رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
حديث السيد المسيح مع نيقوديموس بعد أن أكّد السيد المسيح لنيقوديموس أهمية الولادة الثانية في المعمودية من الماء والروح لكي يقدر الإنسان أن يدخل ويعاين ملكوت الله لأن "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو3: 6). بدأ نيقوديموس يتساءل ويقول: "كيف يمكن أن يكون هذا؟" (يو3: 9). أجاب السيد المسيح وقال له: "أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟! الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا، إن كنتُ قلتُ لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟! وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء. ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو3: 10-13). حضن الآب والمقصود بالسماء هنا التي لم يصعد إليها أحد سوى السيد المسيح أي حضن الآب السماوي وليس أي سماء أخرى. لأن إيليا النبي صعد إلى السماء وأخنوخ النبيصعد إلى السماء. ولكن السيد المسيح قال ليس أحد صعد إلى السماء إلا ابن الإنسان الذي هو في السماء. ومن المعلوم أن ابن الإنسان أي السيد المسيح كان على الأرض -بحسب الجسد- وهو يكلّم نيقوديموس، ولكنه بحسب لاهوته كان يملأ الوجود كله. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلي: "الله لم يره أحد قط، الإله الوحيد الجنس الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو1: 18). وهذا معناه أن السيد المسيح باعتباره كلمة الله المتجسد قد أظهر لنا نور الآب حينما ظهر في الجسد وكان هو نفسه -بحسب لاهوته- في حضن أبيه أثناء ظهوره متجسدًا على الأرض. وقال معلمنا بولس الرسول: "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16) أي أن الله الكلمة "هو صورة الله غير المنظور" (كو1: 15)، ومن رأى الصورة الحقيقية يكون قد رأى الأصل. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلي: "الله لم يره أحد قط، الإله الوحيد الجنس.. هو خبّر"بمعنى أنه هو الذي أعلن لنا الآب بظهوره في الجسد. ونلاحظ أن السيد المسيح قد ربط بين حديثه عن السماء -بمعنى حضن الآب- وبين حديثه عن السماويات والشهادة التي ذكرها وذلك في (يو3: 10-13) كما أوردنا سابقًا. الذين يشهدون في السماء من هم الذين يشهدون في السماء؟ لقد ذكر السيد المسيح الشهادة عن السماويات، فقال: "الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا" (يو3: 11). وواضح أن الحديث هنا هو بصيغة الجمع. ونظرًا لأنه يتكلم عن الشهادة التي تخص الابن الوحيد الجنس (يو3: 16) في حضن الآب (يو1: 18)، لذلك فالمقصود بالجمع هنا هو الآب والابن والروح القدس، أي أن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس. وهذا هو نفس ما أورده القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى فقال: "والروح هو الذي يشهد.. فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يو5: 6، 7). "إن كنا نقبل شهادة الناس، فشهادة الله أعظم، لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه" (1يو5: 9). ومن المؤكد أن ما أورده يوحنا الرسول في إنجيله، هو نفس ما أورده في رسالته الأولى. لأن الكاتب واحد والفكرة التي شرحها في إنجيله بالتفصيل أوردها في رسالته بالاختصار. ولتوضيح ذلك نقول أن القديس يوحنا قد أورد في إنجيله ما يثبت أن الشهود للابن المتجسد هم: الآب عن ابنه، والابن عن نفسه، والروح القدس عن الابن.. وهذه بعض الآيات التي تثبت ذلك في إنجيل يوحنا: شهادة الآب قال السيد المسيح لليهود: "والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي. لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته، وليست لكم كلمته ثابتة فيكم، لأن الذي أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به" (يو5: 37، 38). وكان قد أشار إلى شهادة الآب عنه بقوله: "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقًا. الذي