الكنيسة القبطية في القرن الثامن عشر
البابا مرقس (يؤانس) الثامن
البطريرك الثامن بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1796 - 1809م)
«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)
أحوال الكنيسة القبطية تحت الاحتلال التركي العثماني، ومع احتلال الحملة الفرنسية لمصر، بالإضافة إلى الحملات المتواترة ضد الأقباط من عامة الشعب في كل مناسبة.
قد تضاعَف البطش بدخول الإنجليز مصر:
ذلك أن العدو الإنجليزي كـان على وشـك الانقضاض على مصر، وكانت الحملة الإنجليزية في طريقها إلى مصر، ووصلت إلى شواطئ مصر بعد حدوث خلاف بين قادة الحملة الفرنسية التي كانت على وشك الرحيل من مصر؛ مِمَّا عجَّل من تصميم الإنجليز على طرد الفرنسيين من مصر، وذلك بالتعاون مع الأتراك في عملياتهم العسكرية ضد الفرنسيين. ولذلك وضع الإنجليز والأتراك خطة لمهاجمة مصر من نواحٍ متعددة.
+ وأرسل الإنجليز مركبَيْن إلى البحر الأحمر، وأطلقوا مدافعهم على منطقة السويس. وكان ذلك هو البادرة الأولى للتدخُّل الإنجليزي الفعلي بالتحالُف مع الأتراك لإخراج الفرنسيين من مصر.
+ ولمَّا جاء لنابليون نبأ تدمير الإنجليز لأسطوله في خليج أبي قير، حَزِنَ حُزناً شديداً لانقطاع كل اتصال بينه وبين فرنسا(1). ولكنه أَظْهَر الجَلَد واستمر في تقوية مركزه في مصر وتحصين الموانئ والبلاد،
حتى قـام في الثغر الإسكندري بهَدْم الكنيسـة المرقسية ومنارتيهـا الحصينتين خشيـة أن يستولي عليها الإنجليز مـن البحر ويعتصموا بها لمقاومة الفرنسيين. فاضطر كهنة الكنيسة إلى حَمْل كل أَثَرٍ نفيس فيها إلى كنيسة رشيد مدة الاحتلال الفرنسي، وإقامة الشعائر الدينية بكنيستها هناك(2).
المصريون يُهاجمون الفرنسيين،
والفرنسيون يُطلقون عليهم المدافع:
وقد ازداد استياء المصريين من تصرُّفات الفرنسيين، حتى خرج سُكَّان القاهرة عليهم خروجاً عاماً في 10 جمادي الأولى/ 22 أكتوبر 1798م/ 14 بابة سنة 1515ش. واستفحل أَمْر الثورة، وأَظْهَر فيها عامة الشعب المصري إقداماً كبيراً لم يحدث مـن قبل، فذبحوا الكثير مـن الفرنسيين، ثم تحصَّنوا في الأحياء الشعبية. فلم يَكَد نابليون يسمع بالخبر، حتى أرسل العسكر إلى مواضع المتاريس وصوَّب عليها المدافع، ما أدَّى إلى فزع القاهريين، مِمَّا اضطر شيوخ الأزهر إلى الذهاب إلى بونابرت وإظهار خضوعهم له، فأشبعهم تأنيباً وتعنيفاً على ما سبَّبوه من سفكٍ للدماء. ثم أَمَرَ بالكفِّ عن إطلاق نيران مدافعه.
ثم دخل الفرنسيون المدينة، وتجوَّلوا في أسواقها لإعادة النظام والسكينة، واحتلوا بخيولهم الجامع الأزهر. لكن المشايخ أرسلوا وفداً إلى نابليون يلتمسون فيه إصدار الأَمر بإخلاء الجامع الأزهر من الجُند، فأجاب مُلْتمسهم بعد التحذير والتهديد(3). ويُلاحَظ أنَّ المعارك ضد الفرنسيين لم يخُضها لا الأتراك ولا المماليك، إنما خاضها الشعب المصري وحده منذ البداية، وخاصةً سُكَّان القاهرة(4).
