مزمور 62 - تفسير سفر المزامير
الاتكال على الله
في وسط ضيقه، كان داود النبي يحث نفسه ويدفعها للاتكال على الله كسندٍ ومعينٍ ومنقذٍ. لا نعرف المناسبة التي سجل فيها داود هذا المزمور، غير أن البعض يرون أنه سُجل حين تمرد عليه ابنه أبشالوم، وخانه مشيرُه أخيتوفل وبعض رجال الدولة.
1. الله صخرتي وخلاصي
1-2.
2. خداع المقاومين وعنفهم
3-4.
3. تأكيد الاتكال على الله
5-7.
4. حث الآخرين على الاتكال على الله
8-10.
5. الله كلي القدرة والرحمة والعدل
11-12.
من وحي مز 62
العنوان
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى يَدُوثُونَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
"على يدوثون": يدوثون مثل آساف وهيمان، عيَّنهم داود الملك ليكونوا قادة لفرق موسيقية في خيمة الاجتماع (1 أي 25: 1-3). كان هؤلاء القادة مع عائلاتهم لا يمارسون العمل الموسيقي كوظيفة، وإنما كقديسين مملوءين من الروح القدس، يتنبأون بروح التسبيح والفرح، مقدمين الشكر لله. إنهم يشهدون لله إلههم بلغة التسبيح. هؤلاء يقدمون صورة رائعة لأناس الله المتهللين بالروح، بل صورة حيَّة لكل نفسٍ تحمل روح الفرح بخلاص الله.
وردت كلمة "يدوثون" في عنوان المزمور 39. ويرى القديس أغسطينوس أن معناها "يثب فوقهم over-leaping them". فإن كان البعض يضعون رجاءهم في الأمور الزمنية العابرة، فمن يُدعى يدوثون يلزمه أن يثب فوقهم ويعبر، دون أن يرتبط بالزمنيات.
1. الله صخرتي وخلاصي
إِنَّمَا لله انْتَظَرَتْ نَفْسِي.
مِنْ قِبَلِهِ خَلاَصِي [1].
يليق بمن يُدعى يدوثون أن يثب فوق الذين وضعوا رجاءهم في الزمنيات، ليختبئ في الله صخرته وخلاصه وملجأه، وذلك بروح التواضع لا الكبرياء. فإنه يعجز عن تحقيق ذلك ما لم تنتظر نفسه الرب، ويثق أن من قبله خلاصه. لا يتكل على قدرته أو حكمته أو برِّه الذاتي.
* لقد سمع: "من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" (مت 23: 12)؛ وإذ يخشى لئلا يتكبر خلاله وثبه وينتفخ على الذين هم أسفل، يتواضع من أجل ذاك الذي هو فوق. يقول للذين يحسدونه، مهددين إياه بأنه سيسقط، إذ هم في حزن لأنه وثب فوقهم: "أما تخضع نفسي لله...؟ فإن منه يتحقق خلاصي. إنه إلهي وخلاصي. وحاملني إلى فوق، فلا أتزعزع". إنني أعرف من هو فوقي. أعرف أنه يبسط رحمته للبشر الذين يعرفونه. أنا أعرف مَن الذي أترجاه، وأنا تحت ظل جناحيه "لا أتزعزع"!
القديس أغسطينوس
لم يكن ممكنًا للضيقة مهما اشتدت أن تفقد النفس سلامها الداخلي، ولا أن تدفع المؤمن إلى اليأس. فإن تركيز البصيرة الداخلية على الله الذي يقدر وحده أن يخلِّص إلى التمام يجعل المؤمن يقف في صمت بخشوعٍ وتقوى، وفي صبرٍ ينتظر عمل الله الفائق.
يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن النبي يتحدث هنا باسم الذين عاصروا أنطيخوس أبيفانس، والذي كان يُلزم اليهود بكسر الشريعة الإلهية، فكان كل منهم يسأل نفسه أن يخضع لله القادر على خلاصه.
يرى القديس باسيليوس الكبير أن كلمة "خلاص" هنا تعني السيد المسيح نفسه، وذلك كقول سمعان الشيخ حين حمل الطفل يسوع: "إن عيني قد أبصرتا خلاصك".
*من أجل هذا وأسرار أخرى شبيهة به ترغب العروس أن تكون داخل البيت الذي يحوي سرّ الخمر. وبعدما دخلته، ابتدأت في القفز إلى أعلى لكي تصل إلى ما هو أعظم، لأنها كانت تبحث لكي تقع في الحب. وتبعا للقديس يوحنا، الله محبة (1 يو 4: 8). إن خضوع النفس لله هو الخلاص، كما يشير داود (مز 62: 1). "أدخلني إلى بيت الخمر، وعَلَمُه فوقي محبة". تقول العروس إنه وضع حبه فوقي، إني خاضعة لحبه؛ فكلا العبارتين لهما نفس المعنى[8].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
إِنَّمَا هُوَ صَخْرَتِي وَخَلاَصِي مَلْجَأي.
لاَ أَتَزَعْزَعُ كَثِيرًا [2].
