مزمور 94 - تفسير سفر المزامير
الله ديان السماء والأرض والمدافع عن المظلومين
كثيرًا ما يقف الإنسان في دهشة أمام ما يجري في هذا العالم. يبدو كأن الله لا ينظر إلى ما يحل ببني البشر، ولا يسمع لصرخات المظلومين. فالأشرار يمارسون الظلم، وكأنه ليس من يقف أمامهم، والأبرار يصرخون ليلًا ونهارًا، وكأنه ليس من يسمع ولا من ينصت إلى طلباتهم.
غالبًا ما كُتب هذا المزمور في وقت ضيقٍ شديدٍ حلّ بالشعب بواسطة عدوٍ غريبٍ.
جاء في الترجمة السبعينية كما في المشناه Mishna، أن هذا المزمور كان يسبح به الشعب في اليوم الرابع من الأسبوع (الأربعاء)، أي في منتصف الأسبوع.
يتسم هذا المزمور بغناه في تقديم التعزيات وسط الضيقات على مستوى الجماعة، كما على المستوى الفرد، كما أنه غني في أدبه اللغوي فيحمل مراثٍ، وتوسلات لله، وتساؤلات، وتعاليم، ويصور الانتهاكات التي تحل بالأبرار، وتأكيد عدالة الله ودفاعه عن المظلومين في الوقت المعين.
* معروف لنا جميعًا، وأود ألا نكون من بينهم، أنه قد يتذمر البعض على طول أناة الله ويحزنون، إما لأن الأشرار غير الأتقياء يعيشون في هذا العالم في رغدٍ، أو أنهم أصحاب سلطة عظيمة، وما هو أكثر من هذا أن الأشرار بوجه عام لهم سلطة عظيمة ضد الصالحين، وأنهم غالبًا ما يمارسون الضغوط على الصالحين. فيتشامخ الأشرار ويتألم الصالحون. إذ يلاحظ هذا في الجنس البشري إذ يزدهر الأشرار، فإن أصحاب العقول الضعيفة وضيقي الصدر ينحرفون، كمن يمارسون الصلاح باطلًا، كأن الله لا يتطلع أو يبدو كمن لا يبالي بالأعمال الصالحة التي للأتقياء والمؤمنين، ويرفع الأشرار في ملذاتهم التي يحبونها... من يفكر هكذا، فإنه وإن كان لا يضر أحدًا، لكن يؤثر على نفسه جدًا، إنه شرير بالنسبة لنفسه، وبشره لا يؤذي الله، إنما يقتل نفسه[1].
1. دعوى قضائية أمام الديان
1-7.
2. الله يعرف وينظر
8-13.
3. الله يتعهد شعبه
14-19.
4. نهاية الأشرار
20-23.
من وحي المزمور 94
العنوان
جاء عن الترجمة السبعينية: "لداود، في اليوم الرابع". يرى القديس غريغوريوس النيسي أنه يخص تصرف يهوذا الخائن في يوم الأربعاء.
* في اليوم الرابع خلق الرب الأنوار في السماء (تك 1: 14). "الشمس لحكم النهار والقمر والكواكب لحكم الليل" مز 136: 8، 9). هذا هو عمل اليوم الرابع. إذن هذا هو السبب أن هذا المزمور أخذ هذا العنوان من اليوم الرابع، المزمور الخاص بالصبر على ازدهار الأشرار وآلام الصالحين. يقول الرسول بولس: "افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة، لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاد الله بلا عيب، في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ، تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم، متمسكين بكلمة الحياة" (في 2: 14-16)[2].
1. دعوى قضائية أمام الديان
يقدم المرتل بلسان شعب الله الساقطين تحت الآلام والأحزان دعوى أمام قاضي المسكونة كلها. هذه الدعوى تشبه تلك التي قدمتها الأرملة المتألمة من الظلم في المثل الذي قاله ربنا يسوع؛ حيث تقدمت إلى قاضٍ لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا، ولم يشأ أن ينصفها إلى زمانٍ، وأخيرًا قال في نفسه: "لأجل أن هذه الأرملة تزعجني أنصفها لئلا تأتي دائمًا فتقمعني". وقال الرب: "اسمعوا ما يقول قاضي الظلم. أفلا ينصف الله مختاريه، الصارخين إليه نهارًا وليلًا وهو متمهل عليهم؟! أقول لكم إنه ينصفهم سريعًا" (لو 18: 6-8).
يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ يَا رَبُّ،
يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ أَشْرِقِ [1].
كلمة "نقمة" أو "نقمات" في كثير من اللغات الحديثة تعني معنى مشاعر مثيرة وحقد أو ضغينة، لكنها هنا لا تحمل هذا المعنى، إنما تحقيق العدالة للمظلومين، وسقوط العقوبة على الظالمين المصرين على ظلمهم للغير. جاء هذا المبدأ الأساسي في (تث 32: 35) "لي النقمة والجزاء. في وقتٍ تزل أقدامهم. إن يوم هلاكهم قريب، والمهيآت لهم مسرعة".
مما يعطي المؤمنين طمأنينة أن الجزاء في يد الله القدير وحده، والعارف الأسرار والنيات الداخلية، كلي العدل والنقاوة، يهب خليقته الجزاء.
يكرر المرتل عبارة "إله النقمات" مرتين لأن قلبه متمرر من الظلم الذي يمارسه الأشرار على الأتقياء البسطاء. ولعله بقوله "أشرق" يكشف عن أنه شمس البرّ.
* إله النقمات يعمل بجسارة. ذاك الذي اُحتقر في تواضعه، ينتقم بعد ذلك في جلاله[3].
* إن كان الله هو رب النقمات. "لي النقمة أنا أجازي يقول الرب" (رو 12: 19)، فلماذا تطلب النقمة يا إنسان؟ لك الرب هو يجازي عنك؟ هذا هو جوهر ما يقوله الرسول: "فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه" (رو 12: 20)... بمعنى أنك تطهر عدوك من الخطية، لأن صبرك يغلب قسوته... إن كان عدوك يضربك وأنت لا تثأر لنفسك، فسيُغلب بصبرك وتهديه[4].
* هذا ما يعد به الله، إنه هو نفسه سيكون لنا المكافأة، إذ يقول: لي النقمة، وأنا أنتقم، أي اتركوا لي بصبرٍ، وأنا أكافئ على الصبر[5].
* إنه كما يُدعى إله الرأفة، لأنه يتراءف؛ وإله التعزية، لأنه يعزي المحزونين، كذلك يُدعى إله النقمة، لأنه ينتقم من الأشرار.
