويُفنيها، كمثلِ النارِ التي تحرقُ الصدأ وتنظِّفُ الحديدَ من الشوائبِ. كذلك خوفُ اللهِ يطردُ كلَّ رذيلةٍ من الإنسانِ ويجعله إناءً للكرامةِ يصلُحُ لعملِ اللهِ».
الذي أرشده: «ها قد أريتُك اليوناني والمصري، فمَن مِن الاثنين أرضاك»؟ أجابه قائلاً: «أما أنا فأقولُ إن المصري قد أرضاني». فلما سمع أحدُ الإخوةِ ذلك صلَّى إلى الله قائلاً: «يا ربُّ اكشف لي هذا الأمرَ، فإن قوماً يهربون من الناسِ من أجلِ اسمِك، وقوماً يقبلونهم من أجلِ اسمِك أيضاً. وألحَّ في الصلاةِ والطلبةِ، فتراءت له سفينتان عظيمتان في لُجَّةِ البحرِ. ورأى في إحداهما أنبا أرسانيوس وهو يسير سيراً هادئاً وروحُ الله معه. ورأى في الأخرى أنبا موسى وملائكةُ الله معه وهم يُطعمونه شهدَ العسلِ.
زاره مرةً بعضُ الشيوخِ وسألوه عن السكوتِ وعن قلةِ اللقاءِ، فقال لهم: «إن العذراءَ ما دامت في بيتِ والديها فكثيرون يريدون خطوبتها. فإن هي دخلت وخرجت فإنها لن تُرضي كلَّ الناسِ لأن بعضَهم يزدريها وبعضَهم يشتهيها، ولن تكون لها الكرامةُ إلا وهي مختفيةٌ في بيتِ أبيها. هكذا النفسُُ الهادِئةُ المعتكفةُ، متى اشتُهِرت تبهدلت».
قال أنبا أرسانيوس هذا التعليمَ لتلاميذهِ قبل نياحته: «ثلاثةُ أشياءٍ تكونُ من جودةِ العقلِ: الإيمانُ باللهِ والصبرُ على كلِّ محنةٍ وتعبُ الجسدِ حتى يُذَّل. وثلاثةُ أمورٍ يفرحُ بها العقلُ: تمييزُ الخيرِ من الشرِ والتفكر في الأمرِ قبل الإقدامِ عليه والبعدُ عن المكرِ. وثلاثةُ أشياءٍ يستنيرُ بها العقلُ: الإحسانُ إلى من أساء إليك، والصبرُ على ما ينالك من أعدائك، وتركُ النظرِ أو الحسد لمن يتقدمك في الدنيا. وستةُ أشياءٍ يتطهرُ بها العقلُ: الصمتُ، حفظُ الوصايا، الزهدُ في القوتِ، الثقةُ باللهِ في كلِّ الأمورِ مع ترك الاتكال على أيِّ رئيسٍ من رؤساء الدنيا، قمعُ القلبِ عن الفكرِ الرديء وعدم استماع كلام الأغنياء والامتناع من النظر إلى النساء. وأربعةٌ تحفظُ النفسَ: الرحمةُ لجميعِ الناسِ، تركُ الغضب، الاحتمالُ، إخراج الذنب وطرحه من قلبك بالتسبيح. وأربعةٌ تحفظُ الشابَّ من الفكرِ الرديء: القراءةُ في كتبِ الوصايا، طرحُ الكسلِ، القيامُ في الليلِ للصلاةِ والابتهال، والتواضع دائماً. وثلاثةٌ تُظلم النفس: المشي في المدن والقرى، النظرُ إلى مجد العالم، الاختلاطُ بالرؤساءِ في الدنيا. من أربعةِ أمورٍ تتولد للجسد النجاسةُ: الشبع من الطعامِ، السُكر من الشرابِ، وكثرة النوم، نظافةُ البدنِ بالماءِ والطيبِ وتعاهد ذلك كل وقت. وأربعةٌ تُعمي النفس: البغضةُ لأخيك، والازدراءُ بالمساكين خاصةً، الحسدُ، والوقيعةُ. وأربعةٌ يتولد عنها هلاكُ النفسِ وخسارتُها: الجوَلان من موضعٍ إلى موضعٍ، محبةُ الاجتماعِ بأهلِ الدنيا، الإكثارُ من الترفِ والبذخِ، كثرةُ الحقدِ في القلبِ. من أربعةِ أمورٍ يتولد الغضبُ: المعاملةُ، المساومةُ، الانفرادُ برأيك فيما تهواه نفسُك، عِدولك عن مشورةِ الآخرين واتِّباع شهواتك. وثلاثةٌ إذا عَمل بها الإنسانُ يسكنُ في الملكوتِ: الحزنُ والتنهدُ دائماً، البكاءُ على الذنوبِ والآثامِ، وانتظارُ الموتِ في كلِّ يومٍ وساعةٍ. وثلاثةٌ تحاربُ العقلَ: الغفلةُ، الكسلُ، وتركُ الصلاةِ».
ولما قَرُبَ وقتُ نياحته دعا تلاميذَه وعزَّاهم ووعظهم وقال لهم: «اعلموا أن زماني قد قَرُبَ، فلا تهتموا بشيءٍ سوى خلاصِ نفوسِكم ولا تنزعجوا بالنحيبِ عليَّ. ها أنذا واقفٌ معكم أمام مِنبرِ المسيحِ المُهاب، فإذا جاءت الساعةُ رجائي ألا تُعطوا جسدي لأحدٍ من الناسِ». فقالوا له: «فماذا نصنعُ لأننا لا نعرف كيف نكفِّنه»؟ فقال لهم الشيخُ: «أما تعرفون كيف تربطون رجليَّ بحبلٍ وتجرونني إلى الجبلِ لتنتفعَ به الوحوشُ والطيورُ». وكان الشيخُ يقول لنفسِه دائماً: «أرساني أرساني تأمَّل فيما خرجتَ لأجلهِ».
وقال: «كثيراً ما تكلمتُ وندمتُ، وأما عن السكوتِ ما ندمتُ قط».
ولما دنت نياحته نظروه يبكي فقالوا له: «يا أبانا أتفزع أنت أيضاً»؟ أجابهم قائلاً: «إن فزعَ هذه الساعةِ ملازمٌ لي منذ جئتُ إلى الرهبنةِ». وهكذا رقدَ ودموعُه تسيلُ من عينيهِ. فبكى تلاميذُه بكاءً مُرّاً وصاروا يقبِّلون قدميه ويودِّعونه كإنسانٍ غريبٍ يريدُ السفرَ إلى بلدهِ الحقيقي.
وقد أخبر عنه دانيال تلميذُه فقال: «إنه ما طلب قط أن يتكلمَ من كتابٍ، بل كان يصلِّي من أجلِ ذلك لو أرادَ. وما كان يكتبُ رسالةً. ولما كان يأتي إلى الكنيسةِ كان يقفُ خلفَ العمودِ لئلا يبصرَ إنسانٌ وجهَه. وما كان ينظرُ إلى وجهِ إنسانٍ. وكان منظرُه يشبه منظرَ ملاكٍ. وكان كاملاً في الشيخوخةِ وصحيحَ الجسمِ مبتسماً. وكانت لحيتُه تصلُ إلى بطنهِ، وكان شعرُ جفونِه يتساقط من كثرةِ البكاءِ. وكان طويلُ القامةِ، لكنه انحنى أخيراً من الشيخوخةِ. وبلغ من العمرِ سبعاً وتسعين سنةً، أربعون سنةً منها حتى خروجِه من بلاطِ الملك، وباقيها في الرهبنةِ والوحدةِ. وكان رجلاً صالحاً مملوءاً من الروحِ القدس والإيمان. وقد ترك لي ثوباً من الجلدِ وقميصاً من الشعرِ ونعالاً من ليفٍ، وبهذه الأشياءِ كنتُ أنا غيرُ المستحق أتبارك بها».
قيل عن البابا ثاؤفيلس البطريرك لما حضرته الوفاة، قال: «طوباك يا أنبا أرسانيوس لأنك لهذه الساعةِ كنتَ تبكي كلَّ أيامِ حياتك».
مار إسحــــق
من قول مار إسحق: مثلُ المصوِّر الذي يصوِّر الماءَ في الحائطِ، ولا يقدرُ ذلك الماءُ المرسوم أن يبرِّد عطشَه، وكمثلِ المرءِ الذي ينظرُ الأحلامَ، كذلك الإنسانُ الذي يتكلمُ من غيرِ عملٍ. أما الذي من اختباراتهِ يتكلمُ عن الفضائلِ فيكون مثل ذلك الذي من بضاعةِ تجارتهِ يُلقي كلمتَه لسامعيه، ومن الشيءِ الذي اقتناه في نفسِه يزرعُ التعليمَ في آذانِ السامعين، ويفتحُ فَمَه بدالةٍ مع بنيه الروحانيين. وذلك كموقفِ يعقوب الشيخ مع يوسف العفيف إذ قال له: هو ذا قد أعطيتُك نصيباً فاضلاً عن إخوتك وهو ما اكتسبتُه من الأموريين بسيفي وقوسي.
كلُّ إنسانٍ تدبيرُه رديءٌ، حياةُ هذا العالمِ عنده شهيةٌ. ويَلي ذلك قليلُ المعرفةِ. حقاً لقد قيل إن مخافةَ الموتِ ترُعب الرجلَ الناقصَ، أما الذي له في نفسِه شهادةٌ صالحةٌ فإنه يشتهي الموتَ كالحياةِ. لا يُعتبر عندك حكيماً ذاك الذي من أجلِ حياةِ هذا العالمِ يستعبدُه فكرُه للأرضيات. كلُّ الملذاتِ والشرور التي تعرضُ للجسدِ لتكن عندك شبهَ الأحلامِ، لأنه ليس بموتِ الجسدِ فقط تنحلُّ منها بل كثيراً ما يمكنك رفضها والهروب منها قبل الموتِ. فإن كان لك منها شيءٌ مشتركٌ في نفسِك فاعلم أنه مكنوزٌ لك إلى الأبدِ. لأنها تذهبُ معك إلى العالمِ العتيد. فإن كان ما اكتنزتَه من الطالحاتِ الرديئاتِ فاحزن وتنهد واطلب الابتعادَ عنها ما دمتَ في الجسدِ. ليكن معلوماً عندك أن كلَّ خيرٍ لن يكونَ مقبولاً إلا إذا عُمل في الخفاءِ. بالحقيقةِ إن المعموديةَ والإيمانَ هما أساسُ كلِّ خيرٍ، فبهما دُعيتَ ليسوعَ المسيحِ بالأعمالِ الصالحةِ. شُكر الذي يأخذُ يحرِّكُ الذي يعطي إلى بذلِ العطايا التي هي أعظمُ من الأوائل. مَن لا يشكرُ على القليلِ فهو كاذبٌ وظالمٌ إن قال إنه يشكرُ على الكثيرِ.
المريضُ الذي يعترفُ بمرضِهِ شفاؤه هين. كذلك الذي يُقرُّ بأوجاعِه فهو قريبٌ من البَرْءِ. أما القلبُ القاسي فتكثُر أوجاعُه. والمريضُ الذي يُخالفُ الطبيبَ يَزيدُ عذابُه. ليست خطيةٌ بلا مغفرةٍ إلا التي بلا توبة. وليست موهبةٌ بلا نموٍ وازديادٍ إلا التي ينقصها الشكرُ. الجاهلُ جزاؤه دائماً في عينيه صغيرٌ. تذكَّر الذين هم أعلى منك في الصلاحِ كي ما تَحسب نفسَك ناقصاً بالنسبةِ لهم. تأمَّل دائماً في البلايا الصعبةِ وفي الذين هم في شدةٍ ومذلَّةٍ، وبهذا التأمُّل يمكنك أن تقدمَ الشكرَ إزاء البلايا الصغيرةِ التي تنتابُك، وحينئذ تستطيع أن تصبرَ عليها بفرحٍ. في الوقتِ الذي تكون مغلوباً مقهوراً وفي مللٍ وكسلٍ، وقد قيَّدك عدوك بسماجةِ فعلِ الخطيةِ، اذكر الأوقات القديمة التي فيها تنشطَّت، وكيف كنتَ مهتماً حتى بصغائرِ الأمورِ، وكيف كنتَ تتحرك بالغيرةِ على الذين يعوِّقون مصيرَك. وتنهَّد على أقلِ شيءٍ فاتك من عملِ الفضائلِ. وكذلك اذكر كيف كنتَ تحظى بإكليلِ الغلبةِ على الأعداءِ. فبمثل هذه التذكارات تتيقَّظ نفسُك كمثلِ مَن في نومٍ عميقٍ وتلبس حرارةَ الغيرةِ. وكمثل مَن في الموتِ تقومُ النفسُ من سقطتِها وتصلب ذاتَها كي تعودَ إلى طقسِها الأول بالجهادِ الحارِ قبالةِ الشيطانِ والخطيةِ. اذكر كيف سقطَ الأقوياءُ لكي ما تتَّضع بصلاحِك. اذكر عِظمَ خطايا القدماءِ الذين سقطوا ثم تابوا ومقدار الشرف والكرامة اللذين نالوهما من التوبةِ بعد ذلك لكي ما تتعزى في توبتِك. كن مضيِّقاً على نفسِك ومحزناً لها لكي ما يُطرد العدو من أمامِك. اصطلح أنت مع نفسِك فتصطلح معك السماءُ والأرضُ.
محبُ الصلاحِ هو الذي يحتملُ البلايا بفرحٍ. استر على الخاطئ من غير أن تَنْفِر منه لكي ما تحملك رحمةُ الربِّ. اسند الضعفاء وعزِّ صغيري النفوس كي ما تسندَك اليمينُ التي تحملُ الكلَّ. شارك الحزانى بتوجعِ قلبِك كي يُفتح بابُ الرحمةِ لصلاتِك. دع الصغارَ تنال الكبارَ. كن ميتاً بالحياةِ لا حياً بالموتِ. لا تطلب الأمورَ الحقيرةَ من العظيمِ القادرِ على كلِّ شيءٍ لئلا تهينَه. اسأل المواهبَ الكريمةَ من الله فيُنعم عليك بها. لقد سأل سليمان من الله الحكمةَ فأعطاه معها الغنى ودوامَ السلامةِ، وسأل إسرائيل الحقيرات فرُذل لأنه ترك تمجيدَ عجائبِ الله وطلب شهوةَ بطنِهِ، وإذ الطعامُ في أفواهِهم أتى رِجزُ الله عليهم كما هو مكتوبٌ. اطلب من الله ما يلائم مجدَه لتكونَ كريماً عنده، ولا تسأل الأرضيات من السمائي فقد كُتب: اطلبوا ملكوتَ الله وبرَّه وهذا كلُّه تزدادونه. لا تسأل أن تجري الأمورُ حسب هواك لأنه أعرف منك بالأصلحِ لك. لا تكره الشدائدَ فباحتمالها تنال الكرامةَ وبها تقترب إلى الله، لأن النياحَ الإلهي كائنٌ داخلها. قبل البلايا يُصلِّي الإنسانُ للهِ كغريبٍ، فإذا قبِلها من أجلِ حبِ الله، حينئذ يصيرُ من أحبائِه وخواصهِ المحاربين لعدوه حباً في رضاه، ويُصبح كمن وجب حقهُ عليه.