مادام الله في صفنا، تطمئن نفوسنا، وتستقر، إذ لا تقدر كل متاعب العالم ولا محاربات الشيطان ولا شهوات الجسد أن تهزها!
يليق بنا إن أردنا أن نتمتع بالسلام الداخلي أن نتعرف مع داود النبي على الله بكونه القدير، صخرتنا الذي لا يتزعزع، خلاصنا المفرح، ملجأنا ضد العدو، ومجدنا!
بقوله: "لا أتزعزع كثيرًا" يوضح المرتل أنه لا يوجد إنسان لا يتزعزع، لكن الله لا يسمح له أن يتزعزع كثيرًا، أي فوق طاقته.
يقول الأب أنثيموس الأورشليمي إن كل إنسان يتزعزع قدر خطيته، فإن سقط في هفوات قليلة، يهتز كالأشجار من هبوب نسيم، أما إذا كانت سقطاته كثيرة، فيتزعزع.
* الابن الذي هو من الله (الآب) هو إلهنا. هو نفسه أيضًا مخلص الجنس البشري، الذي يسند ضعفنا، ويُصلح الاضطراب النابع في قلوبنا من التجارب[9].
القديس باسيليوس الكبير
2. خداع المقاومين وعنفهم
إِلَى مَتَى تَهْجِمُونَ عَلَى الإِنْسَانِ؟
تَهْدِمُونَهُ كُلُّكُمْ كَحَائِطٍ مُنْقَضٍّ كَجِدَارٍ وَاقِعٍ! [3]
جاءت العبارة في اللغة العبرية تعني الاندفاع بعنف والهياج وإثارة النفس للهجوم، والعطش إلى ذلك.
إذ يحسد الأشرار الذين يلتصقون بالزمنيات النفوس المرتفعة بالله والمستقرة في أحضانه يهاجمونها، لكن من يثب إلى فوق لا يخشاهم، ولا ينهار أمام تهديداتهم
* ذاك الذي من مكان حصين عالٍ ومحمي، الذي فيه يصير له الرب ملجأ، يصير له موضع حصين، يتطلع إلى الذين وثب فوقهم، وينظر إلى أسفل ليحدثهم كما من برجٍ عالٍ. إذ يُقال عن (الرب): "برج قوة من وجه العدو" (مز 61: 3). يتطلع إليهم، ويقول: "إلى متى تهجمون على الإنسان؟" [3] إنكم بالشتائم وقذف التوبيخات، بالتربص، وبالاضطهاد، تلقون عليه الأثقال، تلقون عليه قدر ما لا يحتمله الإنسان، ولكن لكي يحتمل الإنسان هكذا، يوجد فيه (تحته) ذاك الذي خلق الإنسان. إن نظرتم إلى إنسان "تهدمونه كلكم... كحائط منقض، كجدار واقع" [3]. تضغطون عليه، تضربونه، لكي ما تطرحوه إلى أسفل. أين: "لا أتزعزع كثيرًا" [2]... لأن الله نفسه مخلصي، ورافعي! أنتم كبشرٍ يمكنكم أن تُلقوا بالأثقال على إنسانٍ، هل يمكنكم بأية وسيلة أن تلقوا بها على الله حامي الإنسان؟
القديس أغسطينوس
من هو هذا الإنسان الذي يود كل الأشرار أن يهدموه كحائط ينقضونه، أو كجدار يسقطونه؟ يقول القديس أغسطينوس إنه السيد المسيح رأس الكنيسة، فإن كان الأشرار جميعًا يقاومون الكنيسة، إنما يضطهدون جسد المسيح، ويحسب المسيح الرأس هذه المقاومة أنها موجهة ضده شخصيًا. هذا ما أعلنه السيد المسيح نفسه حين وجه هذا الاتهام ضد شاول الطرسوسي: "لماذا تضطهدني؟" فما فعله شاول بالكنيسة، حسبه السيد المسيح موجهًا ضده.
لن يتوقف الأشرار عن اضطهاد السيد المسيح في أشخاص مؤمنيه، لذا يقول الرسول بولس: "أكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده، الذي هو الكنيسة" (كو 1: 24).
ويقول القديس أغسطينوس: [في جمهوريتنا المشتركة هذه، كل واحدٍ منا يلتزم بدفع ما نحن مدينون به، قدر طاقته، وبحسب الإمكانيات التي لنا ينال كل نصيبًا (كوتا quota) من الآلام التي نشترك فيها. مخزن كل آلام البشر لن يتوقف تمامًا حتى ينتهي العالم... هنا المدينة كلها تتكلم، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا (مت 23: 35). وبعد ذلك من دم يوحنا (المعمدان) إلى دم الرسل، فدم الشهداء، ودم المؤمنين بالمسيح؛ إنها مدينة واحدة تتحدث، إنسان واحد يقول: "إلى متى تهجمون على الإنسان؟ تهدمونه كلكم" [3]. لننظر إن كنتم تمحون الاسم (اسم يسوع الذي للمدينة الواحدة أو الكنيسة)؛ لننظر إن كنتم قد قضيتم عليه؛ لننظر إن كنتم قد أزلتموه من على الأرض. لذلك فلننتظر إن كنتم أيها الشعوب لم تفكروا في أمورٍ باطلة، قائلين: "متى تموت ويُباد اسمها" (راجع مز 41: 5).]