الأتراك ينتهزون الفرصة لقتل المسيحيين:
وأراد الأتراك أن يتسلَّوْا خلال انتظارهم عمَّا سيحدث للفرنسيين، فلم يجدوا من تسلية تشغلهم غير قتل الأقباط؛ إذ نادَى نصُّوح باشا وسط السوق: ”قاتلوا النصارى وجاهدوا فيهم“! فلما سمع العامة هذا النداء، هاجوا، واندفعوا إلى الحارات يقتلون كل مَن يجدونه منهم، ثم هجموا على بيوت الأقباط بناحية ”بين السورَيْن“ و”باب الشعرية“ و”الموسكي“.
تركي آخر ينتهز الفرصة
لاكتناز المال من الأقباط:
أما ”عثمان كتخُدا“ فقد رأى أنَّ اكتناز المال أنفع له من قتل الناس، فأعلن أنَّ كل مَن يقبض على ”نصراني“ أو ”يهودي“ يُحضِره إليه. وحين يقع هؤلاء في قبضته، يُطالبهم بمبلغ مُعيَّن من المال مقابل إطلاق سراحهم(5).
ورأى الأقباط أنَّ خير وسيلة أمامهم هي الهرب مـن القاهرة. فكانـوا يـأخذون نساءهم وأولادهم ويتسلَّقون الجدران والأسوار ويذهبون إلى مصر القديمة أو إلى الجيزة.
+ أمـا الفرنسيون فتسلَّوْا بدورهم بإشعال الحرائـق في بعض أحياء القاهـرة، وأهمهـا ”بولاق“. وفي وجه هـذه القُوَى المُعتدية، ثـار القاهريون ثورتهم الثانية التي استمرت 37 يوماً. ولكن باءت بالفشل في النهاية.
جلاء الفرنسيين عن مصر، تحت ضغط
الإنجليز والعثمانيين الأتراك:
ففي أواخر يونية عام 1801م، آثر القائد الفرنسي لحامية القاهرة التسليم في أواخر يونية 1801م للإنجليز والعثمانيين الأتراك. وشدَّد الإنجليز الحصار على الإسكندرية، واضطر قائد الحملة الفرنسية ”مينو“ إلى التسليم في سبتمبر 1801م. وعلى هذا النحو تمَّ جلاء الفرنسيين عن مصر في أكتوبر من العام نفسه. ولما عُقِدَ الصُّلح الأوروبي في معاهدة ”أميان“ (مارس 1802)، عادت مصر إلى حظيرة الدولة العثمانية كما كانت قبل مجيء الحملة الفرنسية(6).
مصر بعد جلاء الفرنسيين،
وعودة الحُكْم العثماني:
لقد تبدَّلت الفرحة التي عمَّت جماهير مصر، وظنَّها المؤرِّخ ”الجبرتي“ في كتابه ”مظاهر التقديس“ تباشير عودة إلى العدالة وسلوك سواء السبيل، سرعان ما تبدَّلت وأُصيبت بانتكاسة شديدة تحت وطأة هذا العهد من الفوضى السياسية التي أعقبت جلاء الفرنسيين، وامتدَّت ما بين سنتَي 1801، 1805. وذلك لأن العثمانيين عندما عادوا إلى مصر، كانت الفكرة المُسيطرة على أذهانهم أنهم يغزون بلاداً جديدة، وأنَّ لهم - بفضل هذا الغزو الجديد - أن ينهبوا ويسلبوا أرزاق المصريين. وفي غضون هـذه السنوات الخمس، بلغ التذمُّـر الجماهيري مداه إثر خيبة الأمل العارمة التي مُني بها الشعب المصري الذي كان ينتظر العدل والإنصاف مـن العثمانيين المسلمين بعد جـلاء الفرنسيين الملاحدة (حسب وصف الشعب)، وأعلن العلماء (أي المشايخ) على لسان الجماهير رفضهم للظُلم أيّاً كان مصدره، سواء أكان مصدَرَه الفرنسيون أعداء الدين، أم كان مصدَرَه العثمانيون حُماة الدين كما كانوا يدَّعون(7).