توكَّل على اللهِ وسلِّم نفسَك له وادخل من البابِ الضيقِ وسِر في الطريقِ الكربةِ. فذاك الذي كان مع يوسف ونجاه من الزانيةِ وجعله شاهداً للعفةِ، والذي كان مع دانيال في الجبِّ ونجاه من الأسودِ، والذي كان مع الفتيةِ ونجاهم من أتونِ النارِ، والذي كان مع إرميا وأصعده من جبِّ الحمأةِ، والذي كان مع بطرس وأخرجه من السجنِ، والذي كان مع بولس وخلَّصه من مجامعِ اليهودِ… وبالجملةِ فإن الذي كان في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ مع عبيدِهِ في شدائدهم ونجاهم وأظهرَ فيهم قوَّته، هو يكونُ معك ويحفظك. فخذ لك يا حبيب غيرةَ الأنبياءِ والرسلِ والشهداءِ والقديسين قبالة الأعداءِ الخفيين، واقتنِ غيرةَ الذين ثبتوا قائمين في النواميسِ الإلهية، فطرحوا الدنيا وأجسادَهم إلى ورائهم وتمسكوا بالحقِّ فلم يُهزموا في الشدائدِ التي انتابتهم في أنفسِهم وأجسادِهم، إذ فازوا بالقوةِ الإلهية وكُتبوا في سفرِ الحياةِ، وأُعدت لهم ملكوتُ السماوات التي نؤهَّل لها كلُّنا برأفتِهِ وتحننهِ تعالى. له المجد إلى الأبد، آمين».
ومن كلامهِ أيضاً: النفسُ المحبةُ للهِ سعادتُها في اللهِ وحده. حِلَّ قلبَك من الرباطاتِ البرانية أولاً، حينئذ تقدر أن تربطَه بحبِ الله. مَن لم يفطم نفسَه من حبِّ الدنيا لا يستطيع أن يتذوَّق حلاوةَ محبةِ اللهِ. إن الأعمالَ الروحانية تتولَّد من الأعمالِ النفسانية، والأعمالُ النفسانية تتولَّدُ من الجَسَدَانية. مَن يهرب من سُبح العالم بمعرفةٍ فإنه يكتنز في نفسِه رجاءَ العالمِ العتيد. الذي يفرُّ من نياحِ الدنيا فقد أدرك بعقلِه السعادةَ الأبديةَ. المرتبطُ بالمقتنيات والملذَّات فهو عبدٌ للأوجاعِ الذميمةِ. بالإيمان يُدرِكُ العقلُ الأسرارَ الخفيةَ كما يُدرك البصرُ المحسوسات. المعموديةُ هي الولادةُ الأولى من اللهِ. والتوبةُ هي الولادةُ الثانية كذلك. الأمر الذي نلنا عربونَه بالإيمانِ، بالتوبةِ نأخذُ موهبتَه. التوبةُ هي بابُ الرحمةِ المفتوح للذين يريدونه. وبغير هذا الباب لا يدخلُ أحدٌ إلى الحياةِ، لأن الكلَّ أخطئُوا كما قال الرسولُ. وبالنعمةِ نتبرَّر مجاناً. فالتوبةُ إذاً هي النعمةُ الثانيةُ وهي تتولَّد في القلبِ من الإيمانِ والمخافةِ. والمخافةُ هي عصا الآب التي تسوقُنا إلى محبةِ اللهِ. فإذا أدركناها تركتْنا ورجعتْ. محبةُ اللهِ هي فردوس كلِّ النعيمِ الذي فيه شجرةُ الحياةِ وما لم يخطر على قلبِ بشرٍ. فمن يدركه لا يموت، لأنه يغتذي بلا تعبٍ من الخبزِ الذي نزل من السماءِ الذي يهبُ الحياةَ للعالمِ. فمن عاش في هوى حبِ المسيح فقد استنشق من ها هنا نسيمَ نعيمِ الأبرارِ بعد القيامةِ. الحبُّ هو هذا المُلك المُعدُّ الذي وَعَدَ به السيدُ المسيح لمحبيه. والحبُّ هو المسيح. لأن الرسولَ يقول: إن اللهَ محبةٌ. وكما أنه لا يمكن عبورُ النهرِ بلا سفينةٍ، كذلك لا يمكن لأحدٍ أن يعبرَ إلى حبِّ الله بغير خوفِ الله. لأن التوبةَ هي السفينةُ، والمخافةُ هي مدبِّرُها، والمحبةُ هي ميناءُ السلامةِ والكرامةِ، حيث يلقَى المتعَبون راحتهم، والعمَّالون المجاهدون نياحَهم، والتجارُ ربحَهم، حيث هناك الآب والابن والروح القدس الإله الواحد له المجد.
ومن كلامهِ أيضاً: طوبى للإنسانِ الذي يعرفُ ضعفَه، فإن هذه المعرفةَ تكونُ له أساساً صالحاً ومصدراً لكلِّ خيرٍ. لأنه إذا عرفَ ضعفَه ضبطَ نفسَه من الاسترخاءِ وطَلَبَ معونةَ الله وتوكَّل عليه. أما من لا يعرف ضعفَه فهو قريبٌ من سقطةِ الكبرياءِ، وبلا اتضاعٍ لا يتمُّ عملُ العابدِ. ومن لا يَتِمُّ عملُهُ لا يُختَمُ كتابُ حريتِهِ بخاتمِ الروحِ. ومن لا يُختمُ كتابُ حريتِهِ بخاتمِ الروحِ فإنه يكون عبداً للأوجاعِ ولا يتضع إلا بالبلايا. ومن أجل ذلك يتركُ اللهُ البلايا والتجارب على محبي البرِّ حتى يعرفوا ضعفَهم، إذ أن البلايا تولِّد الاتضاع. وربما كَسَرَ قلبَهم بأوجاعٍ طبيعيةٍ، وربما بشتيمةِ الناسِ لهم وامتهانِهم، وأحياناً بالفقرِ والمرضِ والاحتياجِ. وأحياناً أخرى بالخذلانِ ليأتي عليهم الشيطانُ بأفكارٍ قذرة، وكل ذلك عساهم يحسُّون بضعفِهم فيتضعوا حتى لا يعبر بهم نعاسُ الغفلةِ. فينبغي لكلِّ إنسانٍ إذاً أن يتيقَّظَ دائماً ويفكرَ في أنه مخلوقٌ، وكلُّ مخلوقٍ محتاجٌ إلى معونةِ خالقِهِ، فيطلب حاجَتَه ممن هو عارف تماماً بما يحتاجُ إليه، فهو قادرٌ أن يعطيه احتياجاته. له المجد إلى الأبد، آمين.
الأنبا أغاثون
قيل عن القديس الكبير أنبا أغاثون: إن أناساً مضوْا إليه لما سمعوا بعظمِ إفرازِهِ وكثرةِ دعته. فأرادوا أن يجرِّبوه فقالوا له: «أأنت هو أغاثون الذي نسمعُ عنك أنك متعظمٌ»؟ فقال: «نعم، الأمرُ هو كذلك كما تقولون». فقالوا له: «أأنت أغاثون المهذار المحتال»؟ قال لهم: «نعم أنا هو». قالوا له: «أأنت أغاثون المهرطق»؟ فأجاب: «حاشا وكلا، إني لستُ مهرطقاً». فسألوه قائلين: «لماذا احتملتَ جميعَ ما قلناه لك ولم تحتمل هذه الكلمة»؟ فأجابهم قائلاً: «إن جميعَ ما تكلمتم به عليَّ قد اعتبرتُه لنفسي ربحاً ومنفعةً إلا الهرطقة، لأنها بعدٌ من اللهِ، وأنا لا أشاءُ البعدَ عنه». فلما سمعوا عجبوا من إفرازِهِ ومضوْا منتفعين.
جاءه أخٌ مرةً وقال:«يا أبي أريدُ أن أسكنَ مع أخٍ، فارسِم لي كيف أقيمُ معه»؟ فقال له الشيخُ: «كن معه دائماً كمثلِ اليومِ الذي بدأتَ سكناك عنده. واحفظ غربتَك هكذا كلَّ أيامِ حياتِك، وإياك أن تكون بينكما دالةٌ». فقال له الأخُ: «ولماذا نتحاشى الدالةَ»؟ أجابه الشيخُ: «إن الدالةَ تشبه ريحَ السمومِ. عند هبوبها يهربُ الناسُ جميعاً من أمامِها وهي تُهلك ثمارَ الأشجارِ». فقال الأخُ: «أبهذا المقدارِ تكون الدالةُ رديئةً»؟ أجابه أنبا أغاثون: «لا يوجد وجعٌ آخر أردأ منها، لأنها مصدرُ كلِّ الأوجاعِ. لذلك يجبُ على الراهبِ الحريص أن لا تكونَ له دالةٌ حتى ولا على القلاية ولو كان وحيداً فيها. لأني رأيتُ أخاً يسكنُ في قلايةٍ زماناً، وكان له فيها مضجعٌ، وقال لي: إني خرجتُ من القلاية، ولما عدتُ إليها لم أعرف المضجعَ لو لم يدلُّني آخر عليه.. وهكذا يجبُ أن يكونَ العمَّالُ المجاهدُ».
وقال أيضاً: إن الدلالَ والمزاحَ والضحكَ أمورٌ تُشبه ناراً تشتعلُ في قصبٍ فتُحرقُ وتُهلكُ.
وقال أيضاً: إن الراهبَ هو ذلك الإنسانُ الذي لا يَدَع ضميرَه يلومُهُ في أمرٍ من الأمورٍ.
وقال أيضاً: بدونِ حفظِ الوصايا الإلهية لا يستطيعُ أحدٌ أن يقتربَ إلى واحدةٍ من الفضائلِ.
وقال أيضاً: ما رقدتُ قط وأنا حاقدٌ على إنسانٍ، ولا تركتُ إنساناً يرقدُ وهو حاقدٌ عليَّ حسب طاقتي.
وقيل عنه: إنه مكث زماناً يبني مع تلاميذهِ قلايةً، فلما تمت وجلسوا فيها ظهر له في الأسبوعِ الأولِ أمرٌ ضايقه. فقال لتلاميذه: «هيا بنا ننصرفُ من هنا». فانزعجوا جداً قائلين: «حيث إنك كنتَ عازماً على الانصرافِ فلماذا تعبنا في بناءِ القلايةِ؟ ألا يصبح من حقِّ الناسِ الآن أن يشكُّوا قائلين: إن هؤلاءَ القومِ لا ثبات لهم»؟ فلما رآهم صغيري النفوس هكذا، قال لهم: «إن شكَّ قليلون منهم فكثيرون سوف ينتفعون ويقولون: طوبى لأولئك الذين من أجلِ الربِّ انتقلوا واختبروا كلَّ شيء. فمن أراد منكم أن يتبعني فليجئ لأني قد اعتزمتُ نهائياً على الانصرافِ». فما كان منهم إلا أن طرحوا أنفسَهم على الأرضِ طالبين إليه أن يأذنَ لهم بالمسيرِ معه.
وقيل عنه أيضاً: إنه لما كان ينتقلُ، ما كان يرافقُه أحدٌ سوى الجريدةِ التي كان يشقُّ بها الخوصَ لا غير.
وسُئل مرةً:«أيهما أعظمُ؛ تعبُ الجسدِ أم الاحتفاظُ بما هو من داخلِهِ»؟ فأجاب وقال: «إن الإنسانَ يشبه شجرةً، فتعبُ الجسدِ هو الورقُ، أما المحافظةُ على ما هو من داخلٍ فهي الثمرةُ، لذلك فكلُّ شجرةٍ لا تُثمرُ ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النيرانِ. فلنحرص على الثمرةِ التي هي حفظُ العقلِ، كما يحتاجُ الأمرُ أيضاً إلى الورقِ الذي يغطي الثمرةَ ويزينها، وما الورقُ إلا تعبُ الجسدِ كما ذكرنا».
سأل بعضُ الإخوةِ الأنبا أغاثون قائلين: «أيُّ فضيلةٍ أعظمُ في الجهادِ»؟ فقال: «اغفروا لي، ليس جهادٌ أعظمَ من أن نصلي دائماً للهِ، لأن الإنسانَ إذا أراد أن يصلي كلَّ حين حاول الشياطين أن يمنعوه. لأنهم يعلمون بأن لا شيءَ يُبطل قوَّتهم سوى الصلاةِ أمام الله. كلُّ جهادٍ يبذُلُه الإنسانُ في الحياةِ ويتعبُ فيه لا بدَّ أن يحصدَ منه الراحةً أخيراً. إلا الصلاة فإن من يصلي يحتاجُ دائماً إلى جهادٍ حتى آخرِ نسمةٍ».
كان أغاثون القديسُ حكيماً في معرفتِهِ، بسيطاً في جسمِهِ وكُفئاً في كلِّ الأمورِ، في عملِ اليدين وفي طعامِه وفي لبسِه. فقد حدث مرةً بينما كان سائراً مع تلاميذِه؛ أن وَجدَ أحدُهم جُلْباناً أخضرَ في الطريقِ (أي حمص أخضر). فقال له: «يا معلم هل تأذن لي أن آخذَه»؟ فنظر إليه الشيخُ متأملاً وقال: «هل أنت تركتَه»؟ فقال: «لا». فقال له الشيخُ: «وكيف تأخذ شيئاً ليس لك»؟
أتاه أخٌ مرةً يريدُ السكنى معه، وقد أحضر معه قليلاً من النطرون وجده في الطريقِ أثناء مجيئهِ. فلما رآه الشيخُ قال له: «من أين لك هذا النطرون»؟ قال له الأخُ: «قد وجدتُه في الطريقِ وأنا سائرٌ». فأجابه الشيخُ قائلاً: «إن كنتَ تشاءُ السُكنى مع أغاثون امضِ إلى حيث وجدتَه وهناك ضعه».
قيل عن الأنبا أغاثون والأنبا آمون: إنهما لما كانا يبيعان عملَ أيديهِما كانا يقولان الثمنَ مرةً واحدةً، وما كان يُعطى لهما كانا يأخذانه بسكوتٍ. كذلك إذا احتاجا لشيءٍ يشتريانه كانا يقدمان المطلوب بسكوتٍ ولا يتكلمان.
أخبروا عن الأنبا أغاثون: إنه وضعَ في فمهِ حجراً ثلاثَ سنين حتى أتقنَ السكوتَ.
وقد كان يقول: «لو أن الغضوبَ أقام أمواتاً فما هو بمقبولٍ عندِ اللهِ. ولن يُقبِل إليه أحدٌ من الناسِ».
وقال أيضاً:«إن أنا ربحتُ أخي فقد قدمتُ قرباناً».
وسأله الإخوة بخصوصِ قتالِ الزنى فقال: «امضوا واطرحوا ضعفَكم قدامَ اللهِ فتجدوا راحةً».
وقال أنبا يوسف مرةً بخصوصِ المحبةِ: إن أخاً جاء إلى أنبا أغاثون فوجد معه مَسلَّة خياطة، فأُعجب الأخُ بها لأنها كانت جيدةً، فما كان من الشيخِ إلا أنه لم يتركه يمضي إلا بها.
مضى الأب أغاثون مرةً ليبيعَ عملَ يديه، فوجد إنساناً غريباً مطروحاً عليلاً وليس له من يهتمُ به. فحمله وأجّر له بيتاً وأقام معه يخدمُه ويعملُ بيديه ويدفعُ أجرةَ المسكنِ وينفقُ على العليلِ مدة أربعة أشهر حتى شُفي. وبعد ذلك انطلق إلى البريةِ. وكان يقولُ: «كنتُ أشاءُ لو وجدتُ رجلاً مجذوماً يأخذ جسدي ويعطيني جسدَه».
