رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تأثر دكتور يوسف زيدان برواية المؤرخ تشارلز كينجزلي ويصور كنجزلي Charles Kingsley راهبه، فليمون، وهو يستأذن معلمه ورئيس الدير ليخرج من الدير ويركب قارب يحطمه تمساح في النيل فينقذه بحارة يكتشف أنهم من القوط ومعهم فتاه أسمها بيلاجيا تحميه من بطشهم وهي شديدة الشبه به، ويستعبدونه على المركب كأجير وفي الإسكندرية ينجح في الخروج من قبضهم ويذهب إلى دار البطريركية لمقابلة البابا كيرلس عمود الدين وكان يحمل معه رسالة من القديس أرسانيوس إلى البابا فيستقبله بترحاب. في حين يصور لنا د. زيدان راهبة في الطريق إلى الإسكندرية وهو هارب يحمل ذكريات قتل المسيحيين لوالده، وصورة رهيبة عن المسيحيين الذين صورهم د. زيدان طوال الرواية بأشرار القصة!! وفي الطريق يجد الغمز واللمز في حق الرهبان والمسيحية والإيحاء بعدم مصداقية رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، ومصداقية صلب المسيح والتشكيك في جميع العقائد المسيحية!! وهو هائم لا يعرف أين الحقيقة!! ويصور لنا كنجزلي راهبه وقد خرج من الدير مزودا بوصايا أستاذه القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك، في حين يقدم لنا د. زيدان راهبه ساخطا على المسيحية وعقائدها بل وكل ما هو مسيحي، وبدلا من أن يتوجه إلى البطريركية مباشرة والتي جاء أصلًا ليبدأ منها يذهب على البحر والذي يشير للعالم ويبدأ مرحلة الغواية وممارسة الجنس المحرم!! فعندما يصل إلى الإسكندرية في طريقه إلى دار البطريركية يذهب إلى البحر أولًا وهناك ينزل البحر وعند خروجه من البحر بعد أن تعرض للغرق وعلى الشاطئ يقابل أوكتافيا التي كانت تنتظر فارس أحلامها الذي وعدها به إله البحر بوسيدون أنه سيأتيها من البحر، فتتصور أنه الفارس المنتظر المرسل من الإله بوسيدون فتطعمه وتأخذه في أحضانها الدافئة وتذهب به إلى منزل سيدها الصقلي المسافر في تجارته، ويمارس معها الحب والجنس والذي يستغرق د. زيدان ويستزيد في أوصافه دون أن يشعرنا ولو للحظة واحدة بوخز أو تأنيب من ضمير الراهب الذي يفترض أنه نزر البتولية، بل ويصور الحياة مع أوكتافيا التي قضي معظم وقته معها في التفكير في الجنس وممارسته معها، بأنها الجنة التي ظل يحلم بالعودة إليها بعد أن عرفت أوكتافيا حقيقته كراهب وطردته من جنتها!! وفي حين يصور لنا كنجزلي تصاعد الأحداث وتسارعها منذ لحظة دخول الراهب فليمون للإسكندرية ووصوله لدار البطريركية، عندما يصور لنا المؤامرات اليهودية لقتل المسيحيين وحرق الكنائس وتكاسل الوالي أورستُس في الدفاع عن المسيحيين ومعاقبة اليهود، بل وتواطؤه ضد البطريرك ورفض جنوده التدخل لمنع اليهود من تنفيذ مؤامرتهم، وثورة العامة من المسيحيين ضد اليهود محاولين التخلص منهم انتقاما لقتلهم بعض المسيحيين ومحاولة إحراقهم لعدة كنائس. ويرفض البابا كيرلس عمود الدين محاولة العامة قتل اليهود ولكنه، أمام تخاذل أورستُس وموقف جنوده يقرر إخراجهم من