تل الجمجمة
الساعة الآن الحادية عشر والنصف من صباح يوم الجمعة، وقد وصل موكب الموت والحياة إلى تل الجمجمة خارج أسوار أورشليم، بالقرب من المدينة المقدَّسة.. يبلغ ارتفاع التل نحو خمسة أمتار، ويقع على تقاطع الطريقين الرئيسيين المنحدرين أحدهما إلى يافا والآخر إلى السامرة، ويدعى جلجثة وهي مشتقة من الكلمة الآرامية "جولجالتا" أي جمجمة، وتُدعى باليونانية "الأكرانيون" κρανίο، وقد اتخذ هذا التل شكل جمجمة الإنسان، ويقال إن هذا التل دُعي هكذا لأن جمجمة أبينا آدم دُفنت في هذا المكان، أو لأن جماجم من حُكم عليهم بالصلب قبلًا كانت ملقاة بكثرة في هذا التل، " يقول البعض أن آدم مات ورقد هناك، وأن يسوع قدم النصرة في نفس الموضع الذي ملك فيه الموت، إذ ذهب حاملًا الصليب كغالب على طغيان الموت. كان كتفاه رمزًا للنصرة. ماذا يهم إن كان اليهود قد فعلوا ذلك بنية مغايرة" (23).
وعلى هذا التل الذي دُعي قديمًا "جبل المريا" ربط إبراهيم ابنه إسحق على المذبح الذي أعده وفرشه بالحطب، فكان رمزًا لما يحدث الآن، وعندما مدَّ يده بالسكين ليذبحه منعه ملاك الرب وأرشده إلى كبش موثق بقرنيه في شجرة، فكانت الشجرة رمزًا للصليب والكبش رمزًا ليسوع المصلوب " ما أقسى وأمر ذلك الامتحان الرهيب..؟! لماذا أراد الله أن يكون الامتحان رهيبًا قاسيًا إلى هذا الحد..؟! لماذا هذا التصميم أن يبذل الأب ابنه؟!.. وهل يمكن لذلك الشيخ أن يقدم وحيده..؟! ألم يكن من الأهون أن يضحي ذلك الأب بنفسه عوضًا عن ابنه؟!..
يا للهول.. ألم يكفه أن يضحي الأب بابنه؟.. لماذا الإصرار إذًا أن يطعن الأب بيده ابنه بالسكين؟.. أن يطعن الأب وحيده بيده فهذا قمة المرار والعذاب الذي لا يمكن أن يتخيله عقل.. لكن هذا الامتحان ازداد قسوة أيضًا عندما طلب الله التأني في تأديته..!! لقد كان من الممكن أن ينتهي إبراهيم منه بسرعة وفي غمرة من الانفعال، ولماذا طول الانتظار؟! لكن تلك الذبيحة الفائقة ما كانت لتُقدَم على عجل. لقد اختار الله المكان والزمان اللائقين بها..
وأخيرًا وبعد ثلاثة أيام رأى المكان من بعيد، وهنا تخلى إبراهيم عن كل صحبة بشرية فترك الغلمان وأخذ إسحق ابنه إلى هناك. كان إسحق في ذلك الوقت في ريعان الشباب وقمة الجمال.
ولكيما تصل التجربة إلى ذروتها تساءل إسحق في براءة وثقة البنين قائلًا " يا أبي.. هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة" (تك 22: 7) سؤال برئ جاء في وقت حاسم، كان له وقع القنبلة وكان يمكن أن يدفع ذلك الشيخ للانهيار لكن إبراهيم لم يتزعزع وجاء جوابه واضحًا حاسمًا لكل التساؤلات " الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني" (تك 22: 8) وهنا أخذ بكل ثبات يبني المذبح.. ثم رتب الحطب.. وربط ابنه.. ووضعه على المذبح.. ثم مدَّ ذلك الأب يده وأخذ السكين ليذبح ابنه!!!