* إنكم تتذمرون لأن الأشرار لا يُعاقبون. لا تتذمروا لئلا تصيروا أنتم بين الذين يُعاقبون. ذاك الإنسان ارتكب سرقة ويعيش. أنت تتذمر على الله، لأن ذاك الذي ارتكب السرقة لم يمت... أن كنت تريد هذا الآخر يُصلح من يده، فلتُصلح أنت من لسانك نحو الإنسان. أصلح قلبك نحو الله لئلا إله النقمات الذي تطلبه يجدك أنت أولًا. إنه سيأتي، وسيدين الذين يستمرون في شرهم، غير الشاكرين على رحمته وطول أناته، فتخزن لنفسك سخطًا في يوم الغضب، عند إعلان حكم الله العادل، الذي يجازي كل واحدٍ حسب عمله (رو 2: 4-6)[6].
ارْتَفِعْ يَا دَيَّانَ الأَرْضِ.
جَازِ صَنِيعَ الْمُسْتَكْبِرِينَ [2].
هذه الصلاة هي نبوة تتحقق حين يُصر المتكبرون على تشامخهم ومقاومتهم للحق الإلهي. إنها ليست نقمة لانفعال ما في الجوهر الإلهي، إنما هي ثمرة طبيعية للتشامخ بما يحمل من فساد، وترفق وحنو على المتواضعين والودعاء الذين يستهين المتكبرون بحقوقهم. كما تحمل تحذيرًا للمتكبرين لكي ما يتحققوا من حقيقة ضعفهم، فكبرياؤهم يخفي ضعفًا وفسادًا.
* "ارتفع يا ديان الأرض" أنت ديان الأرض، لأن الدينونة لا تناسب السماء. اسمعوا أيها الهراطقة، فإن الرب يدين الأرض. لو وُجد شر في السماء، لماذا لا تكون دينونة في السماء أيضًا؟ لو كانت النفوس في السماء تخطئ، فلماذا تُدان الأرض وحدها؟[7]
* "جازِ صنيع المستكبرين". يلزم تجنب كل الخطايا؛ فلتتأكدوا من ذلك، لأن كل الخطايا هي ضد الله، لكنها تختلف في الدرجة. المستكبرون - كمثالٍ - هم أعداء الله. "يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة" (يع 4: 6). الشيطان هو رئيس المستكبرين. يقول الكتاب: "لئلا يتصلف، فيسقط في دينونة إبليس" (1 تي 3: 6)؛ لأن من يمجد نفسه في قلبه يكون شريكًا للشيطان الذي اعتاد أن يقول: "بقدرة يديّ صنعت، وبحكمتي، لأني فهيم. ونقلت تخوم شعوب" (إش 10: 13)... كل الضعفات الأخرى تستحق رحمة الرب، لأنهم في تواضعٍ يخضعون لمحاكمة الله لهم، أما الكبرياء وحده، فيكرم ذاته فوق قدرته، ويقاوم الله. الزاني أو الفاسق لا يجسر أن يرفع عينيه للسماء. في اكتئاب النفس يتطلع إلى رحمة الله. أما ذاك الإنسان، فإن كان ضميره يجعله ينزل حتى إلى الأرض، فإنه يجعله أيضًا يرتفع إلى السماء. عندما يثور الكبرياء والرغبة غير اللائقة للمجد (الباطل) في إنسانٍ، فإنهما في نفس الوقت ينزلان به بخطيته ويجعلانه عدوًا لله[8].
* إنك تتألم، "ارتفع"، بمعنى قم، ارحل إلى السماء! لتحتمل أيضًا الكنيسة بطول أناة ما احتمله رأس الكنيسة بطول أناةٍ؟ "ارتفع يا ديان الأرض، جازِ صنيع المستكبرين". أنه سيجازيهم يا إخوة... هذه كلمات من يتنبأ، لا جسارة لشخصٍ يأمر. ليس لأن النبي قال: "ارتفع يا ديان الأرض" أطاع المسيح النبي، بقيامته من الأموات وصعوده إلى السماء، وإنما لأن المسيح كان سيفعل هذا تنبأ النبي بذلك[9].
* وُعد المساكين بالمكافأة الأبدية، ووُعد الأغنياء المتكبرون بالعقوبة التي بلا نهاية بهذه الكلمات: "جاز صنيع المتكبرين"، سيزيل الله ذكرى المتكبرين، "الكبرياء" مكروه أمام الله[10].
* أي أظهر ارتفاع سيادتك ليعرف الكل أنك ديان البشر، وتكسر تشامخ المستكبرين، وهذا حدث عندما تجسد ابن الله وتواضع، الذي لم يزل في العلى وفي شرف لاهوته، وقد دان العالم، وأظهر أنهم خطاة، لأنه وحده بدون خطية.
جازى المستكبرين، وهم الكتبة والفريسيين الذين استكبروا عليه وأرادوا قتله، فجازاهم، وجازى القوات المضادة التي حركتهم على صلبه.
أيضًا كلمة "ارتفع" هي تحريض على إتمام صلبه، لأن ربنا ذاته دعا الصلب ارتفاعًا بقوله له المجد: "أنا إذا ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الكل". فلما صُلب جازى المستكبرين، لأنه قهر بعود صليبه القوات المضادة التي خدعت آدم وأغرته على الأكل من ثمرة الشجرة المنهي عنها. ولذلك حرر بولس الرسول في الفصل الثاني من رسالته إلى أهل كولوسي، قائلًا: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 15).
حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَا رَبُّ،
حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَشْمَتُونَ؟ [3]
الله طويل الأناة على الأشرار والمتكبرين، ليس تجاهلًا لصرخات المظلومين، وإنما ترفقًا بالخطاة، لعلهم يدركون حقيقة حالهم، فيرجعون عن شرورهم.
يقف حتى الشهداء في الفردوس في دهشة أمام طول أناة الله على الأشرار. يقول الرائي: "وصرخوا بصوتٍ عظيم قائلين: حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض" (رؤ 6: 10).
صرخة المتألمين هنا تكشف عن مشاعر البشر، إذ تعبر عليهم ساعات الضيق كأنها سنوات طويلة، فيقولون: "حتى متى..." مكررين ذلك، أما أيام الفرج فتعبر بسرعة.
* "حتى متى الأشرار يا رب، حتى متى يفتخر الأشرار؟!" ضيق صدر البشر لا يريد أن يكون الله طويل الأناة. المخلوقات بالحق جديرون بالشفقة، ونحن نريد أن يكون الله طويل الأناة معنا، وليس مع أعدائنا. عندما نخطئ نتوسل إلى الله أن يطيل أناته علينا، عندما يخطئ أحد ضدنا لا نتوقع من الله أن يطيل أناته عليه.
