مزمور 145 - تفسير سفر المزامير
دعوة للتسبيح
الخط الرئيسي في المزمور هو الفرح بعظمة الله ومحبته، إنه يؤكد سلطان الله الملوكي على الأرض وفي السماء. وهذا يدعونا للتسبيح له يوميًا وإلى الأبد.
جاء ترتيب آيات المزمور بحسب الحروف الأبجدية العبرية، وإن كان حرف النون ما بين العبارتين 13، 14 مفقود. وقد ورد في النصوص اليونانية القديمة والسريانية واللاتينية: "الرب أمين في كل كلماته، لطيف في كل أعماله".
كان اليهود يسبحون بهذا المزمور ثلاث مرات يوميًا في المجمع: في الصباح والظهر والمساء. وجاء في التلمود البابلي أنه يُسبح به ثلاث مرات يوميًا وله موضع خاص في العبادة في الحياة العتيدة[1].
لنسبحه يوميًا [1]، لأجل عظمته [3-6]، وصلاحه ورحمته [7-10]، وملوكيته [11-13]، وخلاصه [14]، ورعايته [15-17]، ولالتصاقه بنا [18]، ولأجل استجابته لطلباتنا [19-20]، نسبحه بلا انقطاع [21].
1. مجدلة افتتاحية
1-3.
2. الرب كلي الجلال
4-7.
3. الرب محب البشر
8-13.
4. الرب الملك معضد الساقطين
14.
5. الرب والعناية الإلهية
15-16.
6. الرب كلي الرحمة
17.
7. الرب قريب
18.
8. الرب سامع الصلوات
19.
9. الرب حافظ محبيه
20.
10. مجدلة ختامية
21.
من وحي مزمور 145
العنوان
تَسْبِيحَةٌ لِدَاوُدَ
* العنوان هو: "تسبحة لداود نفسه". تسبحة للمسيح نفسه. لقد دُعي داود، ذاك الذي جاء إلينا من نسل داود، إلا أنه هو ملكنا يسود علينا، ويأتي بنا إلى ملكوته، لذلك تفهم "تسبحة لداود نفسه" المسيح حسب الجسد هو داود، لأنه هو ابن داود. لكن بحسب لاهوته هو خالق داود، ورب داود[2].
1. مجدلة افتتاحية
كثيرًا ما يمجد المرتل الرب خلال معاملاته الشخصية معه ومع الشعب، أما هنا فيفتتح المزمور بالمجدلة للرب، الملك السماوي، فكل الخليقة تمجده وتسبحه!
أَرْفَعُكَ يَا إِلَهِي الْمَلِكَ،
وَأُبَارِكُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ [1].
تترنم الكنيسة بالآيتين 1 و2 من هذا المزمور في صباح اليوم الثاني من عيد الصليب (18 توت)، لأن الصليب في حقيقته هو عرش المجد لمحبة ربنا يسوع ملك الملوك الذي يُعد القلوب كمملكة له. كما هو سرّ الدخول في علاقة شخصية معه، فيرنم كل مؤمنٍ، قائلًا: "أرفعك يا إلهي الملك". الصليب هو أيضًا مصدر فرح وبهجة للنفس البشرية.
* "أرفعك يا إلهي وملكي. وأبارك اسمك إلى الأبد وإلى أبد الآبدين"...
ها أنتم ترون أن التسبيح لله يبدأ هنا... لتبدأوا الآن التسبيح لله، إن كنتم تريدون أن تسبحوه إلى الأبد.
من لا يسبحه في هذا الدهر الزائل، سيكون صامتًا عندما يأتي دهر الدهور[3].
* عندما تقول: "أرفعك يا إلهي، ملكي" تشهد عن العلاقة الحميمة، حتى يقول الله عنك كما قال عن إبراهيم وإسحق ويعقوب: "أنا إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب" (خر 3: 6). أقصد عندما تقول: "إلهي، ملكي" لا تقول هذا فقط، وإنما تقدم شهادة لذلك الحب، فهو بدوره يقول نفس الشيء عنك: "عبدي، وملازمي" كما قيل أيضًا عن موسى.
"وأبارك (أسبح) اسمك إلى الدهر والأبد" [1]. ألا ترون أنه يشير أيضًا إلى بداية الحياة العتيدة؟
الآن بقوله: "أبارك (أسبح)"، يقصد لا ما يُمارس بالقول فقط، وإنما بالعمل أيضًا. هذا، على أي الأحوال، هو الطريق لتمجيد الله، الطريق لتسبيحه. هذا ما أمرنا به أن نقوله في الصلاة: "ليتقدس اسمك" (مت 6: 9)، أي ليتمجد[4].
* إن علو شرفك وارتفاعك يا الله هو طبيعة فيك، وليس باكتساب (من آخر)، فأنت لا تزداد رفعة. السماوات تخبر بمجدك، والأفلاك تذيع بعلو شأنك.
من يومٍ إلى يومٍ يُعلن جلالك، وتشهد المخلوقات كلها مُظهِرة عظمتك. فكم بالحري يليق بيّ أنا الناطق الذي صنعت معي إحسانات رفيعة أن أوضح معلنًا رفعتك يا إلهي، وأبارك اسمك، أي أمجده وأحمده أيها الملك.
هذا ما أفعله في حياتي حتى وبعدها في الدهر الآتي.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
فِي كُلِّ يَوْمٍ أُبَارِكُكَ،
وَأُسَبِّحُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ [2].
* سبحوا إذن وباركوا الرب إلهكم كل يوم، حتى متى عبرت الأيام المنفردة، ويأتي اليوم الذي بلا نهاية، تذهبون من تسبحةٍ إلى تسبحةٍ، ومن قوةٍ إلى قوةٍ (مز 84: 7).
لا يعبر إليه من لا يبارك الرب. لا نعجبٍ إن كان في يوم فرحكم تباركون الرب. ماذا إذا حلّ بكم يوم حزن، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لظروف طبيعتنا الفانية، إذ يوجد فيض من المتاعب وكثرة من التجارب؟ ماذا إذا حل شيء مُحزن، هل تكفون عن التسبيح لله؟ هل تتوقفون عن مباركة الرب[5].
* نعم يا إلهي، إني أباركك في كل يومٍ، أي في وقت فرحي وفي حزني، وأسبح اسمك إلى الأبد.
* "في كل يوم أباركك، وأسبح اسمك إلى الدهر والأبد" [2]... هذه هي خاصية الروح التقية، هذه التي إذ تحررت من اهتمامات العالم تتكرس للتسبيح.