هنا القمة.. عندما رفع ذلك الأب السكين ليذبح ابنه كان قد وصل إلى قمة شاهقة من الحب والإيمان لا تدانيها قمة أخرى في الوجود. هنا غاصت السكين في قلب الأب قبل أن يطعن بها ابنه.. من فوق تلك القمة الشاهقة رأى إبراهيم أعظم شاهد للتاريخ كله. هناك رأى الأب السماوي وهو يقدم ابنه وحيده الذي يحبه على مذبح الجلجثة..!! في تلك اللحظة أدرك إبراهيم كل شيء.. لماذا أراد الله له أن يكتوي بكل هذه النيران.. قال يسوع {أبوكم إبراهيم تهلل أن يرى يومي فرأى وفرح}" (24).
وعلى هذا التل أيضًا بني داود مذبحًا وقرب قربانًا للرب، ليوقف الوباء الذي نشب في الشعب، وهوذا ابن الله يُصلب في ذات المكان ليوقف عن البشرية وباء الخطية القاتل..
ولا يزال الوافدون إلى أورشليم يتقاطرون جماعات جماعات يمرُّون أمام الجلجثة، فيُصدَمون بهذا المنظر البشع، ومع هذا فإن الفضول يستبد بهم، فيتطلعون إلى من ساقهم حظهم العاثر إلى أشنع ميتة في الوجود، ولم يخطر على بال أحد منهم أن بينهم من سلَّم نفسه بإرادته من أجل خلاصهم، وفيما بينهم يلعنون ذاك المستعمر الروماني الذي لا يطبق هذه العقوبة إلاَّ على الشعوب المقهورة والعبيد، ويمنعها عن الشعب الروماني وعن كل من يحمل الجنسية الرومانية، ووقف قائد المئة في شمم وكبرياء يأمر جنوده بإقامة الحواجز حتى لا يشتد الزحام حول الجلادين أثناء تأدية عملهم.
وجاءت بعض السيدات الشريفات ملائكة الرحمة اللاتي كرسنَّ حياتهن من أجل أعمال الرحمة للمرضى والمساجين وأصحاب الحالات الخاصة مثل المحكوم عليهم بالإعدام، وحملن معهن أبريقًا به مزيجًا من الخل والمرّ من صنعهن، وهذا يقوم بتخدير الجسم نوعًا ما، فيخفف عن الإنسان آلام الصلب النارية عملًا بقول الحكيم " أعطوا مسكرًا لهالك وخمرًا لمري النفس" (أم 31: 6).. قدمن كأسًا لديماس الذي شرب وهو ينظر إليهن نظرة الامتنان. أما ماخوس الذي لم يكف عن الثرثرة فإنه أخذ وشرب ولم يعيرهن اهتمامًا، وطلب كأس أخرى وشربها دون نظرة شكر، وعندما قدموا إلى يسوع وذاق لم يرد أن يشرب، لأنه أراد أن يتحمل الآلام كاملة، ومع ذلك فإنه نظر إليهن نظرة امتنان وتشجيع.. شعرن بمحبته ورقته، فانسابت دموعهن حسرة على ذاك الشاب اللطيف الذي يموت في ريعان شبابه.. إنه نبي.. هكذا كانوا يسمعون عنه ويعرفونه.
وعرى الجند يسوع من ملابسه، فاندفعت الدماء التي كانت قد تجلطت والتصقت بالقميص وعادت تنزف من جديد وتفتحت الجروح، وهذا لم يمنعهم من طرحه أرضًا فوق الصليب.. أحاط به أربعة من الجلادين، أحدهما يحمل حقيبة صندوقية، فتحها وأخرج منها مسامير مربعة غشيمة بطول 18 سم ومطارق، وهكذا فعلوا باللصين الآخرين، وبمجرد أن أعطى قائد المئة إشارة البدء، انقض الجنود الأقوياء يحيطون بكل مصلوب، يقبضون عليه بشدة، ويدقون يديه ورجليه بالمسامير في خشبة الصليب..