المؤرِّخ الجبرتي يُعدِّل موقفه، ويُسجِّل
مفهوماً جديداً للعدالة غير مرتبط بالدين:
سجَّل المؤرِّخ ”عبد الرحمن الجبرتي“ هذا التحوُّل في الرأي العام المصري في كتابه: ”عجايب الآثار“، وحَمَل فيه على الدولة العثمانية واعتبرها مسئولة عن الشقاء الذي عانَى منه المصريون، وعاد ليُثني على الفرنسيين في مواضع عدَّة من هذا الكتاب. وبلغت موجة العداء للعثمانيين درجة جعلت علماء الأزهر يُرحِّبون في جمادي الثاني 1217 هجرية/ أكتوبر 1802م بمبعوث فرنسـا ”المسيو سباستياني“ Sebastiane الوزير المفوَّض من قِبَل نابليون، ويُصارحونه بتمنِّيهم عودة الحُكْم الفرنسي لمصر مرة أخرى!! وعلَّق ”سباستياني“ على هذا الاجتماع في تقريره إلى حكومته بقوله: ”إنه دُهِشَ مِمَّا أبداه المشايخ من شجاعة في إعلان رغبتهم في أن يصبحوا مرة أخرى رعايا القنصل الأول“!!
كان الشعب المصري، بعد محنتين متتاليتين: محنة الحملة الفرنسية، ثم محنة عودة العثمانيين؛ يُفتِّش عن مجتمع تسوده العدالة. ولكن ما رآه الجبرتي من أعمال العثمانيين جعله يتذكَّر الفرنسيين بالخير، ويذكُر على لسان الفلاَّحين حنينهم لحُكْم بونابرت في مقارنته لِمَا نزل بهم من المظالم العثمانية؛ بل إنَّ المظالم التي أنزلها العثمانيون بالشعب المصري، رفعت من مستوى الوعي الجماهيري عموماً، ووَعْي الطبقة المُثقَّفة على وجه الخصوص. فالجبرتي ينقل حواراً عن المشايخ في أَمْر المُفاضلة بين الفرنسيين والإنجليز الذين كانوا يتظاهرون بالدفاع عن المصريين بالاتفاق مع المماليك، وذلك في أحداث يوم الأربعاء 29 محرم 1222 هجرية، ويخلصون من هذا الحوار إلى تفضيل الفريق الأول (أي الفرنسيين). وردُّ الجبرتي في تعليل هذا التفضيل يحمل مفهوماً جديداً هو:
”
العدالة غير مرتبطة بالدين“
:
فالفرنسيون الذين لا دين لهم، كانوا أعدل من حُكَّام مصر (العثمانيين) ومن الإنجليز المتحالفين مع المماليك، بما لا يُرْجَى الخير منهم لكونهم متعاونين مـع حُكَّام مصر الأوَّلين (العثمانيين الأتراك). وهـو يدعو إلى عدم تصديق دعواهم (الإنجليز) في حماية مصر قائلاً: ”لا تُصدِّقوا أقوالهم في ذلك، وإذا تملَّكوا البلاد، لا يبقون على أحدٍ من المسلمين، وحالهم ليس كحال الفرنسوية. فالفرنسوية لا يتديَّنون بدين، ويقولون بالحرية والتسوية (أي المساواة، وهي أحد شعارات الثورة الفرنسية). أمَّا هؤلاء الإنجليز فهُم نصارى على دينهم ولا يُخفون عداوة الأديان (غير المسيحية)، ولا يصحُّ الالتجاء إليهم“(8).
نَقْل الكرسي البطريركي إلى الأزبكية،
وتاريخ الكرسي البطريركي الإسكندري:
+ إنَّ كرسي الإسكندرية كان – وما يزال – مقرُّه الرسمي مدينة الإسكندرية، وذلك منذ تأسيس الكنيسـة المصريـة عـام 60م. وأسقف مدينة الإسكندرية، حسب القوانين المجمعية المسكونية، هو المتقدِّم بين أساقفة مصر وليبيا وإثيوبيا، ويُسمَّى: رئيس الأساقفة والبطريرك والبابا الإسكندري.
+ وبسبب الغـزو العربي، ووجـود الهيئـات الحكومية في الفسطاط (مصر القديمة)، انتقل مقر البابا الإسكندري إلى القاهرة، منذ عهد البابا خريستوذولو البطريرك الـ 66؛ حيث اتَّخذ لهذا الغرض كنيسة العذراء المُسمَّاة ”المُعلَّقة“ بالفسطاط في منتصف الجيل الحادي عشر الميلادي.
+ ثم انتقل مقر البابا بعد ذلك إلى كنيسة الشهيد مرقوريوس المُسمَّى ”أبو سيفين“ بدرب البحر بمصر القديمة، التي جعلها البابا غبريال الثاني البطريرك الـ 70 مقرّاً لإقامته حوالي النصف الأول من القرن الثاني عشر. ثم رجعت إقامة البابا البطريرك إلى الكنيسة المعلَّقة في أيام البابا مرقس الثالث البطريرك الـ 73.