قيل عنه إنه كان يَحرِصُ على إتمامِ كلِّ الوصايا، ولما كان يعبُرُ النهرَ كان يُمسِكُ المجدافَ بنفسِه. وإذا رافق أخاً كان يهيئُ بنفسِه المائدةَ لأنه كان مملوءاً حلاوةً ومحبةً ونشاطاً.
حدث مرةً أن مضى إلى المدينةِ ليبيعَ عملَ يديه، فوجد إنساناً مجذوماً على الطريقِ، فقال له المجذومُ: «إلى أين تذهبُ»؟ قال له: «إلى المدينةِ». فقال له المجذومُ: «اصنع معي رحمةً وخذني معك». فحمله وأتي به إلى المدينةِ. ثم قال له المجذومُ: «خذني إلى حيث تبيعُ عملَ يديك»، فأخذه. ولما باع عملَ يديه سأله المجذومُ: «بكم بعتَ»؟ فقال: «بكذا وكذا». فقال له المجذومُ: «اشترِ لي شبكةً». فاشترى له. ومضى وباع ثم عاد وقال له المجذومُ: «بكم بعتَ»؟ فقال: «بكذا وكذا». فقال له المجذومُ: «خذ لي كذا وكذا من الأطعمةِ»، فأخذ له. ولما أراد المُضي إلى قلايتهِ قال له المجذومُ: «خذني إلى الموضعِ الذي وجدتني فيه أولاً». فحمله وردَّه إليه. فقال له الرجلُ: «مباركٌ أنت من الربِ إلهِنا الذي خلق السماءَ والأرضَ». فرفع أنبا أغاثون عينيه فلم يره لأنه كان ملاكَ الربِّ أُرسِل إليه ليجربَه.
وقيل عنه: إنه كان إذا تصرّف في أمرٍ وأخذ فكرُه يلومُه، فكان يخاطبُ نفسَه قائلاً: «يا أغاثون، لا تفعل أنت هكذا مرةً أخرى»، وبذلك كان يُسكِّن قلبَه.
وقال أيضاً:«إن كان أحدٌ يحبني وأنا أحبه للغايةِ، وعلمتُ أنه قد لحقني نقيصةٌ بسببِ محبتهِ فإني أقطعه منى وأنقطع منه بالكليةِ».
وقيل أيضاً: لما كان الأب أغاثون عتيداً أن ينطلقَ إلى الربِّ، مكث ثلاثةَ أيامٍ وعيناه مفتوحتان لا يتحرك. فأقامه الإخوةُ وقالوا له: «يا أبانا أنبا أغاثون: أين أنت»؟ فقال: «أمام مجلسِ قضاءِ الله أنا واقفٌ». فقالوا له: «أتفزع أنت أيضاً»؟ فأجابهم قائلاً: «على قدرِ طاقتي حفظتُ وصايا الله. إلا إنني إنسانٌ، من أين أعلمُ إن كان عملي أرضى اللهَ». فقالوا له: «ألستَ واثقاً بأن عملَك مرضيٌ أمام الله»؟ فقال الشيخُ: «لن أثقَ دونَ أن ألقى الله، لأن حكمَ الناسِ شيءٌ وحكمَ اللهِ شيءٌ آخر». فطلبوا منه أن يكلِّمهم كلمةً تنفعهم. فقال لهم: «اصنعوا محبةً، ولا تكلموني لأني مشغولٌ في هذه الساعة». وللوقت تنيح. فأبصروا وجهَه كمن يُقَبِّل حبيبَه. فهذا القديس كان متحفِّظاً جداً إذ كان يقول: «بغيرِ تحفظٍ كثيرٍ لا يقدرُ أحدٌ أن يصلَ إلى الفضيلةِ».
الأنبا إيسيذوروس قس الإسقيط
قيل عن الأبِ الكبير إيسيذوروس قس الإسقيط: إنّ كلَّ من كان عنده أخاً صغيرَ النفسِ أو شتَّاماً أو عليلاً ويطرده من عندِه، كان القس إيسيذوروس يأخذُه إلى عندِه ويطيلُ روحَه عليه ويخلِّص نفسَه.
سأله الإخوةُ مرةً قائلين: «لماذا تفزع منك الشياطين»؟ فقال لهم: «لأني منذ أن صرتُ راهباً حتى الآن لم أَدَع الغضبَ يجوزُ حلقي إلى فوق».
وقال أيضاً:«ها أنا لي أربعون سنة، كنتُ إذا أحسستُ بعقلي بالخطيةِ خلالها، لا أخضع لها قط حتى ولا للغضبِ».
وقيل عنه أيضاً: إذا أوعزت إليه الأفكارُ بأنه إنسانٌ عظيمٌ، كان يجيبُها قائلاً: «ألعلي مثل أنبا أنطونيوس أو أصبحتُ مثل أنبا بموا»؟ وإذ كان يقولُ ذلك يستريحُ فكرُه. وإذا قالت له الشياطين: «إنك ستمضي إلى العذابِ». فكان يجيبُهم: «إن مضيْتُ إلى العذابِ فسوف تكونون تحتي».
وكان يقول: «هكذا يجبُ أن يكونَ فهمُ القديسين أن يعرفَ الإنسانُ مشيئةَ اللهِ وأن يكونَ بكليتِهِ سامعاً للحقِّ خاضعاً له، لأنه في صورةِ اللهِ ومثالِهِ، وأن من أشرِّ الأعمالِ كلِّها أن يطيعَ الإنسانُ إرادَتَه ويخالفَ إرادةَ اللهِ، وأن يكون له هوىً في شيءٍ وفي غيرهِ هوىً آخر. فأما الذي يجدُ طريقَ القديسين ويمشي فيها فإنه يُسَرُّ بالأحزانِ، لأن سبيلَ الخلاصِ مملوءٌ أحزاناً».
توجّه الأنبا إيسيذوروس مرةً إلى البابا ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية، ولما رجع سأله الإخوةُ عن حالِ مدينة الإسكندرية. فقال لهم: «إني لم أبصر فيها إنساناً إلا البطريرك وحدَه». فتعجبوا وقالوا له: «أتريدُ أن تقولَ إن مدينةَ الإسكندرية خاليةٌ من الناسِ». قال: «كلا، لكني لم أسمح لعقلي أن يفكرَ في رؤيةِ أي إنسانٍ».
وقال: إن السيرةَ الصالحةَ بدونِ كلامٍ نافعةٌ، أما الكلامُ بغيرِ عملٍ فهو باطلٌ. لأن أحدَهما بسكوتِه ينفعُ والآخرَ بكثرةِ كلامهِ يُقلِقُ. فإذا استقام القولُ مع العملِ كَمُلَت فلسفتُه.
وقال أيضاً: إن الشرَ أزاغ الناسَ عن معرفةِ اللهِ. وفرَّق الناسَ بعضهم عن بعضٍ. فلنبغض إذاً الشرَ ولنطلب السلامةَ لبعضِنا البعضِ وبذلك تكمُل فلسفةُ الفضيلةِ.
وقال أيضاً: إن شرفَ التواضعِ عظيمٌ وسقوطَ المتعاظمِ فظيعٌ جداً، وإني أُشير عليكم بأن تلزموا التواضعَ فلن تسقطوا أبداً.
وقال أيضاً: إن محبةَ المقتنياتِ متعبةٌ جداً تؤدي إلى نهايةٍ مريرةٍ لأنها تسببُ اضطراباً شديداً جداً للنفسِ. فسبيلُنا أن نطردَها منذُ البدءِ، لأنها إن أزمَنَت فينا صار اقتلاعُها صعباً.
وقيل عنه: اتفق أن دعاه أحدُ الإخوةِ إلى تناولِ الطعامِ، فرفض الشيخُ قائلاً: «إن آدمَ بالطعامِ خُدع فصار خارج الفردوس بأكلةٍ واحدةٍ». فقال له الأخُ: «أبهذا المقدارِ تخشى الخروجَ خارج القلايةِ»؟ قال له الشيخُ: «وكيف لا أخشى يا ولدي، والشيطانُ يزأرُ مثلَ سبعٍ ملتمساً من يبتلعه».
وكثيراً ما كان يقول:«من يُذلُّ نفسَه لشربِ الخمرِ لا يمكنه أن يخلصَ من شرِ الأفكارِ وقُبحِ الأعمالِ. فإن لوطاً لما امتلأ من السُكرِ وقع في مجامعةٍ مغايرةٍ للناموس الطبيعي».
وقال أيضاً: «إن كنتَ مشتاقاً إلى مُلك السماءِ، فاترك غنى العالم. وإن آثرتَ النياحَ هناك، فالزم التعبَ ها هنا، وإن أردتَ الفرحَ هناك، لا تكف عن البكاءِ ها هنا».
وقال أيضاً: لا يمكنك أن تحيا حياةً إلهيةً ما دمتَ محبّاً للَّذاتِ.
وكان إذا مضى إليه إنسانٌ فإنه يدخلُ إلى القلايةِ الداخليةِ ويكلِّمه من داخلِ البابِ. فقال له الإخوةُ: «لماذا تفعلُ هكذا»؟ فقال لهم: «إن الوحوشَ إذا أبصرت من يُخيفها هربت إلى جحورِها ونجت».
وقال أنبا بيمين: إن أنبا إيسيذوروس كان يُضَفِّرُ في كلِّ ليلةٍ حزمةَ خوصٍ. فسأله الإخوة قائلين: «أيها الأب، أَرِح نفسَك لأنك قد شختَ». فأجابهم: «لو أحرقوا إيسيذوروس بالنارِ وذرُّوا رمادَه، فلن يكون لي فضلٌ، لأن ابنَ اللهِ من أجلي نزل إلى الأرض».
الأنبا موسى الأسود
قيلإن الأب الكبير أنبا موسى الأسود قوتل بالزنا قتالاً شديداً في بعضِ الأوقاتِ. فقام ومضى إلى أنبا إيسيذوروس وشكا له حالَه، فقال له: «ارجع إلى قلايتِك». فقال أنبا موسى: «إني لا أستطيعُ يا معلم». فصعد به إلى سطحِ الكنيسةِ وقال له: «انظر إلى الغربِ»، فنظر ورأى شياطين كثيرين يتحفَّزون للحربِ والقتالِ. ثم قال له: «انظر إلى الشرقِ»، فنظر ورأى ملائكةً كثيرين يمجِّدون الله. فقال له: «أولئك الذين رأيتَهم في الغربِ هم محاربونا، أما الذين رأيتَهم في الشرقِ فإنهم معاونونا. ألا نتشجع ونتقوى إذاً ما دام ملائكةُ الله يحاربون عنا»؟ فلما رآهم أنبا موسى فرح وسبَّح الله ورجع إلى قلايتِهِ بدونِ جزعٍ.
وقيل عنه: إنه لما رُسم قساً ألبسوه ثوبَ الخدمةِ الأبيض. فقال له أحدُ الأساقفةِ: «ها أنت قد صرتَ كلَّك أبيضَ يا أنبا موسى». فقال: «أيها الأب، ليت ذلك يكون من داخلٍ كما من خارجٍ».
وأراد رئيسُ الأساقفة أن يمتحِنَه فقال للكهنةِ: «إذا جاء أنبا موسى إلى المذبحِ اطردوه لنسمعَ ماذا يقول». فلما دخل انتهروه وطردوه قائلين له: «اخرج يا حبشي إلى خارج الكنيسةِ». فخرج أنبا موسى وهو يقول: «حسناً فعلوا بك يا رُمادي اللون يا أسودَ الجلدِ. وحيثُ أنك لستَ بإنسانٍ فلماذا تحضرُ مع الناسِ»؟
قيل: أضاف أنبا موسى أخاً فطلب منه كلمةً. فقال له: «امضِ واجلس في قلايتِك والقلايةُ سوف تعلِّمك كلَّ شيءٍ».
وقيل: أخطأ أخٌ في الإسقيط يوماً، فانعقد بسببهِ مجلسٌ لإدانتهِ، وأرسلوا في طلبِ أنبا موسى ليحضرَ. فأبى وامتنع من الحضورِ. فأتاه قسُ المنطقةِ وقال: «إن الآباءَ كلَّهم ينتظرونك». فقام وأخذ كيساً مثقوباً وملأه رملاً وحمله وراء ظهرِهِ وجاء إلى المجلسِ. فلما رآه الآباءُ هكذا قالوا له: «ما هذا أيها الأب»؟ فقال: «هذه خطاياي وراء ظهري تجري دون أن أُبصرَها، وقد جئتُ اليومَ لإدانةِ غيري عن خطاياه». فلما سمعوا ذلك غفروا للأخِ ولم يُحزنوه في شيءٍ.
ومرة أخرى انعقد مجلسٌ وأرادوا أن يمتحنوا أنبا موسى، فنهروه قائلين: «لماذا يأتي هذا النوبي هكذا ويجلس في وسطنِا»؟ فلما سمع ذلك الكلام سكت. وعند انصرافِ المجلس قالوا له: «يا أبانا، لماذا لم تضطرب»؟ فأجابهم قائلاً: «الحق إني اضطربتُ، ولكني لم أتكلم شيئاً».
وحدث مرة أخرى أن أُعلن في الإسقيط أن يُصام أسبوعٌ. وتصادف وقتئذ أن زار الأنبا موسى إخوةٌ مصريون. فأصلح لهم طبيخاً يسيراً. فلما أبصر القاطنون بجوارِه الدخانَ اشتكوا لخدامِ المذبحِ قائلين: «هو ذا موسى قد حلَّ الوصيةَ إذ أعدَّ طبيخاً». فطمأنهم أولئك قائلين: «بمشيئة الربِّ يوم السبت سوف نكلمُه». فلما كان السبتُ وعلموا السببَ قالوا لأنبا موسى أمام المجمعِ: «أيها الأب موسى، حقاً لقد ضحيْتَ بوصيةِ الناسِ في سبيلِ إتمام وصية اللهِ».
وقيل أيضاً عن أنبا موسى: إنه لما عزم على الإقامةِ في الصخرةِ تعب ساهراً. فقال في نفسِهِ كيف يمكنني أن أجد مياهاً لحاجتي ها هنا. فجاءه صوتٌ يقول له: «ادخل ولا تهتم بشيءٍ»، فدخل. وفي أحدِ الأيام زاره قومٌ من الآباءِ، ولم يكن له وقتئذ سوى جرَّةِ ماءٍ فقط. فأعدَّ عدساً يسيراً، فلما نفذ الماءُ حزن الشيخُ وصار يخرجُ ويدخلُ ثم يخرجُ ويدخلُ وهكذا.. وهو يصلي إلى الله. وإذا بسحابةٍ ممطرةٍ قد جاءت فوق حيث كانت الصخرةُ. وسرعان ما تساقط المطرُ فامتلأت أوعيتُه من الماءِ. فقال له الآباءُ: «لماذا كنتَ تدخلُ وتخرج»؟ فأجابهم وقال: «كنتُ أصلي إلى اللهِ قائلاً: إنك أنت الذي جئتَ بي إلى هذا المكان وليس عندي ماء ليشربَ عبيدُك. وهكذا كنتُ أدخل وأخرج مصلياً لله حتى أرسل لنا الماءَ».