يشهد لي هو آخر، وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق. أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق. وأنا لا أقبل شهادة من إنسان.. لي شهادة أعظم من يوحنا" (يو5: 31-34، 36). وقال أيضًا لليهود: "وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب.. وأيضًا في ناموسكم مكتوب إن شهادة رجلين حق: أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني" (يو8: 14، 17، 18). شهادة الابن كما أوردنا في الآية السابقة مباشرة قال السيد المسيح: "أنا هو الشاهد لنفسي" (يو8: 18). كذلك شرح القديس يوحنا المعمدان أهمية شهادة السيد المسيح وأورد ذلك القديس يوحنا الرسول في إنجيله "أجاب يوحنا وقال.. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها. ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق، لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله" (يو3: 27، 31-34). ومن الواضح هنا أن القديس يوحنا المعمدان قد ربط في حديثه بين شهادة المسيح على الأرض وبين ما يجرى في السماء "الذي يأتي من السماء.. ما رآه وسمعه به يشهد". أي أن شهادة الآب في السماء، هي نفسها شهادة الابن بما سمعه من الآب. شهادة الروح القدس "ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى" (يو15: 26). وشهادة الروح القدس هي نفسها شهادة الآب لأن السيد المسيح قال: "متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به" (يو16: 13). فالروح القدس يشهد بما سمعه من الآب عن ابنه الوحيد الجنس وليس المقصود أن الروح القدس يقل عن الآب في المجد والكرامة لأنه لا يتكلم من نفسه. ولكن المقصود أن الشهادة للابن: (أصلها في الآب وتتحقق من خلال الابن في الروح القدس) كما شرح آباء الكنيسة الكبار. وذلك لأن الثالوث واحد في الجوهر وليس فيه انفصال لأحد الأقانيم. التجسد والفداء لقد كشف السيد المسيح في حديثه مع نيقوديموس عن أمور هامة جدًا خاصة بالتجسد والفداء والثالوث القدوس. ففيما يخص حقيقة التجسد الإلهي بقصد الفداء، قال السيد المسيح: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16). كيف بذل الله ابنه الوحيد؟ إن الابن الوحيد هو كلمة الله المولود من الآب قبل كل الدهور. ولم يكن ممكنًا لابن الله الوحيد أن يموت نيابة عن البشر دون أن يتجسد، وذلك لأن اللاهوت بحسب طبيعته هو غير مائت وغير قابل للألم. أما وقد صار له طبيعة بشرية كاملة، فقد أمكن أن يتألم وأن يموت الله الكلمة بحسب إمكانيات طبيعته البشرية. وقد شرح القديس أثناسيوس الرسولي ذلك في كتاب تجسد الكلمة- الفصل التاسع- الفقرات رقم 1، 2 فقال: [وإذ رأى "الكلمة" أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلا بالموت كشرط لازم. وأنه يستحيل أن يتحمل "الكلمة" الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب. لهذا أخذ لنفسه جسدًا قابلًا للموت حتى باتحاده "بالكلمة" الذي هو فوق الكل، يكون جديرًا أن يموت نيابة عن الكل. وحتى يبقى في عدم فساد بسبب "الكلمة" الذي أتى ليحل فيه وحتى يتحرر الجميع من الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من الأموات. وإذ قدّم للموت ذلك الجسد، الذي أخذه لنفسه، كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فورًا عن جميع من ناب عنهم، إذ قدّم عنهم جسدًا مماثلًا لأجسادهم. ولأن كلمة الله متعال فوق الكل. فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفى الدين بموته وذلك بتقديم هيكله وآنيته البشرية فداءً عن الجميع]. إذن لقد تجسد كلمة الله لكي يصير بالإمكان أن يموت على الصليب فداءً عن البشرية. وبهذا يتحقق قول السيد المسيح: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس" (يو3: 16). فذبيحة الصليب هى ذبيحة الابن الوحيد، وقيمتها غير محدودة عند الله الآب. لهذا كانت كافية لسداد دين البشرية، ولترضية الآب السماوي، ولإعلان