إنهم يشبهون حائطًا يميل فيقتل من بجواره، وفي نفس الوقت إذ يسقط يتهدم، أي يُدمر الآخرين كما يدمر نفسه.
يقول القديس باسيليوس الكبير إن الطبيعة البشرية هي حائط وقد هزته صدمة الخطية، فمال إلى السقوط، ولا يمكن إعادة بنائه إلا بالهدم ونقض بنيانه، لذلك سمح الله أن يكون الموت الحسي ناقضًا للحائط المزعزع ليعيد بناءه بالقيامة العامة إعادة وثيقة ومؤيدة.
إِنَّمَا يَتَآمَرُونَ لِيَدْفَعُوهُ عَنْ شَرَفِه.
يَرْضُونَ بِالْكَذِب.
بِأَفْوَاهِهِمْ يُبَارِكُونَ، وَبِقُلُوبِهِمْ يَلْعَنُون. سِلاَهْ [4].
ما يشغل قلوب الأشرار لا أن ينجوا أو يتقدموا في أمرٍ ما، وإنما أن يهلكوا البار ويبيدوا اسمه. هذا ما أراده الأشرار المقاومون سواء للملك داود، أو لابنه حسب الجسد يسوع المسيح.
إذ يقبل الأشرار البنوة لإبليس لا لله، يجدون لذتهم وبهجة قلوبهم في الكذب والأباطيل، لأن أباهم إبليس كذاب وأب الكذابين.
غالبًا ما ينصب الأشرار شباكهم خلال كلماتهم المعسولة التي تخفي عنف قلوبهم. هنا يشير إلى أبشالوم الذي كسب الكثيرين بكلماته المخادعة المعسولة.
* ليتنا نلتصق بأولئك الذين يزرعون السلام مع التقوى، ولا يطلبون السلام برياء[10].
القديس إكليمنضس الروماني
* كرامة الإنسان (أو شرفه) هي حسن عبادة الله وحفظ شرائعه... كرامة الحليم هي الفضيلة وحُسن الديانة. يقول الرسول (بولس) إن المجد والكرامة والسلام لمن يفعل الصلاح.
إن القوات الشريرة التي هي الشيطان وجنوده والتابعين له من الناس الخبثاء مع عجزهم أمام الذين يقاومونهم بشجاعة، إلا أنهم يفكرون بحيلٍ متنوعةٍ لكي بجودة كلام أفواههم وتعليقاتهم يخدعون الإنسان ويسقطونه في وهدتهم يسعون بقوة واشتهاء كثير في إقصائه وإزالة كرامته وجذبه إلى الكفر وإلى أعمال تخالف السنن المفروضة من الله. هذه التي من يخالفها يفقد كرامته ويصير كالبهائم التي لا عقل لها... وكما يقول باسيليوس الكبير إن كرامة المؤمن وثمنه الذي اشترى به هو دم المسيح. يجتهد اتباع الشيطان أن يعطوا هذا الثمن ويفسدوا حريتنا ويردونا إلى العبودية.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* تتعذب قلوب الأشرار بسبب كرامة المسيحيين. الآن يُكرم يوسف الروحي بعد بيعه بواسطة إخوته، بعد استبعاده عن بيته إلى مصر كما إلى الأمم، بعد إذلاله بدخوله السجن (تك 37: 36؛ 39: 20)، بعد تلفيق قصة بشهادة باطلة، بعد أن عبر على ما قيل عنه: "في الحديد دخلت نفسه" (مز 105: 18). الآن لم يعد يخضع لإخوة يبيعونه، إنما يمد الجائعين بالغلال. إذ غٌلبوا بتواضعه وطهارته وعدم فساده وتجاربه وآلامه يرونه مكرمًا.
القديس أغسطينوس
3. تأكيد الاتكال على الله
إِنَّمَا للهِ انْتَظِرِي يَا نَفْسِي،
لأَنَّ مِنْ قِبَلِهِ رَجَائِي [5].
يحث داود النبي نفسه أن تنحني بروح الخضوع والتقوى لإرادة الله الصالحة، تخضع في صمت وتترجى مراحمه. فإنه ليس من يعيش مثله!
يرى القديس أغسطينوس أن يدوثون، أي الذي يثب فوق الذين يحبون الزمنيات، يخضع لله الذي يهبه الاحتمال والصبر برجاءٍ في مواعيد الله الصادقة.
* أي صبر يوجد هناك (في التجارب) وسط افتراءات خطيرة كهذه إلا "إن كنا نرجو ما لسنا ننظره، فإننا نتوقعه بالصبر" (رو 8: 25)؟
يأتي ألمي وهناك تحل راحتي أيضًا.
تأتي محنتي، ويأتي تطهيري أيضًا.
هل يتألق الذهب في الأتون الذي يقوم بتكريره؟ إنه يتألق في القلادة، يتألق في الحلي.
