الاتفاق العام للإنجيل بأوجهه الثلاثة
اتفقت الأناجيل الثلاثة في وصف السيد المسيح بصورة متجانسة ومتماثلة من جهة شخصيته كابن الإنسان وابن الله ومن جهة مظهره الخارجي المهيب الجليل وأسلوبه في الحديث الذي يختلف عن كل معلمين العالم فقد كان "يتكلم بسلطان"، ومن جهة صفاته وألقابه وأسمه "يسوع". كان من المتوقع أن تظهر رؤية كل إنجيلي له من زاوية خاصة ولكن الذي حدث هم أنهم جميعًا سجلوا نفس الصفات والألقاب والأسلوب وحتى المظهر الخارجي نراه هو في الأناجيل الثلاثة وإن كان في ثلاثة أوجه. وكلهم يسجلون نفس ألقابه كابن الله وابن الإنسان والمسيح والمعلم والرب والفادي والمخلص، وكلهم يسجلون قداسة سيرته كالبار والقدوس الذي لم يفعل خطية وكانت حياته بلا دنس، وكلهم يسجلون أهم معجزاته وقد اتفقوا على تسجيل المعجزات التي تبرهن على قدرته الكلية غير المحدودة وسلطانه المطلق، وكلهم سجلوا أحداث القبض عليه ومحاكماته وصلبه وقيامته وظهوراته بعد القيامة وأمره لهم بالكرازة به في العالم أجمع، مع تركيز كل واحد منهم على جوانب معينة من هذه الحادث، سواء كانت مواقف أو أقوال أو أعمال ولكنهم اتفقوا معًا في الخط العام للأحداث وفى أغلب ما دونوه، وما تميز به كل واحد منهم في جمعه مع ما تميز به الإنجيل للقديس يوحنا جعل الصورة كاملة، فقد سجلت وكتبت من أربع زوايا أو أوجه فجاءت كاملة ومتكاملة.
وسجلوا جميعًا تعليمه عن ملكوت الله أو ملكوت السماوات، الذي هو ملكوت ابن الله، المسيح، ملكوت البر والحق، الملكوت الأبدي، واتفقوا كثيرًا فيما دونوه وكتبوه وما تميز به وأختص بتدوينه كل واحد منهم أكمل الصورة من ثلاثة جوانب وما دونه القديس يوحنا أيضًا أضاف للصورة جانبها الرابع.
كما سجل الثلاثة أحداث معمودية السيد المسيح وتجربته على الجبل من إبليس وبدء كرازته في الجليل بشكل متماثل ومتفق سواء في تدوين وتسجيل الأقوال والأحداث والتعليق عليها وذكر النبؤات التي تمت فيها ولم يتميز أحدهم عن الآخران إلا في ذكر تفصيلات قليلة حيث تميز القديس متى والقديس لوقا في ترتيب التجربة الثالثة والثانية ولكنهما دونا نفس الأقوال ونفس الأحداث والتفصيلات، وذكر القديس مرقس الحدث بصورة موجزة كعادته، فهو يميل كثيرًا إلى الإيجاز (27).
ويركز الثلاثة بعد ذلك على تدوين كرازة السيد المسيح العامة في الجليل (28)، ثم يسجل كل من القديس متى والقديس مرقس سلسلة من الأحداث والأمثال المرتبطة بكرازة الرب في الجليل (29)، بينما يسجل القديس لوقا سلسة أخرى من الأحداث والأمثال والمرتبطة بالرحلة الأخيرة إلى أورشليم، والتي تميز بها الإنجيل الثالث وحده ولم تكتب في الإنجيلين الآخرين (30).
ويتماثل الثلاثة ويتفقون بصورة جوهرية في تسجيل وتدوين الرحلة الأخيرة إلى أورشليم (31)، وأيضا في وصف دخول الرب الانتصاري لأورشليم (32) والذي يشترك معهم في تسجيله القديس يوحنا والذي أضاف بعض التفصيلات الأخرى (33)، كما اتفقوا في كتابة وتسجيل الأحداث السابقة للفصح وكذلك أحداث الفصح وما قاله السيد فيه (34).
