مزمور 3 - تفسير سفر المزامير
الله مخلصي
هذا المزمور هو مرثاة شخصية، يعبّر بها المؤمن عما يتوقعه من متاعب وآلام مع كل صباح جديد خلال معركة الخلاص التي لا تتوقف. لكن سرعان ما تتحول المرثاة إلى أنشودة خلاص تملأ النفس بهجة وسلامًا خلال التمتع بقيامة السيد المسيح التي تعكس علينا روح النصرة حتى على الموت ذاته، وتسكب في داخلنا شركة المجد الإلهي، وتفيض علينا ببركات إلهية لا تنقطع.
بمعنى آخر هذا المزمور هو مرثاة مؤلمة وفي نفس الوقت هو أنشودة مفرحة. إنه نشيد عسكري نعزفه أثناء المعركة الروحية، وهو تسبحة غلبة حيث تتهشم أسنان الأشرار فنراهم أضحوكة، بينما يتمجد الله ويتبارك شعبه.
هذا المزمور يمس حياة داود الشخصية، ويحمل نبوة عن شخص المسيح ابن داود، يمس حياة كل واحد منا خلال علاقته الشخصية مع مخلصه كما يمس حياة الجماعة المقدسة ككل! يبدأ بصيغة المفرد وينتهي بصيغة الجمع: "على شعبه بركته"!
مركز المزمور في السفر
مرثاة شخصية
أقسامه
المسيح المُضطَهد
الرب مخلصي
صوت القلب
المسيح القائم من الأموات
أسنان الخطاة
للرب الخلاص
صلاة
مركز المزمور في السفر:
يُعتبر المزموران الأول والثاني أشبه بمقدمة لسفر المزامير ككل، في الأول يعلن المرتل أنه لا يستطيع أحد أن ينشد مزامير الفرح شاكرًا الله ما لم يتمتع أولًا بالحياة المطوّبة (مز 1: 1)، وفي الثاني يوضح أن هذه الحياة المطوّبة تُهب لنا لا بفضل خاص من جانبنا بل بعمل المسيًا الملك الذي يثور عليه العدو الشرير (إبليس) وأعوانه.
باستبعاد المزمورين الأولين بكونهما مقدمة للسفر يحتل المزموران الثالث والرابع مركز الصدارة؛ الثالث مزمور الصباح والرابع مزمور المساء (4: 8).
في كل صباح يرنم المؤمن هذا المزمور متذكرًا أنه ينبغي أن يتألم دون أن يفقد سلامه الداخلي وفرحه، إذ يتطلع إلى قيامة السيد المسيح التي تحققت في الصباح الباكر، لتهبه أبواب ملكوت الله مفتوحة! بمعنى آخر، لن يقلق المؤمن مادام يتمتع بالحياة الجديدة المقامة، مترقبًا مع كل صباح سرعة مجيء مسيحه المصلوب القائم من الأموات.
مرثاة شخصية:
وضع داود النبي المزامير (3؛ 4؛ 5) كمراثٍ شخصية أثناء هروبه من أمام وجه ابنه المتمرد أبشالوم (2 صم 15: 8). في المزمور الثالث يعلن النبي أن المعركة في الحقيقة ليست شخصية بينه وبين ابنه، إنما هي معركة قائمة بين الله والشيطان. وفي المزمور الرابع يرى أن البر الواهب الغلبة في المعركة ليس من عندياته إنما هو برّ الله، بل الله نفسه هو بره. وأخيرًا في المزمور الخامس يحول نظره إلى أخيتوفل المشير الشرير لأبشالوم كاشفًا عن شخصه بكونه رمزًا للدجال "ضد المسيح".
المزمور الثالث مرثاة شخصية، حيث يكشف المرتل عن مشاعره الخاصة بكونه في ذاته شخصًا ضعيفًا، يقف وحيدًا أمام جمهور شعب ثائر ضده؛ وفي نفس الوقت يحمل المزمور صبغة جماعية، فهو مزمور الجماعة كلها هو مزمور كل عضو فيها، ما يمس الشخص له فاعليه في حياة الجماعة. على أي الأحوال ينطبق هذا المزمور على كل إنسان متألم، خاصة متى شعر وسط آلامه كأن الكل قد اعتزله، حتى أحباؤه من حول يخونونه، ويحاصره كثيرون يقفون ضد.
