تكريم و رشم الصليب المقدس
يعتقد البعض من مخالفي العقيدة الأرثوذكسية أنَّ الصليب هـو علامة مجرَّدة أو إشارة رمزيـة لحادثـة صلب المسيح؛ لذلك لا يجدون باعتقادهم هذا أي داعٍ لاحترام الصليب أو السجود أمامه، بل إنهم يتمادون في تحرُّرهم إلى إنكار لزومية رسمه أو الإشارة به(1).
ولكن الصليب ليس مجرد علامة أو إشارة، بل هو أعمق من هذا بكثير، فهو يحمل صفة شخصية مُلازمة للمسيح، كما يُعرِّفه الملاك لمريم المجدلية (بعد قيامة المسيح):
«إني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب» (مت 28: 5).
فعملية الصلب لم تكن حادثاً حدث وانتهى، بل هي حادثة استعدت لها كل الأزمنة السابقة لها، وحملتها كل الأجيال اللاحقة، كبابٍ حي مفتوح للخلاص والعبور إلى الملكوت المعدِّ.
+ فمن قبل أن يُبيد المسيح قوة الموت بالصليب، وُجد أتقياء الله الذين لهم دالة وجراءة أمام الله، ما تجاوزت وتخطَّت طاعة العبيد، مثل:
إلحاح إبراهيم على الله أن يصفح عـن أهل سدوم وعمورة (تك 18: 23-33)؛
وملاججة موسى النبي لله بسبب التهديـد الإلهي بـإبـادة الشعب (خر 32: 7-14)؛
وكما رفع موسى النبي الحيَّة النحاسية في البرية على راية حتى كل مَـن نظر إليها (مجرد النظر) وقـد لدغته الحية المُحرقة يبرأ، وصارت هــذه رمزاً لحقيقة الصليب في العهد الجديد (عد 21: 9،8؛ يو 3: 15،14).
وهكذا يقول القديس كليمندس أسقف روما في القرن الأول:
[وقال موسى لله: «والآن إن غفرتَ خطيتهم، وإلاَّ فامْحني من كتاب الأحياء» (خر 32: 33 الترجمة السبعينية). فما أعظم المحبة، ويا لروعة الكمال! خادم يتكلَّم بجرأة أمام الرب، يسأله المغفرة للشعب، وإلاَّ فلْيُمحَ هو أيضاً معهم من كتاب الأحياء](2).
+ ومن هنا صار الصليب يُسمَّى سر الصليب، الذي يُكنى به عن ذبيحة المسيح على الصليب عند الجلجثة، هذه الذبيحة التي قال عنها بطرس الرسول:
«افتُديتم ... بدم كريم، كما من حَمَل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهِر في الأزمنة الأخيرة لأجلكم» (1بط 1: 18-20).
فسرُّ الصليب قائمٌ منذ ما قبل التجسُّد، بل وما قبل ناموس موسى، صانعاً المصالحة الإلهية مع شعب الله في القديم كلما أخطأوا؛ لكنه أُظهر في العهد الجديد لمصالحة العالم مع الله في ابنه يسوع المسيح: «... الله كان في المسيح مُصالِحاً العالم لنفسه» (2كو 5: 19).
+ وهكذا لا يزال المصلوب يحمل في يديه ورجليه جروح الصليب حتى هذه الساعة، كما رآه القديس يوحنا الرائي وسط عرش الله: «خروف قائم كأنه مذبوح»!
بل إن «ربوات ربوات وألوف ألوف (يصرخون في السماء) قائلين بصوت عظيم: مستحق هو الخروف المذبوح»
+ فإذا كانت ذبيحة الصليب تخطَّت الزمن منذ ما قبل تأسيس العالم (1بط 1: 20،19). فالصليب لا يزال قائماً يعمل بقوة الدم المسفوك عليه: «عاملاً الصُّلح بدم صليبه» (كو 1: 20). والقديس بولس وصف مجرد كلمة الصليب بأنها:
«عندنا نحن المُخلَّصين هي قوة الله» (1كو 1: 18).
عقيدة الصليب مرتبطة بالحياة المسيحية:
إن عقيدة الكنيسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل الحياة الروحية المسيحية، وتُعطيها اتجاهها الصحيح. وأيُّ انحراف عن الحقائق العقائدية يؤدِّي إلى فهم غير صحيح للواجبات الروحية للمؤمن المسيحي.
وقد حدَّد ربنا يسوع المسيح الواجبات السلوكية للإنسان المسيحي في وصيتين اثنتين:
1. وصية محبة الله من كل القلب والنفس والفكر والقدرة.
2. وصية محبة القريب كالنفس.
ولكن مخلِّصنا الصالح علَّمنا أن تنفيذ هاتين الوصيتين تنفيذاً كاملاً، لا يمكن تحقيقه إلاَّ بجحد الذات، أي بذل الذات. وهذا ما يتطلَّبه الجهاد الروحي.
+ ومن أين يحصل المؤمن المسيحي على القوة للجهاد الروحي؟
إنه ينال هذه القوة من خلال شركته مع المسيح، من خلال محبته للمسيح التي تُلهمه أن يتبع المسيح.
