القلب العطوف
+++++++++++++
كلمتكم في مقالنا السابق عن القلب الكبير المملوء بالتسامح والعفو، وهو أيضًا القلب العامر بالسلام والطمأنينة. واليوم أود أن أحدثكم عن القلب العطوف المملوء بالحنان والرقة الذي يفيض إشفاقًا على كل أحد، حتى على الذين لا يستحقون..!
وحنو الإنسان على غيره قد يشمل الكائنات جميعًا. فيحنو على العصفور المسكين، وعلى الزهرة الذابلة، وعلى الشجرة العطشى إلى الماء. ويحنو على الحيوان الضعيف الخائف من وحش يفترسه!
وقد يكون الحنو من نواحي مادية أو جسدية. كما يكون من نواحٍ نفسية أو معنوية. وخلاصة الأمر أن القلب العطوف يفيض بحنانه في كل المجالات وعلى الكل. فيشفق على الفقير المحتاج، وعلى المريض المتألم. كما يشفق على اليائس المتعب نفسيًا، وعلى الخاطئ الساقط المحتاج إلى من يأخذ بيده ويقيمه.
والحنان ليس مجرد عاطفة في القلب، وإنما القلب العطوف تتحول فيه العاطفة إلى عمل جاد من أجل إراحة الغير. ذلك لأن الحنان النظري هو حنان قاصر ناقص، يلزمه إثبات وجوده بالعمل. فهو لا يحنو بالكلام واللسان، بل بالعمل والحق.
إن القلب العطوف يمكنه أن يكسب الناس بحنوه. أما القلب القاسي فينفّرهم. لأن القلب القاسي دائمًا يحطم ويهدم. وقسوته لا تشفق ولا ترحم. إنها نار تأكل كل شيء، حتى نفس القاسي! أما الناس فيحتاجون إلى من يعطف عليهم، وإلى من يأخذ بأيديهم، فيشجع الضعيف، ويقيم الساقط. من يفهم ظروف الناس واحتياجاتهم وتكون له روح الخدمة، فيخدم الكل، ويساعد الكل ويعينهم. ولا يحتقر ضعفات الناس. بل يشددّ الركب المخلّعة والأيدي المسترخية.
القلب العطوف يجول يصنع الخير. ولا يقول عن الساقطين الخاطئين إنهم لا يستحقون. بل يرى بالحري أنهم يحتاجون.
أليس أن الله تبارك اسمه وهو في علو قداسته، نراه يشفق علينا، ونحن في عمق خطايانا. وهكذا يستر ولا يكشف! وكم من أناس غطسوا في الشر، فلم يكشفهم ولم يفضحهم، ولم يشأ أن يعلن مساوئهم للناس. لأنهم لو انكشفوا لضاعوا، وانسد أمامهم الطريق إلى التوبة بعد فقدهم لثقة الناس..!
لذلك فأن القلب العطوف لا يتحدث عن أخطاء الناس، ولا يشّهر بها، ولا يقسو في الحكم عليها. بل قد يجد أحيانًا لهم عذر، أو يخفف من المسئولية الواقعة عليهم. وإن قابلهم، لا يفقد توقيره لهم، معطيًا إياهم فرصة لإصلاح وضعهم. بل أنه قد يضحي بنفسه من أجلهم، ويحمل بعض المسئولية عوضًا عنهم.
قال أحد القديسين "إن لم تستطع أن تمنع من يتكلم على الغير بالسوء، فعلى الأقل لا تتكلم أنت". وقال أيضًا "إن لم تستطع أن تحمل خطايا الناس وتنسبها إلى نفسك لتنقذهم، فعلى الأقل لا تستذنبهم وتنشر خطاياهم".
إن القلب العطوف يعيش في مشاعر الناس: يتصور نفسه في مكانهم، ولا يجرح أحد. ويبرهن على نقاوة قلبه بعطفه على الكل... وهو يعرف أن الطبيعة البشرية حافلة بالضعفات. وربما أقوى الناس تكون في حياته أيضًا ثغرات. لذلك فأن القلب العطوف ينظر إلى الناس في حنو، حتى في سقوطهم أيضًا. وبهذا كان أقوى المرشدين الروحيين هم الذين يفهمون النفس البشرية، ولا يقسون عليها في ضعفاتها.