مدينة الإسكندرية، المدينة التي عاشوا فيها وكانوا من أهم معالمها منذ تأسيس الإسكندر الأكبر لها، حفظا لهم من ثورة العامة وكعقاب لهم حتى لا يكرروا ذلك مرة أخرى!! وفيما يلي الصورة التي قدمها كنجزلي عن الصراع اليهودي الأرثوذكسي في الإسكندرية[34]، حيث يقتل كل من اليهود والوثنيين، معًا، المعلم المسيحي هيراكس فيصيح أحد الرهبان طالبًا نجدته: "النجدة! النجدة! يا آباء الأديرة. أن هيراكس المعلم المسيحي يلاقي حتفه الآن على أيدي معذبيه في قلب هذا المسرح. - إلى النار يا عبيد الأصنام! إلى النار أيها اليهود! لقد اتهموا المسكين بتدبير مؤامرة ضد يهودي.. فقُبض عليه. وها هم يفحصونه بالجلدات. وتدافع الجمهور كتلة واحدة إلى الداخل وهناك خلف حاجز قضبان حديدية كان يفصلهم عن المأساة التي تجري أمامهم. شاهدوا، وعيونهم تجحظ من الرعب، شبح هيراكس وهو عاري الجسد معلقا بين السماء والأرض، مربوطا إلى عمود خشبي، والضربات تنهال عليه من معذبيه، وجسده يتلوى ويرتعش والضحكات تتعالي من الجلادين، وهم يوالون عملهم الوحشي ويلعنون البطريرك، والكهنة، والقديسين، والكنائس، والمسيحيين عامة، وينادون بأن ذلك سوف يكون مصير كل مسيحي في المدينة، وعبثا تعالت الصيحات من أفراد الجمهور، وعبثا راحوا يدفعون القضبان الحديدية بأيديهم. حتى خفت صوت الشهيد المسكين، وهدأت حركته. وبانتفاضة قصيرة اسلم الروح... وهتف الجمهور: لقد قتلوه! قتله المجرمون. هيا على بيت البطريرك. وسوف ننتقم منهم". ثم يصور لنا موقف البطريرك كالآتي: "سوف يدفعوني إلى هذا العمل، دمهم عليهم وعلى أولادهم. ألا تكفيهم تجاديفهم على الله وعلى كنيسته، وأعمال السحر والغش التي يقومون بها، حتى يدبروا المؤامرات لأولادي ويسلمونهم للموت. وأجاب صوت أكثر رقه: - وهكذا كان شأن اليهود منذ عصر الرسل. - ولن يكون بعد ذلك، لقد أعطاني الله السلطان وسوف أوقفهم. هكذا يفعل الله بي، وهكذا يريد، أن لم أطهر الإسكندرية من كل يهودي. - لعل هذا القرار لا يعجب الحاكم. - أني أعرف لماذا يداهن الحاكم هذه الفئة. أنهم يمدونه هو وطغمته بما يحتاجون من المال.. وهكذا يرضخ لمؤامرتهم وتدبيرهم. أنه على استعداد أن يحمي مغارة لصوص أن كان في هذا منفعته، ولا يهمه حدوث فتنة في المدينة". ثم يشرح كنجزلي مؤامرة اليهود لقتل أكبر عدد ممكن من المسيحيين، فيقول: " ولا يدري فليمون كم لبث من الوقت نائما حينما سمع، أو خيل إليه أنه يسمع صوتا يهتف.. - أيها المسيحيون، إلى النجدة. أن كنيسة الإسكندرية تشتعل فيها النار. وقفز من مكانه على الفور.. وأسرع يجري في الممر الضيق المظلم فوجد الرهبان والكهنة يتكدسون على درجات السلم.... ففي لمح البصر لمع نصل سكين في الهواء، وما لبث أن أنغمس في رقبة واحد من الرهبان. وانكفأ المسكين على الأرض الحجرية واسلم الروح. بينما أسرع الجاني بالفرار يتبعه الرهبان في جنون. ولكن تلك كانت حيلة لاجتذاب أكبر عدد ممكن من الكهنة والرهبان بعيدًا عن دار البطريركية. فمن هنا وهناك، من