ويُسمِّي المسيح هذا الجهاد لتبعية المسيح أنه نير (والنير هو لوح الخشب الثقيل الذي يُركَّب في عُنق ثوريـن يجرَّان محراثاً ثقيلاً)، حيث يقول المسيح:
«احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب. فتجدوا راحة لنفوسكم، لأن نيري هيِّن (خفيف الوزن)، وحِمْلي خفيف» (مت 11: 30،29).
وسرُّ خفة الوزن والحِمْل لهذا النير، هو أنَّ المسيح اشترك معنا قبلاً في حمله، وهكذا يقع معظم الثقل على المسيح!
+ لذلك فالطريق الروحي للمسيحي، هو طريق الصليب والجهاد الروحي.
وبكلمات أخرى، إنه طريق الصبر واحتمال الأحزان والاضطهادات من أجل المسيح، وقبول الأخطار والمظالم من أعداء صليب المسيح، ورفض قبول مُتع وشهوات العالم والجسد من أجل المسيح؛
حيث يُجاهد الإنسان ضد الأهواء والشهوات المضادة لحياة الطهارة والنقاوة والقداسة.
+ واختبار السير في هذا الطريق في اتِّباع المسيح، يُسمِّيه رسول المسيح القديس بولس:
«مع المسيح صُلِبتُ» (غل 2: 20)،
و«حاشا لي أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلِبَ العالمُ لي وأنا للعالم» (غل 6: 14).
وقد اكتمل جهاد القديس بولس في آخر حياته بموت الاستشهاد، وذلك باتِّباعه طريق صليب المسيح.
+ وكل المؤمنين مدعوُّون لأن يُجاهدوا كل واحد بقدر طاقته:
«الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات» (غل 5: 24)
والحياة المسيحية لا يمكن أن يكون لها وجود بدون هذه المعركة، أي جَحْد الذات. لذلك يقول الرسول بولس عن الذين لم يسلكوا هذا الطريق، طريق صَلْب الجسد مع الأهواء والشهوات بأنهم:
«أعداء صليب المسيح» (غل 3: 18).
+ وكل تاريخ الكنيسة قائم على هذا الجهاد:
+ فأولاً آلام وتعاذيب الشهداء في القرون الأولى للمسيحية، وحتى عصرنا الحاضر (وآخرهم شهداء ليلة عيد الميلاد هذا العام 2010 في نجع حمادي).
+ أتعاب وآلام أعمدة الكنيسة المدافعين عن الإيمان.
+ ثم جهادات القديسين في جهادهم ضد الجسد، بالنسك والصوم والصلاة، في البراري والقفار؛ ومعهم أيضاً الأتقياء العائشون في العالم، وأولئك وهؤلاء يُسمون ملائكة أرضيون وبشر سمائيون.
+ وحتى اليوم، تتزَّين الكنيسة بالمعترفين (الذين يتعذَّبون من أجل إيمانهم بدون استشهاد)، والشهداء من أجل الإيمان بالمسيح.
+ وكل هؤلاء تسندهم الكنيسة المقدسة بالتعليم والوعظ وعرض الأمثلة المقدسة من الكتاب المقدس وسِيَر القديسين والقديسات، الذين عاشوا في سهر، وفي دموع، وفي أصوام، وفي طلبات وصلوات ليلاً ونهاراً، بحياة التوبة الدائمة.
+ هذا هو الطريق الذي يسلك فيه أتباع المسيح، كأعضاء في جسده الذي هو الكنيسة. وقد اعتبر الإنجيل أن التألُّم من أجل المسيح موهبة:
«وُهِبَ لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط،
بل أيضاً أن تتألموا لأجله» (في 1: 29).
وهذه هي الرؤيا التي رآها في رؤياه للسماء القديس يوحنا اللاهوتي (رؤ 7: 9-17)، رؤيا الذين أتوا من الضيقة العظيمة؛ فالحَمَل المذبوح الواقف أمام عرش الله (كأنه مذبوح) يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم.
+ والكنيسة في كافة مراحل حياتها عانت من الأحزان والاضطهادات واستشهاد أفخر وأقدس خُدَّامها، وكأنهم هم حصاد الله .
+ بينما في مراحل أخرى من حياتها عانت من الأحزان والمضايقات، وأحياناً الاستشهاد أيضاً من أعداء صليب المسيح؛
وفي أحيان أخرى، من داخل الكنيسة أيضاً، مِمَّن لم يكونوا أعضاء حقيقيين في جسد المسيح، بل كان بعضهم حتى مُعتَبَرين أنهم كانوا خدام صليب المسيح.
+ وهكذا نكون قد حدَّدنا أولاً عقيدة الصليب، الصليب الذي هو الطريق المعدُّ للمسيحي وللكنيسة لبلوغ القيامة وأمجاد السماء.
الصليب هو قوة المؤمن والكنيسة:
إذ حينما نرزح تحت كل ثِقل والخطية المحيطة بنا، يدعونا القديس بولس إلى أن نُثبِّت أنظارنا: «ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله، يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مُستهيناً بالخزي، فجلس في يمين عرش الله» (عب 12: 2،1).