سأل أحدُ الإخوةِ أنبا موسى قائلاً: «ماذا أصنع لكي أمنعَ أمراً يتراءى لي دائماً»؟ فقال له الشيخُ: «إنك إن لم تصبح مقبوراً كالميتِ فلن تستطيع أن تمنعَه، أعني الفكر».
وقال أيضاً: «مكتوبٌ أنه لما قَتل الربُ أبكارَ المصريين لم يكن هناك بيتٌ خالٍ من ميتٍ». فسألوه قائلين: «ما معنى هذا»؟ فقال الشيخُ: «إذا علمنا أننا كلَّنا خطاةٌ فلنحذر من أن نتركَ خطايانا وندينَ خطايا القريب، لأنه من الجهلِ حقاً أن يكون لإنسانٍ في بيتِهِ ميتٌ فيتركه ويذهب ليبكي على ميت جارهِ. فانظر إلى خطاياك أولاً. واقطع اهتمامَك بكلِّ إنسانٍ، ولا تحتكَّ بإنسانٍ، ولا تفكر بشرٍّ على إنسانٍ، ولا تمشِ مع النمام ولا تصدق كلامَ نميمةٍ بخصوص إنسانٍ».
وقال أيضاً: «من يحتمل ظُلماً من أجل الربِّ يُعتبر شهيداً. ومن يتمسكن من أجل الربِّ يعوله الربُّ. ومن يَصِر جاهلاً من أجلِ الربِّ يُحَكِّمه الربُّ».
وأيضاً من أقوالِأنبا موسى أرسلها إلى أنبا نومين حسب طَلَبهِ: «إني أفضِّلُ خلاصَك بخوفِ الله قبل كلِّ شيء، طالباً أن يجعلَك كاملاً بمرضاتهِ حتى لا يكون تعبُك باطلاً؛ بل يكون مقبولاً من الله لتفرحَ. لأننا نجدُ أن التاجرَ إذا ربحت تجارتُه كَثُرَ سرورُه، وكذلك الذي يتعلَّم صناعةً إذا ما أتقنها كما ينبغي ازداد فرحُه متناسياً التعبَ الذي أصابه، وذلك لأنه قد أتقن الصنعةَ التي رغب فيها. ومن تزوج امرأةً وكانت عفيفةً صائنةً لنفسِها فمن شأنهِ أن يفرحَ قلبُه. ومن نال شرفَ الجنديةِ فمن شأنهِ أن يستهينَ بالموتِ في حربهِ ضد أعداء ملكِه وذلك في سبيلِ مرضاة سيدهِ. وكلُّ واحدٍ من أولئك الناس يفرحُ إذا ما أدرك الهدفَ الذي تعب من أجلهِ. فإذا كان الأمرُ هكذا مع شئونِ هذا العالم الفاني، فكم وكم يكون فرحُ النفسِ التي قد بدأت في خدمةِ الله عندما تُتَمِّمُ خدمتها حسب مرضاة الله؟ الحقَّ أقولُ لك: إن سرورَها يكونُ عظيماً، لأنه في ساعةِ خروجها من الدنيا تلقاها أعمالُها وتفرحُ لها الملائكةُ إذا أبصروها وقد أقبلت سالمةً من سلاطين الظلمة، لأن النفسَ إذا خرجت من جسدِها رافقتها الملائكةُ وحينئذ يلتقي بها أصحابُ الظلمةِ كلُّهم ويمنعونها عن المسير ملتمسين شيئاً لهم فيها. والملائكةُ وقتئذ ليس من شأنِهم أن يحاربوا عنها، لكن أعمالَها التي عملتها هي التي تحفظها وتستر عليها منهم. فإذا تمت غلبتها بأعمالِها تفرحُ الملائكةُ حينئذ ويسبِّحون الله معها حتى تلاقي الربَّ بسرورٍ. وفي تلك الساعة تنسى جميعَ ما انتابها من أتعابٍ في هذا العالم.
فسبيلُنا أيها الحبيب أن نبذلَ قُصارى جهدِنا ونحرص بكلِّ قوتِنا في هذا الزمان القصير على أن نصلحَ أعمالَنا وننقيها من كلِّ الشرور عسانا نخلص بنعمةِ الله من أيدي الشياطين المتحفزين للقائِنا، إذ أنهم يترصَّدون لنا ويفتشون أعمالَنا إن كان لهم فينا شيءٌ من أعمالهِم، لأنهم أشرارٌ وليس فيهم رحمةٌ. فطوبى لكلِّ نفسٍ لا يكون لهم فيها مكانٌ فإنها تفرحُ فرحاً عظيماً. لذلك ينبغي لنا أيها الحبيبُ أن نجتهدَ بقدرِ استطاعتِنا بالدموعِ أمام ربنا ليرحمنا بتحننه. لأن الذين يزرعون بالدموعِ يحصدون بالفرحِ. ولنقتنِ لأنفسِنا الشوقَ إلى الله فإن الاشتياقَ إليه يحفظُنا من الزنا، ولنحبَّ المسكنةَ لنخلُصَ من محبةِ الفضةِ، ولنحبَّ السلامةَ لننجوَ من البغضة، ولنقتنِ الصبرَ وطولَ الروحِ لأن ذلك يحفظُنا من صغرِ النفسِ، ولنحبَّ الكلَّ بمحبةٍ خالصةٍ لنتخلصَ من الغيرةِ والحسدِ، لنلزم الاتضاع في كلِّ أمرٍ وفي كلِّ عملٍ. لنتحمل السبَّ والتعيير لنتخلصَ من الكبرياءِ. لنكرم أقرباءنا في كلِّ الأمورِ لنخلصَ من الدينونةِ. لنرفض شرفَ العالمِ وكراماته لنتخلصَ من المجدِ الباطلِ. لنستعمل اللسانَ في ذِكرِ الله والعدل لنتخلصَ من الكذبِ، لنحبَّ طهارةَ القلبِ والجسدِ لننجوَ من الدنسِ. فهذا كلُّه يُحيطُ بالنفسِ ويتبعها عند خروجِها من الجسدِ. فمن كان حكيماً وعملُه بحكمةٍ فلا ينبغي له أن يسلِّم وديعَته بدونِ أعمالٍ صالحةٍ كي يستطيعَ الخلاصَ من تلك الشدةِ. فلنحرص إذاً بقدرِ استطاعتنا والربُّ يعينُ ضعفَنا، لأنه قد عرف أن الإنسانَ شقيٌ ولذلك وهب له التوبةَ ما دام في الجسدِ.
لا تهتم بشئونِ العالم كأنها غايةُ أَمَلِكَ في هذه الحياةِ، وذلك لتستطيعَ أن تخلصَ. لا يكن لك رجاءٌ في هذا العالم لئلا يضعف رجاؤك في الربِّ. أبغض كلامَ العالم كي تبصرَ الله بقلبك. داوم الصلاةَ كلَّ حينٍ ليستنيرَ قلبُك بالربِّ. إياك والبطالة لئلا تحزن. أتعِب جسدَك لئلا تخزى في قيامةِ الصديقين. احفظ لسانَك ليسكن في قلبك خوفُ الله. أعطِ المحتاجين بسرورٍ ورضى لئلا تخجل بين القديسين وتُحرم من أمجادِهم. أبغض شهوةَ البطنِ لئلا يحيط بك عماليق. كن متيقظاً في صلاتك لئلا تأكلك السباعُ الخفية. لا تحب الخمرَ لئلا يحرمك من رضى الربِّ. أحبَّ المساكين لتخلص بسببهم في أوانِ الشدةِ. كن مداوماً لذِكر سير القديسين كي ما تأكلك غيرةُ أعمالِهم. اذكر ملكوتَ السماوات لتتحرك فيك شهوتُها. فكِّر في نارِ جهنم لكي ما تمقت أعمالها.
إذا قُمتَ كلَّ يومٍ بالغداةِ، تذكَّر أنك سوف تعطي للهِ جواباً عن سائرِ أعمالِك فلن تخطئ البتة، بل يسكن خوفُ الله فيك. أعد نفسَك للقاءِ الربِّ فتعمل حسب مشيئتهِ. افحص نفسَك ها هنا واعرف ماذا يعوزك فتنجوَ من الشدةِ في ساعةِ الموتِ، ويبصر إخوتُك أعمالَك فتأخذهم الغيرةُ الصالحة. اختبر نفسَك كلَّ يومٍ وتأمل في أي المحاربات انتصرتَ ولا تثق بنفسِك بل قل: «الرحمةُ والعونُ هما من الله». لا تظن في نفسِك أنك أجدَّتَ شيئاً من الصلاحِ إلى آخرِ نسمةٍ من حياتك. لا تستكبر وتقول: «طوباي»، لأنك لا يمكنك أن تطمئنَ من جهة أعدائك. لا تثق بنفسِك ما دمتَ في الجسدِ حتى تعبر عنك سلاطينُ الظلمةِ. ليكن قلبُك من نحو الأفكارِ شجاعاً جداً فتخف عنك حدتها، أما الذي يخاف منها فإنها تُرعبه فيخور. كما أن الذي يفزع منها يُثبت عدم إيمانه بالله حقاً، ولن يستطيعَ الصلاةَ قدام يسوع سيدِهِ من كلِّ قلبهِ ما لم يَسُد على الأفكار أولاً. الذي يريدُ كرامةَ الربِّ فعليه أن يتفرغ لطهارةِ نفسِه من الدنس. إن كنا ملومين فذلك لأن الهزيمةَ دائماً هي منا. من ينكر ذاتَه ولا يظن أنه شيءٌ فذلك يكون سالكاً حسب مشيئةِ الله. من تعوَّد الكلامَ بالكنيسةِ فقد دلَّ بذلك على عدمِ وجودِ خوف الله فيه. وذلك لأن خوفَ الله هو حفظٌ وصونٌ للعقلِ، كما أن الملكَ هو عونٌ لمن يطيعه. أما الذين يريدون أن يقتنوا الصلاحَ وفيهم خوفُ الله، فإنهم إذا عثروا لا ييأسون بل سرعان ما يقومون من عثرتِهم وهم في نشاطٍ واهتمامٍ أكثر بالأعمالِ الصالحة. أهمُ أسلحةِ الفضائل هي إتعاب الجسد بمعرفةٍ، والكسل والتواني يولِّد المحاربات. من له معرفة وهِمَّة فقد هزم الشرَ، لأنه مكتوبٌ أن الاهتمامَ يلازمُ الرجلَ الحكيم. والضعيفُ الهِمَّةِ لم يعرف بعد ما هو لخلاصِه. أما الذي يقهرُ أعداءَه فإنه يُكلَّل بحضرةِ الملك.
لو لم تكن حروبٌ وقتالٌ ما كانت فضيلة. ومن يجاهد بمعرفةٍ فقد نجا من الدينونةِ، لأنه هذا هو السورُ الحصين. أما الذي يدين فقد هدم سورَه بنقصِ معرفتهِ. من يهتم بضبطِ لسانهِ يَدُلُّ على أنه محبٌ للفضيلةِ. وعدم ضبط اللسان يدلُّ على أن داخلَ صاحبهِ خالٍ من أيِّ عملٍ صالح. الصدقةُ بمعرفةٍ تولِّد التأملَ فيما سيكون وتُرشد إلى المجد. أما القاسي القلب فإنه يدلُّ على انعدامهِ من أيِّ فضيلةٍ. الحرية تولِّد العفةَ ومكابدة الهموم تولِّد الأفكار. قساوة القلبِ تولِّد الغيظَ، والوداعة تولِّد الرحمة. نسكُ النفسِ هو بُغض التنعمِ، ونسك الجسدِ هو العوز. سقطة النفس هي مكابدة الهموم وتهذيبها هو السكوت بمعرفة. الشبع من النومِ يُثير الأفكارَ وخلاصُ القلبِ هو السهرُ الدائم. النومُ الكثير يولِّد الخيالات الكثيرة والسهرُ بمعرفةٍ يُزهر العقلَ ويثمره. النومُ الكثير يجعلُ الذهنَ كثيفاً مظلماً، والسهرُ بمقدارٍ يجعله لطيفاً نيّراً. من ينامُ بمعرفةٍ فهو أفضل ممن يسهر في الكلامِ الباطل.
النوحُ يطردُ جميعَ أنواعِ الشرورِ عند ثورانها. إذا تقبل الإنسانُ الزجرَ والتوبيخَ فإن ذلك يولِّد له التواضع، أما تمجيدُ الناس فيولِّد البذخ وتعاظم الفكر. حبُّ الإطراءِ من شأنهِ أن يطردَ المعرفةَ. وضبطُ شهوة البطن يقلِّل من تأثيرات الشهوات. شهوةُ الأطعمةِ توقظ الغرائزَ والانفعالات والامتناع منها يُقمعها. زينةُ الجسدِ هزيمةٌ للنفس ومن يهتم بها فليست فيه مخافة الله. ذِكرُ الدينونة يولِّد في الفكر تقوى الله. وقلةُ خوفِ الله تُضلُّ العقلَ. السكوتُ بمعرفةٍ يهذِّب الفكرَ وكثرةُ الكلامِ تولِّد الضجرَ والهوسَ. قهرُ الشهوةِ يدلُّ على تمامِ الفضيلة والانهزام لها يدلُّ على نقصِ المعرفة. ملازمةُ خوفِ اللهِ يحفظُ النفسَ من المحارباتِ وحديثُ أهلِ العالم والاختلاط بهم يُظلمُ النفسَ ويُنسيها التأملَ.
محبةُ المقتنياتِ تزعجُ العقلَ، والزهدُ فيها يمنحه استنارةً. صيانةُ الإنسانِ أن يقرَّ بأفكارهِ ومن يكتمها يثيرُها عليه. أما الذي يقرّ بها فقد طرحها عنه. كمثلِ بيتٍ لا بابَ له ولا أقفال يدخلُ إليه كلُّ من يقصده، كذلك الإنسان الذي لا يضبط لسانَه. وعلى مثالِ الصدأ الذي يأكل الحديدَ كذلك يكون مديحُ الناسِ الذي يُفسد القلبَ إذا مال إليه. وكما يلتفُّ اللبلاب على الكرمِ فيُفسد ثمرَه، كذلك السُبح الباطل يُفسد نمو الراهب إذا كثر حوله. وكما يفعل السوسُ في الخشبِ، كذلك تفعل الرذيلةُ في النفسِ. تواضع القلب يتقدم الفضائلَ كلَّها وشهوةُ البطنِ أساسُ كلِّ الأوجاع. الكبرياءُ هي أساسُ الشرورِ كلِّها والمحبةُ هي مصدرُ كلِّ صلاحٍ. أشرُّ الرذائلِ كلِّها هي أن يزكِّي الإنسانُ نفسَه بنفسِه. من ينكر ذاتَه يسلك في سلامٍ. والذي يعتقد في نفسِه أنه بلا عيبٍ فقد حوى في ذاتِه سائرَ العيوب. الذي يخلط حديثَه بحديثِ أهلِ العالم يُزعج قلبَه، والذي يتهاون بعفةِ جسمِه يخجلُ في صلاتهِ. محبةُ أهلِ العالم تُظلمُ النفسَ والابتعادُ عنهم يزيدُ المعرفةَ. محبةُ التعبِ عونٌ عظيمٌ وأصلُ الهلاكِ هو الكسل.