إنه لعار على الإنسان الذي وُهب عقلًا ومزايا أعظم من كل الأمور المنظورة أن يقدم تسبيحًا أقل من الأشياء المخلوقة، حيث يلزم التسبيح.
إنه ليس فقط عار بل وأمر سخيف. كيف لا يكون هذا أمرًا سخيفًا، إن كانت الخليقة ذاتها تقدم كل يوم، بل وفي كل ساعة، لسيدها تسابيح الحمد؟
تذكر ما يقوله الكتاب: "السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلامًا، وليل إلى ليل يبدي علمًا" (مز 19: 1-2). كل من الشمس والقمر والمجرة المتنوعة للكواكب والصف البديع من كل الأشياء الأخرى تعلن عن خالقها...
نحن مدينون كثيرًا لله من أجل خلقته لنا حيث لم يكن لنا وجود، وجعلنا ما نحن عليه، ومن أجل سيادته علينا (بالرعاية) عندما صنعنا، ومن أجل عنايته اليومية العامة والخاصة، السرية والعلنية، ما ندركه وما لا ندركه.
أقصد ماذا يمكن للشخص أن يقول عن الأشياء المنظورة التي خلقها لأجلنا؟ وعن الخدمات التي يقدمها لنا، وعن تكوين الجسم وسمو النفس والإمدادات اليومية خلال العجائب والنواميس والتأديبات، وعنايته المتنوعة.
أما قمة هذه الخيرات، فهي أنه لم يبخل علينا حتى بابنه الوحيد من أجلنا، والهبات التي قدمها لنا في المعمودية والإفخارستيا... في الواقع إن أحصينا كل شيءٍ من هذه، فإنكم تغرقون في محيطٍ لا يوصف من البركات، سترون كيف لا يمكن حصر ما أنتم مدينون به لرأفات الله. ليس فقط هذه، بل وأيضًا جلال مجد الله وخلوده. ها أنتم ترون أنه يليق بنا أن نسبحه على هذا ونباركه ونشكره على الدوام، ونتعبد له، ونخدمه بلا انقطاع[6].
عَظِيمٌ هُوَ الرَّب،ُّ
وَحَمِيدٌ جِدًّا،
وَلَيْسَ لِعَظَمَتِهِ اسْتِقْصَاءٌ [3].
* ربما تبدأ في الرغبة في تسبيحه، وتظن أنك قادر أن تبلغ إلى نهاية تسبيح ذاك الذي لا نهاية لعظمته. لا تظن أن ذاك الذي لا نهاية لعظمته يمكن أن تُقدم له تسبحة كافية... عظمته بلا نهاية، ليكن تسبيحه أيضًا بلا نهاية[7].
القديس أغسطينوس
* ما يعنيه: إذ لكم رب عظيم، فلترتفعوا، وتتخلصوا من شئون العالم. تبنَّوا غرضًا أسمى فوق دناءة الوجود الحاضر، لا لتكونوا متشامخين أو متغطرسين، إنما أصحاب فكرٍ عالٍ وعظيمٍ. الغطرسة والعظمة أمران مختلفان تمامًا. الشخص المتغطرس هو من يفتخر بأمور دنيا ويحتقر زملاءه العبيد، أما الشخص السامي فهو المتواضع الفكر حاسبًا كل أمور الحياة الحاضرة كلا شيء[8].
2. الرب كلي الجلال
دَوْرٌ إِلَى دَوْرٍ يُسَبِّحُ أَعْمَالَكَ،
وَبِجَبَرُوتِكَ يُخْبِرُونَ [4].
يرى القديس أغسطينوس أنه يمكن تفسير هذه العبارة بمعنى أنه يليق بكل جيلٍ أن يسبح الله، كما يمكن أن تعني أننا نسبح الله في هذا الدهر كما في الدهر الآتي.
كثيرًا ما يفسر القديس أغسطينوس التعبير "دورٍ إلى دورٍ" أو "من جيلٍ إلى جيلٍ"، بأن الحديث خاص عن الجيل الأول الذي هو حياتنا في هذا العالم، والجيل الثاني هو حياتنا في الأبدية. وكأن التسبيح يمتد كل أيام غربتنا كعربونٍ للحياة الأبدية، ويستمر في حياتنا الأبدية مع صفوف السمائيين. في هذا الجيل نسبحه من أجل خليقته الجميلة التي أوجدها لنا، أما هناك فنسبحه، لأنه هو الجمال عينه، الخالق!
* "جيل فجيل يباركون أعمالك". ربما يقصد "بجيل فجيل" أي كل جيلٍ...
أما يمكن أن يعني بالتكرار هنا جيلين؟ فإننا نحن في جيل أبناء الله، وسنكون في جيل آخر لأبناء القيامة...
إن كان الجمال يبهجك، أي جمال أعظم من الخالق؟
إن كان نفع (المخلوقات) موضع تسبيح، أي نفع أكثر من ذاك الذي خلق كل الأشياء.
إن كان السمو يُسبح، فأي سمو بالأكثر من ذاك الذي به خُلقت كل الأشياء (السامية)؟[9]
* لا يوجد زمن لا يحمل علامة على عنايته الإلهية... لن يتوقف الله عن الاهتمام بتقدم طبيعتنا في كل شيءٍ في كل زمنٍ على الدوام[10].
بِجَلاَلِ مَجْدِ حَمْدِكَ،
وَأُمُورِ عَجَائِبِكَ أَلْهَجُ [5].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "وبعظم جلال مجد قدسك يتكلمون، وبعجائبك يخبرون".
بكل امتنانٍ وشكرٍ يتأمل المرتل في عظمة الله السامية كما تعلنها أعمال خلاصه العجيبة.
* على أي حال انظروا هذا الإنسان في تأمله في أعمال الله؛ إنه ينتقل من العامل إلى العمل، ينحدر من ذاك الذي يخلق إلى الأشياء التي يخلقها.
غير أنه جعل من الأشياء التي خلقها خطوة يصعد منها إلى الخالق. لأنكم أن أحببتم هذه الأشياء أكثر منه لن تنالوه.
وأي نفع لكم أن فاضت عليكم الأعمال، إن كان العامل نفسه يترككم؟ بالحق يلزم أن تحبوه بالأكثر، تحبوه لأجل نفسه.
إنه لا يقدم وعوده بدون تقديم التهديدات أيضًا. إن لا يقدم وعودًا لا يوجد تشجيع، وإن لم يقدم تهديدات لا يوجد إصلاح.