ومن مثال المسيح المصلوب، يستمد المؤمن المسيحي والكنيسة كلها، القوة والرجاء؛ إذ كما أنه بعد موت المسيح على الصليب أتت القيامة، وبالصليب انهزم الموت؛ كذلك فإن كنا نتألم نحن مع المسيح، فسوف نتمجَّد أيضاً معه (رو 8: 17). وإن كنا قد متنا معه، فسنحيا أيضاً معه (2تي 2: 11)، وسنفرح في استعلان مجده أيضاً مبتهجين(2بط 4: 13).
وأخيراً، الصليب هو آية وعلامة
منذ اليوم الذي حمل فيه مخلِّصنا الصالح صليبه الخشبي على كتفه إلى الجلجثة، وصُلِبَ عليه؛ أصبح الصليب هو الآية والعلامة والراية المنظورة للمسيحية والكنيسة وكل مؤمن يؤمن بالمسيح.
وللأسف، ليس كل واحد ينتمي للمسيح له مثل هذا الفهم السابق للإنجيل؛ بل إن هناك طوائف مسيحية تُنكر أن الصليب هو علامة منظورة للمسيحية، معتبرة ? خطأ ? أن الصليب ما زال أداة اللعنة.
ويُحذِّرنا القديس بولس ضد ما أسماه: عثرة الصليب
(غل 5: 11) التي هي اللعنة، لئلا تتعطَّل فاعلية الصليب من حياتنا؛ بل هو يحثُّ المؤمنين ألاَّ يخجلوا من الصليب كأنه علامة عار أو ضعف أو استضعاف:
إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح».
بل إنه يُخاطب اليهود الذين آمنوا وكانوا ينظرون إلى الصليب أنه علامة العار واللعنة قائلاً: «فلنخرج إذاً إليه خارج المحلة، حاملين عاره» (عب 13: 13)،
إذ أنَّ عارالصليب قد أتى بنا إلى القيامة في المجد، وأصبح الصليب هـو علامة الانتصار، وأداة الخلاص، والطريق إلى المجد.
+ وهكذا حينما نرسم أمام أعيننا دائماً صورة الصليب، أو نرسم على أنفسنا علامة الصليب؛ فإن المؤمن:
أولاً: يتذكَّر أنه مدعوٌّ لاتِّباع خطوات المسيح، حاملاً باسم المسيح الأحزان والآلام من أجل إيمانه بالمسيح.
وثانياً: هو يتقوَّى بقوة صليب المسيح في جهاده ضد الشر الذي في العالم، والأهواء والشهوات التي في جسده.
وثالثاً: هو يعترف بأنه ينتظر استعلان مجد المسيح في مجيئه الثاني الذي سيسبقه ظهور ?علامة ابن الإنسان? في السماء، بحسب كلمات الرب نفسه في إنجيل متى (24: 30). هذه العلامة سوف تكون بحسب فهم آباء الكنيسة الأبرار استعلاناً واضحاً للصليب في السماء.
+ أما رشم علامة الصليب على أنفسنا، فإنه(3):
- يطرد كل خداعات الشياطين وكل أعمال إبليس؛
- يتقوَّى به العقل والضمير والإيمان؛
- هو دواء الغضب والشهوة النجسة؛
- منذ أيام آبائنا القديسين، أبطلت علامة الصليب مفعول السُّم، وشفت عضة الوحوش السامة.
+ حينما ترفع نظرك وأنت في الكنيسة إلى خشبة الصليب المُعلَّقة فوق الهيكل، اذكر مقدار الحب الذي أحبنا به الله حتى بذل ابنه حبيبه، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16).
فأينما وُجِدَ الصليب، وُجِدت المحبة؛ لأنه هو علامة الحب الذي غلب الموت وقهر الهاوية واستهان بالخزي والعار والألم. +
**** المسيح هو المتألم وهو الغالب فينا ****
[فلنُقدِّم الشكر للرب، لأنه إذا كان قد تبنَّى قضيتنا، فذلك لكي يكتسب لنا النصرة.
وحسب الكلمة المكتوبة: إنه هو الذي يغلب فينا، وإذ يتخذ شكل العبد، يظفر بنعمة الحرية لعبيده؛ ولكي يُكمل سرَّ تدبير تعطُّفه، يتخذ حالة العبودية هذه،
ويرتضي بأن يضع نفسه عنا حتى موت الصليب. بهذا التواضع المنظور، حقَّق لنا الرفعة الداخلية وغير المنظورة، إلى السماء...
ذاك الذي لا يُقهر سيدخل المعركة لأجلنا وسيغلب فينا؛ والشيطان رئيس عالم الظلمة سيُطرح خارجاً، لأنه وإن لم يكن قد طُرد بعد من العالم... إلاَّ أنه أمكن طرده من قلب الإنسان...
الحكمة عندنا هي جهالة الإنجيل،
والقوة لدينا هي ضعف الجسد،
بالصليب، العالم هو مائت بالنسبة لي وأنا مائت عن العالم
ولكن لا أحيا بعد أنا، ولكن المسيح هو الذي يحيا فيَّ