يهوي الجندي الروماني بالمطرقة في شدة وعنف على رأس المسمار الحدادي الغليظ فيخترق الجلد واللحم، ويمزق الأعصاب ويغوص في خشبة الصليب..
وبينما يوالي الجندي الطرقات بكل قوته كان الجسد الذبيح يرتعش، وتسيل الدماء الغالية على الأرض الملعونة لتغسل لعنتها..
وقد استطاعت مهارة الجلادين أن تدفع بهذه المسامير، فتمزق الرسغين والقدمين ولا تمزق الشرايين الرئيسية، مما يجعل النزيف بطيئًا، ويطيل فترة العذابات، حتى إن بعض المصلوبين كانوا يقضون أيامًا على صلبانهم قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، ولاسيما ولو كان مثبت بالقائمة الرأسية " السرج" (قطعة خشبية ترتكز عليها أرداف المصلوب) فإن عذاباته قد تمتد لمدة أسبوع يعاني فيها من العطش والجفاف والجوع ناهيك عن الطيور الجارحة التي قد تنهش جسده وهو مازال حيًّا..
حقًا إن حكم الناموس على الإنسان لهو أرحم كثيرًا من حكم الإنسان على نفسه، فالناموس كان يأمر بالرجم حيث تنتهي حياة الإنسان في لحظات قليلة، وإذا كان هذا الإنسان قد أخطأ أخطاءًا مشينة تُعلَّق جثته لمدة يوم واحد ثم تدفن في نهاية اليوم.. أما حكم الإنسان على نفسه فهو ما نراه الآن، ولا يجرؤ أحد أن يُنزِل مصلوبًا من على صليبه وإلاَّ رفعوه نيابة عنه.
" كانت عملية الصلب تجري وسط عاصفة شديدة من الصخب. كانت الحشود التي جاءت من بعيد لتشاهد عملية الصلب تصرخ بصوت عالٍ وتطلق عبارات الهزء والتعييّر. وكانت أصوات المطارق وهي تهوي لا تكاد تُسمع وسط ذلك الضجيج، الذي إن دل على شيء فإنما يدل على الانفلات. كانت ساعة الصلب هي ساعة تجرد الإنسان فيها من كل القيم والضوابط. إنها ساعة عاد فيها إلى روح الهمجية، وظهر فيها عمق " أصالته " في الشر!!" (25).
وبعد أن سمروا يد يسوع اليسرى جذبوه من يده اليمنى حتى كادت عظامه تنفصل، ولك أن تتصوَّر مدى الآلام الناتجة عن هذه الجذبة الشديدة، التي شعرت بها الأم العذراء ويوحنا الحبيب..
كم تأثرت تلك الأم الثكلى وقد تقرحت عيناها من فرط البكاء، والنيران تشعل قلبها لهيبًا، والسيف يجوز في نفسها، وقد ضمت يديها إلى صدرها في منظر خشوعي وضراعة وصلاة عميقة..
تأجَّجت المشاعر داخلها، وماتت الكلمات على شفتيها، فخاطبت إبنها بلغة الدموع..
كل طرقة للجندي الروماني القاسي على المسمار كانت في الحقيقة هي طرقة على قلب الأم الحنون..
آه يا ابني لماذا اخترت هذه الميتة الشنيعة..؟!
إن كان لابد من الذبح، فلِمَ لم تُذبح بالسيف..؟! ولِمَ حكمت عليَّ بهذا السيف الرهيب..؟!
أما اليهود فقد وقفوا كالثيران الهائجة وكالكلاب المسعورة المتعطشة لدماء الناصري..
أما قلوب الجلادين الرومان فقد فقدت الحس وماتت وتحجرت، ولم يزعجهم على الإطلاق صرخات وتأوهات المصلوبين والمسامير تمزق أجسادهم..