إن القلب العطوف، لا يعامل الناس بالعدل المطلق مجردًا، بل يخلط بالعدل كثيرًا من الرحمة. ولا يزن بميزان عدل جاف حرفي يطبق فيه النصوص. بل أيضًا يقدّر الظروف المحيطة، سواء كانت عوامل نفسية أو وراثية أو تربوية أو عوامل اجتماعية. أما الذي يصب اللعنات على كل مخطئ، دون أن يقدّر ظروفه أو يفحص حالته، فإنه قلب لا يرحم.
القلب العطوف لا يحكم على أحد بسرعة. بل يعطي كل أحد فرصته للدفاع عن نفسه وتوضيح موقفه.
وهو لا يكثر اللوم والتوبيخ.. وإن وبّخ، فإنما يكون ذلك بعطف وليس بقسوة. وقد يقدّم لتوبيخه بكلمة تقدير أو كلمة حب، حتى يكون التوبيخ مقبولًا. وإن احتاج الأمر منه إلى حزم وشده، فقد يفعل ذلك مضطرًا. ولكنه في مناسبة أخرى يصلح الموقف. ويعالج بالحنو نفسية ذلك المخطئ.
والقلب العطوف لا يُخجل أحدًا ولا يجرح أحدًا. وقد يشير إلى الخطأ من بعيد بألفاظ هادئة. وربما بطريق غير مباشر، وربما في السرّ وليس في أسماع الناس.
أما الذي يرجم الناس بالحجارة، فعليه أن يتروى، لئلا يكون بيته من زجاج... وليعلم أن كل الفضائل بدون المحبة ليست شيئًا، وأن المحبة تتأنى وترفق، وتكسب الناس بالحنو، ولا تخسرهم بالقسوة. ورابح النفوس حكيم.
أيضًا القلب العطوف دائمًا يعطي.. وهو يعطي في حب، وباستمرار، دون أن يُطلب منه، بل بدافع داخلي..
إنه دائم التفكير في احتياجات الناس ليقوم بها، دون أن يقولوا له.
هذا القلب العطوف يريد أن يريح الناس وأن يسعدهم. وإن وُضعت في يده مسئولية، يستخدمها لراحة الناس. وإن وهبه الله ثروة أو سلطة أو أيه إمكانية، فإنه يستخدمها أيضًا لأجل راحة الناس، كل الناس.
والقلب العطوف لا يستطيع أن ينام، إن عرف أن هناك شخصًا في تعب أو احتياج. بل يظل يفكر ماذا تراه يفعل لأجله. لذلك كان من المستحيل على مثل هذا القلب أن يؤذي أحدًا، لأنه يتألم لآلام الناس أكثر من تألمهم هم...
والقلب العطوف يعطي من حبه وليس من مجرد جيبه، ويُشعر الآخذين من عطائه أنه من إنسان محب، وليس مجرد محسن. ). وهو يعطي الكل. ولا يقتصر على الأصدقاء والأحباء وذوي القربى أو أخوته في الدين والمذهب، بل هو يريح الجميع.
وهو يعطي بكور إيراداته، أي أوائل ما يصل إليه لكي يبارك الله الكل. يعطي المرتب الأول الذي يتقاضاه، والعلاوة الأولى، وأول ما يصل إليه من إيراد. فالجرّاح مثلًا يعطي أجر أول عملية يجريها، والطبيب يعطي أجر أول كشف، والمدرس يعطي أجر أول درس خصوصي. والصانع يقدم أجر أول عمل يقوم به. والزارع يعطي أول حصيد أرضه، وأول ثمر شجرة. كل ذلك يُقدّم عطية للمحتاجين والمعوزين.
وأجمل ما في العطاء أن يعطي الإنسان من أعوازه ليسد احتياج غيره. وفي هذا منتهى الحب والحنو. لأن فيه تزول الذاتية، وتحل محلها محبة الغير، بل تفضيل الغير على المعطي نفسه.
وفي كل هذا، يشعر القلب العطوف إنه إنما يعطي من مال الله لعيال الله، دون أي فضل من جهته! وكيف ذلك؟
في الواقع أننا لا نعطي شيئًا من مالنا، بل من الله الذي أعطانا ما نعطيه، وأعطانا أيضًا موهبة العطاء. فكل شيء نملكه هو ملك لله. ونحن مجرد وكلاء على ما عندنا من مال، قد استودعنا الله إياه لكي ننفق منه على وجهات الخير. وهو الذي يعطي القلب العطوف ما فيه من عطف وإشفاق