ليحتمل الذهب مهما كان الأتون، لكي ما ينتقي من النفايات ويأتي إلى النور. هذا هو الأتون، فإنه يوجد قش، ويوجد فيها ذهب، وتوجد نار وفيها ينفخ الذي يكرر. في الأتون يحترق القش، ويتنقى الذهب؛ واحد يصير رمادًا، والثاني يتنقى من النفايات...
وإن كان القش يحترق ضعني على النار كما لو لهلاكي، لكن يحترق القش وأنا أتنقى من النفايات. كيف؟ "إنما لله خضعت نفسي، فإن منه أجد صبري".
القديس أغسطينوس
إنَّمَا هُوَ صَخْرَتِي وَخَلاَصِي.
مَلْجَإِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ [6].
يكرر هنا ما ورد في الآية [2] مع حذف كلمة كثيرًا، فإن كان في بدء صراخه إلى الله يعلن ثقته فيه أنه وإن تزعزع فلن يدوم هذا، لأن الله سند له، الآن يتكلم بأسلوب عام أنه "لا يتزعزع". لقد امتلأ قلبه بسلام أعظم، وهدأ عقله تمامًا! الحوار مع الله والحديث معه والتأمل في معاملاته ينمي فينا الرجاء، ويهبنا ثباتًا أعظم.
* القوة على احتمال الشدائد وعدم الانزعاج هي من قبل الله، فإنه لا يهملنا حتى نتأذى فوق طاقتنا، لئلا نُنقل من العبودية له إلى العبودية لغيره.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* "لأنه هو إلهي وخلاصي ورافعي، فلا أتزعزع" [6 LXX]. إذ هو إلهي يدعوني؛ وإذ هو خلاصي يبررني؛ وإذ هو رافعي يمجدني. هنا أنا مدعو ومبرر وممجد، وحيث أنني أتمجد لا أتزعزع. نزيل أنا معك على الأرض مثلما كان سائر آبائي. لهذا فإنني أتحرك من مسكني، أما من بيتي السماوي فلا أتزعزع.
القديس أغسطينوس
عَلَى اللهِ خَلاَصِي وَمَجْدِي.
صَخْرَةُ قُوَّتِي مُحْتَمَايَ فِي اللهِ [7].
يرى المرتل في الله خلاصه ومجده وصخرة قوته وملجأه؛ إذ لم يعد يتطلع إلى الله لكي ينقذه من تجربةٍ معينةٍ أو ضيقةٍ حلت به، إنما يود أن يدخل في أحضانه ويتمتع بالشركة معه. هذا هو مجده وقوته!
* سأخلص في الله، وأكون ممجدًا في الله؛ ليس فقط أخلص، وإنما أيضًا أتمجد. أخلص لأني أتغير من إنسان شرير إلى إنسانٍ بار؛ به أتبرر (رو 4: 2). إني أتمجد، إذ لست فقط أتبرر، وإنما أيضًا أكرَّم. "الذين سبق فعينهم، فهؤلاء دعاهم أيضًا... والذين دعاهم، فهؤلاء برَّرهم أيضًا... والذين بررهم، فهؤلاء مجدهم أيضًا" (رو 8: 30). ينتمي التبرير للخلاص، والتمجيد للكرامة.
القديس أغسطينوس
4. حث الآخرين على الاتكال على الله
تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ يَا قَوْمُ.
اسْكُبُوا قُدَّامَهُ قُلُوبَكُمْ.
اللهُ مَلْجَأٌ لَنَا. سِلاَهْ [8].
يليق بنا أن نتكل على الله، ونسلم له كل أمورنا، ليس في أوقات الشدة وحدها، وليس فيما يبدو لنا أنها أمور هامة، إنما نُسلِّم له حتى الأمور التي تبدو لنا تافهة، وفي كل الأوقات. إننا نسكب قدامه قلوبنا أينما وجدنا، وتحت كل الظروف، سواء كانت أوقات ضيق أو حزن أو أوقات فرج وفرح!
* عوض ثيابنا، لنسكب قلوبنا قدامه[11].
الأب ميثوديوس
* هذا القول نبوة عن دعوة الأمم كافة. بقوله: "اسكبوا قلوبكم" يعني: اخرجوا من أنفسكم الأفكار الخبيثة والشر المؤذي، واعزلوها ونظفوا قلوبكم وطهروها.
يقول باسيليوس الكبير: لا يمكننا أن نتمتع بالروح الطاهر مادامت الأدناس في قلوبنا، وأيضًا حبوا الله بدون غش من كل نفوسكم ومن كل قلوبكم ومن كل نياتكم، فلا يعتري إيمانكم ريب أو شك في أن الله هو المعين. وأيضًا "اسكبوا قلوبكم" معناه ابذلوا جهدكم وفرغوا غايتكم للتضرع والابتهال لله.
السكب معناه الغزارة والوفرة، كقول الرسول إن محبة الله انسكبت في قلوبنا.
الأب أنثيموس الأورشليمي
جاءت كلمة "اتكلوا" عند القديس أغسطينوس "ترجوا". كلمة "الرجاء" في الأصل اليوناني تحمل سمة اليقين، وليس الرجاء بمعنى احتمال تحقيق الوعد أو عدمه، إنما الثقة في تحقيق الوعد الأكيد.