أي إنسان ينظر إلى يسوع مطروح أرضًا عريانًا يُسمَّر بهذه الطريقة الوحشية من أجله ولا يذوب فؤاده وتنحل من داخله كل شهوة شريرة؟! ولهذا تصرخ الكنيسة في تلك الساعة للمصلوب " وبالمسامير التي سُمرت بها إنقذ عقولنا من طياشة الأعمال الهيولية والشهوات العالمية ".
وجاء زمرة من الأنبياء، داود النبي يُرنّم على الناي الحزين " ثقبوا يديَّ ورجليَّ" (مز 22: 16) وإشعياء النبي يشهد " وهو مجروح لأجل معاصينا" (أش 53: 5) وزكريا النبي يسأل يسوع المصلوب: ما هذه الجروح في يديك؟ وسُمعت همسات المصلوب: " هي التي جُرِحتُ بها في بيت أحبائي" (زك 13: 6).
انتهت عملية التسمير وكان بجوار الصلبان الثلاث ثلاث حفر متقاربة، كل حفرة كانت قريبة من قاعدة الصليب، فرفعوا الصليب لأعلى ووجه المصلوب نحو السماء، فانزلقت قاعدة الصليب في الحفرة، وأهالوا حولها التراب والحصي.. سرعان ما ارتفع على هذا التل ثلاثة صلبان، وكان صليب يسوع في الوسط، وكأنه هو زعيم اللصوص عوضًا عن باراباس، وسمَّر الجنود اللافتات فوق الصلبان الثلاث، وكانت الساعة الثانية عشر ظهرًا.
والخشبة التي صُلِب عليها ملك المجد لم تكن جديدة إنما سبق استخدامها، أي أنها تشرَّبت بدماء الأثمة والفجار من بني البشر.. لقد ارتضى أن يأخذ مكان الأثمة.. هوذا المذبح الفريد الخشبي يرتفع فوق الجلجثة خارج أسوار أورشليم، لكيما يُوقد عليه الحمل البريء.. كل مذابح العصور أُقيمت من حجارة وأُصعدت عليها الذبائح الحيوانية بعد ذبحها. أما هذا المذبح الرهيب، فقد أُقيم من صليب خشبي، لكيما يُوقَد عليه يسوع ابن الله وهو حي بعد، وعلى هذا المذبح الخشبي تجسمت الخطية في بشاعتها، وظهرت الدينونة في أهوالها..
ولا تسألني يا صديقي عن شدة وقسوة الآلام النارية التي يعاني منها المصلوب أثناء رفع الصليب والجسد كله مُعلَّق بثلاثة مسامير، وما نتج عن هذه الحركة من اهتزازات في الأعصاب.. ربما الذي ذاق ألم الضروس ذات ليلة نتيجة تعري الأعصاب يشعر بالشئ اليسير جدًا جدًا من هذه الآلام!!
وارتسمت أمام يوحنا كلمات يسوع الخالدة "وكما رفع موسى الحيَّة في البريَّة هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان" (يو 3: 14).. " متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون إني أنا هو" (يو 8: 28).. " وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع" (يو 12: 32).
ارتفعت الصلبان، وشمس الظهيرة الحارقة تلفح الأجساد العارية..
وبينما يحوم الهوام حول الجروح، فإن حركة المصلوب مقيدة بالمسامير..
واعترى الدوار الشديد المصلوب نتيجة لعدم كفاية الدم الذي يصل إلى الرأس..
ناهيك عن التوتر العصبي، والرعشة والقشعريرة، والعطش الشديد الناتج من النزيف والعرق الغزير..
حقًا إن آلام الصلب أقسى بما لا يقاس بآلام الذبح، فالحمل يُذبح في لحظة بشفرة حادة فلا يكاد يشعر بالألم. أما يسوع البار فإنه يُذبح على الصليب، ودمه يقطر قطرة قطرة، وهو مازال حيًا يشعر بكل شيء..