يؤكد بعض الدارسين أن واضع المزمور بالضرورة ملك (كداود)، إذ يقوم ضده كثيرون [2]، وربوات الشعوب مصطفون عليه من حوله [7]؛ وإن كان آخرون يعدلون هذه النظرية متطلعين إلى أن واضعه إنسان إسرائيلي ({بما - من الشعب) اقتبس عبارات عن مراثٍ ملوكية[115].
يرى القديس أغسطينوس أن هذا المزمور كتبه داود الملك لكن على لسان ابن داود المسيّا الملك، إذ يقول: [تقودنا كلمات هذا المزمور إلى الاعتقاد بأنها تنطبق بالضرورة على شخص المسيح، فهي تتفق مع آلام الرب وقيامته أكثر مما تتفق مع هروب داود أمام ابنه المتمرد أبشالوم حسب ما قدمه لنا التاريخ].
جدير بالذكر أن هذا المزمور استخدم قديمًا في طقس إخراج الأرواح الشريرة، حيث ترى الكنيسة أن سلطانها على الشر وأرواح الشر إنما ينبعث عن قيامة السيد المسيح.
أقسامه:
1. مناجاة الرب
[1-2].
2. الإيقان بالقيامة
[3-6].
3. صرخة ثانية للمعونة
[7].
4. الخلاص من قبل الرب
[8].
الخط الواضح في هذا المزمور هو تمتعنا بالخلاص الإلهي خلال قيامة مسيحنا بالرغم من كثرة المقاومين لنا.
المسيح المُضطَهد:
1. "يا رب لماذا كثر الذين يحزنوني؟" [1]. لقد طُرد داود من موضعه ومن المدينة الملوكية، وحُرم من تابوت العهد المقدس كما من شعبه؛ طرده أبشالوم الابن المتمرد الذي وضع في قلبه لا أن ينتزع عنه تاجه فحسب وإنما حياته نفسها أيضًا (1 صم 15)، لذا صار داود يشكو إلى الله ملجأه. عند هروبه صعد على جبل الزيتون في حزن شديد؛ وكان يبكي بكاء شديدًا، مغطيًا رأسه، حافي القدمين، ينشد ويصلي هذه المرثاة. بالحقيقة لم يكن ممكنًا للضيق أن يسحبه من الله بل بالعكس قاده إلى ظل قيامة المسيح ابن داود الذي اجتاز الضيق والآلام والصلب.
كان داود يتألم بسبب خطيته الخاصة بأمر أوريا الحثي، وقد أنذره الله بأنه سيقوم عليه من هو من أهل بيته (2 صم 12: 11)، لكن داود لم يفق ثقته بالله، فتحول حزنه إلى فرح، لأنه آمن بعمل الله الخلاصي.
اجتمع ضده عدد كبير من الأعداء، حتى الأصدقاء أداروا له ظهورهم [2]. هكذا تُرك المرتل وحيدًا ليجتاز المحنة؛ وبالإيمان تأكد أن الله لن ينساه. تركه الجميع -الأعداء والأصدقاء- فتمسك بالله أكثر[116].
يرى العلامة ترتليان أن هذه الصرخات إنما هي حديث السيد المسيح ابن داود مع الآب لحسابنا نحن المتألمين المتروكين كمن هم بلا عون: [اسمع منطوقات الابن مع أبيه: "يا رب لماذا كثر الذين يحزنوني" كل المزامير التي تتنبأ عن شخص المسيح غالبًا ما يقدمها الابن في حوار مع الآب؛ أي تقدم لنا المسيح متحدثًا مع الله (الآب)[117]]. لقد كان للسيد المسيح أعداء كثيرون اشتركوا في صلبه، من قادة لليهود أشرار وجموع غفيرة، وأيضًا واحد من تلاميذه.
2. لاحظ داود أن غاية هؤلاء الأعداء الحاقدين هي أن يقلقوه؛ إذ قالوا له بتجديف إن الله عاجز عن أن ينقذه: "الخطر الذي يحدق به أعظم من أن يخلصه منه الله". هكذا سعوا في زعزعة ثقته بالله والدخول به إلى اليأس[118].
* "كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه" [2]...
هذا هو هدفهم في أحاديثهم: "فلينزل الآن عن الصليب إن كان ابن الله"، "خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها" (مت 27: 42)...