أماكن متعددة، ظهرت أشباح مسلحة تسعى وتتكاثر لتطبق عليهم، ولكن يبدو أن الكهنة تنبهوا لما يدبر لهم في الخفاء، فأسرعوا هاربين ولم يبق سوى فيلمون وحده". ثم يتحدث عن حرق اليهود للكنائس وقتلهم للمسيحيين ويصور موقف الحاكم السلبي تجاه ما يحدث! بل وموقف قائد الكتيبة الرومانية الذي لم يتقاعس عن دوره فحسب بل راح يحتقر المسيحيين ويسخر منهم! بل وتركهم يلاقون حتفهم في سخرية غريبة: " وفي أحد المنحنيات، فتحت بوابه وتدفقت كتيبة نظامية من جنود الرومان بدروعهم وسيوفهم اللامعة. وهتف قائد الكتيبة بصوت أجش.. أيها الرعاع لماذا تعكرون الليل بصياحكم؟ لماذا لا تعودون إلى منازلكم وتنامون؟ وأجاب فليمون: - أن كنيسة الإسكندرية تشتعل فيها النيران.. فقهقه القائد.. - هذا جميل وماذا أيضًا؟ - أنهم يذبحون المسيحيين.. - وهذا أجمل. دافعوا عن أنفسكم. ثم استدار لجنوده قائلًا. - أيها الرجال إلى ثكناتكم.. وعاد صف الجنود من حيث أتوا.. أهذه عدالة الرومان؟ هكذا تساءل فليمون في نفسه... هل معنى ذلك أنهم يحتقرون المسيحية ويبغضونها؟ هم لا يهمهم أن احتراق كنيسة الإسكندرية واحتراق المسيحيين والمسيحية بجملتها. - وأرتفع صوت نسائي من أحد الأبنية يهتف بالقول: - أيها المسيحيون عودوا إلى أماكنكم. أن كنيسة الإسكندرية لم يمسها سوء... أنها تبعد عنكم الآن ميلين كاملين.. وفي كل شبر، وخلف كل منحنى من هذا الطريق الطويل يكمن لكم اليهود. ينتهزون الفرصة. وبعد أن يصور دفاع المسيحيين عن أنفسهم بالوسائل البدائية يرضخون لتعليمات البطريرك والذي يقرر بعد ذلك طرد اليهود من الإسكندرية ليسكنوا خارج أسوارها في حين كان في إمكانه أن يعطي تعليماته للشعب الثائر بسحقهم، ولكنه لم يفعل!! ويبرر لنا كنجزلي تعاطف حاكم الإسكندرية مع اليهود لثلاثة أسباب جوهرية هي؛ شخصية البابا كيرلس الكاريزمية وعلاقته الوطيدة بالإمبراطور الروماني والتي تلاشى بجوارها دور أورستُس، ومن ثم لم يجد أورسُتس مكانًا له إلا مع الوثنيين واليهود والفيلسوفة هيباتيا، وهؤلاء لم يكن عددهم قليلًا، وقد اجتمعوا جميعا على كراهية البطريرك بسبب تهديده لمصالحهم جميعًا، وبسبب احتياج أورسُتس لأموال المرابين من اليهود، وليقفوا معه عندما يقرر الانفصال عن روما وإعلان نفسه إمبراطورا لمصر وشمال أفريقيا، في الوقت الذي كان متأكدًا فيه من أن البطريرك صاحب الكاريزما الجماهيرية والمحبوب بل والمؤيد من الإمبراطور الروماني لن يكون معه. أما الدكتور زيدان، كعادته، فيتجاهل هذه العوامل جميعها، والصراع الذي كان دائرًا في هذه الفترة التاريخية بين الحاكم والبطريرك من جهة وبين اليهود والمسيحيين من جهة أخرى، وبين الديانات الوثنية والفلسفات اليونانية، بل والهرطقات المسيحية المختلفة، وغيرها من جهة، وبين هذه الديانات والفلسفات والمسيحية من جهة أخرى، بل وراح بميكيافلية عهدناها فيه! يصور البطريرك بالإرهابي المتجني على كل هؤلاء، متجاهلًا لكل هذه العوامل! وكأنه يوجد ثأر شخصي بينه وبين