* اقتدوا بيدوثون، ثبوا فوق أعدائكم، إذ هم بشر يحاربونكم، لكي يغلقوا طريقكم؛ إنهم يكرهونكم، فثبوا عليهم. "ترجوه يا كل مجلس الشعب، اسكبوا قدامه قلوبكم" [8]... وذلك بالتوسل إليه، والاعتراف له، والرجاء فيه. لا تحتفظوا بقلوبكم داخل قلوبكم؛ "اسكبوا قدامه قلوبكم". فما تسكبونه لا تهلكوه.
إنه رافعي. فإن كان رافعي. فكيف تخافون من السكب؟ "القِ على الرب همك، وترجاه" (راجع مز 55: 22)... "الله هو معيننا"، هل هم معادلون لله بأية كيفية؟ هل هم أقوى منه بأية وسيلة؟ الله هو معيننا، فلا تهتموا. إن كان الله معنا، فمن علينا؟ (رو 8: 31)
"اسكبوا قدامه قلوبكم"، بالوثب إلى فوق إليه، ورفع نفوسكم.
القديس أغسطينوس
إِنَّمَا بَاطِلٌ بَنُو آدَمَ.
كَذِبٌ بَنُو الْبَشَرِ.
فِي الْمَوَازِينِ هُمْ إِلَى فَوْقُ.
هُمْ مِنْ بَاطِلٍ أَجْمَعُونَ [9].
يرى المرتل في الله خلاصه ومجده وصخرة قوته وملجأه؛ إذ لم يعد يتطلع إلى الله لكي ينقذه من تجربةٍ معينةٍ أو ضيقةٍ حلت به، إنما يود أن يدخل في أحضانه ويتمتع بالشركة معه. هذا هو مجده وقوته!
لما كان الإنسان يميل بالأكثر إلى الاتكال على الذراع البشري، والسلطة الزمنية والإمكانيات المادية، لهذا إذ يقارن المرتل بين الله والإنسان، لا يوجد وجهٌ للمقارنة. فالإنسان في حقيقته نفخة، وكل ما يقتنيه باطل. مهما بلغ عمر الإنسان، ومهما نال من مواهبٍ وقدراتٍ وإمكاناتٍ وسلطانٍ، إنما كخيال يتمشى على الأرض إلى حين. إنه باطل إن قورن بالله القدير والحق. مهما كان سلوك الإنسان، فإنه لن يتبرر بذاته أمام الله، لهذا بدون النعمة الإلهية يُحسب في الموازين إلى فوق.
يرى القديس أغسطينوس أن افتراءات الأشرار وشرورهم كثيرة ومختلفة فيما بينها مما تجعل الأشرار منقسمين، يحطمون بعضهم البعض، ويصيرون باطلًا.
* كل ما في البشر باطل، سواء كان أموالًا أو ذكاء أو منازل أو مجدًا، لأنهم بالباطل هم منهمكون كلهم، وموازين قلوبهم مائلة وغير مستقيمة في اعتدال، ويميلون إلى الغدر بالناس... يقول أثناسيوس الجليلإن رؤساء اليهود كانوا بالموازين والمقادير يتحينون على المسيح خيانة، ويجتمعون بمؤامرات على إبادته، لكن حيلهم ومؤامراتهم بطُلت.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* لأن تقدمات الصوم التي نندفع فيها بلا تفكير تمزق أمعاءنا بعنف، ونحن حاسبون أنها تُقدم بطريقة سليمة للرب. لكن ذاك الذي "يحبُّ البرَّ والعدل (الإفراز)" (مز 5:33) يكره السلب في تقدمة المحرقة...الذين يسلبون النصيب الأكبر من تقدمتهم (إذ يصومون للكرامة البشرية)... تاركين النصيب الأصغر جدًا للرب، هؤلاء تدينهم الكلمة الإلهية كفعلة خادعين، قائلة لهم: "ملعون من يعمل عمل الرب بغش (برخاوة).." (إر 10:48).
إذن ليس بغير سبب يوبخ الرب من يخدع نفسه باعتبارات غير صحيحة فيقول: "إنما باطل بنو آدْم. كذب بنو البشر. في الموازين هم إلى فوق" (مز 9:62).لهذا يوصينا الرسول المبارك أن نقبض بزمام الإفراز ولا ننحرف إلى المغالاة في أي الطريقين (رو 3:12). ويمنع واهب الشريعة نفس الأمر قائلًا: "لا ترتكبوا جورًا في القضاء،ِ لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل" (لا 35:19).إذن يجدر بنا ألا تكون في قلوبنا موازين ظالمة، ولا موازين مزدوجة في مخزن ضميرنا، بمعنى أنه يجب علينا ألا نحطم من يلزمنا أن نكرز لهم بكلمة الرب، بشرائع حازمة مُغَالى فيها أثقل مما نحتملها نحن، بينما نعطي لأنفسنا الحرية ونخفف منها... لأنه إن كنا نزن لإخوتنا بطريقة ولأنفسنا بأخرى يلومنا الرب بأن موازيننا غير عادلة ومقاييسنا مزدوجة، وذلك كقول سليمان بأن الوزن المزدوج هو مكرهة عند الرب والميزان الغاش غير صالح في عينيه (راجع أم 10:20)[12].