هذه هي أخطر ضربة يوجهها العدو ضدنا، يفقدنا ثقتنا في الله مخلصنا ليدخل بنا إلى اليأس. لذلك عندما كتب القديس يوحنا الذهبي الفم إلى صديقه ثيؤدور الذي أحب امرأة يهودية فكسر نذر البتولية وفقد حياته في المسيح، إنه باليأس يصفع وجه مخلصه أكثر مما ارتكبه بالزنا، لأن اليأس هي خطية إلحاد: إنكار إمكانية عمل الله الخلاصي.
مهما بلغت خطايانا، يلزمنا أن نثق في الله مخلصنا واهب المغفرة، أما إن فقدنا الرجاء فباليأس تتسلل كل الخطايا (الشياطين) إلى حياتنا كما يقول القديس فيلكسينوس.
كان تمرد أبشالوم ضد داود تأديبًا له على خطية ارتكبها، فإن الخطية وليس ثورة الابن هي التي نزعت عنه مجده وجعلته مستوجبًا الموت (2 صم 12: 7).
3. "أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت" [5]. كثيرون يضطجعون ولا يستطيعون أن يناموا وذلك بسبب آلام الجسد أو قلق الفكر أو سيطرة الخوف الدائم عليهم؛ وكثيرون يضجعون وينامون لكنهم لا يستيقظون، إذ ينامون نوم الموت، كما حدث مع أبكار المصريين (خر 12: 29).
* يمكننا بلياقة أن نلاحظ أن تعبير "أنا" هنا يشير إلى موت (المسيح) بإرادته، إذ يقول: "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا؛ ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي؛ لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو 10: 17-18).
* "يا رب لماذا كثر الذين يحزنوني؟" [1]... واضح إنهم ما كانوا يقتلونه لولا عدم إيمانهم بقيامته. كلامهم نفسه يشهد بهذه الحقيقة: "إن كان ابن الله فلينزل الآن عن الصيب"، "خلص آخرين وأما نفسه فلم يقدر أن يخلصها" (مت 27: 42).
إن كان هذا المزمور يشهد للمسيح المتألم القائم من الأموات، فكما يقول القديس أغسطينوس ينطبق على كنيسة المسيح أيضًا بكونها جسده (1 كو 12: 27). بمعنى آخر هو مزمور كل واحد منا نحن الذين نئن مشاركين مسيحنا آلامه، متهلليل وسط الأنين ببهجة القيامة العاملة فينا كخبرة يومية نعيشها خلال الشركة مع الله.
الرب مخلصي:
خلال الظل أدرك داود الملك بروح النبوة قوة قيامة المسيح، فصارت الآلام ليس علة لزعزعة ثقته بالله بل تأكيدًا لعمل الله الخلاصي، بكونه ترسه ومجده ورافع رأسه، رأى نفسه وهو طريد ينعم بالحضرة الإلهية كما في صهيون، كما لمس قوة الحياة الغالبة للموت.
1. حاول الأعداء زعزعة ثقة داود بالله، كما لو كان غير قادر أن ينقذه، لكن داود التصق بالقائم من الأموات، فرأى في الله ترسه ومجده ورافع رأسه [3].
أ. الله المخلص "ترسه" [3]: كانت الجماهير في صف أبشالوم، أما بالنسبة للملك داود المرذول الطريد، فكان الله هو حاميه وترسه، يخلصه من كل خطر يحدق به. الله هو المشجع له وواهب النصرة. يقول: "أنت ترسي لي" [3]. ليقولوا هم ما يشاؤون، إذ هو متأكد أن الله إلهه لن يتخلى عنه. له خبرة في التعامل، بكونه إلهه وحاميه.
* عمل (الله) أن نغلب وننال النصرة باخضاع العدو في الصراع العظيم[119].
ب. الله مخلصه هو "مجده" [3]. صار داود في عار، فقط سقط التاج عن رأسه، وتمرد ابنه عليه، وثارت الجماهير ضده، لكن بقى الله هو مجده الداخلي وكرامته (إش 60: 19).
ج. اقتنع المرتل بأن الله هو مجده الداخلي الذي "يرفع رأسه" بالفرح فوق كل الضيقات؛ أي يرد له كرامته أمام أعدائه (إبليس وملائكته) وأمام البشر والخليقة السماوية، واهبًا إياه نصرة وخلاصًا، يسببان له بهجة!
2. طُرد داود الملك من المدينة المقدسة وحُرم من التابوت المُقام على الجبل المقدس، لكن الله الساكن هناك هو مالئ الأرض كلها يسمع صوت قلب داود الطريد أينما وُجد. بمعنى أنه لم يكن ممكنًا للأعداء إقامة هوة بين نعمة الله وداود رجل الله، القائل: "استجاب لي من جبل قدسه" [4]. بالإيمان تسلم داود رسائل سلام من الجبل المقدس بالرغم من طرده من هناك.