"حتى متى يفتخر الأشرار؟" لا يكفي أنهم يخطئون، وإنما يفتخرون أيضًا بخطاياهم. بليتهم الأولى أنهم يخطئون، وأما الدرجة الثانية من بؤسهم بل والأخيرة هي عدم توبتهم. هؤلاء الخطاة ليس فقط يرفضون أن يحنوا رقابهم في تواضعٍ، لكنهم يستعرضون خطأهم علانية[11].
يُبِقُّونَ يَتَكَلَّمُونَ بِوَقَاحَةٍ.
كُلُّ فَاعِلِي الإِثْمِ يَفْتَخِرُونَ [4].
كثيرًا ما يرتبك البشر فينكرون عناية الله وعدله أيضًا فينطقون بوقاحة ضد الله، حتى بعض الأبرار والصديقين للأسف في ضعفهم، إذ يرون الأشرار ناجحين ومزدهرين، يظنون كأن عيني الله لا تتطلعان إلى ما يحل بهم من الظالمين.
يرى القديس جيروم أن فاعلي الإثم الذين يفتخرون هم الهراطقة دون شكٍ. فالإنسان المتمرد والمتغطرس بلسانه حتمًا شرير في أفعاله، فإنه من فضلة القلب يتكلم اللسان (لو 6: 45). عندما يحدث ضرر في الضمير تزداد خطايا اللسان.
* حتى متى، يا رب يكون الأشرار هكذا، حتى متى يتمجد الأشرار؟ الخاطي الذي يبتهل إلى الله يستحق المغفرة، أما الذي ينتفخ بشره فهو متكبر، والكبرياء يجعل من الله عدوًا... حتى متى كل فاعلي الشر يستمرون في الافتخار بأعمالهم؟ حتى متى يستمرون في الحديث بتشامخهم... عدم طول أناة الناس يدهش لطول أناة الله، ويقول: أنا خاطي لا أحتمل الخطاة، وأنت البار كيف تحتمل هذا كله منهم؟ حتى متى يا رب يستمر الأشرار في الافتخار بشرورهم؟[12]
يَسْحَقُونَ شَعْبَكَ يَا رَبُّ،
وَيُذِلُّونَ مِيرَاثَكَ [5].
هذه هي صرخة الكنيسة في كل جيل، إذ لا يتوقف عدو الخير عن إثارة الاضطهاد خلال أتباعه لسحق شعب الله وإذلاله. عداوة إبليس لكنيسة الله ليست جديدة، ولن تتوقف مادامت الفرصة سانحة له.
* شعب الله دائمًا يُسحق، دائمًا يُداس عليه... إنهم يسقطون في تواضعٍ مثل الله الوديع والمتواضع القلب (مت 11: 29)[13].
يَقْتُلُونَ الأَرْمَلَةَ وَالْغَرِيبَ،
وَيُمِيتُونَ الْيَتِيمَ [6].
لا يعرف عدو الخير الحنو والشفقة حتى على الذين ليس لهم معين، فلا يشفق على حزن الأرامل، ولا شيبة الشيوخ، ولا احتياج الأيتام، ولا حرمان الغرباء من وطنهم وعائلاتهم. قانونه العنف والقسوة وعدم الرحمة.
بعد أن أوضح القديس جيروم أن الذين يتكلمون بوقاحة ويفتخرون بفعل الإثم هم الهراطقة، يوضح أن ضحاياهم هم الأرامل والغرباء والأيتام، مقدمًا تفسيرًا رمزيًا لهذه الفئات.
* الأرملة هي نفس الخاطي الذي فقد الله عريسه، والغريب هو الذي ليس له مسكن، أي ليست له إقامة دائمة. إنه المؤمن الحديث الذي يسقط سريعًا لأول عثرة يلتقي بها... واليتيم هو الذي يفقد الله أبيه... (هؤلاء هم الذين يقتلهم الهراطقة الأشرار)[14].
وَيَقُولُونَ: الرَّبُّ لاَ يُبْصِرُ،
وَإِلَهُ يَعْقُوبَ لاَ يُلاَحِظُ [7].
ينكر الأشرار عناية الله، وهذا خطأ خطير. يحسبون الله إن كان موجودًا، فهو منعزل في سماواته، لا شأن له بالبشرية، أو حتى بالخليقة، وكأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يلاحظ ولا يبالي.
* "يسحقون شعبك يا رب، ويذلون ميراثك". من؟ المستكبرون. "يقتلون الأرملة والغريب"، التاريخ واضح... فإن الشيطان المتكبر مع أتباعه يضطهدون كل يوم، ويضايقون المتواضعين في الكنيسة. "يقولون: الرب لا يبصر، وإله يعقوب لا يلاحظ". ينظرون إلى طول أناة الله أنه نقص في المعرفة[15].
* لا يقدر أحد أن يهرب من عين الله، فإنه ليس فقط يرى الأماكن السرية، بل ويرى أعماق القلب[16].
* بهذا القول (مز 94: 3) أظهر إمهال الله وطول أناته. وأما قوله: يذلون شعبك، فهذا عن رؤساء اليهود وأكابر اليونانيين الذين كانوا يمنعون الناس من الإيمان بالمسيح، وأذلوهم وأضروهم، وصاروا لا يشفقون على اليتيم والأرملة، متوهمين أن الله لا يبصر، والإله الذين ظهر ليعقوب لا يفهم.
2. الله يعرف وينظر
اِفْهَمُوا أَيُّهَا الْبُلَدَاءُ فِي الشَّعْبِ،
وَيَا جُهَلاَءُ، مَتَى تَعْقِلُونَ؟ [8]
الذين يدعون أن الله لا شأن له بالخليقة، فيجردونه من عنايته الإلهية، إنما يجردون أنفسهم من الفهم والتمييز والتعقل. إنهم في حاجة أن يطلبوا من الله أن يهبهم عطية الحكمة الحقيقية والتعقل.
* "افهموا أيها البلداء في الشعب؛ ويا جهلاء متى تعقلون؟ الغارس الأذن ألا يسمع؟ الصانع العين ألا يبصر؟" يوبخ النبي الخطاة ويهزمهم بدليل من الطبيعة. يا من تظنون أن الشئون البشرية لا تهم الله، يا من تتفقون مع أبيقور بأن الله بعيد عن شئون البشرية، اسمعوا لججه. فإنكم لستم إلا أطفالًا، فأقدم لكم أمثلة من الأطفال. هل الذي أعطى الإنسان السمع هو نفسه لا يسمع؟ لم يضع مقارنة شبيه بشبيهه، إذ لم يقل: "الذي خلق الأذن، أليس له هو نفسه أذن؛ أو الذي صنع العين أليس هو نفسه له عين؟ فإنه ليس لله أعضاء جسمية[17].