البطريرك أو الكنيسة!! بل وتجاهل الظرف التاريخي، عمومًا، ونسي أو تناسى ما حدث من إبادة شعوب لشعوب أخرى حتى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وعلى سبيل المثال المجازر التي أهلك فيها العثمانيون الملايين من المسيحيين في الصرب وأرمينيا وخلف للعالم عداوات تاريخية بين أهل الصرب والبوسنة والهرسك وبين شقي قبرص وغيرها لم تندمل بعد!! وراح يلوم المسيحيين على طرد اليهود من الإسكندرية دون قتلهم ويتجاهل سبب موقف المسيحيين منهم وهو تأمرهم على المسيحيين ومحاولة إحراقهم لكنائسهم!! بل وينسى ويتجاهل كراهية العرب والمسلمين لليهود بسبب مواقفهم مع نبي المسلمين قديما ومحارقهم للفلسطينيينالتي لم تنته بعد؟! بل ووصف المسلمين لهم بنسل القردة والخنازير" وجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ" (المائدة:60)، "وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ" (البقرة:65). والسؤال هنا هل يعتبر الدكتور زيدان هذا الوصف لليهود افتئاتا عليهم وجريمة في حقهم؟!! ليته يجيبنا ولا يقع في حالة من الانفصام في الشخصية؟!! ولا يسعنا أن نقول له هنا إلا ما قاله الرب يسوع المسيح لقادة اليهود: "من ثمارهم تعرفونهم هل يجتنون من الشوك عنبا أو من الحسك تينا" (مت7:16)، وأيضًا "أيها القادة العميان الذين يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل" (مت23:24). وفي الوقت الذي يصور فيه كنجزلي الراهب، بالرغم من اعتراضه على بعض ممارسات رجال الدين الخاطئة والمضادة للمسيحية، ثائرا لأجل العفة والفضيلة عندما يعرف أن بيلاجيا التي سبق أن أنقذته من القوط على السفينة هي أخته والتي اشتراها سيدها القوطى وصارت محظيته، يبذل كل طاقته ويعرض حياته للموت عدة مرات لإخراجها مما هي فيه والعودة بها إلى حظيرة المسيح، حيث العفة والقداسة. نجد راهب د. زيدان غارقًا في أحضان أوكتافيا ومرتا وممارسة الجنس معها دون أي تأنيب للضمير، ضمير الراهب الذي نذر نفسه للبتولية وقرر حياة النسك والزهد في كل شيء، بل والأسوأ أنه يصور اللذة الجنسية وكأنها السبب الذي بسببه طرد الله آدم وحواء من جنة عدن!! ويصور لنا كنجزلي الراهب فليمون رافضًا الخلط بين المسيحية وما يقوم به العامة من عنف فيقول: "أن ملكوت المسيح ليس ملكوت العنف والسلب والاختطاف ولكنه ملكوت الرحمة والمحبة"، وهذا يدفعه للذهاب للتعرف على فكر الفيلسوفة هيباتيا وأن أمكن هدايتها ولكنه يتعرف عليها وينبهر بفكرها ويتعلق بها بالمقابلة لما واجهه من تشدد بعض رجال الدين ودخولهم في صراع كان يجب أن يكونوا بعيدين عنه. ويتعرف من خلال بواب مدرسة هيباتيا الوثني على زوجته الزنجية المسيحية التقية، البسيطة في إيمانها. وينضم الراهب فليمون لتلاميذ هيباتيا معجبا بتعليمها وسلوكياتها كفيلسوفة أرستقراطية إلا أنه يصعق عندما يراها متآمرة مع الحاكم أورستُس وتعد نفسها لتكون زوجته كالإمبراطور القادم وفي ملابس ومنظر وموقع يتنافى تماما مع ما تعلمه وتنادي