12 - 05 - 2012, 03:39 PM
|
|
|
..::| VIP |::..
|
|
|
|
|
|
حياة التواضع والوداعة
( لقداسة البابا شنودة الثالث )
أود أن أبدأ معكم اليوم سلسلة عن موضوع مهم هو التواضع والوداعة:
ماهو التواضع وما معناه؟وماذا قال الآباء في مدحه وتطويبه؟بل ماذا قال الكتاب المقدس؟وما مركز التواضع بين الفضائل؟وما علاقته بالمواهب
العليا؟وما علاقته بالنعمة والتجارب؟وكيف يكون الإنسان متضعا؟.
هذا كله وغيره هو ما نود أن نحدثك عنه بمشيئة الله في سلسلة من المقالات لكي تدرك ماهي هذه الفضيلة الكبري,وما تحويه داخلها من فضائل
متعددة:
الاتضاع بين الفضائل:
الأتضاع هو الأساس الذي تبني عليه جميع الفضائل وهو السور الذي يحمي جميع الفضائل وجميع المواهب.
ومن هنا يمكن أن تعتبره الفضيلة الأولي في الحياة الروحية الأولي من حيث ترتيب البناء الروحي الذي تجلس في قمته المحبة من نحو الله والناس.
هو إذن نقطة البدء ورب المجد في العظة علي الجبل بدأ التطويبات بقولهطوبي للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السمواتمت5:3ثم طوب الودعاءمت
5:5.
إن كل فضيلة خالية من الاتضاع عرضة أن يختطفها شيطان المجد الباطل ويبددها الزهو والفخر والإعجاب بالنفس,لذلك.
إذا منحتك النعمة أن تسلك حسنا في إحدي الفضائل أطلب من الرب أن يمنحك اتضاعا حتي تنسي أنك سالك في فضيلة,أو حتي تدرك أنها
لاشيء إذا قورنت بفضائل القديسين..كذلك إن منحك الله موهبة من المواهب السامية ابتهل إليه أن يعطيك معها اتضاع قلب أو أن يأخذها منك لئلا
تقع بسببها في الكبرياء وتهلك..
وحسنا يعمل الله إذ يعطي مواهبه للمتواضعين.
لأنه يعرف أنها لاتؤذيهم وقد اختار للتجسد الإلهي فتاة متواضعة تنسحق أمام ذلك المجد العظيم..وهكذا نظر إلي اتضاع أمتهلو1:48هذه التي
تستمر في اتضاعها مهما كانت جميع الأجيال تطوبهالو1:48ويقول الكتاب إن الله يكشف أسراره للمتضعين وأنه يعطيهم نعمةيع4:16بط5:5 أم
3:34. هؤلاء الذين كلما زاد هم الله مجدا زادواهم اتضاعا وانسحاق نفس قدامه.
والاتضاع ليس فقط فضيلة قائمة بذاتها إنما هو أيضا متداخل في باقي الفضائل.
إنه كالخيط الذي يدخل في كل حبات المسبحة بحيث لايكون قيام لأية حبة منها ما لم يدخل هذا الخيط فيها..فكل فضيلة لا اتضاع فيها لاتعتبر
فضيلة ولايقبلها الله.لذلك قلنا إن الاتضاع أساس لكل الفضائل كما قلنا أيضا أنه سور لها يحميها من المجد الباطل.
تطويب الاتضاع:
إن السيد المسيح الذي تتكامل فيه جميع الفضائل حينما أراد أن يوجه تلاميذه القديسين إلي الإقتداء به,قال لهم:
تعلموا مني فإني وديع ومعتواضع القلبمت11:29.
قال هذا علي الرغم من أن كل فضيلة يمكننا أن نتعلمها منه..كان يمكن أن يقول:تعلموا مني الحكمة ,المحبة,الحنو,الهدوء,الخدمة,التعليم, قوة
الشخصية..فلماذا إذن ركز علي التواضع والوداعة؟أليس من أجل الأهمية القصوي لهاتين الفضيلتين؟
وهكذا نري التواضع بارزا في أقوال الآباء وفي حياتهم..
قال ماراسحقأريد أن أتكلم عن التواضع ولكنني خائف كمن يريد أن يتكلم عن الله..ذلك لأن التواضع هو الحلة التي لبسها اللاهوت لما ظهر
بيننا..ولهذا فإن الشياطين حينما تري شخصا متواضعا تخاف لأنها تري فيه صورة خالقه الذي قهرها..
حقا ما أعجب هذا الكلام عن التواضع!
التواضع يستطيع أن يقهر الشياطين:
وهذا واضح جدا في قصة أبا مقار الكبير,الذي ظهر له الشيطان وقال له:ويلاه منك يا مقارة,أي شيء أنت تفعله ونحن لانفعله؟!أنت تصوم ونحن لا
نأكل أنت تسهر ونحن لاننام أنت تسكن البراري والقفار ونحن كذلك ولكن بشيء واحد تغلبنافسأله القديس عن هذا الشيء فأجاب :بتواضعك وحده
تغلبناوهذا واضح طبعا لأن الشيطان لايستطيع أن يكون متواضعا فهو باستمرار متكبر وعنيد لذلك يقدر عليه المتواضع فهو يملك التواضع الذي لم
يقدر أن يملكه الشيطان.