وسجل الثلاثة أحداث القبض على السيد ومحاكماته وصلبه وقيامته وظهوره بعد القيامة بصورة متفقة ومتماثلة جوهريًا بل وفى أقسام متوازية، وقد سجل كل منهم تفاصيل تميز بها وحده خاصة في حادث إنكار بطرس لسيده، وتركيز كل منهم على جوانب ومواقف معينة لأحداث القيامة وظهورات الرب بعد القيامة، فقد دون كل واحد منهم ظهورات معينة بعد القيامة، وفعل ذلك أيضًا القديس يوحنا فجاءت الصورة متكاملة (35) وقد أعطى الإنجيل بأوجهه الأربعة مساحة كبيرة لأحداث الآلام والقيامة شكلت حوالي 25% من جملة من دونوه. فقد كان صلب المسيح وآلامه وقيامته جوهر الكرازة بالأخبار السارة التي كرز بها الرسل وجوهر وبؤرة ومحور ولب الإنجيل سواء الشفوي أو المكتوب.
وقد اتفق كتاب الأناجيل الثلاثة الأولى في وصف الأحداث والأعمال، برغم تميز كل واحد منهم، لدرجة أنهم وصلوا إلى مرحلة التطابق والاتفاق التام في أحيان كثيرة وذلك في وصف الحدث وفى تسجيل أقوال الرب حرفيًا ولفظيًا، في المفردات اللغوية والجوهر والمضمون والهدف، ومن الأمثلة على هذا الاتفاق؛ شفاء الأبرص (36) والسؤال عن سلطان السيد المسيح (37) وأحاديث الرب عن علامات المجيء الثاني (38) وطلب يوسف الرامي دفن جسد السيد المسيح. ونسجل هنا الاتفاق والتماثل في أحداث وتفصيلات معجزة إشباع الجموع بخمسة أرغفة وسمكتين:
متى 15:14-21
ولما صار المساء تقدم إليه تلاميذه قائلين الموضع خلاء والوقت قد مضى.
أصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعاما.
فقال لهم يسوع لا حاجة لهم أن يمضوا. أعطوهم أنتم ليأكلوا.
فقالوا ليس عندنا أكثر من خمسة أرغفة وسمكتان.
فقال ائتوني بها إلى هنا.
فأمر الجموع أن يتكئوا على العشب.
فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره نحو السماء وبارك وكسر وأعطى الأرغفة للتلاميذ والتلاميذ للجموع.
فأكل الجميع وشبعوا. ثم رفعوا ما فضل من الكسر اثنتي عشرة قفة مملوءة.
والآكلون كانوا نحو خمسة آلاف رجل ماعدا النساء والأولاد.
مرقس 35:6-44
وبعد ساعات كثيرة تقدم إليه تلاميذه قائلين الموضع خلاء والوقت مضى.
أصرفهم لكي يمضوا إلى الضياع والقرى حوالينا ويبتاعوا لهم خبزًا. لأن ليس عندهم ما يأكلون.
فأجاب وقال أعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا له نمضى ونبتاع لهم خبزًا بمئتي دينار ونعطيهم ليأكلوا.
فقال لهم كم رغيفًا عندكم اذهبوا وانظروا فلما علموا قالوا خمسة وسمكتان.
فأمرهم أن يجعلوا الجميع يتكئون رفاقًا رفاقًا على العشب الأخضر. فاتكئوا صفوفًا مئة مئة وخمسين خمسين.
فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره نحو السماء وبارك ثم كسر الأرغفة وأعطى تلاميذه ليقدموا إليهم وقسم السمكتين للجميع.
فأكل الجميع وشبعوا ثم رفعوا من الكسر اثنتي عشرة قفة مملوءة من السمك.
وكان الذين أكلوا من الأرغفة نحو خمسة آلاف رجل.
لوقا 12:9-18
فابتدأ النهار يميل. فتقدم الاثنا عشر وقالوا اصرف الجموع ليذهبوا إلى القرى والضياع حوالينا فيبيتوا ويجدوا لهم طعاما لأننا ههنا في موضع خلاء.
فقال لهم أعطوهم أنتم ليأكلوا.
فقالوا ليس عندنا أكثر من خمس أرغفة وسمكتين إلا أن نمضى ونبتاع طعاما لهذا الشعب كله.
فقال لتلاميذه أتكئوهم فرقًا خمسين خمسين. ففعلوا هكذا واتكأوا الجميع.
فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره نحو السماء وباركهن ثم كسر وأعطى التلاميذ ليقدموا للجميع.
فأكلوا وشبعوا جميعًا. ثم رُفع ما فضل عنهم من الكسر أثنتا عشرة قُفة.
لأنهم كانوا نحو خمسة آلاف رجل.
ونلاحظ هنا الاتفاق التام في تدوين كلمات السيد المسيح وأيضًا كلمات التلاميذ وما تميز به أحدهم عن الآخرين هو فقط في تدوين كلمات قليلة جدًا لم يدونها غيره. كما اتفقوا بصورة مذهلة في وصف الحدث.