به، يراها كالمرائية التي تقول ما لا تفعل، وخاصة في مشهد الحفل الدموي الماجن الذي أقامه أورستُس الحاكم ليسلى الشعب بمشهد حي لقتل خمسين أسيرًا ليبيًا على المسرح وأمام حوالي عشرة آلاف من المشاهدين، تمهيدا لإعلان الثورة وتنصيب نفسه إمبراطورا، فتسقط من نظره ولكنه لا يوافق على قتلها. أما راهب د. زيدان فيفتتن بها ويتمنى أن يعيش تلميذا وعاشقًا لها وتحت قدميها، وبدلًا من سعيه لدراسة اللاهوت والطب، كما صوره يوسف زيدان يتحول إلى باحث عن العلم عند هيباتيا التي فتن بجمالها الأخاذ ورقة فلسفتها بل وذاب في جمالها ورقة فلسفتها، والتي صورها الكاتب بالجنة الحقيقية مقابل المسيحية التي صورها بالدموية كما رفض حياة العفة والقداسة التي صورها بالتي لا طائل من روائها!! ونسي هدف مجيئه إلى الإسكندرية!! بل وعلى عكس كنجزلي والذي صور العامة من المسيحيين وهم يقتلون هيباتيا بصور بشعة بسبب تصورهم أنها هي السبب في الفجوة بين أورستُس والبطريرك، لأن أورستُس كان حريصا على الالتقاء بها وحضور محاضراتها الفلسفية، مما عبأ عامة المسيحيين ضده وضدها وتصورهم أنها تحرضه ضد القديس كيرلس، كما صور كنجزلي، اتفاق هيباتيا مع أورستُس واحتقارها للمسيحية والمسيحيين وبطريركهم ووصفهم بالذين يعبدون الناصري المصلوب وتصويرهم بالجهلاء والرعاع، وتنازل الوالي أو إنكاره لمسيحيته أمامها بل وأمام اليهود. وذلك دون أن يذكر أي دور للبابا كيرلس عمود الدين بل على العكس يؤكد أنه حذر من قتلها، فيقول كنجزلي على لسان الراهب فليمون: "أنهم (أي المسيحيين) يبغضونها، وينسبون إليها جرائم رهيبة. ولقد كانوا يدبرون الهجوم على منزلها في الليلة الماضية لولا خوفهم من كيرلس". وقال عن تحذير البابا كيرلس للعامة من عدم المساس بها أو المساس باليهود" ولكن يبدو أن الشعب قد خشي من غضب الأنبا كيرلس الذي اصدر تحذيره لهم بالأمس أنه أن تجاسر أحد وقام بتعكير الصفو فسيكون نصيبه الحرم والعقاب"[35]. يصور د. زيدان البابا كيرلس وهو يخطب خطبة نارية محرضا على قتلها باسم المسيح، دون سند أو وثيقة من التاريخ إلا خياله وما أوحي به له عزازيله وشيطانه الشرير! وما يريد أن يوصله للناس من أفكار لا علاقة لها بالواقع!! فيزعم أن العامة اندفعوا تحت تأثير هذه الخطبة النارية المزعومة لخطفها وتمزيقها ثم حرقها. بل وتصل أفكار الكاتب المضادة للمسيحية بل والدين عموما عندما يصور أوكتافيا الوثنية، حورية جنة راهبه الجنسية، بصورة مضادة للبابا كيرلس ورجاله حيث يصورها بالشهيدة النبيلة التي ألقت بنفسها على هيباتيا محاولة إنقاذها فقتلت معها!! وهو أسلوب ذو مغزى سيء جدا حيث صور الوثنية الزانية، لو شاء لنا التعبير، بالنبيلة الشهيدة وبطريرك الكنيسة بالمحرض على القتل باسم الدين والرهبان بالقتلة والوحوش الضارية!! وبعد مقتل هيباتيا يجد الراهب فليمون، راهب كنجزلي، في البحث عن أخته حيث يعرف في خضم الأحداث أن بيلاجيا التي تعيش مع جماعة القوط هي أخته ولأنها أسيرة ومباعة كعبدة