الأب ثيوناس
لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى الظُّلْمِ،
وَلاَ تَصِيرُوا بَاطِلًا فِي الْخَطْفِ.
إِنْ زَادَ الْغِنَى، فَلاَ تَضَعُوا عَلَيْهِ قَلْبًا [10].
بسبب محبة المال والرغبة في زيادة الثروة يلجأ الإنسان أحيانًا إلى الغش والظلم، بل وإلى النهب والسلب. إن ظن الإنسان أن الظلم هو الطريق السهل والأسرع لتحقيق مكاسبه المادية، أفلا يفسد قلبه؟
* رجائي هو في الله. نعم، فإني لا أقترب (إلى الشر) وأعبر "لا تتكلوا على الظلم" [10]. لكي أثب إلى فوق، أتكل على الله، فهل يوجد مع الله ظلم...؟
قد ينتعش الظلم إلى حين، لكنه لا يقدر أن يثبت.
"لا تتكلوا على الظلم، ولا تطمعوا في الخطف". أنت لست غنيًا، أتريد أن تسلب؟ ماذا تجد؟ وماذا تفقد؟
يا لها من مكاسب مفقودة! إنك تجد مالًا، وتفقد برًّا!
"لا تطمعوا في الخطف"... "طوبى للرجل الذي جعل الرب متكله، ولم يلتفت إلى الغطاريس (الأباطيل) والمنحرفين إلى الكذب" (مز 40: 4). نعم، إنك تريد أن تخدع؛ تريد أن ترتكب احتيالًا، ماذا تجلب لنفسك مقابل الغش...؟ فإنه ليس الغش ولا الخطف تشتهيه بعد، ولا تضع اتكالك على هذه الأمور بعد.
القديس أغسطينوس
* ليس فقط احذروا من الظلم والخطف، بل وإن جرى إليكم المال مثل سيل النهر فلا تشغلوا أفكاركم به. لأن المال هو شيء سائل لا يثبت.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* إنني أراكم قلقين فأحزن عليكم، وإذ يؤكد لنا الذي لا يخدع "إنما باطلًا يضجون". فإنكم تدخرون كنوزكم مفترضين نجاح مشروعاتكم، ناسين تمامًا الخسائر والمخاطر العظيمة والميتات الناجمة عن المثابرة في الحصول على كل أنواع الربح (إنني لا أتحدث عن ميتات الجسد بل الأفكار الشريرة، لأنه قد يأتي الذهب ولكنه بالحق يذهب، فتكتسون من الخارج ولكن تكونون عراة في الداخل). ولكن لكي ما تعبروا هذه كلها وعلى أشياء أخرى كهذه في هدوء، لكي تعبروا على كل الأشياء التي هي ضدكم، فكروا فقط في الظروف المناسبة (المفيدة). انظروا إنكم تدخرون كنوزًا، والأرباح تتدفق عليكم من كل جهة، وأموالكم تنساب كالينابيع. أينما ضايقكم الفقر فاض عليكم الغنى، ألم تسمعوا: "إذا وفرت ثروتكم، فلا تميلوا إليها قلوبكم" (مز 62: 10). ها أنتم تنالون أعمالًا مثمرة. ولكنكم تقلقون باطلًا[13].
القديس أغسطينوس
* النفس هي التي تحكم الجسد وتعطيه حياة التي (بدونها) يكون بلا حياة ولا شعور. يوجد أيضًا الإنسان الأكثر سمُوًّا، الذي قيل عنه: "وأما (الإنسان) الروحي فيَحكم في كل شيء، وهو لا يُحكَم فيه من أحد" (1 كو 2: 15). مثل هذا يكون أكثر سموًا من الآخرين، وعنه يقول داود أيضًا: "فمن هو الإنسان حتى تذكره أو ابن الإنسان حتى تفتقده؟ يصير الإنسان كباطلٍ" (مز 8: 5؛ 144: 3-4) الإنسان كصورة الله ليس باطلًا، لكن الذي يفقدها (صورة الله) ويسقط في الخطية، ويتعثر في الماديات، مثل هذا يشبه الباطل[14].
القديس أمبروسيوس
5. الله كلي القدرة والرحمة والعدل
مَرَّةً وَاحِدَةً تَكَلَّمَ الرَّبُّ،
وَهَاتَيْنِ الاِثْنَتَيْنِ سَمِعْتُ أَنَّ الْعِزَّةَ للهِ [11].
في استفاضة يتحدث القديس أغسطينوس عن هذه العبارة، مظهرًا الآتي:
أ. "مرة واحدة تكلم الرب"، فما تكلم به الرب مع آدم تحدث به مع قايين ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وكل الرسل. فالله غير متغير، وما ينطق به لا يتغير، إنما نحن نتغير. وكأن القديس أغسطينوس يؤكد أن الله ليس عنده محاباة، فإن خضعنا له في تواضع ننعم ببركاته، وإن عصيناه في تشامخ نسقط تحت الدينونة. الله محب البشر لا يتغير، لكننا نخضع أنفسنا تارة لمراحمه، ونسقط تحت فساد الخطية تارة أخرى.
