لمحة تاريخية عن استخدام البخور في العبادة
كان ترتيب الله لاستخدام البخور في العهد القديم مكانة أولى وعظمى في العبادة الطقسية، وكعمل روحي صميمي يشرح ويعبر عن روح الصلاة الانسكاب وتقديم أفخر ما لدى الإنسان لله بسرور وشكر ورضى. وتقدمة البخور لا ترمز في حد ذاتها إلا إلى الصلاة الشاكرة الراضية.
وبتحول العبادة من العهد القديم إلى العهد الجديد لم يتحول مفهوم تقديم البخور في الصلاة كصلاة بل بقى كما هو يعبر عن العلاقة الأساسية التي تربط الإنسان بالله. أما الذي دعا بعض علماء الطقوس ونقادها على الشك في استخدام البخور في الكنيسة في القرون الأربعة الأولى معتمدين في شكهم على عدم ورود أي تفصيلات في كتابات الآباء عن هذا الطقس أو أي ذكر واضح للبخور واستخدامه في العبادة فهذا الشك لا يبتنى على أساس للأسباب الآتية:
أولًا: لأن من الأمور المعروفة لدارسي التقليد الكنسي انه كان ممنوعًا بل محرومًا تحريمًا قاطعًا كتابة أي تفصيلات عن كافة الأسرار الكنسية حتى لا يطلع عليها الوثنيون ويتخذونها مجالًا للطعن والتشكيك حتى أن الموعوظين المتقدمين للمعمودية لم يكن يجوز أن يلقنوا شيء عن سر العماد حتى إلى ما قبل عمادهم بليلة واحدة.
وظل هذا التقليد ساريًا حتى القرن الرابع. لذلك من الطبيعي أن تخلو كتابات الآباء من ذكر البخور بالتفصيل.
ثانيًا: كل التفصيلات عن الأسرار وشرحها وممارستها كانت تدخل ضمن التقليد الشفاهي السري في الكنيسة وكان لا يجوز تسليمها إلا للمؤمنين فقط وكانت تلقن بالفم والممارسة تلقينًا فرديًا وليس جماعيًا. وكان يؤخذ عهد على المؤمن أن لا يبوح هذه الأسرار. لذلك ظل طقس البخور ساريًا ومستمرًا دون أن يكون للشعب أو العلمانيين على وجه العموم أي معرفة خاصة بتفصيلاته لأنها كانت لا تسلم إلا للكهنة فقط باعتبار أنه يدخل في سر الكهنوت.
ثالثًا: بخصوص ذكر استخدام البخور في العبادة داخل الكنيسة عثرنا على بعض شهادات آبائية واضحة من القرون الثلاثة الأولى تثبت إن البخور كان مستخدما في الكنيسة:
* عندما تولى القديس ديمتريوس الأول البطريرك الإسكندري الثاني عشر (191 224 م) الخلافة المرقسية تذمر الشعب لكونه متزوجًا فأوحى له الملاك أن يثبت بتوليته فأخذ المجمرة (الشورية) وهي متقدة نارًا وقلبها مع بخورها في كمه وكم زوجته وطاف البيعة كلها أمام المؤمنين دون أن يحترق قماشهما فهدأ الشعب...وفي هذه القصة المدونة في المخطوطات القديمة في (تاريخ البطاركة) ما يؤيد استخدام البخور في الطقس الكنسي.
* في الكتاب المعروف بتعاليم الرسل (من مدونات القرن الرابع) الذي يحتوي على جزء هام من مدونات القرن الثاني والمنسوب ليهود الإسكندرية المتنصرين تحتوي الترجمة العربية له على تعاليم الرسل مضافًا إليها ترتيب الخدمة الكنيسة في ذلك الوقت ويشرح بكل وضوح وتفصيل استخدام البخور في الكنيسة في أوقاته المعينة. وفيه بنص على انه كان على الأسقف أن يبخر الهيكل بنفسه أمام الكاهن فيبخر البيعة.
*مما لا شك فيه إن الكنائس لم تكن في درجة واحدة من النضوج الطقسي وترتيباته، فالكنائس القديمة، التي كانت نواتها كثرة من اليهود المتنصرين مثل مصر بدأ التقليد الطقسي فيها قويًا ناضجًا منذ اليوم الأول أم الكنائس التي كانت نواتها كثرة من الوثنين والفلاسفة مثل شمال أفريقيا فظل الطقس فيها بدائيًا ضعيفًا حتى القرن الرابع، أي زمن التحام الكنائس جميعها بواسطة قوانين المجامع.
*لذلك نجد أن غالبية الرجال الكنسيين الذين لم يهتموا بالبخور وانتقدوا استخدامه كانوا من الوثنيين والفلاسفة المتنصرين مثل أثيناغورس وكليمندس الإسكندري وترتليان وأغسطينوس... ولكن لا يفيد على الإطلاق إن كنائسهم لم يكن فيها بخور.