أما عملية التنفس فهي مشقة ما بعدها مشقة وعذاب يفوق كل عذاب، وألم لا يُطاق.. لماذا؟.. لأن انحناء الجسم لأسفل تحت تأثير الجاذبية الأرضية مع ثقل الرأس لا يُمكّن الإنسان من التقاط الأنفاس فتنخفض حركة التنفس من 16 مرة في الدقيقة إلى 4 مرات، مما يؤدي لارتشاح الماء من الرئة، ويضطر المصلوب إلى جذب جسده للخلف، ومعنى هذا أن يضغط على ساقيه المسمرتين بالمسمار، ويشد يديه المسمرتين أيضًا، فيحتك المسمار بالعصب الأوسط للذراع، ويشب المصلوب قليلًا لكيما يلتقط نفسًا واحدًا على حساب جراحات تتسع وآلام لا توصف، فلا يلتقط النفس الآخر إلاَّ عندما يكون على وشك الاختناق.
ورغم إن الله من رحمته أودع في الإنسان إمكانية الغياب عن الوعي متى حاقت به الآلام الطاغية، فإن المصلوب رغم آلامه لا يغيب عن وعيه أبدًا، لأن غيابه عن الوعي يعني فقدانه الحياة بسبب توقف التنفس، فيظل المصلوب يعافر ويجاهد من أجل أقل القليل من نسمة الحياة، وعلى كلٍ فإنه إن طالت فترة المصلوب على الصليب أو قصرت فإن حياته تنتهي بالاختناق..
كل هذا تحمله يسوع، بالإضافة إلى الآلام النفسية التي تحملها بسبب إنكار بطرس، وخيانة يهوذا، وجحود أمته اليهودية، وأيضًا الآلام الكفارية التي جاز فيها وتساوي كل آلام الجحيم التي كانت البشرية كل البشرية ستكابدها هناك..
وتجمع أمام الصليب المريمات، مريم المجدلية، ومريم زوجة كلوبا، ومريم أم مرقس، ومريم أخت لعازر، ومرثا، وسالومي، والنساء اللواتي كن يتبعنه من الجليل مثل يونا زوجة خوري وكيل هيرودس الملكوكل معارفه، ويوسف الرامي، ونيقوديموس، ويوحنا الحبيب، وعلى رأس الكل الأم العذراء الثكلى..
وما أثقل الأحزان التي حطمت القلوب؟!
وما أقوى العواصف العاتية التي أطاحت بالرجاء؟!
وطالما قلب المصلوب مازال ينبض، فإنه يظل يكتوي بنار الألم، ومن حوله الأحياء يحترقون بنيران الشجن والحسرة، وربما عاد التلاميذ ووقفوا بعيدًا ينظرون ما كان، فوقف داود النبي يقول "أحبَّائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي وأقاربي وقفوا بعيدًا" (مز 38: 11).
همس نيقوديموس يناجي المصلوب للمصلوب: عندما ذُبح هابيل البار.. عندما رُبط إسحق ووضع على المذبح.. عندما سجد يعقوب على رأس عصاه وبارك أفرايم ومنسى بيدين متقاطعتين.. عندما وضع خروف الفصح في النار عبر سيخين متعامدين.. عندما رفع موسى يداه طوال النهار حتى ينتصر يشوع.. عندما رفع موسى الحية النحاسية على الراية لكيما ينال الشفاء كل من لدغته الحية المحرقة.. كنت أنت هناك يا ربي بالرمز.. أما الآن فأنت هنا مُعلق على الصليب.. أنت هو هابيل المذبوح وها هنا بركة يعقوب.. أنت هو إسحق الذبيح، وخروف الفصح المشوي بالنار.. ها هنا نصرة موسى، والحية النحاسية التي تهب الشفاء.. أنت هو شمس البر التي أشرقت علينا والشفاء في أجنحتها.
