دعوة للتسبيح
رَنِّمُوا لله قُوَّتِنَا.
اهْتِفُوا لإِلَهِ يَعْقُوبَ [1].
إن كان الله يريد أن تتحول رحلتنا في الحياة مع ما فيها من مشقات إلى عيدٍ لا ينقطع. فإن سرّ فرحنا يكمن في أمرين رئيسين هما: التمتع بالله قوتنا، وممارسة عربون الحياة السماوية. فمن جهة الله قيل: "رنموا لله قوتنا"، ليس من يبهج مثل الله بكونه هو قوتنا وسندنا وفرحنا. ومن جهة عربون الحياة السماوية قيل: "اهتفوا لإله يعقوب". وقد جاء الفعل: "اهتفوا" في مواضع أخرى بمعنى اصرخوا، اصرخوا عاليًا، اصرخوا بفرحٍ، اهتفوا بصرخة النصرة. هذا الفعل كثيرًا ما يُستخدم للتعبير عن عبادة الملائكة مشتركين مع الخليقة بالبهجة. يرى البعض أن الهتاف هنا يشير إلى عجز اللغات البشرية عن التعبير، فتهتف القلوب معًا من الأعماق وبروح الوحدة.
هكذا يدعونا المرتل للتسبيح الجماعي بروح النصرة والشركة مع السمائيين لإله يعقوب، هذا الذي اختبر قوة الله في علاقته مع عيسو العنيف، كيف أعطاه نعمة في عينيه، ولم يؤذه. إن كان "يعقوب" يشير إلى حياة الجهاد، إذ جاهد مع الله والناس وغلب، فإننا مدعوون للتسبيح وسط جهادنا الذي لا ينقطع. إننا أولاد إله يعقوب المجاهد!
* ابتهجوا لله معيننا" آخرون يبتهجون لإلههم الذي هو بطونهم...
ذاك الذي بفيض الأفراح لا يجد كلامًا كافيًا، يلجأ إلى الهتاف: "اهتفوا لإله يعقوب" .
القديس أغسطينوس
* يحث النبي الشعوب التي سلمت من أذية الأعداء أن تفرح فرحًا روحيًا، وتسبح تسبحة الشكر لذاك الذي يعضدها ويخلصها. وأيضًا يدعو الأمم أن تشكر الله الذي أعانها وخلصها من اقتدار الشيطان.
أنسيمُس أسقف أورشليم
* لنهتف لله في النصرة، فلا ننسبها لأنفسنا، بل ندرك أنها نصرة الرب .
القديس جيروم
ارْفَعُوا نَغْمَةً،
وَهَاتُوا دُفًّا، عُودًا حُلْوًا مَعَ رَبَابٍ [2].
جاءت الترجمة السبعينية: "خذوا مزمورًا واضربوا دفًا وكنارة مطربة مع قيثار".
إن سألنا المرتل: كيف نسبح الرب ونتهلل بإله يعقوب؟ يجيب: أقدم لكم المزمور أو تعليم الرب وكلمته، وأنتم تعزفونه بآلاتكم، أي تقديس أجسادكم ونفوسكم وأرواحكم وعواطفكم وكل أحاسيسكم. أي يتحول الإنسان بكليته إلى مجموعة آلات موسيقية تعمل معًا، وتقدم سيمفونية حب لله.
قيل: "وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب، وكان داود متنطقًا بأفود من كتان" (2 صم 6: 14).
* أعني خذوا مني أنا داود (المزمور) الذي وضعته بالهام الروح القدس، واعزفوه على نظم آلات الطرب، ورتلوه بالدفوف والمزمار والقيثارة. أي خذوا التعليم الإلهي، واجعلوا ذواتكم مثل الدف الذي هو من جلود مميتة، أي تميتون شهواتكم الذميمة بتقديم أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية لله.
صيروا قوات نفوسكم وأعضاء أجسادكم متفقة ومتناغمة في تسبحة الله، مثل مزمار وقيثارة.
الأب أنسيمُس أسقف أورشليم
* "زمرنا لكم فلم ترقصوا" (لو 31:7-35). تغنى الأنبياء بأغانٍ روحيةٍ ارتفعت إلى الكرازة بالخلاص العام، وأيضًا بكى الأنبياء لكي يميلوا بمراثيهم الحزينة قلوب اليهود المتحجرة.
يعلمنا الكتاب أن نرتل للرب (مز 8:46)، وأن نرقص في حكمة كقول الرب لحزقيال أن يضرب بيده ويخبط برجليه (حز 11:6). الله لا يطالب بحركات مضحكة يقوم بها جسم ثائر، ولا يطلب تصفيق النساء... إنما يوجد الرقص الوقور، حيث ترقص الروح بارتفاع الجسد بالأعمال الصالحة، عندما نعلق قيثاراتنا على الصفصاف.
يأمر الرب أن يضرب باليد والرجل وأن يغني، لأنه كان يرى عرس العريس الذي فيه تكون الكنيسة هي العروس، والمسيح هو الحبيب. إنه عرس رائع فيه تتحد الروح بالكلمة، والجسد بالروح...