* يقول غالبيّة البشر: ماذا؟ هل يفكر الله فيَّ الآن، فيعرف ما أصنعه في منزلي؟! هل يهم الله ما أريد أن أفعله وأنا على سريري؟
"افهموا أيّها البُلداء في الشعب، ويا جهلاء متى تعقلون" (مز 94: 8).
إنّك كرجل يلزمك أن تعرف كل ما يدور في بيتك، وأن يصل إلى علمك كل أفعال خَدَمَك وأقوالهم، أفما تظن أن لله عملًا كهذا؟ إنَّه يلاحظك!
القديس أغسطينوس
* الله لوفرة صلاحه ورأفته لا يأتي بالنقمة على المذنبين للتو، بل أولًا ينصحهم، ويقول: "يا بلداء وجهلاء افهموا وتعقلوا".
الْغَارِسُ الأُذُنَ أَلاَ يَسْمَعُ؟
الصَّانِعُ الْعَيْنَ أَلاَ يُبْصِرُ؟ [9]
إن كان الله قد شكّل الإنسان هكذا، فوهبه الأذنين ليسمع، والعينين لكي يبصر، فيتجاوب مع من حوله من البشر، بل وحتى مع بقية الخليقة من حيوانات وطيور ونباتات وجماد، فكيف نجرد الله من عنايته الإلهية الفائقة؟
الْمُؤَدِّبُ الأُمَمَ أَلاَ يُبَكِّتُ؟
الْمُعَلِّمُ الإِنْسَانَ مَعْرِفَةً [10].
يهتم الله ليس فقط بشعبه والمؤمنين به، بل يؤدب ويعلم حتى الأمم، يعمل لخلاص حتى الوثنيين ليرجعوا إليه، فكيف لا يبكت محبوبيه، ويهبهم المعرفة.
يرى القديس إكليمنضس السكندري أن المؤمن الحقيقي يتمتع بمعرفة صادقة حقيقية، لذا يدعوه غنوسيًا أي صاحب معرفة. يرى أنه يجب أن يكون محبًا للمعرفة، وكثير المعرفة[18].
* بالتأكيد حتى عندما لا أستطيع أن أفهم كل شيءٍ، مع هذا فإنني مشغول بالأسفار المقدسة، وأتأمل ناموس الله نهارًا وليلًا (مز 1: 2). لن أتوقف في أي وقت عن السؤال والمناقشة والبحث وما هو أعظم من هذا كله الصلاة لله وسؤاله الفهم منه، فهو يعلم البشر المعرفة (مز 94: 10) حتى أظهر ساكنًا عند بئر الرؤيا (بئر لحي رئي تك 25: 11).
فلو كنت مهملًا أو غير مشغول بكلمة الله في البيت، ولا أدخل الكنيسة مرارًا لأسمع الكلمة، كما أرى البعض بينكم يأتون إلى الكنيسة في أيام الأعياد، فإن مثل هؤلاء لا يسكنون عند "بئر الرؤيا". إنني أخشى أن هؤلاء المهملين حتى إن جاءوا إلى الكنيسة لا يشربون من ماء البئر ولا ينتعشون، بل يكرسون حياتهم لمشغولياتهم وأفكار قلوبهم التي يأتون بها إلى الكنيسة، ويخرجون عطشى حتى من آبار الأسفار الإلهية[19].
* أليس الرب هو الذي يُعلَّم الفهم والمعرفة...؟ حقًا إن المعلم الحقيقي للفضيلة لا يمكن أن يكون إنسانًا. "إنه هو الذي يعلم الإنسان معرفة" (راجع مز 94: 10)، قد أُشير إلى ذلك في المزامير، ليس أحد آخر سوى الله. يقول النبي: "علمني أحكامك" (مز 119: 12)، إذ يعرف أن الله هو المعلم الحقيقي الكامل. بالحقيقة يعلم الله بأن ينير نفس التلميذ من عنده، ينير ذهنه بنوره، كلمة الحق. لهذا السبب، فإن الأبرار الذين تقبلوا نعمة التعليم يعلموننا[20].
* أيضًا معرفة الشريعة التي يسعون إلى بلوغها يوميًا، لا بالقراءة الدءوبة، وإنما بإرشاد الله واستنارتنا به، إذ يقولون له: "طرقك يا رب عرفني؛ سبلك علمني" (مز 45: 2)؛ "اكشف عن عينيَّ، فأرى عجائب من شريعتك" (مز 119: 18)؛ "علمني أن أعمل رضاك، لأنك أنت إلهي" (مز 143: 10)؛ "المعلمُ الإنسان المعرفة" (مز 94: 10).
* أيضًا يسأل الطوباوي داود من الرب طالبًا الفهم عينه، حتى يدرك وصايا الله، بالرغم من معرفته يقينًا أنها مكتوبة في كتاب الشريعة، فيقول: "عبدك أنا، فهمني فأعرف شهاداتك" (مز 119: 125).
بالتأكيد كان لداود الفهم الموهوب له بالطبيعة كإنسانٍ، كما كان لديه وصايا الله المحفوظة في كتاب الشريعة، مع هذا يصلي إلى الرب لكي يعلمه الشريعة بإتقانٍ. فما حصل عليه من فهمٍ حسب الطبيعة لا يكفيه، ما لم يُنِرْ الله فهمه باستنارة يومية لكي يفهم الشريعة روحيًا، ويعرف وصاياه بوضوح.
كذلك أعلن الإناء المختار هذا الأمر بوضوحٍ وفي أكثر عمقٍ: "لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في 2: 13). أي وضوح أكثر من هذا أن الإرادة الصالحة وكمال عملنا يتم فينا بالكمال بالرب؟!
وأيضًا: "لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألموا لأجله" (في 1: 29). هنا يُعلن أن قبولنا للإيمان وتحمُّل الآلام هما هبة وعطية لنا من الرب.
ولأن داود يعرف ذلك يصلي مثله، لكي يُوهب له هذا الأمر عينه من قِبَل رحمة الله، قائلًا: "أيدَّ يا الله الذي فعلته لنا" (مز 68: 28)، مظهرًا أنه لا يكفي فقط أن يُوهب لنا بداية خلاصنا كهبة ونعمة من قبل الله، بل ويلزم أن يكمل ويتمم بنفس تحننه وعونه المستمر[21].
الرَّبُّ يَعْرِفُ أَفْكَارَ الإِنْسَانِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ [11].
الإنسان الذي لا يبالي بخلاص نفسه وأبديته وشركته مع الله أفكاره وخططه تافهة وزائلة.