وانسابت على شفتي يوسف الرامي أغنية العروس: " حبيبي أبيض وأحمر. مُعلَّم بين ربوة. رأسه (المكلَّل بالأشواك) ذهب أبريز. قصصه (الملطخة بالدماء) مسترسلة حالكة كالغراب. عيناه (المتورمتان) كالحمام.. مغسولتان باللبن.. شفتاه (اللتان التهبتا بعذابات الصليب) سوسن تقطران مرًّا مائعًا. يداه (المسمرتان) حلقتان من ذهب رُصعتا بالزبرجد (المسامير).. ساقاه (المسمرتان) عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين من إبريز. طلعته كلبنان. فتى كالأرز"(نش 5: 10 - 15).
ووقف يوحنا يُردّد همسات النبي الإنجيلي " من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب (من يصدق أن المصلوب هو هو ابن الله الحي الأزلي؟!).. لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستَّر عنه وجوهنا مُحتقر فلم نعتدَّ به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمَّلها ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحُبره (بجراحاته) شفينا. كلنا كغنم ضللنا مِلنا كلَّ واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا" (أش 53: 1 - 6).
ووقف جبران خليل جبران (بعد ألفي عام) يناجي المصلوب " أيها الجبار المصلوب.. الناظر من أعالي الجلجثة إلى مكب الأجيال، أنت على خشبة الصليب المضرجة بالدماء أكثر جلالًا ومهابة من ألف ملك على ألف عرش. إن إكليل الشوك على رأسك أجمل من تاج بهرام، والمسمار في كفك أفخر من الصولجان في قبضة المشترى. سامح هؤلاء الضعفاء الذين ينوحون عليك.. لأنهم لا يدركون كيف ينوحون على أنفسهم ".
وهمست لنفسي قائلًا: إن المكان قد تعبَّق تمامًا بأريج الحب القوي، فهوذا القارورة قد تحطمت، فلابد للناردين الغالي كثير الثمن أن تفيح رائحته.. من يقدر أن يوقف فيض الحب الذي يفيض من الجسد الممزق.. من رأسه ومن منكبيه.. من يديه ومن قدميه.. من كل جرح في جسد يسوع أرى الحب الخالد النقي الطاهر يتدفق لكيما يغسل أدران أدناسي.
وأخيرًا لو تساءل أحد عن سبب اختيار يسوع لموت الصليب بالذات دون أية ميتة أخرى نقول له إن السيد اختار موت الصليب لأسباب لذيذة نذكر منها ما يلي:
1- ليحتفظ بجسده صحيحًا كاملًا، فلو مات بالسيف فإن رأسه ستنفصل عنه، ولو مات حرقًا فإن جسده سيتحول إلى رماد.
2- ليقطر دمه قطرة قطرة لأنه هو الذبيحة المقدَّمة عن خلاص البشرية.
3- لتظل أحضانه مفتوحة وهو على الصليب لكل خاطئ أثيم يرغب في العودة إليه.
4- ليفرد جناحيه مثل الدجاجة التي تضم فراخها تحت جناحيها " يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37).
5- ليفرد ذراعيه فيضم الشعب القديم من جهة، والشعوب الوثنية (الأمم) من جهة أخرى.
6- ليُطهّر الهواء من سلطان الشيطان على أبناء الله، وذلك بعد أن انتصر على الشيطان في القفر (جبل التجربة) وبعد أن انتصر عليه في أعماق المياه (المعمودية).
7- ليكون في مركز وسط بين السماء والأرض، فيصالح الله مع الإنسان، والسمائيين مع الأرضيين.
8- حتى يراه الكل في موته ويشهد بموته الجميع فلا يشك أحد، ومتى قام لا يقولون أنه تعرض لحالة إغماء فقط.
9- حتى لا يظن أحد أنه اختار ميتة سهلة، أما موت الصليب فلا يقدر أن يقوم منه.
10- ليحمل لعنة البشرية لأنه مكتوب ملعون كل من عُلق على خشبة.
11- عن طريق شجرة معرفة الخير والشر سقط الإنسان، وعن طريق شجرة الصليب عاد الإنسان إلى الفردوس المفقود. بل وارتقى إلى الملكوت.
شكر لك يا إلهي.. يا من صلبت عني..
أعطني أن أحيَّا كما يحق لصليبك