فقد كانت تعيش مع أمير هذه الجماعة كعشيقة فيحاول أن يخلصها مما هي فيه من خطية ويذهب بها إلى الدير ليعيشا حياة القداسة والعفة والطهارة بعيد عن ضوضاء العالم وضجيجه. وعند عودته للدير يختاره الرهبان بالرغم من صغر سنة لرئاسة الدير فيقوده بقداسة وحكمة، وفي النهاية يطلب من الرهبان أن يصلي معهم القداس الإلهي ويناولهم جميعا، ويحتفظ لنفسه بجزء ويذهب به في الصحراء بعيدا ويختفي عن الرهبان الذين يبحثون عنه، ويعرفون عن طريق أحد الذين يعيشون في الصحراء أنه مر أمامهم في اتجاه معين، فيذهبون إليه فيجدونه ممدا في مغارة وعلى شفتيه أثار التناول من الأسرار المقدسة وبجواره فتاة ممددة وعلى شفتيها أثار التناول، فيعرفون أنها أخته بيلاجيا التي تركت حياة الرزيلة وعاشت كمتوحدة في الصحراء ولم يعرف أحد عنها شيئًا سوى أخيها الراهب فليمون. وهكذا تنتهي حياة راهب كنجزلي في طهر وقداسة وسمو في الإيمان. أما راهب د. زيدان فيترك الإسكندرية ويذهب إلى أنطاكية وهناك يعيش في أحد الأديرة النائية في حالة صراع مع نفسه الميالة للعالم وشهواته، وفي الدير يلتقي بمارتا التي كانت تعيش بالقرب من الدير والتي جاء بها إليه رئيس الدير ليعلمها ويدربها على الترانيم الروحية، ولكن تتحول علاقته بها إلى علاقة جنسية ليعود فيها لجنة أخرى يعوض بها جنته المفقودة التي عاشها مع أوكتافيا، ويختم روايته بكتابة مذكراته التي فيها ينكر الإيمان ويترك الدير بطريقة توحي أنه ذهب هائما وراء مارتا التي ذهبت لتعمل في حانات حلب!! هذه جنة يوسف زيدان وهذا هو هدف وغاية رحلته في هذا العالم وسعادته التي بحث عنها!! الشهوة والجنس والجري وراء الساقطات!! لقد وجد راهب كنجزلي جنته في البر والقداسة بينما وجد راهب د. زيدان جنته في الجنس والمجون والخلاعة المحرمة التي وصفها دائما بالجنة المفقودة!! وبرغم تصوير كنجزلي للعنف الذي ساد في تلك الفترة وبرغم مآخذه على رجال الدين وخاصة الرهبان وتركهم للأديرة وانشغالهم فيما هو بعيد عن هدف وسمو رهبنتهم ودخولهم في الصراع الذي كان دائرا بين الحاكم أورستُس المتعاطف مع الوثنيين واليهود والفيلسوفة هيباتيا والبطريرك ذو الشخصية الكاريزمية والمدافع عن المسيحية. وبرغم تحامله، كمعظم كتاب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على المسيحية ورجال الدين، إلا أنه لم يهاجم الإيمان المسيحي بل اقر بسموه وعظمته، ولم يهاجم العقائد المسيحية بل اقر بحقيقتها من وجهة نظر فلسفية تمثلت في إيمان رافائيل بن عزرا المرابي اليهودي الذي تثقف وتهذب بفلسفة مدرسة هيباتيا والتي أدت به إلى تخليه عن المال طواعية وعرف سمو المسيحية من خلال فتاة مسيحية بسيطة في إيمانها وسلوكياتها المسيحية الحقيقة، في شمال أفريقيا، ووجد السمو في تعاليم المسيح، ووجد الله في المسيح، الإنسان الكامل، والذي من خلال كماله وسموه آمن بأنه الإله المتجسد، لأن الله لو أراد أن يتجسد لا يمكن أن يتجسد إلا كإنسان كامل، وكان هو المسيح. ويعود بن