كاتب سفر المكابيين الثاني
من الضروري أن نعرف أولًا أن سفر المكابيين الثاني ليس تلخيصًا للأول ولكنه تلخيص للمؤلفات التي وضعها "ياسون القيرينى" (القيرواني) وهو يهودي سكندرى من شتات القيروان، وضع كتبه الخمسة في وقت قريب من الأحداث أي بعد سنة 160ق.م. بقليل، ومع ذلك فهو مطَلع بشكل جيد على الأحوال في أورشليم والدوائر الحكومية للسلوقيين وكذلك موظفي الحكومة وألقابهم.
وإلى جانب كونه يهوديًا راسخ الإيمان إلاّ أنه ذو ثقافة هيلينية قوية، وهو يذكر الله في كل حين، ويرد ذلك بوضوح في الصلوات التي كانت تُرفع قبل المعارك وبعدها، كما أنه يهتم بالهيكل قبل كل شيء ويعنَف أعداء اليهود بشدة. هذا ومن المحتمل أن يكون ياسون قد كتب سبعة رسائل أو كتب، لا خمسة.
أما الملخص، والذي قام بتلخيص الكتب الخمسة التي وضعها ياسون في وقت سابق، وذلك في كتاب واحد: فهو شخص مجهول حتى الآن، ورغم ما يظنه البعض من عيوب مثل التعجّل في التلخيص ووجود بعض الثغرات، فإنه سيتضح لنا في الصفحات المقبلة كيف أن هناك تناغمًا ما بين ماة السفر وأسلوبه، وقد راعي هذا الشخص الورع إضفاء روح التقوى خلال سرده للمعجزات، وهكذا تتسم الخطوط العريضة لهذا الملخص بوحدة الشعور الديني أكثر من التركيز على التسلسل التاريخى (1).
والملخص شخص فريسي يدافع عن أفكار الفريسيين، وهو يهودي سكندرى احتفظ بولائه للهيكل في أورشليم، ويبدو اهتمامه وولائه لمصر، حيث كان يرغب ألاَ يتغرب رفقاؤه عن أورشليم والهيكل والأعياد لاسيما "الحانوكا" و"يوم نكانور"، ولعل وجود هيكل لليهود في مصر له نفوذ كبير، يعد من الأسباب التي دفعت الكاتب إلى تدوين السفر والذي يؤكد فيه على أهمية هيكل أورشليم.
كما أن الطلاقة التي كتب بها السفر باللغة اليونانية توحى بأنه من يهود الشتات، كما أن تصريح الشخص بأنه "يهودي" بدل من التصريح بأنه (من سكان اليهودية) يؤكَد ذلك حيث كان هذا التعبير يستخدم خارج فلسطين فقط في ذلك الوقت (2مكا6: 6) ورغم أن البعض يعتقدون أن السفر قد كتب في إنطاكية بسبب احتمال استشهاد بعض اليهود هناك (قارن 7: 3 مع 6: 8) فإن وضع الرسائل في مقدمة السفر والتي هي موجهة إلى يهود مصر، تؤيّد الرأي السائد بأن السفر قد كتب في مصر وربما في الإسكندرية، وربما كان التركيز على القدسية الفريدة لهيكل أورشليم - كما سبق - موجهًا ضد الهيكل المنافس له في هليوبوليس بمصر، كذلك فإن المقصود من التنبيه على يهود مصر بالاحتفال بعيد المظال، وهو تنمية الوحدة بين يهود مصر وفلسطين (2).
ولكن البعض يرى العكس من ذلك، أي أن الملخص كان صدوقيا! يحذف كل ما يتعلّق بمتتيا الكاهن، وتغيب الإشارة في سفره إلى القيامة، ولكن العالم "نيس" دافع عنه قائلًا أن كاتب سفر المكابيين الثاني كان متحيّزًا إلى تمجيد الحسيديين، الذين جاءوا في وقت لاحق ممثلين في سمعان ابنه، كما أن متتيا هو الشخصية الرئيسية في النضال من أجل الحرية الدينية أكثر من كونه أصل فرقة الحسيديين، كما أشار كثيرا إلى القيامة والخلود كما سيجيء.
كما كان أمينًا في عمله، له أسلوب فنى تهذيبى، ويهمَه منفعة القارئ أكثر من الدخول في الدقائق التاريخية، وقد لخص كتب ياسون بشكل جيد وبروح تقوية، وقد لجأ في عمله إلى الطرق المعروفة في زمانه. وهو يشير إلى الآلام التي تحمّلها الشهداء نيابة عن غيرهم (6: 28) وإلى تقديم الذبائح عن الموتى (12: 43) وهو الأمر الذي لا يؤيده الصدوقيين، ويوصى بتدشين الهيكل الذي يحتل مركز الصدارة في روايته (10: 1- 8) كما أنه ينظر من زاوية تفكير لاهوتي مفاده أن جميع الأحداث ناتجة عن مشيئة الله، ليس فقط يتعلق بمعاقبة المضطهدين والخونة أو هزيمة الأعداء الوثنيين، وإنما حتى الأحداث التي تعيد اليهود إلى الطريق الصحيح، فيرى الكاتب أن انتصارات يهوذا المكابى ما هي إلا دليل على لطف الله الذي استدرَه الشهداء المكابيين من الله نتيجة تعبهم وحبهم له.
وأغلب الظن أن المخلص في مكابيين ثان، كان مطّلعًا على المصادر التي أخذ عنها ياسون القيرينى، وقد استخدم أيضًا كل من التقاليد والوثائق كما في (1:1-2: 18) وكذلك أيضًا في (10: 32 - 12: 2 الخ). وعمله ليس بالمخلص الضئيل ولا ملخص الملخص، ولكنه عمل أدبي تمّ انتقاء مادته من العمل الأصلي ل "ياسون" والذي لا يُعرف عن شخصيته شئ، وإن كان البعض قد خلط فيما بينه وبين ياسون المذكور في (1مكا8: 17) مثل الخلط الذي حدث بين يهوذا المذكور في نفس المكان ويهوذا الوارد في (2مكا1: 10 و2: 14) بل استنكر البعض هويَته اليهودية، غير أن ذلك فيه الكثير من الإحجاف.
هذا وقد عُثر على اسم ياسون القيرينى في هذه الصيغة: (Ιασων Κυρηναιος ياسون كيرنايوس) في أحد المعابد المصرية لتحتمس الثالث (1490 - 1436 ق.م.) غير أنه ليس بالطبع ياسون المقصود هنا والذي عوّل عليه الملخص، غذ أن علاقته بالقيروان (حيث تقطن جالية يهودية كبيرة) توحى لنا معرفته الدقيقة بالأماكن والشئون الفلسطينية.
ويرى العالم "بوشلر" أن الكاتب الأخير للسفر "الملخص" كان يهودي هيلينى، قام بالرد على الهجوم الذي وجه للنص الأصلي والذي كتبه (سامري في مصر) ضد الهيكل في أورشليم.
وأخيرًا: فليس هناك دليل على صحة ما قيل عن أن الكاتب ربما كان يهوذا المكابى نفسه أو يشوع بن سيراخ أو فليون السكندرى أو يوسيفوس ولكن المرجح أن الكاتب هو أحد أبناء أو أحفاد هركانوس، والذي أراد أن يجعل لعائلته اسما.