وتظهر فيمة التواضع في حياة القديس الأنبا أنطونيوس:
أبعد هذا القديس العظيم فخاخ الشيطان مبسوطة علي الأرض كلها,فألقي نفسه أمام الله صارخا:يارب من يفلت منها؟فأتاه صوت من السماء يقول
المتضعون يفلتون منهاوهنا لعل البعض يسأل:ولماذا المتضع بالذات هو الذي يفلت من فخاخ الشياطين؟ونجيبه:
المتضع إذ يشعر بضعفه يعتمد علي قوة الله.
فتسنده قوة الله,وتحميه من فخاخ الشياطين.
وذلك علي عكسالحكيمالمعتمد علي حكمته وعكس القويالمعتمد علي قوته,والبارالواثق ببره..أما المتواضع المتأكد تماما ومعترف أنه لاقوة له ولاحكمة
ولابر فإن الله يسند ضعفه ويحارب عنه وهذا هو أخشي مايخشاه الشيطان.
ولذلك فإن إخراج الشياطين يحتاج قبل كل شيء إلي اتضاع وإن كان الرب قد قال هذا الجنس لايخرج بشيء إلا بالصلاة والصوممت17:21فذلك لأن
الصلاة والصوم يظهر فيهما الاتضاع بكل وضوح فالذي يصلي يعترف ضمنا أنه ليست له قوة ذاتية,لذلك يطلب القوة من فوق بالصلاة وإذا خرج
الشيطان لايفتخر بإخراجه لأن ذلك لم يتم بقوته إنما بقوة الله التي تدخلت بالصلاة وكذلك فإن الصوم الحقيقي هو الذي ينسحق فيه الإنسان ويتذلل
أمام الله بالاتضاع ويشعر بضعفه.
والشياطين كانت بالاتضاع تهرب أمام القديس أنطونيوس.
القديس الأنبا أنطونيوس أبو الرهبنة كلها عندما كان الشياطين يحاربونه بعنف كان يرد عليهم بإتضاع قائلا:أيها الأقوياء,ماذا تريدون مني أنا الضعيف
؟أنا عاجز عن مقاتلة أصغركموكان يصلي إلي الله ويقول انقذني يارب من هؤلاء الذين يظنون أنني شيء وأنا تراب ورمادفعندما كان الشياطين
يسمعون هذه الصلاة الممتلئة اتضاعا كانوا ينقشعون كالدخان حقا لقد أتقن القديسون الاتضاع بمثل هذه الصورة العجيبة..
ولم يتضعوا فقط أمام الله والناس,بل حتي أمام الشياطين وهزموهم بإتضاعهم.
كما رأينا في سيرة الأنبا أنطونيوس وفي سيرة القديس مقاريوس الكبير وكما نري في سير باقي القديسين.
ولعل عظمة الاتضاع تظهر جلية وذلك بتأمل بشاعة الرذيلة المضادة له,أعني الكبرياء والعظمة:
الكبرياء أهدرت من السماء ملاكا بهيا,وحولته إلي شيطان.
حقا,إن أول خطية عرفها العالم هي الكبرياء التي سقط بها الشيطان وقصة سقوطه سجلها أشعياء النبي في قول الوحي الإلهي لهذا الملاك الساقط
وأنت قلت في قلبك أصعد إلي السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله..أصير مثل العلي لكنك انحدرت إلي الهاوية,إلي أسفل الجبإش14:14,13.
وبنفس سقطة الكبرياء أغوي أبوينا الأولين,
كما قال في قلبهأصير مثل العليهكذا قال لأبوينا الأولين تصيران مثل الله,عارفين الخير والشرتك3:5من هنا يبدو أن الكبرياء لا تكتفي مطلقا بل تريد
أن تعلو باستمرار مهما كانت درجتها عالية..حتي إن كان الواحد ملاكا في درجة الكاروب مملوءا حكمة وكامل الجمالحز28:12,14أو كان صورة الله
في شبه تك1:27,26يريد أيضا أن يعلو ويرتفع ولكنه في هذه الكبرياء يهبط إلي أسفل حسبما قال الرب.
كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفعلو14:11.
الملاك لما أراد أن يرتفع انحدر إلي الهاوية إلي أسافل الجب,وفقد مكانته كملاك وصار شيطانا.. والإنسان -وهو صورة الله-لما أراد أن يرتفع فقد
صورته الإلهية وطرد من الجنة وعاني ما عاني..ولعل أصعب شيء يتعرض له المتكبر أن الله نفسه يقف ضده لذلك ما أخطر قول الكتاب:
يقاوم الله المستكبرينيع4:6.
في نفس الوقت الذي أشفق فيه الله علي الخطاة والعشارين وقادهم إلي التوبة,يقول الرسول إن الله يقاوم المستكبرين..وهؤلاء الذين يقاومهم الله ما
مصيرهم؟!فهل تريد أن تعرض نفسك إلي مقاومة الله نفسه لك؟!...يعزينا النصف الثاني من نفس الآية حيث يقول:وأما المتواضعون فيعطيهم
نعمةليتنا نخاف من قول الوحي الإلهي في سفر أشعياء
إن لرب الجنود يوما علي كل متعظم وعال وعلي كل مرتفع فيوضع..وعلي كل أرز لبنان العالي وعلي كل بلوط باشان..وعلي كل الجبال العالية-
وعلي كل التلال المرتفعة..فيخفض تشامخ الإنسان وتوضع رفعة الناس.ويسمو الرب وحده في ذلك اليومإش2:12-17.
نتابع حديثنا في العدد المقبل,إن أحبت نعمة الرب وعشنا.
|