عزرا إلى الإسكندرية محاولا أن يرد الجميل لأستاذته الفيلسوفة هيباتيا، والذي يوشك على إقناعها بالإيمان بالمسيح من خلال العقل والمنطق بل والفلسفة، وهنا يصور التلاقي بين الإيمان والفلسفة! ولكن مع تسارع الأحداث تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فيمسك بها الدهماء والعامة ويجرونها في الشوارع فيتمزق جسدها ويتهرأ، ولكن لا يطلب هؤلاء إلا قتلها على مذبح المسيح وأمام صورة المسيح، الذي يمد يديه ليبارك، والذي ترفع هيباتيا يدها إليه في ضراعة ولكن قبل أن تنطق بكلمة ينقض عليها بطرس الشماس، وكأنه يقول أنها لجأت للمسيح لكن الشماس لم يعطها هذه الفرصة!! وهنا يصور الراهب فليمون وهو يرفع عينيه إلى صورة المسيح وهو يخيل إليه أن دمعتين كبيرتين تتدحرجان على وجهه الصامت، رافضا لهذه الأعمال التي تتنافى مع حبه ومع ما تجسد من أجله ومع تعليمه السامي ومحبته غير المحدودة، وفوق الصورة كتبت باللغة القبطية "أنا هو أمسًا واليوم وإلى الأبد". ويردد الراهب: "إذا أنت هو يا سيدي؟ أنت الحب الرحيم الذي غفرت لقاتليك. وطلبت الرحمة لمعذبيك؟ أنت الذي ناديت بالمحبة، والتسامح؟ أنت هو هو مسيح الجبل، الذي ألقيت من منبره تعاليم الرحمة والحب؟ إذا ماذا يفعل أتباعك في بيتك، وعلى مذبحك وتحت أنظارك؟!". أنه يقدم صرخة لما يمكن أن يفعله بعض الذين تسموا باسم المسيح دون أن يعرفوا عن تعليمه شيئًا!! ويظهر بن عزرا اليهودي الذي آمن بالمسيح فيطلب من الراهب أن يأخذ شقيقته ويذهب بها إلى الصحراء لينجو من هذا العالم. وعلى عكس د. زيدان فقد لام كنجزلي رجال الدين الذين لم يطبقوا تعاليم المسيح السامية بل فعلوا بعكسها باسم المسيح مما تسبب في العثرات، ولام على قادة المسيحية بسبب الانشقاق الذي عطل انتشار إنجيل المسيح فيقول على لسان الراهب فليمون "أن على الكنيسة وحدها تقع مسئولية كل انشقاق، لأنها لو كانت مستيقظة يوما واحدا لكسبت العالم كله قبل غروب الشمس"!! وهذا قول حق فلو لم ينشغل العالم المسيحي بمواجهة الهرطقات والحروب الداخلية لكانوا قد حولوا العالم كله إلى أتباع للمسيح. وكما قدم لنا كنجزلي صورة سلبية لتدخل بعض رجال الدين في الأمور العالمية، فقد قدم لنا إلى جانب الراهب فليمون وأخته بيلاجيا التائبة القديسة وأبن عزرا اليهودي الذي قادته الفلسفة للتخلي عن مقتنيات العالم وقاده الإيمان البسيط للإيمان بلاهوت المسيح وسما في التعليم بمنطق العقل والفلسفة والإيمان! إلى جانب الفتاة المسيحية البسيطة التي حول سلوكها المسيحي البسيط الفيلسوف اليهودي المتأثر بالفلسفة اليونانية المصرية إلى الإيمان، والعبدة الزنجية المسيحية ذات الإيمان البسيط والمتزوجة من بواب مدرسة هيباتيا الوثني الذي يتركها على إيمانها المسيحي الذي تمسكت به. فقد هاجم كنجزلي سلبيات المسيحيين وأمتدح تعاليم المسيحية، بمفهوم القول المنسوب لغاندي "أحب المسيحية وأكره المسيحيين". قدم المسيحية السامية ورفض سلوكيات بعض المسيحيين المضادة لتعاليم