* "المؤدب الأمم ألا يبكت؟" هذا يعني أن الذي أعطى الناموس ليهذب الذين يطيعون، يعاقب المزدرين. "المعلم الإنسان المعرفة"؛ لم يضف النبي "أليس هو نفسه له معرفة" وإنما ماذا يقول؟ "الرب يعرف أفكار الإنسان أنها باطلة". انحرف البشر بإعجابهم بالفلاسفة والشعراء عندما قالوا: "يا لأفكار البشرية، إنها باطلة في الشئون البشرية. لكن مزمور داود عبَّر عن ذات الحكم منذ عصورٍ كثيرة. "الرب يعرف أفكار الناس أنها باطلة". مادمنا بشرًا، فإن أفكارنا باطلة. "أنا قلت أنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز 82: 6)[22].
* بالأحرى يليق بكل واحدٍ منكم أن يكون أمينًا (مؤمنًا) في ضميره. "أما الرجل الأمين فمن يجده؟!" (أم 20: 6) أظهر صدق إيمانك (أمانتك) لله فاحص الكُلى والقلوب (مز 7: 9)، والعارف بأفكار البشر (مز 94: 11)، ولا تكشف ضميرك لي أنا، لأنك لا تُدان بحسب حكم إنسان (1 كو 4: 3-5)[23].
القديس كيرلس الأورشليمي
* الإدراك (المادي) لدى الإنسان الجسداني هو المرشد الوحيد للفهم. فما اعتاد أن يراه يؤمن به، وما لم يعتد أن يراه لا يؤمن به[24].
* وإن كنت لا تعرف أفكار الله أنها بارة، فهو يعرف أن أفكار الإنسان أنها باطلة. لكن حتى البشر يعرفون أفكار الله، أولئك الذين صار لهم صديقًا، فإنه يظهر مشورته لهم. لا تستخفوا يا إخوة بأنفسكم، فإنكم إن اقتربتم إلى الرب بالإيمان تسمعون أفكار الله[25].
طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي تُؤَدِّبُهُ يَا رَبُّ،
وَتُعَلِّمُهُ مِنْ شَرِيعَتِك [12].
تأديبات الإنسان علامة حب الله له واهتمامه به، إذ يود أن يهذبه بوصيته الإلهية، ويهيئه للحياة السماوية المطوبة. ثمار التأديب في هذه الحياة بالنسبة للأتقياء لا تُقدر، إذ يلمسوا فيها أبوة الله الحانية واهتمامه بخلاصهم الأبدي. وكما يقول المرتل: "خير لي أني تذللت لكي أتعلم فرائضك" (مز 119: 71).
* "طوبى للرجل الذي تؤدبه (تهذبه) يا رب، وتعلمه من شريعتك". أنتم تدركون أنه يجب تعلم الشريعة حتى تتضح الأمور الغامضة فيها. علاوة على هذا يقول الرسول: "الناموس روحي" (رو 7: 14)، ويقول داود: "افتح عن عيني، فأعاين عجائب من شريعتك" (مز 119: 18). يكرر المرتل: "طوبى للرجل الذي تؤدبه (تهذبه) يا رب، وتعلمه من شريعتك"[26].
* يطوب النبي الإنسان الذي يؤدبه الرب في هذا العمر الحاضر، لأنه في أيام الحزن والامتحان يتعزى بما ورد في شريعة الله، ويخف من ثقل محنته، عندما يتذكر بأن الذي يُؤدب على خطاياه في هذا الدهر يجد راحة في الدهر الآتي.
لِتُرِيحَهُ مِنْ أَيَّامِ الشَّرِّ،
حَتَّى تُحْفَرَ لِلشِّرِّيرِ حُفْرَةٌ [13].
وسط الضيقات والتأديبات يتمتع أولاد الله بالتعزيات الإلهية أو سلام القلب بينما يشعر الأشرار وسط أوقات الفرج بفراغ غريب وشعور بالحرمان. فالتأديبات مع سلام الله الداخلي أفضل من الازدهار والنجاح الظاهري مع الفراغ الداخلي.
غالبًا ما يستخدم الله شر الأشرار لتأديب أولاده، فبينما يتزكى أولاد الله إذا بكأس الأشرار يمتلئ. هذا ما حدث مع يوسف وإخوته. هم أرادوا أن يفعلوا به شرًا والرب صنع به خيرًا.
جاءت كلمة "تريحه" في تفسير للمزمور "يعطيه صبرًا". ولعل المرتل يصور لنا أنه وإن كان الأمر فيه مرارة حين يرى الصالحون أن الله يطيل أناته جدًا على الأشرار، فيعيشون في حياة رغدة وينالون سلطانًا، بينما يعانون هم (الصالحون) من الظلم والآلام. لكن في هذه الفترة التي فيها يطيل الله أناته على الأشرار يزين أولاده بالصبر كسمة جميلة تليق بأبناء الطويل الأناة، وفي نفس الوقت تُعد جهنم للأشرار إن أصروا على عدم الرجوع إلى الله.
لا نتخيل أن الملائكة يعدون الحفرة الأبدية أو جهنم بمنظار مادي، وإنما يلقي الأشرار أنفسهم في نار خطاياهم وفسادهم الأمر الذي اختاروه بمحض إرادتهم الشريرة. لست أظن بقوله: "حتى تُحفر للشرير حفرة" أنه يقصد أن الله يعد جهنم بنفسه للأشرار. لسنا ننكر وجود جهنم لكننا لا نتصور انشغال الملائكة بإعدادها. هذا وقد وعدنا السيد المسيح: "أنا ماضٍ لأعد لكم مكانًا" أي الحياة الأبدية بأمجادها الفائقة. ولم يقل للأشرار: أنا ماضٍ لأحفر لكم جهنم، الحفرة الأبدية.
* "لتريحه من أيام الشر" هذا هو السبب لماذا يعلمه (من شريعته)، لكي يرحمه في المستقبل. هذا هو السبب أنك تُصلحه في الحاضر، حتى لا تدينه في المستقبل. حكم القاضي عذاب، وذلك بالنسبة للذي سيتعذب، وليس لأن الحكم عنيف؛ وإنما لأن الحكم العادل يُحسب عنيفًا لمن يعاني من شوكة العقوبة[27].
* "حتى تُحفر للشرير حفرة" من الذي يحفر الحفرة لفاعلي الشر؟ لننظر ماذا يقول المرتل في مزمور آخر: "كرا جبَّا، حَفَرَهُ فسقط في الهوة التي صنع" (مز 7: 15). إذن بالتأكيد لم يصنع الله الهوة، إنما الخاطي، وكانت النتيجة أنه يسقط فيها. يعلن الرب: "إن كان أعمى يقود أعمى، يسقطان كلاهما في حفرة" (مت 15: 14)[28].
