الأشياء التي ترى
المادة من الأشياء التي ترى، لذلك فهى وقتية، لا تدوم إلى الأبد. وإن لم نفارقها نحن، فلابد أنها هي ستفارقنا. لذلك قال الله للغنى الغبى من جهة كل أمواله، ومخازنه "هذا الذي أعددته، لمن يكون؟!".
لذلك سعيد من يكنز له كنوزًا من السماء، في نطاق ما لا يرى.. فتتحول كنوزه من أشياء مرئية، إلى أشياء غير مرئية.. تتحول إلى روحيات..
العالم أيضًا من الأشياء التي لا ترى، من الأشياء الوقتية.
لذلك قال الرب إن السماء والأرض تزولان. وقال يوحنا الرائى "أبصرت سماءًا جديدة، وأرضًا جديدة. لأن جديدة. لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد" (رؤ 21: 1).
كلها أمور زائلة، لأنها من المرئيات لهذا فإن الكنيسة تردد على آذاننا في كل قداس قول الرسول:
"لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. لأن العالم يبيد، وشهواته معه" (1يو 2: 15، 17)
من هنا وجدنا أن آباءنا القديسين قد بدأوا حياتهم الروحية بالموت عن العالم. وفترة حياتهم في العالم، قضوها فيه كغرباء وليست لهم هنا مدينة باقية، بل يبتغون وطنًا أفضل سماويًا" (عب 11: 13، 16). غير ناظرين المرئيات.
ولعل البعض يسأل: ماذا أفعل عمليًا؟ كيف أترك العالم والمادة، وأنا أحيا فيهما؟ إن الرسول يجيب على هذا بقوله "يكون الذين يستعملون العالم كأنهم لا يستعملونه، لأن هيئة هذا العالم تزول" (1كو 7: 31).
إذن عش في العالم، لكن لا تجعل العالم يعيش فيك. يمكنك أن تملك المادة ولكن لا تجعل المادة تملكت.
العالم مكانه في الخارج ولا يدخل إلى داخل قلبك أو فكرك أو مشاعرك تستعمل ما فيه من مادة، وأنت متحرر في الداخل من سيطرتها ومن محبتها.
وكل ما تفقده من أمور العالم، لا تحزن عليه، لأنه لا يصحبك في اليوم الأخير وبالتالى لا تشتهى أن تقتنى من العالم شيئًا، فقد قال الرب:
"ماذا ينتفع الإنسان، لو ربح العالم كله، وخسر نفسه" (مت 16: 26).
وعبارة "غير ناظرين "تعنى عدم الاهتمام، وعدم الانشغال، بشئ من أمور المادة والعالم، لأن الفكر منشغل بشئ آخر روحى من الأمور التي لا ترى. وكما قال الرسول "أريد أن تكونوا بلا هم" (1كو 7: 32).
والإنسان الذي لا يهتم بشئ من المرئيات، يعيش بلا شك سعيدًا، ويتحرر من الشهوة ومن الخوف..
وفى ذلك قال القديس أوغسطينوس جلست على قمة العالم حينما أحسست في نفسى أنى لا أشتهى شيئًا ولا أخاف شيئًا.
إن الإنسان الذي ارتفع فوق مستوى الماديات، هو حصن منيع لا ينهدم، هو فوق العالم، وهو فوق الجسد أيضًا.
فهذا الجسد المادى هو أيضًا من الأمور الوقتية الزائلة، لأنه خاضع للحواس. وسيأتى وقت ننطلق فيه منه، حينما نخلعه، ونلبس جسدًا آخر روحانيًا نورانيًا غير قابل للفساد هو جسد القيامة الممجد
أما هذا الجسد فسيأكله الدود، ويتحول إلى تراب، وحينما يقوم سوف يقام جسدًا روحانيًا قد تخلص من سيطرة المادة ومتطلباتها وضعفاتها.
أنت على صورة الله ومثاله والله روح. عش إذن في الروح.
والروح من الأشياء التي لا ترى. وفي حياة الروح، تخلص من شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة وتمسك بالأشياء التي تبقى معك في الأبدية. أما الأمور المرئية فلا تهتم بها، ولا تجعلها تسبب لك همًا..
كان السيد المسيح على الجبل، مع الاب، منشغلًا بالأمور التي ترى فماذا كانت تجربة الشيطان له، في صورها الثلاثة المتحدة في الهدف؟
كانت التجربة هي محاولة جذبه مما لا يرى، إلى عالم المرئيات..
جذبه إلى الحجارة التي يصيرها خبزًا لطعام الجسد.. إلى المناظر التي تستهوى الحواس، إلى ممالك الأرض ومجدها.
أما السيد المسيح، فتمسك بالأشياء التي لا ترى.. بالروح التي تتغذى بكل كلمة تخرج من فم الله لذلك رفض كل تلك الماديات، ولم تترك في نفسه أثرًا.
إن الإغراء الذي تعرض له أبوانا الأولان كان هو المرئيات..