الذين يسبحونك يتكلمون أيضًا عن سمو أعمالك المهوبة، سمو أعمال يديك اللتين تؤدبان وتعاقبان، إنهم يتكلمون عنها ولا يصمتون. فإنهم لا يعلنون عن ملكوتك الأبدي، ويصمتون عن النار الأبدية. فإن تسبيح الله يظهر أنك يجب أن تُحب، ويجب أيضًا أن تكون مخوفًا[11].
* بعد أن أشار إلى "القدرة" يُظهر أن هذه القدرة غير عادية (عجيبة) في نوعها. إنها لا تعمل بلا أساس، كما لا تعمل أمورًا مصادفة، إنما تتمم كل شيءٍ بطريقة مدهشة، وتصدر الأمور التي تفوق حدود الطبيعة البشرية، فتكون الأحداث مدهشة ومجيدة. تأملوا - على سبيل المثال - ما حدث في مصر وفلسطين في أيام إبراهيم، وفي حالة إسحق، وفي حالة يوسف؛ وأيضًا ما حدث في مصر في حالة موسى، وما حدث في البرية، وعند دخول الأرض (الموعد)... كل هذه تعلن عن قدرة الخالق ومجده وعظمته، تثير الدهشة والعجب العظيم[12].
بِقُوَّةِ مَخَاوِفِكَ يَنْطِقُونَ،
وَبِعَظَمَتِكَ أُحَدِّثُ [6].
يعدد البشر أعمال الله المهوبة، أما المرتل فيستمر في الحديث عن عظمة محبته ورعايته.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[13] أن عناية الله تُعلن خلال حنوه ورأفاته، كما خلال تأديباته. ويرى ذلك واضحًا في الخليقة نفسها؛ فالله الذي خلق لأجلنا العالم بجماله الفائق وإبداعه، هو الذي سمح بوجود المخاوف من برقٍ ورعدٍ وبراكينٍ وعواصفٍ ثلجية وفيضانات وحرائق الخ. هذه كلها تستخدمها عناية الله لأجل رجوعنا إليه، وتيقظنا من غفلتنا، وتقودنا إلى حياة السهر.
* عندما كتب الرسول العظيم بولس إلى كنيسة كورنثوس عن رؤيته السمائية، لم يكن متأكدًا إن كان قد رآها بروحه فقط أم بجسده وروحه معًا. وشهد قائلًا: "أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت. ولكني أفعل شيئًا واحدًا، إذ أنسى ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام". (في 3: 13) يتضح من هذا أن بولس وحده كان يعرف ما يوجد وراء السماء الثالثة، لأن موسى نفسه لم يذكرها عندما تكلم عن خلق الكون وأصله. استمر بولس في الارتفاع ولم يتوقف بعدما سمع عن أسرار الفردوس التي لا يُنطق بها. ولم يسمح للسمو والارتفاع الذي وصل إليه أن يحدّ من رغبته هذه.
وأكد بولس أن ما نعرفه عن الله محدود، لأن طبيعة الله أبدية، واسمي مما نعرفه، وليس لها حدود. أمّا من يتحدون مع الله، فتنمو شركتهم معه وتزداد باِستمرار في الحياة الأبدية، ويتفق هذا مع كلمات السيد المسيح: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). إنهم سيعرفون الله بقدر ما تسمح به عقولهم من فهم، إلا أن الله الغير محدود والغير مدرك يبقى دائمًا بعيدًا عن الفهم.
إن مجد الله العظيم جدًا لا حدود له كما يشهد بذلك النبي (مز 145: 3-6). يبقى الله دائمًا كما هو عندما نتطلع إليه ونفكر في علو سمائه.
هذا ولقد حاول داود العظيم بكل قلبه أن يرتفع بفكره إلى الآفاق العليا. وكان دائمًا يتقدم من قوةٍ إلى قوةٍ (مز 84: 7). وصرخ إلى الله: "أما أنت يا رب فمتعالٍ إلى الآبد". (مز 92: 8)
من ذلك يتضح أن الشخص الذي يجرى نحو الله يصبح أعظم كلما ارتقى إلى أعلى، وينمو باِستمرار في الخير حسب مستواه في الارتفاع. ويحدث هذا في جميع العصور، والله هو الأعظم ارتفاعًا الآن وإلى الأبد، ويظهر باستمرار هكذا لمن يقتربون منه، فهو أعلى واسمي من قدرات كل من يرتفعون[14].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
ذِكْرَ كَثْرَةِ صَلاَحِكَ يُبْدُون،َ
وَبِعَدْلِكَ يُرَنِّمُونَ [7].
يشهد البشر عن عظمة صلاح الله، إذ يجدون في برِّه باعثًا على التسبيح المُفرح.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[15] إننا كما نعدد الأمور المخيفة التي تستخدمها العناية الإلهية لصالحنا، يليق بنا أن نذكر الخيرات الصالحة مثل وجود فصول السنة والأزمنة والحدائق والمروج والمياه العذبة والأمطار وخصوبة التربة والثمار المتنوعة وأشعة الشمس وبهاء القمر والكواكب وهدوء الليل والأغنام الخ.، هذه التي يقدمها الله حتى لغير المستحقين.
كثيرًا ما يتحدث القديس أغسطينوس عن محبة الله وحنوه ولطفه وطول أناته، وعن أبواب الرجاء التي يفتحها أمام الخطاة لأجل توبتهم وإصلاحهم بفرحٍ، وفي نفس الوقت لا يتجاهل مخافة الرب ومهابته، وتأديباته في هذا العالم، كما يؤكد وجود نار جهنم لمن لا يقبل الحب ولا يرتدع بالتأديب.
تارة يستخدم الله المخاوف للتأديب، وتارة الخيرات وفيضها لنتلمس محبته ورعايته. بالأولى يؤدب، وبالثانية يجتذبنا نحوه.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم[16] على التهديد بوجود الجحيم نفسه قائلًا: [إنه يهددنا بالجحيم لا لكي يبلينا به، وإنما لكي لا نسقط فيه، فقد أعده لإبليس. اذكروا قوله: "إلى النار الأبدية المُعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41). لقد أعد الملكوت للبشر، مظهرًا أنه لا يريد أن يطرح البشر في جهنم.]
3. الرب محب البشر
اَلرَّبُّ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ،
طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ [8].
عظيم هو الرب، لا في قدرته وأعماله فحسب، وإنما أيضًا في حنوه ورحمته وطول أناته.
* لم يقل فقط "رحوم"، وإنما هو غني في الرحمة، مظهرًا أن هذا الغنى لا يمكن قياسه، إنما يتعدى كل الحسابات البشرية[17].