في (مز 2: 6) نرى السيد المسيح ملكًا على جبل صهيون المقدس، خلاله يسمع الآب صلواتنا ويستجيب لها.
الإشارة إلى جبل الله المقدس [4] كموضع هيكل الرب على الأرض مقابل الهيكل السماوي[120] تعلن بوضوح إمكانية تقديم كل مشكلة بشرية إلى الحضرة الإلهية المقدسة.
3. كان أبشالوم رمزًا للشيطان الذي يحرض الشعوب (اليهود والأمم) ضد ابن داود في معركة الكفارة. لهذا يرتل الأسقف أو الكاهن هذا المزمور في طقس دفن السيد المسيح في ختام الجمعة العظيمة، قائلًا "أنا اضطجعت ونمت" [5]، إذ دخل مسيحنا في معركة ضد إبليس الذي ظن أنه قادر على تحطيم المخلص بالموت والتخلص منه، ولم يدرك أن موته ليس إلا نوم يصحبه استيقاظ.
أطلق مسيحنا صرخات قوية في آلامه وسُمع له، لأنه الابن المطيع الذي يُسر الآب به، لهذا وإن اضطجع في القبر ونام نوم الموت لكنه حطم العدو وقام في اليوم الثالث في عدم فساد.
بدأ المرتل بمشهد ساحة المعركة، لكن على الفور ركز نظره على الرب مصدر النصرة والسلام والخلاص، وعلى بركات الرب على شعب الله. إنها معركة إلهية خلالها ننال بمسيحنا الغلبة على العدو غير المنظور، ويتحقق خلاص الله فينا، ويتبارك شعبه [8].
دُعي هذا المزمور "مزمور الصباح"، إذ يعلن داود النبي أنه قد اعتاد أن ينام في سلام كامل حتى إن اقتفى الأعداء أثره، وذلك لثقته في الرب. ونحن نصلي في كل صباح لنشكو لدى مخلصنا رذائل وشهوات كثيرة تهاجم أذهاننا بناموس الخطية. إنها تهزأ بنفوسنا، لكننا نترجاه لأنه مخلصنا.
صوت القلب:
المرتل الذي اعتاد أن يعبد الله أمام التابوت المقدس في المدينة المقدسة نراه الآن يسير بعيدًا حافي القدمين، يسكب قلبه أمام الرب الذي يستجيب له من جبل الكنيسة "مقِدسة"، كما لو كان داود وهو مطرود قائمًا داخل بيت الله أو في السماء عينها.
* "بصوتي إلى الرب صرخت" [4]، لا بصوت جسماني يخرج محدثًا ذبذبات في الهواء، وإنما بصوت القلب الذي لا يتحدث مع البشر بل مع الله، فيخرج كصرخة. بهذا الصوت سُمعت سوسنة، ومن أجل هذا الصوت أمر الرب أن تكون الصلاة في المخدع (مت 6: 6)، حتى يتحقق هذا الصوت في أعماق القلب في هدوء... هذه هي صلاة كل القديسين، رائحة عذوبة تصعد أمام عيني الرب.
يقول العلامة ترتليان[121]: [إن هذا هو صوت الكلمة الذي اعتاد أن يتحدث في الأنبياء، الآن هو يصلي لأبيه. فلو أنه صوت داود لماذا يقول "بصوتي" [4]؟ إذ لا حاجة للقول هكذا، مادام كل جسد يصرخ بصوته. إنما المسيح ينطق بهذا كي يعلن حبه، صارخًا بصوته الشخصي، وليس خلال الأنبياء، ليسأل الآب من أجلنا. ويرى القديس يوستين[122] أن الرب الذي بقى على الخشبة حتى قرب المساء ودفن وقام في اليوم الثالث هو الذي صرخ فاستجاب له.
إن كان الصراخ قد صدر عن السيد المسيح كممثل لنا واستجاب له الآب لحسابنا، فإن هذه الاستجابة صدرت "من جبل قدسه" [3] الذي هو المسيح... وكأن كل استجابة إنما تتحقق لنا خلال مسيحنا، أو خلال إيماننا به. يتحدثالقديس أغسطينوس عن السيد المسيح بكونه "الجبل" قائلًا: ["استجاب لي من جبل قدسه". يستخدم نبي آخر تعبير "الجبل" ليعني به ربنا نفسه، إذ يكتب: "قُطع حجر بغير يدين... فصار جبلًا كبيرًا" (دا 2: 34-35)].