إنه الشجرة، والثمرة، التي كانت أمامهما "شهية للنظر وبهجة للعيون" (تك 3: 6)،وبنفس الوضع كانت سادوم بالنسبة إلى لوط، أرضًا معشبة، صالحة للمرعى "كجنة الله، كأرض مصر" (13: 10).
أنظروا إلى قصة يوسف وإمرأة فوطيفار، كانت هي ناظرة إلى الأمور التي ترى، إلى جمال الجسد وشهوته. أما يوسف فكان ناظرًا إلى الرب "كيف أخطئ إلى الله؟!" (تك 39: 9). ولم ينظر مطلقًا إلى الأشياء التي ترى، الوقتية.. لذلك خلص يوسف، وسقطت المرأة..
وبنفس الوضع سقط سليمان:
إن مأساه سقوطه كان سببها قوله "مهما أشتهته عيناى، لم أمنعه عنهما" (جا 2: 10).
لذلك قال "بنيت لنفسى بيوتًا. غرست لنفسى كرومًا. عملت النفسى جنات وفراديس.. جمعت لنفسى أيضًا فضة وذهبًا.. أتخذت مغنين ومغنيات، وتنعمات بنى البشر سيدة وسيدات.." (جا 2: 4 – 10). وماذا كانت النتيجة؟ قادته كلها إلى البعد عن الله (1مل 11).
واكتشف أخيرًا أن كل هذه المرئيات هي "باطل الأباطيل. الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس". (جا 2: 11).
ولكنه أكشف هذه الحقيقة متأخرًا بعد أن أثرت على روحه، وبردت نفسه وأسقطته فيما لا يسقط فيه الحكماء!
إن الغنى قد أتلف سليمان، وأوقعه في شهوات متعددة، وأمال قلبه إلى النساء. والغنى أيضًا أبعد الشاب الغنى عن المسيح، فمضى حزينًا..
ولكن بعض الأغنياء احتفوا بمحبتهم لله، لأنهم لم يحبوا المال، ولم ينشغلوا بجمعه وتكويمه وخزنه، وإنما باعوا كل أموالهم أعطوها للفقراء، كما فعل القديس أنطونيوس الكبير والقديسة ميلانيا، وكما كان يفعل أيضًا أيوب الصديق.
العيب إذن ليس في المال ذاته، إنما في النظر إليه، في محبته، وفي الاتكال عليه، وفي الكبرياء بسببه. كل هذا عن الأشياء إلى ترى.
بالنظر إلى ما لايرى عاش الرهبان والنساك والسواح.
نظروا إلى كل ما يرى، فإذا هو زائل وفان، لا يستحق اهتمامهم. فارتفعوا فوق مستواه وفوق كل رغبة فيه. وماتوا عن العالم، عن المرئيات، ناظرين إلى ما لا يرى، من فرط محبتهم للملك المسيح.
وبالمثل عاش آباؤنا، الذين حسبوا أنفسهم غرباء على الأرض.
ناظرين إلى المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله (عب 11: 13، 10). كانت نظرتهم مركزة في الأبدية التي وعدهم الرب بها. لم يروها بالعين، ولم ينالوا المواعيد، لكنهم نظروها من بعيد وصدقوها. وهكذا كان داود النبي يقول "غريب أنا على الأرض"، "ونزيل مثل جميع آبائى" (مز 39: 12) (مز 119)..
كذلك موسى النبي، الذي كان أميرًا في القصر الملكى. ولكنه لما كبر لم ينظر إلى هذه العظمة المرئية، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر.. (عب 11: 26).
نفس الوضع بالنسبة إلى الشهداء والمعترفين.
تقدموا إلى الموت، غير ناظرين إلى العالم وكل ما فيه. ورافضين الاغراءات التي عرضت عليهم، لأنهم كانوا مركزين نظرهم في ما لا يرى، في الحياة الأبدية التي لا ترى، في ما لم تره عين.. (1كو2: 9).. ماذا نقول إذن عن الذين لا يدفعون العشور، لأنهم ينظرون إلى ما يرى. ولا يلتفتون التي لا ترى.
السيد المسيح كان مثالًا في النظر إلى ما لا يرى.
في معجزة الخمس خبزات والسمكتين، لم ينظر المسيح إلى الخبز الذي يرى، إنما رفع نظره إلى فوق، وبارك. وفى حديثه مع السامرية، لم يهتم بهذا الماء الذي يرى، إنما إلى الماء الحى الذي لا يرى.. وهكذا في السجود، لا أورشليم التي ترى، أو ذلك الجبل، إنما الروح والحق وهما أمور لا ترى.. وفي الملكوت لم يهتم بالملكوت الأرضى الذي لا يرى، بل بالملكوت الروحي.
إن النظر إلى ما لا يرى، ينجى العالم من المذاهب المادية، ومن الإباحية واللاأخلاقية، ومن ومن الوجودية التي تهتم فقط فقط بالوجود في هذا العالم الأرضى.