احفظ عينيك لئلا يمتلئ قلبُك أشباحاً خفية. من ينظر إلى امرأةٍ بلذةٍ فقد أكمل الفسقَ بها. إياك أن تسمع بسقطةِ أحد إخوتك لئلا تكون قد دِنته خفيةً. احفظ سمعَك لئلا تجمع لك حزناً في ذاتك. أحرى بك أن تعملَ بيديك ليصادف المسكينُ منك خبزةً، لأن البطالةَ موتٌ وسقطةٌ للنفسِ. مداومةُ الصلاةِ صيانةٌ من السبي، ومن يتوانى قليلاً فقد سَبَتهُ الخطيةُ.
من يتذكر خطاياه ويقرُّ بها لا يخطئُ كثيراً. أما الذي لا يتذكر خطاياه ويقرُّ بها فإنه يَهلكُ بها. الذي يُقرُّ بضعفهِ موبِّخاً ذاتَه أمام الله فقد اهتم بتنقيةِ طريقهِ من الخطيةِ. أما الذي يؤجل ويقول: «دع ذلك لوقتهِ»، فإنه يصبح مأوى لكلِّ خبثٍ ومكرٍ. لا تكن قاسي القلب على أخيك فإننا جميعنا قد تغلِبنا الأفكارُ الشريرةُ. إذا سكنتَ مع إخوةٍ فلا تأمرهم بعملٍ ما، بل اتعب معهم لئلا يضيع أجرُك. إذا قاتلتك الشياطين بالأكل والشرب واللبس فارفض كلَّ ذلك منهم، وبيِّن لهم حقارةَ ذاتك فينصرفوا عنك. وإذا حَسُنَ لك الزنى فاقتله بالتواضع، والجأ إلى الله فتستريح. إن حوربت بجمالِ جسدٍ فتذكَّر نتانته بعد الموتِ فإنك تستريح. وإن جاءتك أفكارٌ عن النساءِ فاذكر أين ذَهَبَت الأوليات منهن وأين حسنهن وجمالهن. وكل هذه الأمور يختبرها الإنسانُ بالإفراز ويميزها. ولن يأتينا الإفرازُ ما لم نتقنِ أسبابَ مجيئهِ وهي السكوت لأنه كنزُ الراهبِ. والسكوتُ يولِّد النسكَ، والنسكُ يولِّد البكاءَ، والبكاءُ يولِّد الخوفَ، والخوفُ يولِّد التواضعَ، والتواضعُ مصدرُ التأملِ فيما سيكون. وبُعد النظر يولِّد المحبةَ، والمحبةُ تولِّد للنفسِ الصحةَ الخالية من الأسقامِ والأمراض، وحينئذ يَعلم الإنسانُ أنه ليس بعيداً من الله فيُعدُّ ذاتَه للموتِ. فالذي يريد إدراك هذه الكرامات كلّها، عليه ألا يهتم بأحدٍ من الناسِ ولا يدينه. وكلما يصلي تنكشف له الأمور التي تقرِّبه من الله فيطلبها منه، ويُبغض هذا العالمَ، فإن نعمةَ اللهِ تَهِبُ له كلَّ صلاحٍ.
لذلك اعلم يقيناً أن كلَّ إنسانٍ يأكلُ ويشربُ بلا ضابطٍ ويحبُّ أباطيلَ هذا العالم فإنه لا يستطيع أن ينالَ شيئاً من الصلاحِ بل ولن يدركه، لكنه يخدع نفسَه. إن آثرتَ أن تتوبَ إلى الله فاحترز من التنعمِ فإنه يثير سائرَ الأوجاعِ ويطرد خوفَ الله من القلبِ. اطلب خوفَ الله بكلِّ قوتِك فإنه يُزيلُ كلَّ الخطايا. لا تحب الراحةَ ما دمتَ في هذه الدنيا. لا تأمن للجسدِ إذا رأيت نفسَك مستريحاً من المحاربات في أي وقتٍ من الأوقات. لأنه من شأن الأوجاعِ أن تثورَ فجأة بخداعٍ ومخاتلةٍ عسى أن يتوانى الإنسانُ عن السهرِ والتحفظِ، وحينئذ يهاجمُ الأعداءُ النفسَ الشقية ويختطفونها. لذلك يحذِّرُنا ربنا قائلاً: «اسهروا»، له المجدُ الدائم إلى الأبد، آمين.
وله أيضاًفي الفضائلِ والرذائلِ: خوفُ اللهِ يطردُ جميعَ الرذائلِ، والضجرُ يطرد خوفَ الله. هذه الأربعة يجب اقتناؤها: الرحمةُ، غلبةُ الغضبِ، طولُ الروحِ، التحفظ من النسيانِ. العقلُ محتاجٌ في كلِّ ساعةٍ إلى هذه الأربع فضائل الآتية: الصلاةُ الدائمة بسجودٍ قلبي، محاربةُ الأفكارِ، أن تعتبرَ ذاتَك خاطئاً، وأن لا تدن أحداً. وهذه الفضائل الأربعة هي عونُ الراهبِ الشاب: الهذيذُ في كلِّ ساعةٍ في ناموسِ الله، ومداومةُ السهر، والنشاطُ في الصلاة، وأن لا يعتبر نفسَه شيئاً. ومما يدنس النفسَ والجسد ستةُ أشياءٍ: المشي في المدن، إهمال العينين بلا تحفظ، التعرف بالنساء، مصادقة الرؤساء، محبة الأحاديث الجَسَدَانية، الكلام الباطل. وهذه الأربعة تؤدي إلى الزنى: الأكل والشرب، الشبع من النوم، البطالة واللعب، والتزين بالملابس. وهذه الأربعة مصدرُ ظلمةِ العقل: مُقت الرفيق، الازدراء به، حسده، سوء الظن به. بأربعةِ أمورٍ يتحرك في الإنسانِ الغضبُ: الأخذ والعطاء، إتمام الهوى، محبته في أن يُعلِّم غيرَه، ظنه في نفسِه أنه عاقلٌ. وهذه الأربعة تُقتنى بصعوبةٍ: البكاء، تأمل الإنسان في خطاياه، جعل الموت بين عينيه، أن يقول في كل أمرٍ: أخطأتُ، اغفر لي. فمن يحرث ويتعب فإنه يَخلص بنعمة ربنا يسوع المسيح.
وله أيضاً: «أيها الحبيب، ما دامت لك فرصةٌ للتوبةِ فارجع وتقدم إلى المسيح بتوبةٍ خالصة، سارع قبل أن يُغلَق البابُ فتبكي بكاءً مراً، فَتَبِلَّ خديْك بالدموع بدون فائدة. اجلس وترقَّب البابَ قبل أن يُغلق. أسرع واعزم على التوبةِ، فإن المسيح إلهنا يريدُ خلاصَ جميعِ الناسِ وإتيانِهم إلى معرفةِ الحقِّ. وهو ينتظرك وسوف يَقبلك. له المجد إلى الأبد آمين».
سأل أحدُ الآباءِ أنبا بيمين قائلاً: «لماذا تقاتلنا الشياطين يا أبي»؟ أجاب الشيخُ قائلاً: «الحقيقة إن الشياطين لا تحاربنا إلا عند ما نتمِّم ميولَنا الرديئة التي هي في الحقيقة شياطيننا التي تحاربنا، فنُهزم أمامها برضانا. أما إن شئتَ أن تعرفَ مع من كانت الشياطين تصارعُ، قلتُ لك مع أنبا موسى وأصحابهِ».
الأنبا زكريا
كان لرجلٍ اسمه قاريون ولدٌ صغير اسمه زكريا، هذا أتى إلى الإسقيط وترهب به ومعه ابنه. وقد ربى ابنه هناك وعلَّمه بما ينبغي. وكان الصبيُ جميلَ الخلقةِ وحسنَ الصورةِ جداً. فلما شبَّ حدث بسبِبه تذمرٌ بين الرهبان. فلما سمع الوالدُ بذلك قال لابنِه: «يا زكريا هيا بنا نمضي من ها هنا لأن الآباءَ قد تذمروا بسببك». فأجاب الصبيُ أباه قائلاً: «يا أبي إن الكلَّ ها هنا يعرفون أني ابنك، ولكن إن مضينا إلى مكانٍ آخر فلن يقولوا إني ابنك». فقال الوالد: «هيا بنا يا ابني نمضي الآن فإن الآباء يتذمرون بسببنا». وفعلاً قاما ومضيا إلى الصعيد، وأقاما في قلاية، فحدث سجسٌ كذلك. فقام الاثنان ومضيا إلى الإسقيط ثانية. فلما أقاما أياماً عاد السجسُ عينُه في أمرِ الصبي. فلما رأى زكريا ذلك مضى إلى غدير ماءٍ معدني (كبريتي) وخلع ملابسَه وغطس في ذلك الماءِ حتى أنفِهِ. وأقام غاطساً هكذا عدة ساعات حسب طاقتِه، فلأجل صِغرِ سنِه ونعومةِ جسمِه أصبح جسمُه كلُّه منفّخاً، فتشوَّه وتغيرت ملامحُه. فلما لبس ثيابَه وجاء إلى والدهِ لم يتعرف به إلا بصعوبةٍ. وحدث أن مضى بعد ذلك إلى الكنيسةِ لتناول الأسرار فعرفه القس إيسيذوروس، وعندما رآه هكذا تعجَّب مما فعله وقال: «إن زكريا الصبي جاء في الأحد الماضي وتقرَّب على أنه إنسانٌ، أما الآن فقد صار شبه ملاكٍ».
قال مار أفرآم: «إن كانت لك صداقةٌ مع أحدِ الإخوة وانتابتك مضرةٌ بسبب مخالطتك إياه، فأسرع واقطع نفسَك منه، ولستُ أقول لك هكذا أيها الحبيب لتبغضَ الناس، كلا، وإنما لتقطع أسبابَ الرذيلةِ».
وقال أيضاً: «من الخطرِ أن يتواجد صبيٌ في ديرٍ على نظامِ الشركةِ لا سيما إذا كان في هذا الوسط عدمُ ترتيبٍ».
قال أنبا بيمين: «أيُّ راهبٍ يقيمُ مع صبي وتعرَّض بسببهِ لآلامِ الإنسان العتيق، ثم يستمرُ بعد ذلك ويبقيه معه، فإنه يشبه إنساناً حقلُه مضروبٌ بالدودِ».
قال أنبا كورش: «إن كان إنسانٌ يقيمُ مع صبي، فإن لم يكن قوياً فإنه سوف يميلُ إلى أسفل، أما إن كان قوياً ولم يهوى إلى أسفل فإنه رغم ذلك لن يستمرَ قائماً».
قال أنبا قاريون: «إني بذلتُ أتعاباً كثيرةً بجسدي لكني لم أصل إلى رتبةِ ابني زكريا في تواضع العقلِ والسكون».
قيل: سأل الأب مقاريوس الكبير مرةً زكريا وهو ما زال في حداثةِ سنهِ قائلاً: «قل لي يا زكريا، ما هو الراهبُ الحقيقي»؟ قال زكريا: «يا أبي أتسألني أنا»؟ قال له الشيخُ: «نعم يا ابني زكريا، فإن نفسي متيقنةٌ بالروح القدس الذي فيك، أن شيئاً ينقصني يلزم أن أسألك عنه». فقال له الشابُ: «إن الراهبَ هو ذلك الإنسان الذي يُرذل نفسَه ويُجهد ذاتَه في كلِّ الأمورِ».
قيل: أتى أنبا موسى مرة ليستقي ماءً، فوجد أنبا زكريا على البئرِ يصلي وروحُ الله حالٌّ عليه. فقال له: «يا أبتاه قل لي ماذا أصنع لأخلصَ». فما أن سمع الحديثَ حتى انطرح بوجهِه عند رجليه وقال له: «يا أبي لا تسألني أنا». قال أنبا موسى: «صدقني يا ابني زكريا إني أبصرتُ روحَ الله حالاًّ عليك ولذلك وجدتُ نفسي مسوقاً من نعمةِ الله أن أسألَك». فتناول زكريا قلنسوته ووضعها عند رجليه وداسها، ثم رفعها ووضعها فوقَ رأسهِ وقال: «إن لم يصر الراهبُ هكذا منسحقاً فلن يخلصَ».
لما حضرت أنبا زكريا الوفاة سأله أنبا موسى قائلاً: «أيُّ الفضائلِ أعظم يا ابني»؟ فأجابه: «على ما أراه يا أبتاه، ليس شيءٌ أفضلَ من السكوتِ». فقال له: «حقاً يا ابني، بالصوابِ تكلمتَ».
وفي وقتِ خروج روحِه كان أنبا إيسيذوروس القس جالساً فنظر إلى السماءِ وقال: «اخرج يا ابني زكريا فإن أبوابَ ملكوتِ السماوات قد فُتحت لك».
الأنبا مقاريوس الكبير
ا لا يريدهُ الله. ولنصنعْ كلَّ ما يُرضيه ونحفظه. ولا نصنع شيئاً يغضبه. ولنعلم أيضاً أن كلَّ ما نعمله عريانٌ ومكشوفٌ لديه ولا تخفى عليه خافيةٌ».
وقال أيضاً: «إن النفسَ لها استطاعةٌ أن تنظرَ إلى الله في كلِّ حينٍ، فتوجِد لها دالةً عند سيدها، لأنها حينئذ يكون لها قدرةٌ على ذلك، لذلك فلنحرص بكلِّ قوتنا ألا نحيدَ عن خوفِ الله ولا نتعبد للأوجاعِ».
وقال أيضاً: «يجبُ على الراهبِ أن يكونَ في سكونٍ في كلِّ حين ولا يسمع لأفكارِه التي توعز إليه بكثرةِ الكلامِ الذي يُضعف النفسَ، بل ليمسك عن الكلام حتى ولو نظر أناساً يضحكون أو يتحدثون بكلامٍ لا منفعة له وذلك لجهلِهم. لأن الراهبَ الحقيقي يجب أن يتحفظ من لسانِه كما هو مكتوبٌ في المزمور: اللهم اجعل لفمي حافظاً وعلى شفتيَّ ستراً حصيناً. فالراهب الذي يسلك هكذا لا يعثر أبداً بلسانِه، ولكنه يصبح إلهاً على الأرضِ».
وقال أيضاً: «كما أن الماءَ إذا سُلِّط على النارِ يُطفئها ويغسل كلَّ ما أكلته، كذلك أيضاً التوبةُ التي وهبها لنا الربُّ يسوع تغسلُ جميعَ الخطايا والأوجاع والشهوات التي للنفسِ والجسدِ معاً».