3. الله يتعهد شعبه
لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يَرْفُضُ شَعْبَهُ،
وَلاَ يَتْرُكُ مِيرَاثَهُ [14].
السماح بالتأديبات لا يعني رفض الله لشعبه الذي تحت التأديب ولا تخليه عنهم. حينما سمح الله ليعقوب بالتأديب تراءى الله له وباركه، بل وقال له: "يتبارك فيك وفي نسلك جميع القبائل. وها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض. لأني لا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به" (تك 28: 14-15).
لقد سمح للأعداء أن يقاوموا شعبه، لكن يؤكد لهم موسى النبي: "تشددوا وتشجعوا. لا تخافوا، ولا ترهبوا وجوههم، لأن الرب إلهك سائر معك، لا يهملك ولا يتركك" (تث 31: 6).
* لتفرحوا وأنتم تحت التأديب، لأن الميراث يحفظ لكم، "لأن الرب لا يرفض شعبه". إنه يؤدب إلى حين، ولا يدين إلى الأبد. أما الآخرون فيريحهم إلى حين ويدينهم إلى الأبد[29].
لأَنَّهُ إِلَى الْعَدْلِ يَرْجِعُ الْقَضَاءُ،
وَعَلَى أَثَرِهِ كُلُّ مُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ [15].
في الوقت المناسب، سواء في هذه الحياة أو الحياة الأبدية ينتصر العدل الإلهي ويتحقق، حيث يدرك الكل حكمة الله وعلة طول أناته على الأشرار، الأمر الذي يملأ مستقيمي القلوب سلامًا وفرحًا.
مَنْ يَقُومُ لِي عَلَى الْمُسِيئِينَ؟
مَنْ يَقِفُ لِي ضِدَّ فَعَلَةِ الإِثْمِ؟ [16]
يشعر الإنسان التقي أحيانًا بعنف الأشرار فعلة الإثم الذين يسيئون إليه، فيصرخ في أعماقه طالبًا من يقف أمامهم ويصد شرورهم. قليلون من يقفون مع الأتقياء في لحظات ضيقهم. لقد وجد داود النبي يوناثان يقف معه وينقذه من أبيه شاول الملك، كما وجد إرميا النبي عبد الملك في القصر يدافع عنه أمام الملك. لكن بولس الرسول أعلن أن الكل قد تركوه في شدته.
يرى القديس جيروم أن المرتل يسأل أولًا من يقوم له، وبعد ذلك من يقف لحسابه ضد فعلة الإثم. إنه محتاج إلى من يقيمه من أرض السكوت [17]، أي من بين الأموات، من القبر. ليس من يقدر أن يقيمه إلا ذاك الذي قام بكونه بكر الراقدين ووقف لحسابه كي يقيمه معه.
* "من يقوم لي على المسيئين (الأشرار)؟" جاء موسى ولم يقدر أن يُصلح الأمور؛ وجاء الأنبياء ولم ينقذوني من شباك الخطاة. إذن من يقوم لي؟ ببراعة يقوم، كمن كان نائمًا أو مستريحًا. "استيقظ! لماذا تتغافى يا رب؟" (مز 44: 23) "يا سيد، نجنا فإننا نهلك" (مت 8: 25). من يقوم لي ضد جموع الشياطين؟ من يقوم لمساندتي؟ من يقف بجواري ضد فاعلي الشر؟ في روعة قال: "من يقف معي"، فإنه إن لم يقم الرب الذي تمدد في آلامه بجوارنا؛ إن لم يقم ذاك الذي نام في الموت، لن نستطيع أن ننتصر على أعدائنا. هذا هو السبب الذي لأجله رأى استفانوس وهو يقاوم اليهود الذين حاربوا ضده، يسوع قائمًا عن يمين الآب. رآه قائمًا، فقد كان يحارب لحساب شهيده. "لولا أن الرب معيني" (مز 44: 17). لو لم يقم المسيح من العالم السفلي، لنزلت نفسي في الهاوية[30].
* أعني وقت محاربتي مع الرئاسات وسلطات ظلمة هذا الدهر أو مع أناسٍ أشرار، من الذي يعنني، ومن يضرني غيرك يا الله. لولا معونتك لهلكت نفسًا وجسدًا.
لَوْلاَ أَنَّ الرَّبَّ مُعِينِي،
لَسَكَنَتْ نَفْسِي سَرِيعًا أَرْضَ السُّكُوتِ [17].
إن كان بالكاد يجد الصديق إنسانًا يقف في جانبه وقت الشدة إلا أن الله دائمًا يحوط حول أولاده ويظلل عليهم. لذا لاق به أن يتكل على الله.
غالبًا ما يُقصد بأرض السكوت هنا القبر.
عوض "أرض السكوت" جاء في تفسير القديس أغسطينوس: "جهنم".
* جرمانوس: إذن أين مكان حرية الإرادة؟ وكيف يمكن أن نكون مستحقين للكرامة كثمرة للجهاد مادام الله هو الذي يبتدئ وهو الذي يختم كل شيءٍ فينا بخصوص خلاصنا؟
بفنوتيوس:... نحن نعرف أن الله يخلق لنا فرصًا للخلاص بطرق متنوعة، فإنه في مقدورنا نحن أن نستخدم الفرص الممنوحة من السماء، إما بجدية أو في رخاوة.
يقدم الله الفرصة كقوله: "اذهب من أرضك"، لكن الطاعة كانت من جانب إبراهيم الذي خرج فعلًا. إن كان في الحقيقة قد تحول القول: "اذهب من أرضك" إلى فعل من قبل ذاك الذي أطاع، فإن إضافة هذه الكلمات "التي سأريك إياها" تأتي من نعمة الله الذي أمر ووعد.
فمن المفيد لنا أن نتأكد أنه وإن كنا نمارس كل فضيلة بمجهودات لا تتوقف، لكننا لا نستطيع بلوغ الكمال بجهدنا وغيرتنا، فلا يكفي نشاط الإنسان وجهاده المجرد للبلوغ إلى عطية النعمة الغنية ما لم يصن جهاده بالتعاون مع الله وبتوجيهات الله للقلب نحو الحق.