* الله يريد أن يُدعى بواسطتها: "الرب حنان ورحيم، بطيء الغضب وكثير الرحمة" (LXX)، والحق رحمة الله فوق كل الأرض. إنها تخلص جنس البشر (مز 145: 9)، فلولا تعطفها علينا لتدمَّر كل شيء.
ونحن أعداء (رو 5: 10) صالحتنا، وقدَّمت بركات لا حصر لها. لقد حثت ابن الله أن يصير عبدًا، وأن يخلي ذاته عن مجده.
دعونا نتبارى فيها بكل غيرة، هذه التي بها خلصنا. لنحبها، ونفضلها عن الغنى والثروة. لتكن لنا نفس رحومه. ليس شيء يميز شخصية المسيحي مثل الرحمة[18].
* ينبغي أن نحترس من أفكارنا ونقاومها أولًا بأول. أمّا إذا صرنا ضحيّةً للوهم، فلا نستسلم لليأس، بل بالعكس، لأنّ هذا الأمر يأتي من الشرير. ولنعلم أنّ مثل هذه الأمور يُسمَح بها لنا حتى نتعرّف على ضعفنا وأننا بشرٌ، كما أنّ هذه الأوهام تقابلنا لكي تجعلنا أكثر خبرة. وهكذا ينبغي أن ننوح لكوننا قد انخدعنا، وأيضًا لا نيأس، لأنّ "الرب حنّانٌ ورحيم" (مز 145: 8)، ويعرف ضعفنا ويتراءف علينا[19].
الرَّبُّ صَالِحٌ لِلْكُلِّ،
وَمَرَاحِمُهُ عَلَى كُلِّ أَعْمَالِهِ [9].
ما يُترجم هنا "صالح" يترجمه القديس أغسطينوس "حلو".
يمتد صلاح الله على الكل دون محاباة، وكل خليقته تتلامس مع مراحمه.
* لا تقل: "غدًا سأرجع، غدًا سأرضي الله، وكل أعمالي اليوم وبالأمس ستُغفر لي". إنك تقول الحق: الله يعد بالمغفرة بهدايتك، لكنه لا يعد بالغد والتأجيل (سي 5: 7)[20].
* الله في صلاحه يحسن إلى كافة الأخيار والأشرار، فإنه يشرق الشمس ويرسل المطر عليهم، وهكذا جميع خيراته، فإن معونته للكافة. حتى قصاصه للأشرار يحصل منه خير جزيل، إذ يمنع سوء العمل، ويقطع جريانه، ويؤدب المذنبين والذين يتبعونهم.
* ماذا يقصد بقوله: "للكل"؟ يعني للخطاة والذين يعيشون في الإثم، وليس فقط للأبرار أو الفضلاء أو للتائبين، بل بالفعل يعلن كل البشر خلال آلامهم عن رحمته وصلاحه.
إن كنتم تسألونني لمن هو صالح، أجيبكم: ليس فقط لهابيل وإنما أيضًا لقايين. ليس فقط لنوحٍ وبنيه، وإنما للذين غرقوا في الطوفان، كل الأمور كانت تتم خلال رأفته.
لكي تتعلم أنه صالح للكل تأملوا هذا... إنه يسلمهم للتأديب الذي هو بالحقيقة لنصحهم أكثر منه لعقابهم، لكي يطهر الشخص عبر الزمن من ممارسة الخطية، ويكون عبرة يتعلم منها الآخرون مما يتألم به هؤلاء...
تعبير "للكل" لا ينطبق على هذه الحالات فقط، بل على كل المنظورات، الخلائق الحية، والوحوش غير العاقلة، بل وإن صعدتم إلى الملائكة أنفسهم ورؤساء الملائكة سترون صلاحًا عظيمًا، وحنوًا عميقًا، كل عمل يتمتع برأفات كثيرة[21].
* أليس الله صالحًا؟ تذكروا كيف أشبع آلاف الجموع في البرية بخبزٍ من السماء. لقد حال دون حدوث مجاعة، ولم تكن الجموع محتاجة إلى المشاركة في العمل لكي يشبعوا. لقد نعموا بالراحة لمدة أربعين عامًا، فلم تُبلَ ثيابهم، ولم تتهرَّأ أحذيتهم.
أليس هو صالحًا؟ فقد أصعد الأرض إلى السماء، حتى مثلما تعكس النجوم بهاء مجده في السماء كالمرآة، كذلك فإن جوقة الرسل والشهداء والكهنة يتلألأون كالنجوم تمامًا، ويبعثون نورهم للعالم أجمع.
إذًا هو ليس صالح فحسب، بل أكثر من ذلك كثيرًا.
إنه راعٍ صالحٍ لخرافه... و"الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف".
إنه لنفعي أؤمن أن الله صالح، و"صالح هو الاتكال على الرب". جيد هو الاعتراف بأنه هو الرب، لأنه مكتوب: "احمدوا الرب، فإنه صالح"[22].
يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ أَعْمَالِكَ،
وَيُبَارِكُكَ أَتْقِيَاؤُكَ [10].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فلتعترف لك يا رب كافة أعمالك، وقديسوك يباركونك".
وجود الخليقة من العدم، وتدبير الله الفائق لها، ورعايته كل هذا يمثل تسبحة حمد وشكر على قدرته وحكمته وحنوه، هذه التسبحة لا يُنطق بها. أما قديسوه فيشتركون مع الخليقة في الشكر والتسبيح من أجل كمالاته عير المحدودة.
يستشهد القديس أغسطينوسبالثلاثة فتية القديسين وهم في أتون النار يقدمون تسبحة لله، طالبين حتى من الخليقة غير العاقلة أن تشترك معهم في تسبيح الله.
* عندما تفكر في جمال المسكونة في هذا العالم، أليس هذا الجمال عينه يُحسب كأنه صوت واحد يجيبك، قائلًا: "إني لم أخلق نفسي، الله هو خلقني؟"[23]
* كافة أعمال الله الناطقة وغير الناطقة، بإظهار حسن نظامها، تجلب له الاعتراف بحكمته وصلاحه. أما الأبرار فبأقوالهم وأعمالهم الجيدة يباركونه، ويصفون مجد ملكه الأبدي، وينطقون بلا فتورٍ بقدرته الكلية.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* "يحمدك يا رب كل أعمالك، ويباركك أتقياؤك" [10]. بمعنى ليقدموا لك الشكر، وليرسلوا لك التسابيح، الذين يقدمونها بصوتٍ، والذين يقدمونها بدون صوتٍ.
كل الخلائق التي ليس لها صوت خُلقت بطريقة لتسبح خلال طبيعتها، حتى إن بدت بلا صوت في نظر البشر، مع تمتعهم بها.