+ واستمر البطاركة ينقلون مقرَّ إقامتهم من الكنيسة المُعلَّقة إلى كنيسة الشهيد مرقوريوس، وبالعكس، فترات متعدِّدة.
+ وفي أوائل القرن الرابع عشر، انتقل البطاركة إلى كنيسة السيدة العذراء الأثرية بحارة زويلة في أيام البابا يؤانس الثامن البطريرك الـ 80 في سنة 1303م. واستمرَّت إقامة البابا الإسكندري في القلاية (كلمة قبطية Kelia تعني: ”مسكن لفردٍ واحد“) البطريركية في مباني هذه الكنيسة الأثرية إلى أن نَقَلَ البابا متَّاؤس الرابع البطريرك الـ 102 مقرَّ إقامته من كنيسة العذراء بحارة زويلة إلى كنيسة حارة الروم الأثرية في سنة 1660م. ولبثت إقامة البابا البطريرك في هذه الكنيسة إلى آخر زمن البابا يؤانس الثامن عشر البطريرك الـ 107، حتى قام خليفته البابا مرقس (يؤانس) الثامن البطريرك الـ 108 بنَقْل مقر الإقامة من حارة الروم إلى الأزبكية بشارع كلوت بك، إلى أن انتقلت إقامة البطريرك إلى المقر البابوي بأرض الأنبا رويس في عهد البابا شنودة الثالث (1971-2012م).
+ وكان السبب في انتقال البابا مرقس الثامن إلى حارة الروم، هو استيلاء الفرنسيين على حُكْم مصر، ما اضطر البابا مرقس الثامن (الذي نسرد سيرته الآن) إلى الانتقال إلى الكاتدرائية الجديدة التي كان قد بناها الأرخن المبارَك إبراهيم الجوهري قبل نياحته(9).
الكاتدرائية المرقسية بشارع كلوت بك بالأزبكية
كيفية بناء الكاتدرائية المرقسية بالأزبكية؟
كان المعلم إبراهيم الجوهري قد قام باستصدار فرمان (قانون) من السلطان العثماني ببناء هذه الكنيسة، وأودعه في القلاية البطريركية في عهد البابا يؤانس الثامن عشر البطريرك الـ 107. وقام بعد ذلك بشراء محلاَّت ثم هدمها، وقام بإعداد موقع لبناء الكنيسة التي كان يُزمع بناءهـا، فوضع أساساتها أولاً، ثم بنى بجوارها المسكن البطريركي الذي سكن فيه لأول مرة البابا مرقس الثامن عندما انتقل من حارة الروم إلى المقر البطريركي الجديد.
+ واضطر البابا مرقس الثامن، بسبب حالة الثورة التي كانت عليها البلاد عامة والقاهرة بصفة خاصة، أن يؤدِّي صلوات أسبوع البصخة (الفصح) المقدَّسة ثم الاحتفال بعيد القيامة المجيد، في سُرادق بفناء الكاتدرائية، كان من ضمن الأماكن التي بناها المعلم إبراهيم الجوهري بجوار أرض الكنيسة؛ لأنه لم يقدر أحدٌ على الخروج من الأزبكية ولا الدخول إليها بسبب الثورة السالف ذِكْرها، والتي كانت سبباً في حَرْق أماكن كثيرة ونَهْب مخازن التُّجَّار والمنازل، ما كان يُسبِّب شدَّة عظيمة على كل طوائف المسيحيين.
+ ولمَّا هدأت الأحوال في البلاد، ورفرف السلام عليها، واستتب الأمن فيها، وصار الناس في طمأنينة؛ أمكن القيام بتشييد الكنيسة التي سبق أن وضع أساساتها المعلم إبراهيم الجوهري، وأكملها على أحسن نظام(10).
+ وفي يوم الأحد المبارك الخامس من شهر توت 1517ش/ 1800م، قام البابا مرقس الثامن البطريرك الـ 108، بتكريس الكاتدرائية على اسم القديس مرقس الإنجيلي ناظر الإله عِوَضاً عـن الكنيسة المرقسية بالإسكندرية التي هدمها الفرنسيون.