من تعاليم الأنبا إشعياء للمبتدئين
قال: أيها الحبيب إن كنتَ قد تركتَ العالمَ الباطل وقربَّت نفسَك لله لتتوب عن خطاياك السالفة، فإياك أن تتراجعَ عما عزمت عليه من نحو حفظِ وصايا السيد المسيح وإتمامها، وإلا فلن يغفرَ لك خطاياك القديمة. احفظ الخصالَ الآتية ولا تحتقرها: إياك أن تأكلَ مع امرأةٍ أو تؤاخي غلاماً حديثَ السنِّ، لا ترقد مع آخر في فراشٍ واحدٍ، كن متحفظاً لعينيك. وإذا نزعتَ ثيابك فإياك أن تبصرَ شيئاً من جسدِك، إن أردتَ أن تشرب بعضاً من الشراب لا تزد على ثلاثِ كؤوس. إياك أن تحلَّ الوصيةَ من أجلِ الصداقةِ. احذر أن تسكنَ في موضعٍ قد أخطأتَ فيه قدام الله. لا تتوانَ في صلواتِ الساعات لئلا تقع في أيدي أعدائك. اجهد نفسَك في تلاوة المزامير، فإن ذلك يحفظُك من خطيةِ الدنس. أحبَّ التعبَ والمشقةَ في كلِّ شيءٍ لتخفَّ عنك أوجاعُك. احذر من أن تعتبرَ نفسَك شيئاً في أيِّ أمرٍ من الأمورِ فإن ذلك يُفقدك النوحَ على خطاياك. احفظ نفسَك من الكذبِ فإنه يطرد من الإنسانِ خوفَ الله. لا تكشف أسرارَك لكلِّ أحدٍ لئلا تسبب عثرةً لقريبك. اكشف أفكارَك لآبائك الشيوخ لتجد معونةً بمشورتهم. أتعب نفسَك في عملِ يديك وخوفُ الله يسكن فيك. إذا أبصرتَ إنساناً قد أخطأ فلا تحتقره ولا تزدرِ به لئلا تقع في أيدي أعدائك. إياك أن تتمادى في ذِكر خطاياك القديمة والتلذُّذ بها لئلا تنتابك الأتعابُ. أحب الاتضاع فهو يحفظك من الخطيةِ. لا تكن معانداً أو متمسكاً بكلمتِك لئلا يسكنك الشرُ. لا تضع في نفسِك أنك حكيمٌ فتقع في أيدي أعدائك. عوِّد لسانك دائماً أن يقول: «اغفر لي»، فيأتيك الاتضاع. إذا جلستَ في قلايتك فاهتم بهذه الثلاث خصال: ابدأ عملَ يديك وادرس مزاميرك وصلاتك، تفكَّر في نفسِك أنه ليس لك شيءٌ في هذه الدنيا سوى اليومِ الذي أنت فيه فلن تخطئَ. لا تكن نهِماً في الأطعمةِ لئلا تتجدد فيك خطاياك القديمة. لا تتضجر من الأتعاب مطلقاً فيأتيك النياح من قبل الله سريعاً. مثل بيتٍ خربٍ خارج المدينةِ يُرمى فيه كلُّ نتنٍ، هكذا نفسُ الراهبِ العاجز تصير مأوى لكلِّ شرٍ. جاهد في أن تصلي دائماً ببكاء لعل الله يرحمك ويخلِّصك من الإنسانِ العتيق ويعطيك الملكوت. ثبِّت نفسَك في هذه الخصال التي أقولها لك: التعزية، المسكنة، الصمت، فهذه كلها تجلب لك الاتضاعَ، والاتضاعُ يغفرُ الخطايا كلها. الاتضاع هو أن يعتقدَ الإنسانُ في نفسِه أنه خاطئٌ وأنه ما عمل شيئاً من الخيرِ أمام الله، وأن يلازم الصمتَ، وألا يعتبر نفسَه شيئاً، وأن يرفض هواه ولا يقيم كلمتَه، ويكون نظرُه إلى الأرضِ، وأن يضعَ الموتَ بين عينيه، وأن يحفظَ نفسَه من الكذب، وألا يتحدث بكلامٍ باطل، وألا يناقش من هو أكبر منه، وأن يتحمل الشتيمةَ بفرحٍ، ويُبغض الراحةَ، ويدرِّب نفسَه على التعب، وألا يُحزن أحداً.
وقال أيضاً: يا ابني كن مستعداً إزاء كلِّ كلمةٍ تسمعها لأن تقول: «اغفر لي»، وبذلك تهزم كلَّ قوةِ العدو. وليكن وجهُك دائماً معبّساً، إلا إذا أتاك إخوةٌ غرباء فكن بشوشاً فيسكن خوفُ الله فيك. إن سرتَ مع إخوةٍ في طريقٍ، فتباعد عنهم قليلاً ولتكن صامتاً. وإذا مشيتَ فلا تلتفت يُمنى ولا يُسرى بل ادرس في مزاميرك وصلِّ لله بفكرك. وأيَّ موضعٍ دخلتَه لا توجِد لنفسِك دالةً مع أهلهِ، وكن جاداً في كل أمرٍ من أمورك. أيُّ شيء يوضع أمامك فمد يدَك إليه بتغصبٍ، وإن رقدت في موضعٍ فلا تتغطَ أنت وآخر بغطاءٍ واحدٍ. وصلِّ صلاةً طويلة قبل أن تنام. وإن كنتَ قد تعبتَ من السيرِ في الطريقِ وأردت أن تدهن جسدَك بقليلٍ من الزيت فليكن لك ذلك بحياء، ولا تدع أحداً يدهن لك جسدك وأنت صبي. إذا كنت جالساً في قلايتك وأتاك أخٌ غريبٌ فادهن رجليه وقل له: أظهر محبةً وخذ قليلاً من الزيت وادهن به جسدك، فإن لم يُرد فلا تُكرهه إذا كان شيخاً عمالاً. إذا جلستَ على المائدة وأنت شابٌ فلا تتجرأ وتدعو إنساناً إلى الأكلِ وتشكر له في الطعام، بل اذكر خطاياك لئلا تأكل بلذةٍ، ومد يدك إلى ما هو قدامك فقط، ولتغطِ ثيابُك رجليك، وركبتاك مضمومتان إحداهما إلى الأخرى. وإذا زارك غرباءٌ فأعطهم حاجتهم برضى، وإذا كفوا عن الطعام فقل لهم مرتين أو ثلاثة: اصنعوا محبةً وكلوا قليلاً. وإذا كنتَ تأكلُ فلا ترفع وجهَك في قريبك ولا تتلفت لا هنا ولا هناك ولا تتكلم كلمةً فارغة، وإذا شربتَ الماءَ فلا تدع حلقَك يُحدث صوتاً كما يفعل العلمانيون. وإذا كنتَ جالساً مع الإخوةِ واضطررت للبُصاق فلا تبصق في وسطِهم بل قم خارجاً وألقِهِ. لا تتماطأ في وسطِ الناس، وإذا جاءك التثاؤب فلا تفتح فمَك فيذهب. احذر من فتح فمِك بالضحك، فإن الضحك يوضِّح عدم وجود خوف الله. لا تشتهِ شيئاً لصاحبك، لا ثوبه ولا قلنسوته ولا غير ذلك مما له. ولا تتمِّم شهوةَ جسدِك وتصنع لك مثله. إن عملتَ لك مجلداً فلا تزينه فإن ذلك عثرة. إن أخطأت في أمر ما فلا تستحِ وتكذب، بل أسرع وقر بذنبك واستغفر فيُغفر لك. إذا وجه إليك إنسانٌ كلمةً قاسية، فلا تشمئز أو يستكبر قلبُك، ولكن بادر واصنع مطانية ولا تلُمه في قلبك، وإلا فالغضبُ يثور عليك. إن افترى أحدٌ عليك بشيءٍ لم تصنعه فلا تجزع ولا تغضب، بل اتضع واصنع مطانية، وسواء كنتَ قد فعلتَ أم لم تفعل ففي كلتا الحالتين قل: «اغفر لي فلن أعود لمثلِهِ مرةً أخرى». إذا كنتَ تقوم بعملِ يديك فلا تتوانَ البتة ولكن اهتم به بخوفِ الله لئلا تخطئ بدون وعي، وكلُّ عملٍ تؤديه لا تستحِ أبداً من أن تسأل من يعلمك قائلاً: «اصنع محبة وأرني»، وخذ رأيَه أيضاً فيما لو كان عملُك جيداً أم لا. إن دعاك أخوك وأنت جالسٌ تقوم بعمل يديك فاترك عملَك واسْعَ في راحتِهِ، إذا انصرفتَ من المائدة فادخل قلايتك ولا تجلس تتحدث مع من لا ينفعك، فإن كان الجالسون شيوخاً يتكلمون كلامَ الله فاستأذن معلِّمك أولاً فإن أذِنَ لك فاجلس واسمع كلامَهم، وكما يأمرك به افعله. إن أمرك معلمُك بقضاء حاجةٍ خاصة به فاسأله عن المكان الذي تذهب إليه لقضائها وما يشير به عليك لا تزد عليه ولا تُنقص منه. إن سمعتَ كلاماً غيرَ لائق فلا تبلِّغه لآخر. إن أردتَ أن تصنع أمراً لا يهواه الأخ الساكن معك فاقطع هواك واسعَ في خيرهِ لئلا يقع بينكما شكٌ وتجربةٌ. إذا عزمتَ على السكنى مع إخوة فلا يكن لك مع أحدِهم دالة ما. ولا تخلط كلامَك بكلامِهم. إن فعلت ذلك فإنك تمكث زمانك كلَّه معهم في سلامةٍ. وإن طالبوك بأمرٍ لا تهواه فارفض مشيئةَ نفسِك وتمِّم ما يقولونه لك لئلا تحزنهم فتفقدون السلامَ فيما بينكم. إذا كنتَ ساكناً مع أخٍ وسألك قائلاً: «اطبخ لنا شيئاً»، فاسأله عما يُحب، فإن ترك لك حرية الاختيار فمهما وجدتَه موافقاً له اطبخه بخوفِ الله. وكلُّ عملٍ تعملانه اشتركا فيه ولا يطلب أحدُكم راحةَ جسدهِ لئلا يضطرب فكرُ أخيه».
وقال أيضاً: إذا قمتَ باكرَ كلِّ يومٍ فقبل أن تقومَ بأيِّ عملٍ اقرأ كلامَ الله وبعد ذلك إن كان لك في القلايةِ عملٌ فاعمله بهمةٍ ونشاط. إذا جاءك أخٌ غريبٌ ليكن وجهُك له صبوحاً حين سلامك عليه، واحمل عنه ما يحمله بفرحٍ، وكذلك إذا أراد الانصرافَ ليفارقك بفرحٍ ولتودِّعه بخوفِ الله وبشاشة كي تكونا عند الفراق رابحيْن نفسيكما. وكذلك في حال وصوله إليك إياك أن تسأله عن أمورٍ لا تُخلِّص نفسَك، بل دعه يصلي أولاً، فإذا جلس قُل له: «كيف أنت؟ وكيف حالك»؟ ولا تزد على ذلك. وأعطه كتاباً ليقرأ فيه. فإذا كان قد جاء متعباً فاتركه حتى يستريح واغسل رجليه. فإن كان قد أتاك حاملاً إليك كلاماً ليست فيه منفعة فقل له: «اغفر لي يا أخي فإني ضعيفٌ ولست أقوى على سماعِ هذا الكلام». وإن كان ضعيفاً وثيابُه رثة فاغسلها له وخيطها إذا احتاجت إلى خياطة. وإذا جاءك أحدٌ من الطوافين وتصادف أن كان عندك رجلٌ قديس في نفس الوقت، فلا تُدخله عليه، ولكن اصنع معه رحمةً من أجلِ محبةِ اللهِ وأَخلِ سبيلَه. وإن كان مسكيناً فلا تصرفه من عندك فارغاً، بل أعطه من البركة التي أعطاك الله إياها. واعلم أن كلَّ شيءٍ لك ليس ملكك فأعطهِ من أجلِ الربِّ. إذا استودعك أخٌ وديعةً، إياك أن تفتحها لتعرف ما فيها إلا بحضرتِه، وإن كانت الوديعةُ ثمينةً جداً، فاسأله أن يسلمها لك ويعرِّفك بحقيقتها. وإن ذهبتَ إلى ضيعةٍ ونزلت عند إنسانٍ في قلايتِه واضطر أن يخرج هو لأمرٍ ما وتركك وحدَك في القلاية فإياك أن ترفع نظرَك لتبصر شيئاً مما في قلايتِه أو تُحرك شيئاً من موضعِه، ولكن عند خروجه قل له: «أعطني شيئاً أقومُ بعملِه»، وكلُّ شيء يوصيك به فافعله بلا كسل. إذا دخلتَ بيتَ الراحةِ لقضاء حاجة الطبيعة فلا تتباطأ، بل اذكر أن الله ينظر إليك دائماً.
إن قمتَ في قلايتك لتصلي ساعاتك فإياك أن تكون صلاتُك بتهاونٍ لأنك بذلك بدلاً من تُكرم الله تغضبه. ولكن قف بخوفٍ ورعدةٍ ولا تتكئ على الحائط ورجلاك مرتخيتان ولا تقف بواحدةٍ وترفع الأخرى. وإن كنتم تقرءُون صلواتكم وأنتم مجتمعون فليقدِّم كلُّ واحدٍ منكم صلاةً، فإن وُجد معكم غريبٌ فاطلبوا منه بمحبةٍ أن يصلي ولا تلحُّوا عليه أكثر من مرتين أو ثلاث. وإذا كنتَ واقفاً في القداسِ فراقب أفكارَك لكي توقف جسدَك وحواسَك بخوفِ الله لتستحق أن تتناولَ من القربان الذي هو جسدُ المسيح ودمه الأقدسين، فيشفيك الربُّ.
إياك أن تترك جسدَك في حالةٍ لا تليق بسبب قذارتِه لئلا يسرقك المجدُ الباطل. ولكن إذا كنتَ شاباً فاترك جسدَك ليظهر بكلِّ سماجةٍ. لا تلبس ثوباً جيداً حتى تبلغ الكبر وتدخل في سن الشيخوخة. إذا سرتَ مع أخٍ أكبر منك سناً فلا تتقدمه البتة. وإذا تكلم من هو أكبر منك مع آخرين فإياك أن تحتقره وتجلس، ولكن قف حتى يسمح لك. إذا ذهبت إلى مدينةٍ أو قريةٍ فلتكن عينُك ناظرةً للأرضِ لئلا تسبب لك محاربات في قلايتك. إياك أن تبيت في قريةٍ وتنام في بيتٍ تخشى أن تخطئ فيه بقلبك. إذا دُعيت لتأكل عند إنسانٍ وعلمتَ أن هناك امرأةً جالسةً ستأكل معك فارفض ولا تأكل هناك البتة، لأنه خيرٌ لك أن تُحزن ذاك الذي دعاك من أن تزني بفكرك في الخفاء. حتى وإن رقدت فلا تبصر ثيابَ النساءِ بعينيك. وإن كنتَ في طريقٍ ولقيتك امرأة فجاوبها بفمِك فقط. وإذا ذهبت في طريقٍ وكان معك شيخٌ فلا تدعه يحمل أحمالَه البتة بل احملها أنت عنه. وإن كنتم سائرين في طريقٍ وكان معكم إنسانٌ ضعيف فليكن هو المتقدم وذلك لكي يمكنه أن يجلسَ إذا أراد الجلوس. إن كنتم شباباً واجتمعتم عند إنسانٍ وأراد أن يغسل أرجلَكم وسألكم أن تباركوا على المائدة فاسبقوا أولاً واعرفوا منزلةَ كلِّ واحدٍ منكم حتى إذا حان وقتُ الأكلِ لا ترتبكون ولا تتزاحمون. وليكن جلوسُكم بترتيبٍ: الأول فالثاني فالثالث وهكذا.