ما تفعله هذه الخلائق خلال وجودها نفسه، يفعله البشر خلال طريقة حياتهم وأنشطتهم. لقد أوضح ذلك بإضافته: "ويباركك أتقياؤك (قديسوك)"[24].
القديس يوحنا الذهبي الفم
بِمَجْدِ مُلْكِكَ يَنْطِقُونَ،
وَبِجَبَرُوتِكَ يَتَكَلَّمُون [11].
يليق بالأتقياء أن يشهدوا لملكوت الله المفرح، ويتحدثوا عن عظمته بألسنتهم كما بحياتهم الداخلية وسلوكهم العملي.
* يا لقوة (جبروت الله) الذي خلق الأرض!
يا لقوة الله الذي ملأ الأرض بالخيرات!
يا لقوة الله الذي أعطى لكل حيوان حياته!
يا لقوة الله الذي أعطى البذور المتنوعة لرحم الأرض، فتُخرج براعم متنوعة وأشجارًا جميلة!
يا لقوة الله! عظيم هو الله. إذ تسأل يا قديس الله الخليقة تجيب، وبإجابتها كاعترافٍ تبارك الخليقة الله، وتتكلم بجبروته![25]
لِيُعَرِّفُوا بَنِي آدَمَ قُدْرَتَك،َ
وَمَجْدَ جَلاَلِ مُلْكِكَ [12].
* يمدح قديسوك "مجد عظمة جمال ملكوتك"...
ما دام كل ما عنده جمال، هذا الجمال هو من عندك، فكم يكون عظمة جمال ملكوتك كله!
ليت ملكوتك لا يرعبنا؛ فإنه فيه أيضًا جمال يبهجنا.
ما هو الجمال الذي سيتمتع به القديسون الذين سُيقال لهم: "تعالوا يا مباركي أبي، تمتعوا بالملكوت" (راجع مت 25: 34)...؟
يا لعظمة الجمال الذي لهذا الملكوت الذي ليس فيه سوى الملائكة يعيشون معك! يُوجد عظمة لذاك الجمال، فلنحبه قبل أن نراه، حتى إذ نراه نتذكره![26]
* عظيمة هي قوته، عظيم هو مجده، عظيمة هي كرامته، عظيمة وفوق كل نطقٍ، ليس فقط تفوق كل وصفٍ، وإنما تتعدى كل فكرٍ[27].
القديس يوحنا الذهبي الفم
مُلْكُكَ مُلْكُ كُلِّ الدُّهُورِ،
وَسُلْطَانُكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ [13].
جاء في الترجمة السبعينية: "الرب أمين في كل كلماته، وقدوس في كل أعماله".
يليق بنا في محبة كاملة أن نخضع لسلطان الله في هذا الدهر كما في الدهر الآتي، كما يخضع له السمائيون بفرحٍ وتهليلٍ.
* مُلك هذا الدهر له جماله، لكنه ليس فيه تلك العظمة كمُلك كل الدهور[28].
* سلطانه يمتد إلى كل موضعٍ في العالم، وإلى كل الدهور، وفي كل الأزمنة[29].
* بعد أن ذكر أن مملكته بلا نهاية، ولا يمكن أن تهتز، بل ثابتة لا تتزعزع، يشير إلى ثبات كلماته. فإن كلمة "أمين" هنا تعني الثبات والصدق...
"قدوس في كل أعماله". ما هو معنى "قدوس"؟ لا عيب فيها، ومستقيمة، وبلا دنس، لا تعطي فرصة لأحدٍ أن ينتقدها[30].
* الرب أمين في كل كلماته، إنه لا يكذب حين يقول: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف" (إش 1: 18). الطبيب العظيم للنفوس، المحرر المتأهب لا لتحريرك وحدك، بل وكل المُستعبدين للخطية، مستعد ليشفي مرضك[31].
* هكذا كان إبراهيم مؤمنًا، لأنه آمن بكلمة الله؛ والله أمين كقول داود في المزمور: "الرب أمين في كل كلماته، جدير بالثقة ولا يمكن أن يكذب".
4. الرب الملك معضد الساقطين
اَلرَّبُّ عَاضِدٌ كُلَّ السَّاقِطِين،َ
وَمُقَوِّمٌ كُلَّ الْمُنْحَنِينَ [14].
تتجلى عظمة الله في اهتمامه بالساقطين والمنحنين ليقيمهم ويرد لهم الحياة الكاملة.
إنه يقترب جدًا من الذين انحنت نفوسهم بسبب الأمراض أو الأحزان أو الضيقات، ويترفق بهم، ويميل بأذنيه ليسمع أنين قلوبهم الخفية.
يقدم التسبيح للرب الذي يبسط يديه على الصليب، ليحتضن البشرية الساقطة. يرفعها من التراب، ويقيمها لتنعم بشركة المجد الأبدي. هذه هي مسرته!
* الذين يفقدون شيئًا في هذا العالم وهم مقدسون، يكونون كمن هم محتقرين في هذا العالم. فبعد أن كانوا أغنياء صاروا فقراء، وبعد أن كانوا مكرمين صاروا في مستوى أقل، ومع هذا إذ هم قديسو الله يبدو أنهم ساقطون والرب يعضدهم. "لأن الصديق يسقط سبع مرات ويقوم، أما الأشرار فيعثرون بالشر" (أم 24: 16).
عندما تحل الشرور على الأشرار يضعفون بها. وعندما تسقط على الأبرار فـ"الرب عاضد كل الساقطين، ومقوم كل المنحنين"... كل المنتمين إليه[32].
* الرب يرفع الساقطين في الذنوب والمعاصي أو في الشدائد إذا رجعوا إليه واستغاثوا به، وينهض الذين هشمتهم الأحزان والمصائب ورضضتهم.
* عظمة مجد ملكوته ليس أنه يهتم بالثابتين فقط بل وبالساقطين ليختبروها؛ ويقيم المنحنين. وما هو ملاحظ بالحق أنه يهتم بالكل وليس بهذا الشخص أو ذاك بل بالكل، حتى إن كانوا عبيدًا معوزين منعزلين، ليقوموا من عزلتهم.
إنه رب الجميع كما ترون ولا يعبر عن الساقطين أو يستخف بالمترنحين...
كمثالٍ لقد أقام داود عندما سقط، وجعله قويًا. أقام بطرس عندما كان ساقطًا. لتصغوا ماذا فعل معه، إذ قال: "سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك". (لو 22: 31-32)[33]
* الرب صادق في كل أقواله. إنه لا يكذب! عندما يقول: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف". (إش 1: 18)
إن طبيب النفوس العظيم، الذي يريد أن يحرر، مستعد أن يشفي مرضكِ، ليس أنتِ وحدك فحسب، بل كل الذين أسرتهم الخطية[34].