ب. الآب الذي تكلم مع أولئك، تكلم مع الابن الوحيد، قائلًا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 17). هذا هو الابن الذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان (يو 1: 3). إنه الابن مخلص العالم، ويود أن يتمتع الكل بسرور الآب به. جاء إلينا لننعم بسرور الآب ورحمته!
ج. يقول المرتل: "سمعت"، يشير إلى أنه ما يتكلم به ليس من عنده، إنما قد سمعه من ابن الله الوحيد الذي فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة (كو 2: 3).
د. الأمران اللذان سمعهما هما: إن العزة لله، وأنه رب الرحمة [11، 12].
* هذان الأمران عظيمان بالنسبة لنا: "أن العزة (السلطان) لله، ولك يا رب الرحمة". هل هذا هما الأمران: السلطان والرحمة؟ إنهما الأمران كما هو واضح: لتدركوا سلطان الله، ولتدركوا رحمة الله! ففي هذين الأمرين يحتوي تقريبًا كل الأسفار المقدسة.
من أجل هذين الأمرين جاء الأنبياء، وبسببهما جاء الآباء، وبسببهما الناموس، وبسببهما جاء ربنا يسوع المسيح، وبسببهما جاء الرسل، وكل الذين يكرزون وينشرون كلمة الله في الكنيسة... لتخافوا سلطان الله، ولتحبوا محبته.
لا تعتمدوا على رحمة الله هكذا بأن تستخفوا بسلطانه، ولا تخافوا سلطانه هكذا بأن تيأسوا من رحمته. معه السلطان، ومعه الرحمة!
القديس أغسطينوس
ما هما الأمران اللذان يخصان الله؟ الأمر الأول هو قدرة الله الكلية، فهو إله المستحيلات. لا يمكن أن نستبدله بآخر، إذ هو السند الحقيقي القادر على الخلاص.
يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن القول الواحد هو أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، وهو يحتوي على أمرين، هما عذاب الأشرار ومكافأة الصديقين.
وَلَكَ يَا رَبُّ الرَّحْمَةُ،
لأَنَّكَ أَنْتَ تُجَازِي الإِنْسَانَ كَعَمَلِهِ [12].
هذا هو الحديث الثاني عن الله فمع قدرته الكلية، رحمته أيضًا فائقة وبلا حدود. وخلال هذه الرحمة يحقق أيضًا العدل الفائق. هذان الأمران يتفقان معًا، ويتلاثما على الصليب. بصليبه يحمل خطايانا، فيحقق العدالة الإلهية، ويقدمنا بحبه ورحمته حاملين برَّه قدام الآب.
* "هذا يضعه وهذا يرفعه" (مز 75: 7)؛ يضع هذا بالسلطان، ويرفع ذاك بالرحمة.
"إن كان الله، وهو يريد أن يظهر غضبه، ويُبيَّن قوته، احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك" (رو 9: 22). لقد سمعتم عن السلطان، اسألوا عن الرحمة، إذ يقول: "ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة" (رو 9: 23). إدانة الظالمين تنتسب لسلطانه...
الشيطان هو نوع من السلطان، كثيرًا ما يريد أن يؤذي، لكنه يعجز، لأن هذا السلطان هو تحت سلطان. فلو كان الشيطان قادرًا أن يؤذي قدر ما يريد، لما بقي إنسان بار واحد، ولما وُجد مؤمن واحد على الأرض. نفس الأمر بالنسبة لآنيته التي يضربها (الشيطان) لتكون كحائط يُنقض، لكنه يضرب قدر ما ينال من سلطان. ولكي لا تسقط الحائط يعينهم الرب، فإن ذاك الذي يعطي للمجرِّب سلطانًا هو نفسه يهب المُجرَّب رحمة. فيُسمح للشيطان أن يُجرِّب، ولكن بقدرٍ معين. "سقيتهم الدموع بالكيل" (مز 80: 5).
لا تخافوا إذن من المجرِّب الذي يُسمَح له في حدود، إذ لكم المخلص الكليّ الرحمة. فإنه يسمح بالتجربة بالقدر الذي فيه نفعكم، لكي ما تُمتحنوا وتتزكوا... يقول الرسول: "الله أمين، الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون" (1 كو 10: 13)...
لا تخافوا من العدو، فإنه إنما يعمل قدر ما ينال من سلطان، بل خافوا ذاك الذي له السلطان الأعظم...
يا لعظم الصالحات التي يخرجها ذاك البار من الشرور التي يمارسها الظالمون. هذا هو سرّ الله العظيم! فإنه حتى الأمور الصالحة التي أنتم تفعلونها هو يعطيها لكم، ويستخدم شرور (الأشرار) لصالحكم. إذن لا تتعجبوا إن كان الله يسمح (بالتجارب)، وبتمييز يسمح. إنه يسمح، ولكن بقياسٍ معين، وعدد معين، ووزنٍ معين. معه لا يوجد ظلم؛ لتعملوا فقط ما يليق به، ولتتكلوا عليه، وليكن هو سندكم وخلاصكم. ليتكم تجدون فيه حصنًا، وبرج القوة وملجأ، فهو لا يسمح لكم أن تُجربوا فوق ما تحتملون، بل يجعل مع التجربة المنفذ، فيمكنكم أن تواجهوها!