قداسة الله الكاملة في رفضه لخطايا البشرية، ولإظهار حب الله الكامل في افتدائه لنا "الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم" (2كو5: 19). الله هو المخلّص لقد سبق الرب فوعد في العهد القديم بأنه هو المخلّص الوحيد بقوله: "أنا أنا الرب وليس غيري مخلّص.. وأنا الله" (إش43: 11، 12). لهذا رنمت القديسة مريم العذراء في العهد الجديد قائلة: "وتبتهج روحي بالله مخلّصي" (لو1: 47). وقال القديس بطرس الرسول عن السيد المسيح: "ليس بأحد غيره الخلاص" (أع4: 12). وتنبأ إشعياء النبي قائلًا: "هوذا الله خلاصي فاطمئن ولا أرتعب. لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصًا" (إش12: 2)،بمعنى أن الرب ليس فقط هو المخلّص كما ورد في (إش43: 11)، بل هو الخلاص نفسه "يهوه.. صار لي خلاصًا" (إش12: 2). ويمكننا أن نقارن بين هذا القول، وبين قول القديس يوحنا الإنجيلي "والكلمة صار جسدًا" (يو1: 14) لكي نفهم أن يهوه هو الله الكلمة الذي تجسد وصار خلاصًا لأجلنا. وقال عنه سمعان الشيخ: "الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب، نورًا تجلى للأمم، ومجدًا لشعبك إسرائيل" (لو2: 29-32). إن الرب يسوع المسيح هو المخلّص وهو الخلاص، هو الفادي وهو الفدية، هو الكاهن وهو الذبيحة، هو الهيكل وهو القربان، هو الراعي وهو الحمل. لهذا دُعي اسمه "عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام" (إش9: 6). الرب هو عجيب في محبته، عجيب في خيريته، عجيب في قداسته، عجيب في حكمته، عجيب في إخلائه لنفسه وتجسده، عجيب في تواضعه، عجيب في إصراره واحتماله للخطاة، عجيب في مغفرته، عجيب في حزمه ومواجهته للشر، عجيب في ضعفه حينما تألم في جسم بشريته لأنه أظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة، وعجيب في قوته حينما قام منتصرًا من الأموات. كان الرب عجيبًا في كل تدبير الخلاص الذي أكمل بكل فطنة، وتعجب منه القديسون في كل عظم صنيعه معهم. وهذا العجب هو مصدر كثير من الإعجاب في حياتهم وأفئدتهم وفي حناجرهم. الحية المرفوعة قال السيد المسيح في شرحه لنيقوديموس: "وكما رفع موسى الحيّة في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان. لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 14، 15). كان نيقوديموس من قيادات اليهود في ذلك الزمان ومعلّم لإسرائيل (انظر يو3: 10). وكان ينبغي أن يربط له السيد المسيح ما ورد في التوراة برسالة الإنجيل وعمل الفداء والخلاص. بدأ السيد المسيح يشرح لنيقوديموس مغزى الحيّة التي رفعها موسى في البرية حينما أخطأ الشعب إلى الله، وأطلق عليهم الحيّات السامة فلدغتهم وقتلت منهم الآلاف، وصرخ موسى إلى الرب فأمره بأن يعمل حيّة نحاسية ويرفعها على سارية، وكل من لدغته الحيّات وينظر إلى هذه الحية النحاسية يبرأ من لدغ الحيّات. إن إبليس هو الملقّب بلقب "الحية القديمة"، لأنه في الفردوس اختفى في الحية التي هي أحيل حيوانات البرية وأسقط آدم مع حواء، وبهذا دخل الموت إلى العالم. وبذلك أصبحت الحيّة رمزًا لغواية إبليس ورمزًا للخطية والموت. وحينما جاء السيد المسيح إلى العالم لأجل خلاص البشرية، ليحمل خطايا جميع من ناب عنهم ولكي يموت عوضًا عنهم ويرفع عنهم الدين، فإنه قد سمّر خطايانا على الخشبة. أي أن الحية المرفوعة في البرية هي إشارة واضحة إلى الخطايا التي حملها السيد المسيح فوق الصليب مسمّرًا إياها بالخشبة. لقد صعد السيد المسيح إلى الصليب حاملًا الحية مسمّرًا إياها بالصليب، ثم نزل من على الصليب بعد قبوله الموت فداءً عنا تاركًا الحية مسمّرة هناك. فكل من ينظر إلى الصليب يرى الخطية وهى مدانة "فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رو8: 3). كل من ينظر إلى الصليب ويؤمن بأن الرب المسيح قد دفع عنه دين خطاياه يستحق أن يبرأ من سم الحيّات، أي أن يبرأ من خطاياه في المعمودية أو في سرى الاعتراف والتناول إذا كان من الذين قد نالوا العماد