* "الصديق يسقط سبع مرات ويقوم، أما الأشرار فيعثرون بالشر". (أم 24: 16) عندما تسقط الشرور على الأشرار يضعفون بها. وعندما يسقط الصديقون، فإن الله يقَّوي كل الساقطين... "الرب عاضد كل الساقطين" (مز 145: 14)، كل الذين ينتمون إليه، لأن "الله يقاوم المستكبرين". (يع 4: 6)[35]
5. الرب والعناية الإلهية
أَعْيُنُ الْكُلِّ إِيَّاكَ تَتَرَجَّى،
وَأَنْتَ تُعْطِيهِمْ طَعَامَهُمْ فِي حِينِهِ [15].
كل راعٍ يود أن يشبع قطيعه، ويقدم له كل احتياجاته، لكنه يقدم كل شيءٍ في الوقت المناسب، حتى لا يسبب لقطيعه أذية. هكذا كثيرًا ما نشتهي أن يهبنا الله أمورًا صالحة، لكننا لا نعرف متى تكون لبنياننا، ومتى تسبب لنا أذية. يعرف راعينا السماوي ما يناسبنا، ويعرف الكمية المناسبة، وفي الوقت المناسب. لتتطلع أعيننا إليه في يقين نحو يديه. إنه محب وحكيم وسخي في العطاء!
عظيم هو الرب في تقديمه احتياجات كل أحدٍ. لذلك كل الخليقة تتطلع إليه، وتعتمد عليه، فيقدم لها طعامها في حينه.
إن كان الله يسمح بوجود فقراء وأغنياء، فإنه هو المهتم بالجميع، يعطي الجميع طعامهم في الوقت المناسب. يعطي الصالحين والخطاة.
تتطلع كل الخليقة إلى خالقها بكونه المشبع كل احتياجاتها، وهو من جانبه يقدم ما تحتاج إليه حسب حكمته بالقدر اللائق وفي الوقت المناسب.
* "أعين الكل إياك تترجى، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه". ذلك كأنك تنعش الإنسان المريض في حينه، عندما يلزم أن ينال شيئًا، أنت تعطيه.
أحيانًا يشتاق البشر إلى شيءٍ وهو لا يعطيه؛ ذاك الذي يرعى يعرف الوقت المناسب للعطاء.
لماذا أقول هذا يا إخوة؟ لئلا ينهار أحد إن لم يُسمع له عندما يطلب شيئًا صالحًا من الله. فإنه عندما يطلب شيئًا شريرًا لا يُسمع له كعقوبة، لكن عندما يطلب شيئًا صالحًا من الله، ليته لا يُصاب بحالة إحباط ولا ينهار. لتنتظر عيناه الطعام الذي يُقدم له في الوقت المناسب. عندما لا يعطي الله، يفعل ذلك لئلا ما يعطيه يسبب ضررًا. "أنت تعطيهم طعامهم في حينه"[36].
القديس أغسطينوس
* "ليأت حبيبي إلى جنته، ويأكل ثمره النفيس". (نش 4: 16) إنه لتعبير جريء من نفس ممتلئة حماسًا وروعة ترتفع على كل تعجبٍ. من تدعوه العروس لوليمتها التي تتكون من فاكهتها الخاصة؟ لمن تُجهز العروس ولِيمتها التي أقامتها من مصادرها الخاصة؟ من تدعوه العروس لكي يأكل مما عرضته؟
هو "الذي منه وبه وله كل الأشياء". (رو 11: 36) إنه يعطي كل شخص طعامه في حينه (مز 145: 15)، يفتح يده ويملأ كل كائن حي بالنعيم.
هو الخبز النازل من السماء (يو 6: 41)، وهو الذي يعطي الحياة للعالم، ويجعل المياه تفيض من نبعه الخاص للحياة.
هذا هو الواحد الذي تُرتب العروس له مائدتها، وهي الحديقة التي تنبت منها أشجار حيّة.
ترمز الأشجار إلينا، وتُشير أرواحنا المُخلصة إلى الطعام المُقدم له.
قال لتلاميذه: "لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو 4: 32، 34)، وهو تتميم إرادة الله المقدسة! فهو "يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون". (1 تي 2: 4) هذا الخلاص هو الغذاء الذي يُجهز له. تعطي إرادتنا الحرة الثمرة لله وهي أرواحنا، ليقطفها من على غصنها الصغير.
تمتعت العروس في البداية بثمرة التفاح الحلوة المذاق، قائلة: "وثمرته حلوة لحلقي". (نش 2: 3) ثم أصبحت هي نفسها الثمرة الجميلة الحلوة التي قُدمت للراعي ليتمتع بها[37].
القديس غريغوريوس النيسي
* إنّ الفقر الاختياري صالحٌ للذين لهم عادات صالحة، لأنهم بمجرد أن يطرحوا عنهم جميع الممتلكات غير الضرورية يأتون للرب بعلامةٍ على تعهُّدهم وهم يرتلون بطهارةٍ تلك الآية الملهَمة: "أعين الكل إياك تترجَّى، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه". (مز 145: 15)
* هؤلاء الذين يصيرون أبناء، ويتمتعون بطعام روحي، يحق لهم أن يمجدوا أباهم. يقول الكتاب: إنه يليق بالابن أن يكرم أباه، والعبد أن يخشى سيده (مل 1: 6). لقد صرت ابنه، وتتمتع بالطعام الروحي، تتناول الجسد والدم اللذين يهبانك ميلادًا جديدًا[38].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تَفْتَحُ يَدَكَ،
فَتُشْبِعُ كُلَّ حَيٍّ رِضىً [16].
يفتح الرب يده، فمع إشباع كل حي باحتياجاته يملأه فرحًا وسرورًا. كل مخلوق له ما يناسبه لكي يشبعه ويبهجه!
* العلامات التي بها نعرف الله هي ذات العلامات التي بها يلزم على الابن أن يراها في علاقته بأبيه "يفتح يده، ويشبع كل حي بالفرح عن الإثم". (مي 7: 18 LXX) "يندم على الشر". (يوئيل 2: 13) "يوم الرب صالح للكل ولا يغضب علينا كل يوم". (مز 145: 9 LXX) "الله مستقيم لا ظلم فيه". (مز 92: 15 LXX) هذا هو ما يفعله الآباء لأبنائهم... إن كنت هكذا فإنك بالحق تصير ابنًا لله[39].