المسيح القائم من الأموات:
"أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت، لأن الرب ناصري" [4]. يتحدث المرتل عن الهدوء الداخلي الذي يملأ أعماقه وهو مزمع أن يسترسل للنوم في رعاية الله بالرغم من المخاطر العديدة التي تحيط به، وذلك لثقته بالرب. حقًا كانت تلك الليلة حالكة الظلام، ليلة تجارب خلالها صارع كثيرًا، فازدادت بالأكثر ثقته بالرب واستقرت. خلال ليلة التجارب يشرق شمس البر في قلوبنا واهبًا إيانا الحياة المفرحة المقامة.
يتحدث المرتل عن الموت بكونه نومًا، والقيامة بكونها استيقاظًا، لأن انفصال الجسد عن النفس بالنسبة للمؤمن هو نوم مجرد ومؤقت، أما انفصال النفس عن إلهها فهو موت أبدي.
* الخاطى وهو حيّ ميت لله؛ والبار وإن مات فهو حيّ لله. فإن مثل هذا الموت هو نوم كقول داود: "أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت" [4]. ويقول إشعياء: "يستيقظ الراقدون في التراب" (26: 19). وقال ربنا عن ابنة رئيس المجمع: "إن الصبية لم تمت لكنها نائمة" (مت 9: 24)، وعن لعازر قال لتلاميذه: "لعازر حبيبنا قد نام؛ لكني أذهب لأوقظه" (يو 11: 11). ويقول الرسول: "لا نرقد كلنا ولكننا كُلّنا نتغير" (1 كو 15: 15)، وأيضًا: "من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا" (1 تس 4: 13)[123].
أوضح القديس يوستين في دفاعه الأول أن المتحدث هنا هو الابن[124].
* ليس فقط يدعو قيامة المسيح استيقاظًا من النوم على سبيل الشبه، وإنما يحسب نزول الرب إلى التجسد (إخلاء ذاته) نومًا[125].
القديس اكليمندس الإسكندري
أسنان الخطاة:
لا يقصد بها المعنى الحرفي المادي وكما يقول العلامة أوريجانوس: [واضح تمامًا أنه في هذه العبارات (مز 3: 7؛ 5: 9؛ 55: 9 الخ...) لا تُستخدم الأعضاء بقصد الجسد المنظور بأية وسيلة وإنما تشير إلى أعضاء النفس غير المنظورة وقواها].
"أسنان الخطاة هشمتها" [7].
يُشبه المتمردون ضد الملك (داود) بالحيوانات الضارية؛ أسلحتهم المقاومة تكمن في أسنانهم، لذلك يصلي داود إلى الرب كمحارب أن يحطم أعداءه وينزع عنهم سلاحهم.
يضرب الرب الأعداء بقيامته، فيكون كمن هشم أسنان الحيوانات المفترسة ليقدمهم في ضعف أمام الأطفال، يسخرون بهم.
* "أسنان الخطاة هشمتها" [7]... أي كلمات الأشرار الذين يلعنون ابن الله فتصير كلا شيء، ينزل بها كما إلى التراب. هكذا نفهم "الأسنان" على أنها كلمات اللعنة (غلا 5: 15)...
* يمكن أيضًا فهم أسنان الخطاة على أنها القيادات الشريرة، إذ تمارس سلطانها على الناس ليتركوا الطريق المستقيم، وينضموا إلى جماعة فاعلي الشر. هذه الأسنان تُضاد أسنان الكنيسة، التي بسلطتنها يُنتزع المؤمن من أخطاء الوثنية والأخطاء الهرطوقية، ويتحولون إلى جسد المسيح. بهذه الأسنان طُلب من بطرس أن يأكل الحيوانات عندما ذُبحت، أي بقتل ما في الأمم (من وثنية) وتحويلهم مما هم عليه إلى ما هو عليه (كعضو في جسد المسيح).
الأسنان التي تُسّن ضد الله وضد شعبه تتهشم، لأن ذراع الله لا تقصر عن أن تخلص!
للرب الخلاص:
"للرب الخلاص، وعلى شعبه بركته" [8].
ماذا يعني هذا؟ لا فضل للإنسان نفسه، إنما الفضل للرب الذي وحده يخلصنا من موت الخطية.