بالمسيح. إن العجيب في الأمر أن ترمز الحية المرفوعة إلى صليب السيد المسيح الذي كان هو نفسه بلا خطية وحده. ولكن هكذا يقول الكتاب إن الله قد "جعل الذي لم يعرف خطية؛ خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" (2كو5: 21). أي أن الرب المسيح قد أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. أخذ الخطايا وحملها وحمل عارها لكي نلبس نحن بره "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غل3: 27). صارت الحيّة المرفوعة ترمز إلى المسيح المصلوب.. وصارت عصا الرعاية في البرية -التي تحوّلت في يد موسى إلى حيّة وابتلعت حيّات سحرة فرعون- هي نفسها الوسيلة التي ضرب بها موسى البحر الأحمر وشق مياهه لعبور المفديين. ولهذا يحمل الأسقف عصا الرعاية في صورة حيّة نحاسية مرفوعة ترمز إلى صليب المسيح حيث قَتل السيدُ الموتَ بموته مسمرًا خطايانا بالصليب. لقد أشهر السيد المسيح الشيطان وأدان الخطية بالصليب "إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (أي في الصليب)" (كو2: 15). إن ارتفاع السيد المسيح على الصليب هو إعلان للجميع أنه هو الطريق المؤدى إلى السماء وهو إعلان للجميع أن الخطية قد دينت، وأن اللعنة قد أزيلت، وأن الموت قد مات. ما أجمل اللحن الذي يُقال في قداس القديس يوحنا ذهبي الفم عن الرب المسيح وموته المحيى على الصليب: [عندما انحدرت إلى الموت أيها الحياة الذي لا يموت. حينئذ أمت الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما أقمت الأموات من تحت الثرى، صرخ نحوك جميع القوات السماويين: أيها المسيح الإله معطى الحياة، المجد لك]. إن قيامة السيد المسيح من الأموات، هي استعلان لحقيقة أنه قد داس الموت بالموت. أي أن الموت الذي سحقه السيد المسيح بموته على الصليب لم يكن ممكنًا أن يمسكه لأنه قد انهزم منه، حتى أن النبي تغنى قائلًا: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية. ابتلع الموت إلى غلبة" (انظر هو13: 14، 1كو15: 55، 54). إن كان السيد المسيح قد قبِل الموت بنعمة الله نيابة عنّا، فإنه قد انتصر لنا.. ولهذا صرخ في لحظة موته على الصليب "يا أبتاه في يديك أستودع روحي" (لو23: 46). إنها صرخة الانتصار نيابة عن الإنسان الذي غاب طويلًا عن يدي الآب، إذ كان تحت سلطان موت الخطية كما أوضح معلمنا بولس الرسول عما فعله الرب المسيح للبشرية المفتداة "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضًا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس. ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عب2: 14، 15). كما أن القديس أثناسيوس الرسولي قد عبّر عن هذه الحقائق بكلماته الرائعة في كتاب "تجسّد الكلمة" كما يلي: [وهكذا إذ أخذ من أجسادنا جسدًا مماثلًا لطبيعتنا، وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضًا عن الجميع، وقدّمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا، وذلك (أولًا) لكي يبطل الناموس الذي كان يقضى بهلاك البشر، إذ مات الكل فيه، لأن سلطانه قد أكمل في جسد الرب ولا يعود ينشب أظفاره في البشر الذين ناب عنهم. (ثانيًا) لكي يعيد البشر إلى عدم الفساد بعد أن انحدروا إلى الفساد، ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة، وينقذهم من الموت (يبيد الموت عنهم)، كإنقاذ القش من النار] (الفصل الثامن- الفقرة رقم 4). يطلب ويخلص ما قد هلك قال السيد المسيح لنيقوديموس: "لأنه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم" (يو3: 17). أتى السيد المسيح في مجيئه الأول لخلاص العالم. وسوف يأتي في مجيئه الثاني ليدين العالم. فحديثه مع نيقوديموس أن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلُص به العالم، مقصود به المجيء الأول للسيد المسيح وليس المجيء الثاني، هذا من ناحية خصوصية المجيء وليس شموليته. ولكن الحديث أيضًا له شمولية عن تأثير إرسال الابن الوحيد إلى