* تتطلع كل الأشياء بنوعٍ من الشوق والحب غير المنطوق به إلى خالق وجودهم، واهبهم النعم وإمكانيات العمل، وذلك حسب المكتوب: "أعين الكل إياك تترجى" و"تفتح يدك، فتشبع كل حي من رضاك"[40].
القديس أمبروسيوس
6. الرب كلي الرحمة
الرَّبُّ بَارٌّ فِي كُلِّ طُرُقِهِ،
وَرَحِيمٌ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ [17].
إنه عظيم في برّه وحنوه. يليق بنا أن ندرك أن الله لا يبخل على خليقته بشيءٍ، لكن وإن سمح أحيانًا بمتاعب، أو ما نسميها أحيانًا كوارث ومحن، فإنه لا يتم شيء بدون حكمة الرب العادل في كل طريقه والبار في سائر أعماله. لا يخطئ في تصرفاته.
* عندما يضرب وعندما يشفي هو بار، ولا يوجد فيه شر.
كل قديسيه عندما يوضعون في وسط ضيقة أولًا يسبحونه، وبعد ذلك يطلبون بركاته.
يقولون أولًا: "ما تفعله هو مستقيم".
هكذا سأل دانيال وغيره من القديسين: "بارة هي أحكامك، بحق نحن نتألم، إننا نستحق الألم". لا ينسبون شرًا لله، لا ينسبون له ظلمًا...
أولًا يسبحون تأديباته، وبهذا يدركون رعايته[41].
* يدعو هنا إشرافه وعنايته ورعايته "طرقه"، التي تشكِّل كل شيءٍ[42].
7. الرب قريب
الرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ،
الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ [18].
قمة عطاياه - كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[43]- إنه قريب للذين يدعونه، بمعنى أنه يتنازل ويلتصق بالذين يطلبونه بإخلاص، ويهتم بهم، ويُظهر لهم أعظم درجات العناية الإلهية، ورحمته وحنوه، ويعلن لهم الخيرات بصورة فائقة.
* كثيرون يدعونه، ولكن ليس بالحق. يطلبون منه شيئًا، لكن لا يطلبونه هو.
لماذا تحب الله؟ "لأنه جعلني معافى". واضح أنه هو الذي جعلك هكذا. فإن الصحة لا تأتي من أحدٍ سواه.
يقول آخر: "لأنه أعطاني زوجة غنية. بينما كنت قبلًا لا أملك شيئًا، وهي تغنيني". هذه أيضًا هو أعطاك؛ أنت تقول الحق...
لذلك فإن الله صالح، هذا الذي يعطيك ما هو لديك، كم بالأكثر تكون مطوّبًا عندما يعطيك نفسه!
لقد اشتهيت كل هذه الأشياء منه، أسألك أن تشتهيه هو أيضًا. فإن هذه الأشياء بالحق ليست أحلى منه، ولا يمكن مقارنتها به بأي حال من الأحوال.
إذن من يفضل الله نفسه عن كل الأشياء التي يتقبلها منه، ومن أجل ذلك يفرح بالأشياء التي يتقبلها، فهو يدعو الله بالحق[44].
* شغل تعبير "الرب قريب" الكثير من آباء الكنيسة، فهو حال في كل موضعٍ، ولا يخلو منه مكان. لكنه قريب لمن يلتصق به ويرتمي عليه أو يتكئ على صدره، فيحسب الشخص المدلل، كأنه قريب له من العائلة الإلهية.
الآن وقد تجسد كلمة الله دعانا أحباء وإخوة، ووهبنا البنوة للآب.
في العهد القديم ينسب الله نفسه لأتقيائه، فيدعو نفسه إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، وفي العهد الجديد قدم لنا الدالة لندعو الله في كل صلواتنا الجماعية والشخصية: "أبانا الذي في السماوات..."
* لتجعل رحلتك متوجهة إلى يسوع، إن أردنا أن نتمم الرحلة لن نسافر مسافة بعيدة، ولا نحتاج أن نعبر بحارًا، ولا أن نتسلق جبالًا شامخة. إن برهنت على تقواك وندمك الكامل، تستطيع أن تراه دون أن تترك بيتك، بل تستطيع أن تهدم كل حائط، وتزيل كل عقبة، وتقَّصر من طول الرحلة[45].
8. الرب سامع الصلوات
يَعْمَلُ رِضَى خَائِفِيه،ِ
وَيَسْمَعُ تَضَرُّعَهُمْ، فَيُخَلِّصُهُمْ [19].
من يتقي الله أو يخافه، إنما يجد مسرته في الله نفسه، ويعمل الله ما يسره في الوقت المناسب واللائق والنافع له. يجد خائفو الرب لذتهم في مشيئة الله، والله من جانبه يتمم اشتياقهم حسب حكمته.
كما هو عظيم في برِّه [17] لا يخطئ في تصرفاته، هو عظيم في خلاصه لخائفيه الذين يطلبونه، يقتربون إليه بإيمانٍ وبقلبٍ نادمٍ على أخطائه.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[46] إن بولس طلب منه أن يفارقه ملاك الشيطان أي التجارب والضيقات، لكن الله لم يفعل ذلك. بالحقيقة فعل ما هو لصالح بولس الرسول، إذ قال: "لذلك أُسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حيث أنا ضعيف، فحينئذٍ أنا قوي". (2 كو 12: 8-10)
* إنه بالتأكيد سيخلص (مز 145: 19)، لكنه سيفعل هذا بالطريقة التي يعد بها. بأية طريقة هو يعد بهذا؟ أن نريد نحن ذلك، وأن نسمع له. فإنه لا يقدم وعدًا لكتلٍ خشبية![47]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "(الله) يصنع مشيئة خائفيه". إنه يتممها، وإن كان لا يتممها في الحال، لكنه يتممها.
حقًا إن كنت تخاف الله فلتتمم مشيئته، وتراه من جانبه هو يخدمك؛ إنه يصنع إرادتك.