ينتهي المزمور بنغمة النصرة. هذه الفقرة ربما كانت تُرنم كقرار تنشده كل الجماعة التي تقف أمام الرب الملك، حيث يُستعلن مجد الرب في خلاص شعبه ومباركتهم. وكما كتب القديس إيريناؤس: [مجد الله هو حياة الكائن البشري Gloria Dei Vivens homo].
يتمجد الله في الإنسان بعطية الحياة والخلاص... لذا جاء المزمور يحمل خطًا واضحًا هو أن الله مخلص شخصي للإنسان كما هو مخلص شعبه كجماعة.
* "كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه، أما أنت يا رب فترس لي، مجدي ورافع رأسي" [2-3].
ما كان للأعداء أن يترجوا تحطيم الكنيسة المنتشرة في كل موضوع لو لم يحسبوا أن الرب لا يبالي بها...
"رافع رأسي" الذي هو المسيح، لأنه إذ تأنس صار الكلمة جسدًا وحلّ بيننا (1 يو 1: 14)، أقام الكنيسة فيّه، وأجلسنا معه في السمويات (أف 2: 6). إذ يسبق الرأس ويرتفع تتبعه الأعضاء الأخرى، لأنه "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟!" (رو 8: 35). إذن بحق تقول الكنيسة: "أنت مجدي ورافع رأسي".
يقارن القديس أغسطينوس بين المدينة الأرضية والمدينة السماوية المجيدة، قائلًا:
[ترفع المدينة الأرضية رأسها في مجدها الذاتي، أما السماوية فترفعها في الله: "مجدي ورافع رأسي".
في الأولى تحكم الشهوة المسيطرة على أشرافها في الأمم الخاضعة لها، أما في الثانية فأصحاب السلطة والخاضعون يخدمون بعضهم بعضًا بالمحبة؛ يقدم المسئولون مشورة ويقدم الخاضعون الطاعة.
مدينة تحب قوتها الذاتية المعلنة في قادتها الأقوياء، والثانية تقول لإلهها: "أحبك يا ربي، قوتي!" (مز 18: 1)[126]].
عندما يسخر الأعداء يستخدمون التعبير العام لله "إلوهيم" [2]، قائلين له إن الله يتخلى عنه، بينما يستخدم المرتل "يهوه" عندما يعبر عن الله الذي يدخل في ميثاق مع شعبه ويخلصهم...
إذ ننشد هذا المزمور ونحن نتألم نحسب أنفسنا شركاء آلام مسيحنا، نائلين قوة قيامته كسرّ شبع لنا من جوانب متعددة:
1. ننعم بالحياة المقامة [5].
2. نتخلص من الخوف من الأعداء الذين بلا حصر، المحيطين بنا والقائمين علينا [6].
3. تتهشم أسنان الأشرار (أي شرهم) لعلهم ينصلحون بالتوبة.
4. يتمجد الله فينا بخلاصنا [8].
5. يبارك الله شعبه [8].
بمعنى آخر يشعر داود أن خلاصه الذي ناله من الله بصفة شخصية له فاعليته لا على حياته فحسب بل وعلى حياة الأشرار الذين يشهد لله أمامهم، وعلى الشعب ككل إذ ينالون بركته.
ملاحظة: يليق بنا أن نذكر أن الحروب والمعارك الواردة في العهد القديم هي حقائق تاريخية تقدم مفاهيم روحية بالنسبة للمسيحي، متطلعًا إلى الشيطان والخطايا كأعدائه الحقيقيين.
* ما لم تُحسب هذه الحروب الجسدية (الواردة في العهد القديم) رمزًا للحروب الروحية، ما كنت أظن أن الرسل يقدمون الأسفار التاريخية اليهودية لتُقرأ في الكنائس بواسطة أتباع المسيح... هكذا إذ يدرك الرسول أن الحروب الجسدانية تحولت إلى معارك خاصة بالنفس ضد الأعداء الروحيين لذا كقائد حربي أوصى جنود المسيح، قائلًا: "البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس" (أف 6: 11)[127]]
صلاة
* لماذا كثر الذين يحزنوني؟ ليدخلوا بي حتى إلى القبر... هناك أجدك قائمًا من الأموات، فأقوم معك!
* لماذا يُحطمني الأعداء باليأس؟ أنت مجدي ورافع رأسي؟
* هشّم يا رب أسنان الأشرار، أما نفوسهم فخلصها!