المسيح السامية، قدم الإيجابيات إلى جانب السلبيات، صور بعض رجال الدين الذين دخلوا في صراع يسيء لصورة المسيح وتعاليمه، كما قدم سمو المسيحية وعظمة تعاليمها، قدم سمو وعظمة المسيح الذي هو الله المتجسد في صور الإنسان الكامل، ولم يسيء للإيمان المسيحي ولا لعظمة المسيحية ولم يخلط بين تعاليمها وعقائدها وبين سلوكيات بعض المؤمنين بها. وهذه عظمة الكاتب المحايد المبدع على أساس راقي. وهذا عكس د. زيدان الذي تخلى عن كل حياد وانساق وراء أفكاره ونظرياته التي بنيت أصلا على ما نشا عليه من أفكار مضادة للمسيحية وما تأثر به من ملحدي الغرب وراح يدعم أفكاره بأفكار ملحدين ينطبق على فكرهم القول: "إذا كان الله قد مات فلا جريمة"، أو "إذ لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح من اصغر الشرور حتى أكبر الجرائم"!! فقد بدأ د. زيدان من السطر الأول مهاجما للمسيحية وعقائدها ومتهما لها بالتأثر بالديانات الوثنية وأخذ أفكارها وعقائدها من الوثنية، مرددًا لأفكار الملحدين الملفقة!! والتي سنرد عليه في أحد كتبنا القادمة بنعمة المسيح. وقد وضع المسيحيين المستقيمي الرأي، مسيحي الكنيسة الجامعة الرسولية، وأصحاب الإيمان المسلم من المسيح لرسله والذي سلمه رسله لجماعة المؤمنين، أي الكنيسة، جميعا، عامة ورجال دين في صورة القتلة والوحوش، أو بلغة الأدب أشرار الرواية!! وقدم الهراطقة الذين تركوا التسليم الرسولي وتبنوا أفكارا هي ابعد ما تكون عن التسليم الرسولي والوحي الإلهي وانساقوا وراء أفكار لا صلة لها لا بالتسليم ولا بالوحي!! وجعل منهم عنصر الخير في الرواية مقابل الشر المتمثل بالكنيسة ورجالها متأثرا بما فعله كتاب الوثنية الحديثة من أمثال لي بيكنت وهنري لنكولن ودان بروان وغيرهم الذين كتبوا العديد من الكتب ذات الصبغة الإلحادية التي بنيت على احتمالات وفرضيات وهمية لا علاقة لها بالواقع أو التاريخ!! بل ووضع نظرية اسماها باللاهوت العربي وحاول فرضها وكأنها الحقيقة!! ونسي أن الإيمان بالإلهيات مبني على الإعلان والوحي الإلهي وليس على نظريات!! وقال كلامًا يبدو في ظاهره أنه الحق ولكن في جوهره باطل وهو أن الهراطقة يؤمنون أيضا أنهم على صواب!! ونقول له ولأمثاله؛ هذه فرية فالهراطقة مجرد أفراد خرجوا من أجماع يحتفظ بتسليم رسولي، كما أن عبدة الشيطان يعتقدون أنهم على صواب وكذلك الملحدين وكل أصحاب ملة ودين، فهل يجرؤ د. زيدان أن يقول أن الزنادقة في الإسلام كانوا على صواب وبقية جمهور المسلمين على باطل؟! أو أنهم كانوا هم الأخيار وبقية جموع المسلمين الذين رفضوهم ورفضوا فكرهم أنهم الأشرار؟!! يا دكتور أتق الله وأحترم عقائد الآخرين. أنت أخذت فكرة روايتك من رواية المؤرخ تشارلز كنجزلي ولكنك لم تكن محايدا مثله فقد وظفتها للهجوم على المسيحية وفرض نظريتك المرفوضة عن اللاهوت العربي الذي لم ولن يكن له وجودا ففكر الهراطقة ليس هو نتاج لاهوت عربي بل هو نتاج تأملات شخصية مصبوغة بفلسفات وضعية بالدرجة الأولى!! |
|