كتاب بستان الرهبان لبيلاديوس
أما بالنسبة لما ورد في بستان الرهبان من جهادات عنيفة للآباء فإن بستان الرهبان هو تجميع لمقتطفات ومشاهد من حياة الآباء عبر ثلاثة قرون، والجزء الأكبر منه ينسب لبلاديوس الأسقف (ولد الأسقف بلاديوس في غلاطية سنة 364 م. وترهب في العشرين في جبل الزيتون على يد الأب اينوسنت Innocent، زار الإسقيط بعد 4 سنوات وتعرف على إيسيذورس (77 سنة) وديديموس (80 سنة) فعاش معهما، طاف بأديرة الإسكندرية لمدة ثلاث سنوات، تقابل مع ألفى راهب ثم قضى عشر سنوات في الإسقيط ومن ثم توجه إلى صعيد مصر حيث تقابل مع العديد من النساك هناك وزار أديرة الأنبا باخوميوس وقد وجد هناك في مدينة واحدة اثنيّ عشر ديرا للراهبات. هذا وقد قام العالم بتلر BUTLER بتحقيق هذا الكتاب سنة 1898 م. وذلك بتكليف من جامعة كامبريدج (الرهبنة الديرية في مصر – د. رءوف حبيب ص 94-99). Palladuis والذي كتبه تلبية لرغبة لوساس Lausas وهو من كبار حاشية الإمبراطور ثيئودوسيوس الثاني في القسطنطينية، وقد عاش بلاديوس مابين أديرة الإسكندرية ووادي النطرون ما يزيد على ثلاث عشرة سنة تقابل خلالها مع ألفين من الآباء النساك ونقل ما لاحظه وما سمعه من كل ما هو عجيب وملفت إلى مذكرات خاصة أرسلها إلى صديقه الحميم لوساس، حيث ظل هذا التراث النفيس يعرف باسم التاريخ اللوزاكى (نسبة إلى لوساس) لمدة طويلة.
ولربما يظن أن هذا هو الهدف من الرهبنة، ولكن الهدف من الرهبنة هو العمل على تهذيب الحواس والأفكار والجسد دون الجنوح (عمد بعض الآباء إلى فقأ عيونهم أو إتلاف أحد أعضائهم بدافع الفضيلة وتعتبرهم الكنيسة قديسين بالنظر إلى الدافع الذي حملهم على ذلك، غر أنها لا تنصح أحدا بأتباع ذات المنهج، بل تنصح بالضبط لا بالقمع).
غير أنه يجب الإشارة هنا إلى أن التطرف قد جاء نتيجة الخطأ في التنفيذ والسلوك وليس في المعنى الروحي السليم الذي ينتج عن ممارسة صحيحة، ففي الصمت مثلا يسعى المجاهد إلى تحقيق هدفين، أولهما تحاشى العثرات الكلامية وثانيهما تفريغ وتكريس النفس بالقدر الكافي ليكون الحديث مع الله متصلا من خلال التسابيح والصلوات والتأمل، وفي هذا عدم توقيف للقدرات الذهنية، كذلك في النسك أيضا يبغى الإنسان أن يتحول إلى إنسان روحاني، حيث يقول الكتاب أن الروح تشتهى ضد الجسد والجسد يشتهى ضد الروح، كما أن الاهتمام الدائم بالجسد وحده هو ما ينطبق عليه القول الإنجيلي أن اهتمام الجسد هو عداوة لله وموت (رومية 8: 7).
وقد عرفت الرهبنة نظام الشركة كبديل لنظام الوحدة المطلق بسبب التطرفات النسكية المنتشرة، حيث يجد الشخص الجديد حيرة في أيهما يختار من سبيل بين مدارس نسكية متنوعة، كما أن نظام الشركة فد رتب كتخفيف لنظام الوحدة، فإن الوحدة في زمن لاحق لظهور الرهبنة كانت تسبقها حياة الشركة بحيث متى نجح الراهب فيها سمح له بالتكميل في الوحدة حيث يصل من خلالها إلى قامات روحية عالية حتى السياحة، من هذا فإن الشركة الرهبانية تقوم على ركيزتين أساسيتين هما الأب وقانون.
ومن الهام جدا أن ندرك أن بستان الرهبان ليس كتابا منهجيا وليس دستور حياة، سواء بالنسبة لشاب يحيا في العالم أو حتى لراهب يحيا في الحياة النسكية، وليس من المستحسن أن يطبق شخص ما، ما يقرأه أو يعجب به في بستان الرهبان (أو الكتب النسكية الأخرى) من تلقاء نفسه وإنما يفضل الانتفاع به من خلال المرشد الروحي (المرشد الروحي هو في الواقع شخص يخضع لسلطان الروح القدس، يأخذ منه ليعطى أولاده (يقول القديس أغسطينوس أن يوحنا الإنجيلي في رؤياه في بطمس أخذ من الرب أرغفة لأجل عشائنا) والمرشد بذلك لا يعتمد على الجهد العقلي أو الحكمة النفسانية، كذلك يجب أن يكون بمثابة الطبيب الروحاني والذي يعرف كيف يصف الدواء المناسب والكمية والتدرج في العلاج وما إلى ذلك)فإن جميع ما دون فيه قد كتب (أو قيل) لأشخاص ذوى ظروف معينة في أوقات معينة، وبالتالي فهو لا يصلح لكل شخص في كل الظروف والأوقات، مثل أن يهرب شاب من منزله ليحيا في الصحراء أو يبيت آخر على باب الدير لعدة أيام، أو أن يتخذ أحد الأشخاص قرارا من تلقاء ذاته بتقليد أب ما بأن يحذو حذوه دون تدبير، حيث أن الخطورة تكمن هنا في تلاهى الشياطين به إن هو تصرف من تلقاء نفسه، وقد يحبط إذا لم يستطع المواصلة وبالتالي فلن يقتنع بالقليل الذي كان يقدمه فتكون النتيجة ألا يفعل هذا ولا ذاك (تقابلت ذات مرة مع شاب في المرحلة الثانوية، وكان يضع في فمه حصاة (زلطة) فإذا ما أراد التحدث إلى آخر سحبها من فمه ثم راح يثرثر لمدة طويلة فإذا ما كف عن الكلام أعادها ثانية إلى فمه، في حين كان يجب أن يدرك أن فاعليتها تكمن في تذكيره بضرورة الصمت (متى أراد الكلام) فيمسك عن الكلام، ويبدو أنه أراد بذلك أن يقلد القديس أرسانيوس، ولكنه من غير المقبول أن يبدأ شخص ما من حيث انتهى القديسون بل عليه أن يتدرب قليلا قليلا فالنمو الطبيعي أكثر ضمانًا من الطفرات والحماسة الوقتية) ومع ذلك فإن كتاب بستان الرهبان يعكس في الحقيقة الحياة الرهبانية في القرون من الرابع إلى السادس الميلادي، بكل ما فيها من جهاد شديد إلى فضائل وإلى معجزات، ولكن بلاديوس كان مثل من يقطف الثمار، غير أن هذه الثمار سبقها تفليح للأرض وتعب وسهر وجهاد ودموع وعرق مما يفوق الوصف، فقد كانت الجماعات الرهبانية آنذاك صورة صادقة ومفرحة من بين صور الكنيسة مثلها في ذلك مثل الاستشهاد ومثل عصر المجامع المسكونية والعصر الرسولي، ولعل شخص قد يسأل إن كانت الرهبنة حياة غير عادية؟