العالم. بمعنى أن الهدف الأصلي من إرساله ليس لإدانة العالم بل لخلاصه. ففي الإطار العام يكون الهدف هو الخلاص والفداء. فالغضب الإلهي كان سيمكث على العالم لو لم يرسل الله ابنه الوحيد لإتمام الخلاص والفداء. وهذا واضح من كلام القديس يوحنا المعمدان الذي سجله إنجيل القديس يوحنا "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله" (يو3: 36). أي أن السيد المسيح قد جاء ليرفع الغضب الإلهي الكائن بالفعل ضد جميع البشر منذ سقوط الإنسان ومعصيته وفساد طبيعته. وقد أكّد القديس بولس الرسول فساد الطبيعة البشرية بقوله: "كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (رو3: 10-12). وقال أيضًا عن وراثة الخطية الأصلية وحكم الموت: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع" (رو5: 12). وقال معلمنا داود النبي: "لأني هأنذا بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي" (مز50: 5). أي أن الإنسان قد حُبل به وارثًا الخطية الأصلية وولد بها من بطن أمه. كما أنه قد ورث فساد الطبيعة. وفى المقابل يتحرر الإنسان من الخطية الأصلية كما أنه ينال الطبيعة الجديدة في المسيح بالمعمودية. كقول معلمنا بولس الرسول "لأننا كنا نحن أيضًا قبلًا أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضًا. ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته، نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية" (تى3: 3-7). فكما يرث الإنسان الخطية الأصلية والموت وفساد الطبيعة بولادته الجسدية من آدم هكذا يرث البر والحياة. وتجديد الطبيعة بالمسيح "لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (1كو15: 22). وقال السيد المسيح عن مجيئه إلى العالم: "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10: 10). أي أنه "قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10). ما هي الدينونة؟ أكمل السيد المسيح حديثه مع نيقوديموس حول الدينونة فقال: "وهذه هي الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو3: 19). كانت البشرية غارقة في الظلمة وظلال الموت. وقال إشعياء النبي: "ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور" (إش9: 1، 2). ليست المشكلة أن يجلس الإنسان في أرض ظلال الموت منتظرًا النور. بل المشكلة في أن يبغض النور ويُسَّرْ بالظلام. فالذين انتظروا مجيء المخلّص -كما قال يعقوب أب الآباء قبل موته مباشرة "لخلاصك انتظرت يا رب" (تك49: 18)- ذهب الرب إليهم في ظلمة الجحيم، في بيت السجن وبشرهم بالخلاص وأخرجهم من هناك. الذين رقدوا على رجاء الخلاص وصلت إليهم بشارة الخلاص بعد رقادهم.. ولكن الذين يحبون الظلمة أكثر من النور لا يمكنهم أن ينالوا الخلاص سواء كانوا قد رقدوا قبل مجيء المخلّص وإتمام الفداء، أو عاينوا المسيح الرب أو جاءوا بعد مجيئه إلى العالم وصعوده إلى السماوات. الدينونة تنبع من واقع ميول الإنسان ورغباته. فهو الذي يحدد مصيره بما يشتاق إليه. كما قال السيد المسيح: "حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا" (مت6: 21). الدينونة هي في رفض محبة الخير.. في رفض محبة الله.. في رفض عطية النعمة والخلاص والتجديد.. في رفض معانقة النور والالتحاف به.. في تفضيل حياة الخطية على حياة البر.. في مقاومة عمل الروح القدس داخل القلب.. في الفرح بالشر والابتهاج به وكراهية النور الذي يبعثه الله في حياة الإنسان "لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة" (يو3: 20، 21). إن مجيء المسيح نور العالم هو فرصة لتحرير من يريد الحرية، ولن ينتفع منه شيئًا رافضي الحق والنور والحياة ممن أحبوا الظلمة أكثر من النور. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
السيد المسيح عمل فردي مع نيقوديموس |
حديث السيد المسيح مع نيقوديموس |
نيقوديموس ودفن السيد المسيح |
لقاء السيد المسيح مع نيقوديموس |
مقابلة السيد المسيح مع نيقوديموس |