هذا هو العرس الذي حاول داود النبي أن يحققه، وله قد دُعينا... إنه يحثنا لنسرع نحو هذا المشهد المفرح: "ارفعوا نغمةً، وهاتوا دفًّا وعودًا حلوًا مع رباب" (مز 2:80-3).
ألا تتخيل النبي راقصًا...؟! ألا تسمع صوت ضاربي قيثارة (الرباب) ودقات أرجل الراقصين؟!
إنه العرس! لتأخذ أنت أيضًا قيثارة حتى إذا ما تمتعت بلمسة الروح، تستجيب أوتارك الداخلية مع صدى الأعمال الصالحة. لتمسك بالعود، فيتحقق الانسجام بين كلماتك وأعمالك، وخذ الدّف، فيهبك الروح أن تترنم خلال آلة جسدك من الداخل .
القديس أمبروسيوس
انْفُخُوا فِي رَأْسِ الشَّهْرِ بِالْبُوقِ،
عِنْدَ الْهِلاَلِ لِيَوْمِ عِيدِنَا [3].
كانت الأبواق تُضرب في رأس كل شهر. كان اليهود عادة يرسلون بعض الأشخاص على قمة تلٍ أو جبلٍ مع بدء القمر الجديد، وعند ظهوره مباشرة يضربون بالبوق، ويعلق رئيس المجمع (السنهدرين) أن ذلك يتفق مع الحسابات الفلكية، صارخا "ميقديش" Mikkodesh، أي "مُقدس"، ويصرخ الشعب ناطقين ذات الكلمة مرتين، وعندئذ تُضرب الأبواق في كل مكان!
يقول يوسابيوس أسقف قيصرية أنه قد بطلت هذه العادة، بعد الكرازة بالإنجيل المقدس كبوقٍ تسمعه الأرض كلها، في عيدٍ مشهورٍ.
* "انفخوا بالبوق" ، هذه هي الكرازة بصوتٍ عالٍ وجراءة. لا تخف! كما يقول النبي في موضع آخر: "اصرخ، ارفع صوتك كبوقٍ" (راجع إش 58: 1)...
"رأس الشهر" هو القمر الجديد، والقمر الجديد هو الحياة الجديدة.
ما هو القمر الجديد؟ إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة" (2 كو 5: 17). ما هو النفخ بالبوق في بدء الشهر؟ اكرزوا بكل ثقةٍ بالحياة الجديدة، ولا تخافوا من إزعاج الحياة العتيقة .
القديس أغسطينوس
* قال القديس أثناسيوس: أمر الله إسرائيل القديم أن يبوقوا بأبواق حسية، شهادة لعتقهم من عبودية مصر، وهكذا أمر إسرائيل الجديد (المسيحيين) أن ينذروا بالبوق الروحي الذي هو الإنجيل المقدس في رؤوس الشهور، أي عند تجديد عقولهم بالمسيح الإله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* قديمًا دعا الرب بواسطة موسى.. إلى حفظ أعياد اللاويين في المواسم المقررة قائلًا: "ثلاث مرات تعيد لي في السنة" (خر 14:23). الثلاثة أعياد هي: عيد الفصح أو الفطير، عيد الخمسين أو الأسابيع أو الحصاد، عيد المظال أو الجمع. وكانت أبواق الكهنة تهتف حاثة على حفظ العيد، كأمر المرتل الطوباوي القائل: "انفخوا في رأس الشهر بالبوق عند الهلال ليوم عيدنا" (مز 3:81).
وكما كتب، كانت الأبواق تدعوهم أحيانًا إلى الأعياد، وتارة إلى الصوم، وثالثة إلى الحرب، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة أو جزافًا، إنما كان الهتاف يتم لكي يتسنى لكل واحدٍ أن يحضر إلى الأمر المُعلن عنه.
هذه الأمور التي أتحدث عنها ليست من عندي، بل جاءت في الكتب المقدسة الإلهية، إذ كما جاء في سفر العدد، عندما ظهر الله لموسى كلمه، قائلًا: "اصنع لك بوقين من فضة، مسحولين تعملهما، فيكونان لك لمناداة الجماعة" (عد 1:10-2). وهذا يطابق دعوة الرب الآن للذين يحبونه ههنا..
إنهم لم يكونوا يهتفون بالأبواق في وقت الحروب فحسب (عد 9:10)، لكن كانت هناك أبواق يهتفون بها في الأعياد أيضًا كما جاء في الناموس.. إذ يقول: "في يوم فرحكم وفي أعيادكم ورؤوس شهوركم تضربون بالأبواق" (عد 10:10).
ومتى سمع أحدكم الناموس يوصي باحترام الأبواق، لا يظن أنه أمر تافه أو قليل الأهمية، إنما هو أمر عجيب ومخيف!
فالأبواق تبعث في الإنسان اليقظة والرهبة أكثر من أي صوت آخر أو آلة أخرى. وكانت هذه الطريقة مُستخدمة لتعليمهم إذ كانوا لازالوا أطفالًا..
ولئلا تؤخذ هذه الإعلانات على أنها مجرد إعلانات بشرية، فقد كانت أصواتها تشبه تلك الني حدثت على الجبل (خر 16:19) حينما ارتعدوا هناك، ومن ثم أعطيت لهم الشريعة ليحفظوها .
البابا الأنبا أثناسيوس الرسولي