لهذا ينبغي أن نصلي في كل حين قائلين مع داود: "تمسكت خطواتي بآثارك، فما زلّت قدماي" (مز 17: 5)، "أقام على صخرة رجليَّ، ثبّت خطواتي" (مز 40: 2). الله هو المدبر غير المنظور للقلب البشري، يهبنا أن يوجه قلوبنا نحو الفضائل، ولكن بكامل إرادتنا، هذه التي لديها الاستعداد للانحراف نحو الرذيلة، إما بسبب نقص معرفتها للصلاح، أو بسبب اللذة بالشهوات. يظهر هذا بوضوح في قول النبي: "دحرتني دحورًا لأسقط، معلنًا ضعف إرادتنا الحرة"، ثم يقول: "وأما الرب فعضدني" (مز 118: 13)، معلنًا عون الله لإرادتنا.
هكذا لا نهلك إذ نسقط بحرية إرادتنا، لأن الله يعضدنا ويعيننا، باسطًا يديه لنا. فبالقول: "إذا قلت زلّت قدمي" يقصد "زلّت إرادتي". وبالقول: "فرحمتك يا رب تعضدني" (مز 94: 18) يظهر عون الله لضعفنا، معترفًا أنه ليس بمجهودنا بل برحمة الله لنا لا تزل أقدام إيماننا.
كذلك "عند كثرة همومي في داخلي" التي تنشا بالتأكيد عن إرادتي الحرة، "تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 94: 19)، أي بدخول التعزيات في قلبي بالإلهام الإلهي، تعلن صورة البركات العتيدة التي أعدها الله للذين يعملون في اسمه، هذه التعزيات ليست فقط تنزع الهموم من القلب، بل وتنعم عليه بالابتهاج العظيم.
وأيضًا: "لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت" (مز 94: 17). يعلن هنا أنه بسبب ضعف إرادتنا الحرة نسكن في الهاوية (أرض السكوت) لو لم ينقذنا عون الله وحمايته...
هذا أيضًا يُقال عن النقاوة الكاملة، فإنه لا يقدر أحد بذاته أن يطلب البرّ ما لم تمد الرحمة يدها وتعينه عند عثرته وسقوطه في كل لحظة، وإلاَّ سقط وهلك، وذلك عندما يزلّ بسبب ضعف إرادته الحرة[31].
* ألاّ تظن أنّ هذه هي مشيئة الله أن لا نسقط في الخيالات والأوجاع الأخرى، بل إنه بسبب تغافلنا يسمح لنا أن نقاسي من مثل هذه الأمور، ومن قِبَل تحنُّنه يُكسِبنا من شرورنا تواضعًا لأجل خلاصنا. ماذا إذن؟ هل ننسب خلاصنا لأوجاعنا الشريرة؟ حاشا! بل ننسبه إلى ملء رحمته وبراعة حكمته. فلاحظ، إذن، كيف أنّ الله يُنهِض ذهننا من جميع النواحي لنتذكر أن نقول: "لولا أنّ الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت (أو الجحيم)" (مز 94: 17). فإذ علمنا أنه بسبب ضعفنا وإهمالنا نقاسي من هذه الأمور، دعنا نعمل ما في وسعنا ألاّ نسقط فيها، والله برحمته ينقذنا منها.
إِذْ قُلْتُ: قَدْ زَلَّتْ قَدَمِي،
فَرَحْمَتُكَ يَا رَبُّ تَعْضُدُنِي [18].
زلة القدم هنا تشير إلى خطر عظيم يحيق بالإنسان في الحياة. لكن رحمة الله تتدخل لتنقذ المؤمن في لحظة الخطر العظيم، في الوقت المناسب، حتى لا يهلك. ولعله يقصد بزلة القدم هنا سقوط الإنسان خطأ في خطر عظيم بالرغم من خبرته، لذا لاق به أن يعتمد على مراحم الله وعنايته.
* "إذ قلت: قد زلت قدمي، فرحمتك يا رب تعضدني". التعرف على العجز يحقق فورًا اقتناء عون الله، فإنه يرضى جدًا بالتواضع كما أنه يُقاوم بالكبرياء. عندما أقول: "قد زلت قدمي"، أعترف بخطاياي. عندما لا أثق في قوتي، عندما لا افتخر بأنني قوي، تكون رحمتك في الحال كيدٍ تعينني[32].
* كلمة "قدماي" ليس معناها القدم الجسدي، بل مشي القلب وميله إلى شيءٍ ما. فإذا مال السير إلى ما لا يليق يُقال أنه زل قدما ذلك الإنسان، لأن الشيطان يُزلق السير ويقلبه، ليصرع العفيف من عفته. أما الذي يعترف بضعفه فتدركه رحمة الرب وتسنده. وكل من تاب عن خطاياه وينخسه ضميره على فعل الشر ويؤلم وجع الندامة قلبه، فبمقدار وجعه يعزيه الرب ويفرح نفسه.
عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِي فِي دَاخِلِي،
تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِي [19].
تعزيات الله دائمًا فيها كل الكفاية لمساندة النفس وقت الأحزان والمتعب.
بينما تبدو الكنيسة متألمة وفي أنين، غير أن السلام يملأ أعماقها.
* يعلن الله عن رعايته الحانية نحونا، ليس فقط في تعزياته، وإنما أيضًا حينما يسمح الله لنا بالتعب. فإنني اليوم أكرر ما لا أكف عن القول به، أنه ليس فقط الخلاص من الشرور، بل والسماح بها يتم خلال صلاح الله. فعندما يرانا ساقطين في التواني وننسحب من الشركة معه ولا نبالي بالأمور الروحية، يتركنا إلى لحظة حتى نعود إلى التعقل ونرجع إليه بأكثر غيرة[33].
* "عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي". تهبني من رحمتك مقابل الحزن الذي تراه في قلبي من خلال صرخة التوبة، فإن كثرة الهموم تصير فرصة للتعزية[34].
* وصايا الله تحمل ثقل التوبة، حمل مفيد يحوي دواءً للخطاة، فإنه بالعرق والتعب فقط تتم وصايا الله. بالتأكيد لن يتوقع أحد أن يكلل وهو في الملذات. "وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية" (1 تي 5: 6)... "ما أضيق الباب، وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك" (مت 7: 14). بغض النظر عن ما هي الفضائل، فإنها لا تُقتنى بدون مصاعب. الوصول إلى قمة جبل يتم بجهدٍ عظيمٍ وتعبٍ، فكم بالأكثر يكون التعب لازمًا لبلوغ السماء؟ يقول الإنجيل: "ملكوت السماوات يُغصب" (مت 11: 12). إنه يُغصب، لأن ما تفشل الطبيعة في أن تُخضعه فينا، يمكن للنعمة أن تلطفه. فمن حيث سقطت الملائكة إلى هناك يصعد البشر. حين يُحفظ التكامل الجسدي تسرع النفوس إلى أجسادها[35].