وقال أيضاً: إن سألك شيخٌ عن أفكارِك فاكشفها له بصراحةٍ متى تأكدتَ أن له أمانةً ويحفظُ كلامَك. ولا تنظر إلى كبر السن بل اعتمد على من له علمٌ وعملٌ وتجربةٌ ومعرفةٌ روحانية، لئلا يُزيدك سِقماً بدلاً من أن يهبك شفاءً. إذا تحدث أناسٌ بأفكارٍ لم تبلغها بعد ولم تُحارَب بها فامتنع من سماعِ كلامِهم هذا لئلا تجلب على نفسِك ذلك القتال. ألزِم نفسَك كلَّ يومٍ بأن تصلي في نصفِ الليل صلواتٍ كثيرةً لأن الصلاةَ هي ضوءُ النفس. راجع نفسَك كلَّ يومٍ عما صنعته فيه من الخطايا وصلِّ إلى الله من أجلِها فيغفرها لك. إن سمعتَ أخاً يدين آخر فلا تستحِ منه أو توافقه لئلا يغضب الله. بل قل باتضاعٍ: «اغفر لي يا أخي فإني شقيٌ وهذه الأمور التي تذكرها أنا منغمسٌ فيها ولستُ أحتمل ذكرها». إن أساء إليك أخٌ وجاء آخر وعاب فيه عندك فاحفظ قلبَك لئلا يتجدد فيه ذكرُ الشرِ الذي أساء به إليك ذلك الإنسان. إذا مضيْت إلى ضيعةٍ مع إخوةٍ لا تعرفهم فأعطهم التقدم في كل شيءٍ ولو كانوا أصغر منك. وإن نزلتَ عند صديقٍ لك فليكونوا هم المتقدمين عليك في كلِّ شيء على المائدة وغيرها. لا تظن في نفسِك أنه بسببِك يكرمهم صديقُك، بل قل لهم: «إنه بسببِكم يصنع بي الرحمةَ». إن مررتَ في طريقٍ مع أخٍ وحدث أن قابلتَ صديقاً لك وأردتَ أن تسأله في أمرٍ ما واستأذنت الأخَ قائلاً: «استرح قليلاً حتى آتي إليك»؛ فإن دعاك صديقُك أن تدخلَ لتأكلَ عنده، فإياك أن تلبي دعوتَه دون أن تُشرك الأخَ الذي معك. إذا دخلتَ قلايةَ أخٍ ليس لك به سابق معرفة فحيثما أجلسك اجلس ولا تتحرك من الموضع الذي أجلسك فيه إلا بدعوةٍ منه. إن كنتَ ساكناً في قلايةٍ فإياك أن يكون لديك إناءٌ يمنعك من حفظ وصيةِ ربك، وإن سألك أخٌ أن تعيره إناءَك فأعطه إياه، رغم حاجتك إليه ورغم عدم وجود غيره عندك، وإياك أن تجلس بعد ذلك متضايقاً مرتبكاً، فخير لك أن يهلك أحدُ أعضائِك من أن يذهب جسُدك كلُّه إلى جهنم. الذين فارقتَهم حباً في الله لا تُكثر ذكرَهم في قلبك لئلا ينشغل عقلُك بهم، بل اذكر الموتَ والدينونة وكيف أنه لا يستطيع أحدٌ منهم أن يعينك في ذلك اليوم. إذا كنتَ في قلايتك وتذكرتَ أن إنساناً أساء إليك وأحزنك، فقم في الحال وصلِّ من أجلهِ من كلِّ قلبِك أن يغفرَ الله له، وبذلك تنطفئ عنك محبة مكافأة الشرِّ بالشرِّ. إذا أنت ذهبتَ لتتناول جسدَ المسيح ودمَه الأقدسين فإياك أن يكون في قلبك حقدٌ أو غيظٌ على إنسانٍ، فإن علمتَ أن في قلب إنسانٍ عليك شيئاً فاذهب واستغفر منه أولاً لئلا تأخذ دينونةً لنفسِك وهلاكاً. إن قوتلت بزنى في أحلامِ الليل، فاحفظ فكرَك من تذكُّرها بالنهار ولا تذكر أيضاً تلك الأجساد التي أبصرتَها في أثناء نومِك لئلا تتدنس بلذتِها وتجلب على نفسِك حزناً، ولكن ألقِ ضعفك أمام الله وهو يعينك لأنه رحومٌ يرثي لضعف الإنسان. فإذا ألزمت نفسَك بصومٍ كثيرٍ وصلاة مستمرة فلا تثق بأنك ستخلص بعد ذلك، ولكن قل في فكرِك: «إني أرجو من الله بصلاة قديسيه أن يصنع مع ضعفي رحمةً من أجل الشقاء الذي شقي به جسدي». إن شتمك إنسانٌ فلا تُجبه حتى يسكت. وفتش نفسَك بخوف الله فإنك سوف تجد أن ما قد سمعتَه كائنٌ فيك وأن العلةَ هي منك. فاصنع له مطانية مثل إنسانٍ يعرفُ بالحقيقةِ أنه هو الذي أخطأ.
إن كنتَ ماضٍ مع إخوةٍ في طريقٍ وكانت بينك وبين أحدٍ محبةٌ فلا تكن لك دالةٌ معه أمامهم لئلا يكون فيهم أحدٌ ضعيف فيموت من الغيرة منكما. وتكون الخطية عليك لأنك سبَّبت له عثرةً. إن أردتَ الذهاب إلى أناسٍ فلا تضع في قلبك أنهم سوف يفرحون جداً بلقائك. فإن قبلوك اشكر الله على قبولهم لك. إذا أصابك مرضٌ وأنت ساكنٌ في قلايتك فلا تصغر نفسُك بل اشكر الله على ذلك. إن مضيتَ إلى إخوةٍ وقال لك أحدهم: «إني لا أستطيع النجاح ما دمتُ مع هؤلاء وأودُ أن أسكن معك»؛ فإياك أن تبادر بموافقتِه على ذلك لئلا تصير عثرةً له ولكثيرين غيره. فإن أباح لك بأفكارٍ مكبوتةٍ فيه وعلمتَ إزاءها أنه سيهلك بوجوده في وسطهم فعرِّفه بأن يهرب إلى مكانٍ آخر وارفض سكناه معك. إذا كنت ساكناً في قلاية فاجعل لطعامِك مقداراً معيناً، ووقتاً معروفاً لا تتعداه. وأعطِ جسدَك حاجته بالقدر الذي به تستطيع أن تخدم الله في صلاتك. ارفض محبةَ الخروجِ والجولان فيما لا ينفعك. وإن عرض لك أمرٌ هام كافتقاد أخٍ أو الذهاب إلى ديرٍ وقدموا لك طعاماً لذيذاً، فلا تشبع منه، وأسرع في العودةِ إلى قلايتك.
وقال أيضاً: «إن أشغل الشياطينُ قلبَك بأتعابٍ تفوق طاقتك، فلا تُطعهم لأنهم يشغلونقلبَ الإنسان بأمورٍ لا يقوى عليها حتى إذا ضعف وقع في أيديهم، فيضحكون عليه لأن كلَّأمورِ العدو هي بلا نظام وبلا حدود. ولكن كُلْ مرةً واحدةً في النهار، وأعطِ جسدَك حاجتهبقدرٍ بحيث تكف عن الطعام وأنت لا زلت تشتهيه. كذلك سهرك يكون بقدرٍ، اسهر نصفَ الليلِ في الصلاةِ والنصف الآخر لراحة جسدِك. ومن قبل أن تنام اسهر ساعتين مصلياً ومزمراً، وإذا اقتنيتَ طولَ الروح فاصنع قانونك بحرصٍ واجتهاد، وإن أبصرتَ جسدَك قد كسل فقُلله: «أتريد أن تستريح في هذا الزمان اليسير وتذهب إلى الظلمةِ الخارجية، أليس من الأفضل لك أن تتعب زماناً يسيراً لتتنيَّح مع القديسين إلى الأبد». وبهذا الكلام يذهب الكسلُ وتأتيك المعونةُ.
إن أنت بعت شغلَ يديك فلا تتشدَّد في الثمن كالعلمانيين. كذلك إذا أردتَ أن تشتري شيئاً فزِد على ثمنهِ قليلاً وخذه، وإن لم يكن معك ما يساوي قيمته فاتركه بسكوت. إن أودع أخٌ عندك إناءً واحتجت إليه احتياجاً شديداً فاحذر أن تمسَّه بأذيةٍ. إن ذهبتَ إلى قريةٍ وأوصاك أخٌ أن تشتري له شيئاً فاشتَرِهِ له كما لو كنتَ تشتريه لنفسِك. وإن كان معك إخوةٌ وقتئذ فأشركهم في هذا الأمر. إن اتفق لك قضاء مصلحةٍ هامة في بلدِك فاحفظ نفسَك من أهلك وأقربائك ولا يكن لك معهم دالةٌ ولا خلطة في كلامٍ أو في غيرهِ. إن استعرتَ من أخيك فأساً أو غيره فلا تتوانَ في أن تردَّه إليه عند قضاءِ حاجتك ولا تتركه حتى يطلبه منك، فإن انكسر فجدِّده له. إن أنت أقرضت إنساناً مسكيناً شيئاً وعرفت أنه ليس له ما يوفيك، فلا تُحزنه ولا تضيِّق عليه في شيءٍ مما أعطيته سواء كان ثياباً أم وزنات أم غير ذلك. إن أقمتَ في مكانٍ وبنيتَ لك فيه قلايةً وأنفقت في بنائها نفقةً ما، ثم بدا لك بعد حين أن تخرج منها، وأقام فيها أخٌ آخر، وأردتَ الرجوع إليها مرة أخرى، فاحذر من أن تُخرج ذلك الأخ منها، ولكن ابحث لنفسِك عن قلايةٍ أخرى، وإن كنتَ وقت خروجِك منها أولاً قد تركتَ فيها متاعاً ووجدت أن الأخ قد أحرقه فلا تطالبه بشيءٍ منها، وإن أردت أن تنتقلَ من قلايةٍ إلى أخرى فاحذر من أن تأخذ معك شيئاً من متاعِها، بل اتركه للأخ الذي سيسكن فيها والله يرزقك أنت حيثما كنت. كلُّ فكرٍ يحاربك اكشفه ولا تستحِ أن تقول به لمن هو أكبر منك بالروحانية، فيخفَّ ذلك الفكرُ عنك ويذهب، واعلم أنه لا يوجد شيءٌ يَفرح له الشياطين مثل إنسانٍ يُخفي أفكارَه، رديئةً كانت أم جيدةً. وإذا طغى أخوك بجهلهِ بسبب الهراطقة، ثم رجع إلى الإيمان القويم فلا تحتقره واحفظ نفسَك من مجادلةِ المخالفين بحجة أنك تريد الدفاع عن الإيمان، لئلا يؤثِّر كلامُهم فيك فتهلك. وإن وجدت كتاباً من كتبهم فلا تقرأ فيه لئلا يمتلئ قلبُك بسمِ الموتِ، بل تمسَّك بأمانتك كما أضاءت لك المعمودية، كن على حذرٍ من تعليم الكذاب المضاد».
وقال أيضاً: «إن سمعتَ أخبارَ القديسين وأعمالَهم الشريفة فلا تطمع في اقتنائها بلا تعبٍ. إن لم تشفِ نفسَك أولاً وتتأهل لها، حتى إذا أقدمتَ على عملِها جاءتك من تلقاء نفسِها. احفظ نفسَك من الملل فإنه يُتلف ثمرةَ الراهبِ. إن كنت مقهوراً من وجعٍ وأنت تجاهده فلا تمل، بل ألقِ نفسك قدام الله وقل: «أعني يا ربُّ أنا الشقي فإني لا أقوى على هذا الوجع»؛ فيُعينك سريعاً إن كانت طِلبتُك بقلبٍ مستقيمٍ. إن كنتَ في شيءٍ من تعبِ الرهبانية ورأيتَ الشياطين قد انهزموا منك وغُلبوا في القتالِ، فلا تطمئن، بل كن على حذرٍ منهم. واعلم أنهم يهيئون لك قتالاً أشرَّ من الأول، ويكمُنون لك به من وراء، فإن أنت ناصبتهم تظاهروا بأنهم طُردوا بمكرٍ منهم، وذلك ليستكبر قلبُك وتثق بقوتِك، فإذا أبصروك قد خرجت هكذا عن فضيلة الاتضاع، قام الكمينُ عليك من ورائك وهاجمك الآخر من قدامك وأحاطوا بنفسك التي لم يكن لها ملجأ وقتئذ. فلا تمل إذاً من الصلاةِ إلى الله بأن يخلِّصك ويدفع عنك كلَّ بليةٍ تأتيك، فإن لم يسمع منك سريعاً فلا تمل من التضرع إليه لأنه يعرف ما فيه خيرك أكثر منك. وإذا صليتَ إلى الله فلا تقل له: «ارفع عني هذا وهبني ذاك». بل قل: «يا ربي يسوع أنت عوني ورجائي وأنا في يديك، وأنت تعرف ما هو صالحٌ لي، فأعني ولا تتركني أخطئ إليك أو أتبع هواي، ولا ترفضني فإني ضعيفٌ ولا تسلِّمني لأعدائي، فإني لجأتُ إليك فخلصني بتحننك، ليخزَ كلُّ الذين يقومون عليَّ لأنك أنت القادر على كل شيءٍ، ولك المجد إلى الأبد، آمين».
وقال أيضاً: إن الإنسانَ لا يستطيعُ أن يتحفَّظ من الخطيةِ إن لم يحفظ نفسَه مما يلدها. وهذه هي الأشياء التي تلد الخطيةَ: صغرُ النفس، الملل، إتمام الهوى، حبُّ الاتساع، طلب الرئاسة، حديث العالم، التماس ما لا ينبغي، عدم الحذر من الناس، سماع الوقيعة، نقل الكلام من أناس إلى أناس، الذي يحبُّ أن يُعلِّم دون أن يسأل، الذي يدين القريب، فهذه الأمور وغيرها لَمِّما تلدُ الخطيةَ. فمن أراد أن ينجحَ ويتقدم في الأعمالِ الصالحة، فليحفظ نفسَه من كلِّ شيء يلد الخطيةَ، فإن الخطيةَ منها وبها. فمن حرص فهو يجد خيراً في الأعمال الصالحة، ومن تهاون وتغافل فهو يعدُّ نفسَه للعذاب، لأنه واجبٌ على كلِّ معتمدٍ أن ينقي نفسه من كلِّ الشرور، فإن أنت قطعتَ هواك بمعرفةٍ اقتنيتَ لنفسِك التواضع، أما الذي يريد أن يتمِّم هواه فذاك يُعدم الصلاحَ كلَّه. فلنهرُب من اللجاجةِ (أي من العنادِ والمجادلة) فإنها تهدمُ كلَّ بنيان الفضيلة وتصيِّر النفسَ مظلمةً لا تبصر شيئاً من الصلاحِ. فتحفَّظ من هذا الوجع الرديء الذي إذا اكتنف أيَّ صلاحٍ أعدمه، لأن ربنا ما أن طلع على الصليب حتى طوَّح يوداس من وسطِ تلاميذه. فإن لم يقطع الإنسانُ هذا الوجع الرديء (أي اللجاجة) فلن يستطيعَ أن يدركَ شيئاً من أمورِ الله، لأن كلَّ شرٍ في الدنيا يلحقُ صاحبَ هذا الوجع. وهذا الوجع هو نتيجة الكبرياء، لأن المتكبر لا يقدر أن يتحمَّل شيئاً من الموعظةِ وهو محبٌّ لمجدِ الناس والغلبة، ويسكن في نفسِه كلُّ أمرٍ يبغضه الله، لأن المستكبرَ لا يقدر أن يكونَ بغير عثرةٍ، وهو يسلِّمُ نفسَه بنفسِه إلى أيدي أعدائه. وحينئذ يصنعون بها شروراً كثيرة، فلنهرب من المجدِ الباطل ولنذكر في كل حين مجدَ العالم العتيد ولنقطع أهويةَ قلوبنا ولنلتمسَ مشيئة الله ونتممها.