القديس أغسطينوس
* ذهب أحد الأراخنة إلى الأب بالليديوس لزيارته، لأنه كان قد سمع عنه. وكان قد أخذ معه كتابةً مختزَلة خاطب فيها نفسه قائلًا: ”إنني سأعرِّف نفسي للأب ولكِ، وستلاحظين باهتمام ما سيقوله لي". ولما دخل الأرخن قال للشيخ: "صلِّ لأجلي أيها الأب، لأنّ عندي خطايا كثيرة." فقال الشيخ: "يسوع المسيح وحده هو الذي بلا خطية." فقال الأرخن: ”هل مفروض علينا، أيها الأب، أن نُعاقَب على كل خطية؟" فأجاب الشيخ: ”مكتوبٌ: "أنت تجازي كل واحدٍ حسب أعماله" (مز62: 12)". فقال الأرخن: "اِشرح لي هذا القول." فقال الشيخ: "إنه يشرح نفسه، ومع ذلك فاسمع تفسيره بالتفصيل: هل ضايقتَ جارك؟ انتظر أن تتلقّى المثيل. هل سلبتَ خيرات المتواضعين؟ هل ضربتَ مسكينًا؟ سيكون وجهك مغطّى بالخزي يوم الدينونة. هل أهنتَ أو افتريتَ أو كذبت؟ هل عزمتَ على الزواج بامرأة شخص آخر؟ هل أقسمتَ بيمين كاذبٍ؟ هل طرحتَ عنك منهج الآباء؟ هل أخذتَ ما يخص اليتامى؟ هل ظلمتَ الأرامل؟ هل فضّلتَ المسرات الحاضرة على الخيرات الموعودة؟ فانتظر أن تتلقّى ما يقابل كل ذلك، لأنّ الإنسان يحصد مثل البذار التي يزرعها. كما أنك بالتأكيد إذا فعلتَ خيرًا فانتظر أن تتلقّى بالمقابل أكثر منه كثيرًا حسب القول نفسه: "أنت تجازي كل واحدٍ حسب أعماله«. فإذا ذكّرت نفسك بذلك كل أيام حياتك يمكنك أن تتحاشى ارتكاب معظم الخطايا".
ثم سأله الأرخن: "ما الذي ينبغي عمله أيها الأب؟" فقال الشيخ: "فكّر في الأمور الأبدية والخالدة الباقية التي لا يوجد فيها ليل ولا نوم. ضع أمامك الموت الذي لا يوجد بعده طعام ولا شراب الذي هو بسبب ضعفنا. ولن يكون هناك مرض ولا أوجاع ولا طبّ ولا محاكم ولا تجارة ولا غِنَى ولا علّة الشرور ولا مبرر للحروب ولا جذر الحقد. هذه ستكون أرض الأحياء لا للذين ماتوا في الخطية، بل للذين يعيشون حياة أبدية في المسيح يسوع". فتأوّه الأرخن وقال: "حقًا أيها الأب، إنّ الأمر هو تمامًا كما قلت." وإذ اقتنع جدًا رجع إلى مسكنه شاكرًا الله.
فردوس الآباء
من وحي مز 62
صخرتي وخلاصي وملجأي أنت!
* تسبِّحك نفسي يا أيها المبدع القدير،
بحبك خلقت هذا العالم الجميل،
لأقطن فيه إلى حين.
هب لي أن أثب إلى فوق بروحك القدوس.
فلا أشتهي شيئًا من كل ملذات الحياة.
ولا أنحدر لأدخل في صراع مع من استعبدهم العالم.
لكنني أثب كما إلى السماء،
وأستقر في أحضانك الإلهية،
فأنت هو صخرتي، وخلاصي، وملجأي، ومجدي!
* من يقدر أن يتسلل إليَّ وأنا في أحضانك.
أية سهام نارية لإبليس يمكنها أن تلحق بي!
تود قوات الظلمة أن تهدمني،
فأصير كحائط نُقض تمامًا،
أو كجدارٍ انهار وسقط!
يتآمر الأشرار عليَّ ظلمًا
ينطقون بالناعمات،
وقلوبهم ذئبية قاتلة!
بأفواههم ينطقون بالبركة،
وقلوبهم ترشق اللعنات.
لكن أنت هو متكلي،
وبك وحدك أترجى!
* ليبث العدو ظلمه عليَّ،
فهذا من طبعه.
لكن تبقى رحمتك سندًا لي.
لن تسمح للعدو أن يهاجمني فوق طاقتي.
إن كان يظن أنه صاحب سلطان،
فسلطانك أعظم!
* لن أخشى العدو مادمت في أحضانك!
تهبني النصرة عليه بغنى نعمتك!
تكللني بأكاليل المجد التي تعدها لمؤمنيك.
تحول تجارب العدو لمجدي بك وفيك.
لك العزة يا صاحب السلطان، ويا رب الرحمة!