* أسكب دمعة واحدة، فأتأهل لتعزية واحدة. أسكب عشر دمعات، فأستحق عشرة تعزيات. ثقل توبتي يتعادل مع عدد تعزياتك[36].
* "عند كثرة همومي في داخلي"، تلك الهموم التي تنبع بالتأكيد من إرادتي الحرة، "تعزياتك تلذذ نفسي" (مز19:94)، بدخول التعزيات في قلبي عن طريق الوحي، معلنة صورة البركات العتيدة التي أعدها الله للذين يعملون باسمه، هذه التعزيات ليست فقط تنزع الهموم من القلب، بل وتنعم عليه بالابتهاج العظيم[37].
* يبرهن كتاب الله المقدس في عدة عبارات أنه لابد للإنسان أن يعاني من اضطراباتٍ في هذه الحياة، كما تُتاح له تعزيات كثيرة أيضًا. وفي وسط تلك الأمور جميعها، فإن روحًا تتسم بالعزيمة القوية واليقظة وإدراك الحق، يجب أن تغلب الضيقات الراهنة، وتتطلع إلى تلك الوعود بالفرح الأبدي.
إن التعزيات تفوق الضيقات والأتعاب حقًا وفعلًا، لأنها تمنح الهدوء والطمأنينة وسط الصعاب الحالية، وتعطي الرجاء في الأمور العتيدة. لهذا يقول بولس الرسول أيضًا: "إن آلام الزمان الحاضر، لا تُقاس بالمجد العتيد" (رو 8: 18). حقًا إنها لا تستحق أن تُقارن بالتعزية[38].
4. نهاية الأشرار
هَلْ يُعَاهِدُكَ كُرْسِيُّ الْمَفَاسِدِ،
الْمُخْتَلِقُ إِثْمًا عَلَى فَرِيضَةٍ؟ [20]
ربما يقصد بكرسي المفاسد هنا أصحاب السلطة الأشرار، الذين في فسادهم لا يمكن أن تكون لهم شركة مع الله القدوس. هؤلاء يختلقون الاتهامات ضد الكنيسة والمؤمنين.
* لا يتقبل أحد إكليلًا وهو نائم. ولا يضمن أحد اقتناء ملكوت السموات (وهو متراخٍ). لا يليق بأحد أن يتحدث عن الصوم ومعدته مملوءة. إنك تمسك القدرة على تقديم قصيدة: "من يجاهد بناموسك". كل وصايا الرب تتطلب جهادًا. بدون العمل والتعب لا نستطيع اقتناء ملكوت السماوات. أتريد أن تعرف لماذا؟ "إن أردت ملكوت كاملًا، فاذهب وبع أملاكك وأعطِ الفقراء... وتعال اتبعني" (مت 19: 21)[39].
* إنه يقول هذا: لا يجلس إنسان شرير معك، وليس لك ما تعمله مع كرسي الإثم[40].
يَزْدَحِمُونَ عَلَى نَفْسِ الصِّدِّيقِ،
وَيَحْكُمُونَ عَلَى دَمٍ زَكِيٍّ [21].
يجتمع الأشرار ويتحدون معًا، ويخططون ضد البار، ويطلبون سفك دمه. هذا ما حدث عند محاكمة السيد المسيح وصلبه، حيث اجتمع إبليس وملائكته ضده، وأيضًا قوات الظلمة اتحدت تطلب سفك دمه.
فَكَانَ الرَّبُّ لِي صَرْحًا،
وَإِلَهِي صَخْرَةَ مَلْجَإِي [22].
ماذا يمكن لإبليس وكل قواته والأشرار وكل خططهم أن يقفوا أمام أولاد الله، الذين لهم الله نفسه مدافعًا وصخرة وملجأ؟!
وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِثْمَهُمْ،
وَبِشَرِّهِمْ يُفْنِيهِمْ.
يُفْنِيهِمُ الرَّبُّ إِلَهُنَا [23].
يعلن المرتل ثقته في وعود الله العادل الذي لن يترك المصممين على الشر في شرهم، إنما في الوقت المعين يتركهم يجتنون فساد شرهم. إنهم يقولون: الرب لا يبصر وإله يعقوب لا يلاحظ [7]، لكن يأتي الوقت الذي يدركون خطأهم!
من وحي المزمور 94
ماذا يفعل بي الأشرار؟
* في وسط ضيقي،
حين يحيط بي الأشرار، ويتحالفون معًا ضدي،
أظن كأنك مختفٍ إلى زمنٍ طويلٍ.
أطلب إليك أن تشرق عليّ وعليهم يا شمس البرّ.
تملأني من تعزياتك،
فلا أطلب النقمة لنفسي،
بل بطول أناتي أود أن أكسبهم لك.
وأطلب أن تنتقم من الشر لا من الأشرار.
تنزع عنهم شرورهم، فيهتدون إليك.
وعوض الهلاك الأبدي، ينعمون بالمجد السماوي!
* إلهي، أنت تعلم إني خاطي،
دومًا أطلب منك أن تطيل أناتك عليّ.
لكن في ضعفي عندما يخطئ أحد إليّ،
أندهش أنك تطيل أناتك عليه.
هب لي طول أناتك،
فأحتمل مقاومي بفرحٍ.
وأرد حنوك عليّ بحنوي على ما يقاومني!
* إن كان الأشرار يريدون أن يسحقونني،
لأتطلع إليك، وأنت القدير احتملت السحق من أجلي.
لأصلب معك، فهذا مجد لا أستحقه.
* هوذا الهراطقة الأشرار،
يصطادون النفوس المترملة التي فقدت عريسها السماوي.
والنفوس المتغربة التي لم تثبت فيك.
ونفوس الأيتام التي فقدت أباها السماوي.
يفتخر الهراطقة بالفلسفات الجذابة.
وعوض الحياة المقدسة يقدمون لغوًا لا نفع منه.
يظنون أنهم يصطادون الكثيرين،
وأنت لا ترى ولا تلاحظ.
رد هذه النفوس المسكينة إليك.
فتنعم بعريسها السماوي، ومسكنها الأبدي،
وعضويتها في الأسرة الإلهية،
تصير أهل بيت الله.
* مقاومة الأشرار لقبول الإيمان لا تتوقف.
يبذلون كل الجهد لئلا يؤمنوا بك فيخلصوا.
ويظنون أنهم يحملون روح القوة.
وأنك لا تبصر ما يخططونه في الخفاء،
ولا تدرك ما يمارسونه ضدك!
* حقًا في ضعفٍ تزل قدماي،
لكن نعمتك تسندني،
فأرجع إليك طالبًا عونك.
أنت رجاء من ليس له رجاء،
ومعين من لا معين له.