"يستجيب تضرعهم ويخلصهم". إنكم ترون أنه لأجل هذا يسمع الطبيب، كي ينقذ. متى؟ اسمعوا الرسول يخبركم: "لأننا بالرجاء خلصنا، لكن الرجاء المنظور ليس رجاء. لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضًا". (رو 8: 24) يدعوه بطرس: "خلاص مستعد أن يُعلن في الزمان الأخير". (1 بط 5: 5)[48]
القديس أغسطينوس
* سؤال من الأب نفسه إلى الشيخ الكبير: أتوسل إليك أن تخبرني من أين تأتيني ليونة الجسد وميوعة القلب؟ ولماذا لا أستطيع أن أمكث دائمًا في نفس التدبير؟
إجابة الأب برصنوفيوس: أيها الأخ، إنني مندهش ومذهول من رؤية كيف أن أهل العالم الذين لهم شهوة الربح أو القتال يستخفون بالوحوش وفخاخ قطاع الطرق وأخطار البحر وحتى الموت ذاته. إنهم لا يجبنون من أجل الغِنى الذي يشتهونه بتلهُّفٍ، في حين أنهم غير متيقنين من الحصول عليه. ونحن البؤساء الجبناء الذين نلنا سلطانًا أن ندوس على "الحيات والعقارب وكل قوة العدو" (لو 10: 19)، نحن الذين سمعنا القول: "أنا هو لا تخافوا" (يو 6: 20)، نحن الذين نعلم بوضوح أننا لا نصارع بقوتنا، بل بقوة الله الذي يسلِّحنا ويحصنّا، نستسلم لليونة والاكتئاب!
ومن أين يأتي ذلك؟ هذا لأن أجسادنا لم تتسمّر فيها مخافة الله (مز 118: 120 السبعينية)، ولأنه لم يجعل صراخ نوحنا (أو تنهُّدنا) مطلقًا ينسينا أكل خبزنا (مز 102: 4-5). لذلك نحن نتقلّب من جانب إلى آخر، ومن نظام إلى آخر، لأننا لا نتشبث تمامًا بالنار التي جاء الرب ليلقيها على الأرض (لو 12: 49)، والتي يمكنها أن تُهلك وتلتهم أشواك حقلنا الروحي، إن تخاذلنا وتغافلنا، وحبنا لأجسادنا لا يسمح لنا بالرحيل.
يشهد لي ابن الله الحي أنني أعرف إنسانًا، وهو هنا في هذا الدير المبارك، ولا يقول أحد أنني أتكلم عن نفسي، فأنا لا أحسب نفسي شيئًا في أي أمر، هذا الإنسان يمكنه أن يبقى كما هو بدون أي غذاء أو شراب أو ملبس حتى يفتقده الرب، ولن يعوزه من كل ذلك أي شيء على الإطلاق، لأن غذاءه وشرابه ولباسه إنما هو الروح القدس!
فإذا أردت نافسه وتشوّق وبادر، وامتلئ بالغيرة ومخافة الله، وهو سيحقق رغباتك. لأنه مكتوب: "يعمل رضى خائفيه" (مز 145: 19).
وفي الحقيقة، فإنني أنا، الذي لستُ شيئًا، بسبب الوصية أعمل بقدر استطاعتي، ولكن الله هو الذي منه يكون الثبات والتحصين والتحرر وإتمام كل عملٍ صالحٍ وتجنُّب كل شر وتدبير الخلاص في ملكوته، وله المجد. آمين.
9. الرب حافظ محبيه
يَحْفَظُ الرَّبُّ كُلَّ مُحِبِّيهِ،
وَيُهْلِكُ جَمِيعَ الأَشْرَارِ [20].
عظيم هو أيضًا في سهره على كل محبيه. يدعوهم لكي يلقوا بكل همومهم عليه.
أخيرًا عظيم هو في عدله، فيتخلى عن الأشرار المصممين على شرورهم، فيشربون من كأس الفساد الذي ملأوه بإرادتهم الشريرة.
* إنه سيخلص كل الذين يرجونه، كل المؤمنين، كل الذين يخافونه، كل الذين يدعونه بالحق.
"ويهلك جميع الأشرار". من هم جميع الأشرار سوى المصرين على الخطية، الذين في جسارة يلومون الله لا أنفسهم. الذين يجادلون يوميًا مقاومين الله، الذين ييأسون من غفران خطاياهم، وبهذا اليأس يكدسون خطاياهم، الذين يعدون أنفسهم بالمغفرة بطريقة فاسدة، وخلال هذا الوعد عينه لا يفارقون خطاياهم وشرورهم[49].
10. مجدلة ختامية
بِتَسْبِيحِ الرَّبِّ يَنْطِقُ فَمِي،
وَلْيُبَارِكْ كُلُّ بَشَرٍ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ [21].
إذ يرى المرتل عظمة الله في كل شيءٍ، يلهج قلبه ولسانه وكل كيانه بالتسبيح له. يختبر عذوبة التسبيح، فيدعو كل بشرٍ ليشترك معه في هذه الخبرة المفرحة.
* ألا ترون أنه في تدبيره اللائق يدعو ليس فقط الذين يتمتعون بإحسانه، بل والذين يعانون من العقاب (كعلامة على اهتمامه بالكل)، ليس فقط البشر، بل والحيوانات غير العاقلة، كل العناصر وكل الأشياء الجامدة، الكل مملوءون بصلاحه كما ترون[50].
من وحي مزمور 145
هب لي ألا أُحرم من التسبيح لك!
* تطلع المرتل إليك، وتلامس مع عظمتك الفائقة.
عظيم أنت في صلاحك،
يا من تحول المتاعب إلى تعزيات.
وتنزع عنا فسادنا،
فننعم بصلاحك في حياتنا،
* عظيم أنت في رحمتك وحنوك،
غافر الخطايا، ومنقذ النفوس من الفساد.
* عظيم أنت في ملكوتك،
يا من تقيم من قلبي عرشًا لك.
عظيم أنت في مهابتك،
تسكبها فيّ، فأحمل صورة بهائك.
* عظيم أنت في عجائبك،
فتجعل من شعبك عجبًا.
تقيمنا من المزبلة،
لنجلس مع الطغمات السماوية.
تنزع عنا الطبيعة الترابية،
لتهبنا السكنى في سماواتك.
* عظيم أنت في طول أناتك،
تفتح أبواب الرجاء للجميع.
عظيم في رعايتك،
تقيم الساقطين، وترفع المنحنين.
عظيم في حراستك وسهرك،
فلا يتسلل العدو، ليخطف أحدًا من يدك.
* عظيم أنت في خلاصك،
فتدخل بنا إلى أمجادك السماوية.
عظيم أنت في برِّك،
تكسونا به، فنتبرر بك.
عظيم يا أيها القدوس وحده،
فتقيم منا قديسين!
* عظمتك تدعونا للتسبيح لك من دورٍ إلى دورٍ.
نسبحك هنا من يومٍ إلى يومٍ.
ونسبحك في السماء مع الطغمات السماوية أبديًا.
نسبحك ونفرح بالمسبحين معنا.
ليت كل بشرٍ يختبر لذة التسبيح لك!