فالنفس التي تريدُ أن تقفَ أمام الله بغير ذنبٍ فلتحرص كالتاجر الذي يطلب الأرباحَ ويفرُ من الخسائرِ، أما خسائر تجار المسيح فهي: طلب مجد الناس، الكبرياء، تزكية الذات، التكلم بما يغضب السامعين، محبة الأخذ والعطاء؛ هذه كلها خسائر ولا يستطيع أحدٌ أن يُرضي الله وهذه كلُّها في خزانةِ قلبه. فمن أراد أن يجيء إلى نياح الرهبنة فليتباعد من الناس في كلِّ الأمور، ولا يمدح إنساناً، كما لا يزدري به ولا يدينه ولا يزكيه، ولا يترك في قلبه هماً من ناحيةِ إنسانٍ، وليرفض من كلِّ قلبه مقابلة شر إنسان بشرِهِ لئلا تكون خدمتهُ باطلةً، لأن الذي لا يهتم بأحدٍ ويدين نفسَه وحدَه ويلومها فحياته تكون هادئةً مستريحةً. لأن النقي يحبُّ أن يكونَ كلُّ الناسِ أنقياء، أما الذي في قلبه وجعٌ، فلا يرى أحداً نقياً بل كنحو أوجاعِه يفكر في قلبه عن كلِّ أحدٍ، وإن سمع مديحاً في إنسانٍ يحسده. وهذا أقوله لكي تتحفظ فلا تزدري بإنسانٍ وأبطل معرفتك واقطع هواك. فإنَّ من وثق بمعرفتِه وتمسك بهواه لا يستطيع أن يفلتَ من أيدي الشياطين ولن يبصرَ نقائِصَه ولن يجد راحةً، أما إذا خرج من هوى الجسد فبتعبٍ يجدُ رحمةً، ومجمل هذا كله أن تراقب اللهَ من كلِّ قلبك ومن كلِّ قوتك وتترحم على كلِّ الخليقة وتطلب من الله العونَ والرحمةَ في كلِّ ساعة.
وقال أيضاً: «السكوت هو أن تَرضى بكلِّ شيءٍ ولا ينبغي أن تشغل قلبَك بأمرٍ لا يعنيك. النقاوة هي عقلٌ متيقظ وحسٌ ملتصق بالله. أحبَّ السكوتَ أكثرَ من الكلامِ، لأن السكوتَ يجمعُ، والكلامَ يبدِّدُ. الراهب لا يستطيع أن يحفظَ جهادَه إلا بالسكوتِ وبالهدوء، وأن لا يحسبَ نفسَه شيئاً في أمرٍ ما. من هو في السكوتِ فهو محتاجٌ إلى هذه الثلاث خصال: خوفُ الله، صلاةٌ دائمة، أن لا يدع قلبَه يُسبى بأمر ما. من هو في السكوتِ ينبغي له أن يجعلَ خوفَ ملاقاة الله متقدماً كلّ نَفَسٍ من أنفاسِه. ما دام القلبُ يخضعُ للخطيةِ فما صار خوفُ الله فيه بعد، وهو لا زال بعيداً عن الرحمةِ. ذلك الإنسان الذي يتكلم بكلام العالم أو يسمعه مراراً كثيرة، لا يقدر أن يكونَ له في قلبهِ دالةٌ قدام الله في صلاتهِ. أبغض كلَّ ما في العالم من نياح الجسد لأن ذلك يُصيِّرك عدواً لله. فقاتل الجسدَ كمن يقاتل عدواً لدوداً جداً. الذي يطلب الربَّ بوجع قلبٍ يسمع منه إن هو سأله باهتمامٍ ومعرفةٍ وهو غيرُ مرتبطٍ بشيءٍ من العالم إلا بنفسِه فقط، وذلك لكي يوقفها قدام الرب بلا عيبٍ كنحو قوتِهِ.
وقال أيضاً: «ثلاثُ فضائل يحتاج إليها العقلُ دائماً: تركُ الغضب، عدم التهاون، الشجاعة. وثلاث فضائل أخرى إذا ازدان بها العقلُ يثق بأنه قد بلغ الحياةَ وهي: إفراز الجيد من الرديء، التبصُّر في الأمورِ قبل الإقدام عليها، عدم الخضوع لأمرٍ غريب. وثلاث فضائل كذلك تبعث في العقل ضوءاً مستديماً وهي: أن لا يعرف شرَّ إنسانٍ، أن يصنعَ الخيرَ مع الذي يصنعُ به الشرَّ، أن يتقبل ما يجلبه العدو عليه بلا ضيق صدرٍ. فالذي لا يعرف شرَّ إنسانٍ فقد أدرك المحبةَ، والذي يفعل الخيرَ مع من يفعل به الشرَ فقد أدرك السلامةَ، والذي يقبل ما يأتيه من العدو بلا ضيقِ صدرٍ فقد اقتنى الوداعةَ. كذلك أربع فضائل تزكي النفسَ: السكون، حفظ الوصايا، الانفراد، الاتضاع. الصيام يُذل الجسدَ والسهرُ ينقي العقلَ والسكوتُ يجلب النوحَ، والنوحُ يغسل الإنسانَ ويصيِّره بلا خطية. طوبى لمن اهتم من أجل جراحاتهِ لتُشفى، وعرف خطاياه وطلب من أجلِها الغفران. إن أراد العقلُ أن يرتفعَ على الصليبِ فإنه يحتاج إلى طلبةٍ كثيرة ودموعٍ غزيرة وخضوعٍ في كلِّ ساعةٍ قدام الربِّ، ويسأل من طيبته المعونةَ حتى يقيمه غيرَ مقهورٍ متجدداً بالروح القدس. لأن شدائدَ كثيرةً عند ساعة الصليب، وهو محتاجٌ إلى صلاةٍ وإيمانٍ صحيح وقلبٍ شجيع ورجاءٍ بالله إلى آخر نفس. الذي له المجد إلى الأبد، آمين.
وقال أيضاً: إذا صليتَ ولم يَرِد على فكرِك شيءٌ من الشرِّ فقد صرتَ حراً. الذي يلوم أخاه أو يحتقره أو يشي به قدام آخرين أو يُظهر له غضباً، فقد صار بعيداً من الرحمةِ. إن قال إنسانٌ: «إني أريدُ أن أتوبَ عن خطاياي»، وهو لا يزال يفعلُ شيئاً منها فهو كذاب. من يريد أن يلازمَ السكوتَ من غير أن يقطع علل الأوجاع فهو أعمى. الذي يتجاهل خطاياه ويريد أن يقيمَ آخرين فهو جاهلٌ. من لا يدين أحداً فقد استحق النوح، إذا انشغلتَ عن خطاياك وقعت في خطايا أخيك. إن كافأتَ شراً بشرٍ فذلك يُبعدك من النوح. إن قبلتَ شيئاً من السُبح الباطل ابتعد منك النوحُ. إن صنعتَ هواك طردت عنك النوحَ. إن قلتَ إن فلاناً صالحٌ وفلاناً شريرٌ خزيتَ نفسَك، إذ تركت الاهتمام بخطاياك واهتممت بما لا يعنيك. إن قيل عنك كلامٌ لا تعرفه فتسجست فقد أبعدت عنك النوح. إن كلَّمك إنسانٌ فلا تجادله محاولاً تثبيت كلمتك، وإلا فليس فيك نوحٌ. فهذه الأمور كلِّها تدلُّ على أن الإنسانَ العتيق لا يزال حياً فيك. إن حفظت وصايا المسيح كلَّها وعملتها، قل: «إني لم أُرضِ الله قط». يا إخوتي، تأكدوا بحرصٍ أن تكون شهوتنا بالله، لنسلَم من الشرور. لنلازم محبةَ المساكين لنخلُص من حبِّ الفضة. لنكن متصالحين مع كلِّ أحدٍ لنخلص من البغضِ. لنكن محبين لجميع الناس لنخلص من الغيرة. لنتحمل تعيير إخوتنا إذا هم رذلونا لنخلص من العظمةِ. لنحرص على كرامةِ إخوتنا لكي ما نخلص من الدينونةِ. لنرفض شرفَ العالم وكراماته لنتخلص من المجدِ الباطل. لتكن ألسنتُنا ملازمةً ذكر الله والعدل لكي ما نخلص من الكذب. لننقِ قلوبَنا وأجسادَنا من الشهوةِ الرديئة لكي ما نخلص من النجاسةِ.
وقال أيضاً: الحكيمُ هو الذي يحرص إلى الموت على مرضاة الله. لنعمل بقدر قوتِنا والله يُعينُ ضعفَنا. ليكن فكرُك بالله وهو يحفظك. أمورُ العالمِ لنتركها وننطلق. وما تصنعه من أجلِ اللهِ فهو يعينك في ساعةِ شدَّتِك التي هي ساعةُ الموت. أبغض كلامَ العالم ليفرح قلبُك بالله. أحبَّ الصلاةَ في كلِّ حينٍ ليضيء قلبُك بأسرارِ الله. أبغض الكسلَ لكيلا تحزن. إذا قمتَ في موقفِ الأبرارِ احتفظ بلسانك ليسكن في قلبك خوفُ الله. أعط المحتاجين بعينٍ واسعةٍ حتى لا تحزن بين القديسين. لتكن محباً للمؤمنين لتحلَّ عليك رحمةُ الله. لتكن محباً للقديسين لتغار بأعمالهم الصالحة. اذكر دائماً أبداً ملكوتَ السماوات وما أُعد فيه للقديسين ليقودك الشوقُ إليه. كن متفكراً في كلِّ حينٍ بجهنم لكي ما تُبغض الأعمالَ المؤدية إليها. إذا قمتَ باكر كلِّ يومٍ تذكَّر أنك ستعطي لله جواباً عن أعمالِك فإنك بذلك لن تخطئ ومخافةُ الله تسكن فيك. هيئ نفسَك دائماً أبداً للقاء الله لكي ما تصنع مشيئَته. تفرَّس في نفسِك كلَّ يومٍ لتعلم أيَّ وجعٍ غلبتَ ومن أيِّ وجعٍ أنت مغلوب، أعني الشهوات الجَسَدَانية. ولتكن مجتهداً بكلِّ قوتك في أن تغلبَ كلَّ الشهواتِ الرديئة. كن دائماً أبداً حذراً منتبهَ العقلِ في كلِّ حينٍ. وإياك أن تفكِّر بالعظمةِ أو تقبل هذه الفكرة، لأن بذلك صار رئيسُ الملائكةِ شيطاناً. كلُّ من يريد أن يغلبَ بالكلامِ فبلا شكٍّ قد دلَّ على أن مخافةَ اللهِ ليست فيه ولا اتضاع، الذي يحبُّ اللهَ لا يهتم إلا ببُغض الشهواتِ النجسة وعمل الصلاح وتعب الجسد بمعرفةٍ، أما الغفلةُ والتواني فهما يولِّدان فينا أوجاعَ الجسدِ النجسة. من يُغلب من لسانِه فهو ما زال عبداً. أما من غَلب لسانَه فقد صار حراً. قلةُ الرحمةِ تُعبِّر عن أننا لا نحبُّ اللهَ. كثرةُ المناصبةِ أي الوقوف في وجه الغير المقرون بالشتائم والانتقادات والكلام اللاذع، تدلُّ على أننا أشرار. البركةُ تلدُ البركةَ. والصلاحُ يلدُ الصلاحَ. فأما الغضبُ فمن قساوة النفسِ. كثرةُ النومِ فيها خسارةُ العقلِ، وجفافُ العينين، وتغلُّظ القلب. الرقادُ بمعرفةٍ في السكوتِ أفضلُ من الكلامِ الباطلِ مع السهرِ».
وقال أيضاً: من لازم النوحَ فهو يهربُ من كلِّ الشرورِ ومن كلِّ سجسٍ. من كفَّ عن شرِ الناس فذاك بالحقيقة قد انطبع فيه اتضاعُ سيدنا يسوع المسيح وأخزى الشيطان. من يُحبُ مدحَ الناسِ فهو شقيٌ وقد شملته الظلمةُ. ضبطُ البطنِ يُذهب الأوجاعَ، أعني الشهوات الرديئة. أما شهوةُ الأطعمةِ فتجلبها. من يحبُّ اللهَ فذاك قد تغرَّب عنه شيطانُ التهاون. ومن تحاشى الحديثَ الرديء الربُّ يحفظه من السقطات. أما كثرةُ الحديث فمنها تأتي الرعونةُ والملل. من قطع هواه من أجلِ أخيه لمرضاة الله فقد أنبأ عن نفسِه أنه قد اقتنى الفضائل. أما الذي يُرضي هواه فقد أظهر أنه غيرُ خائفٍ من الله. من لازم مخافة الله فذاك قد اقتنى حكمةً سمائية. وأما من ليس فيه مخافةُ الله فقد عَدِمَ كلَّ خيرٍ. محبةُ المالِ تضايق العقلَ. من أحبَّ كلامَ العالمِ فقد أقفرت نفسُه من كلِّ صلاحٍ. من كتم خطاياه عن صاحبِ سرِّه فقد دلَّ على تعاظمه، وقد تملَّك عليه عدوه. أما الذي يُفشي أفكارَه فيستريح. بدءُ الصلاحِ هو المحبة والاتضاع والمسكنة، وعدم الدالة، أما خرابُ النفسِ فهو حبُّ البطنِ. الخلطة مع العلمانيين تمنع التوبةَ وتبرِّد الحرارة. والفرار منهم ينشِّط إلى العمل الروحاني. محبةُ أمورِ العالم تجعل النفسَ تُظلم. الكسلُ يجلبُ علينا الأعداءَ. لا تقبل أفكارَ السوءِ وتجلس تتحدث عنها لئلا تكون جالساً تحادث الشيطان مشافهةً. لأن الأفكارَ الرديئة من فمِه تخرجُ، فافطن له ونبِّه عقلَك مقابله وتقوَّ عليه باسم ربنا يسوع المسيح. ولا تكن متكِلاً على قوتِك وصلاحك. بل كن طالباً العونَ والرحمةَ من المسيح لكي ما يفرح بك وينيحك. احذر لئلا تكون بينك وبين الناسِ معاملةٌ ما دمتَ في التوبةِ فإن الخلطةَ تشغلك عن الروحانية. احتفظ بقلبك وعينيك فلن يصيبك بأسٌ في جميعِ أيامِ حياتك. كلُّ من نظر في وجه أخيه بلذةٍ شيطانية فقد فسق. لا تقبل أن تسمعَ ضعفات أخيك أو تلومه، وإلا فأنت هالكٌ. اعمل لكي ما تعطي المساكين من عرقِ جبينك لأن البطالةَ موتٌ وهلاكٌ، واحرس قلبك قبل كلِّ شيءٍ كي يكون لك عملٌ روحاني في كلِّ رهبنتك. لا تعمل عملاً في توبتك بدونِ مشورةٍ، فتعبُر أيامك بنياحٍ