كان بولس فى الثلاثة والستين من عمره أونحو ذلك عندما ذهب شهيداً بسيف نيرون ، ويبدو أنه قضى نصف حياته أو ما يقرب من النصف بعيداً عن المسيح أو بالحرى ضداً له ، والنصف الآخر بعد التجديد قضاه فى الخدمة التى تركت طابعها العظيم والعجيب على تاريخ العالم منذ ذلك الوقت !! . وهل يستطيع الإنسان أن يقيم حياة هذا الرجل العظيم ؟ ، .. قال بعضهم إنى أفضل وجود بولس واحد فى الكنيسة على ألف رجل ، ... ولكن هل يوجد بين الملايين على الأرض من يضارع بولس أو يقف إلى جواره ، ... وهل يتكرر بولس فى التاريخ ، .. قال آخر نحن فى حاجة إلى ألف عام حتى نجد تكراراً للرجل أو مثيلا له !! .. لكن بولس - على الأغلب - لا يتفق معنا فى ذلك ، .. ولقد قيل فى أحد التقاليد إنه يوم استشهاده سار فى الطريق ، وإذا به يبصر فتاة مسيحية مؤمنة تسير وراءه باكية بحرارة ، . وسألها بولس لماذا تبكين يا فتاتى : قالت أبكى الرسول العظيم ... أبكى الخدمة الجبارة ، أبكى الرجل الذى قل أن يكون له نظير!!.. فقال لها : لاتبك .. اذهب وسيرى بالشجاعة والقوة والأمانة وأد رسالتك ، وسنلتقى يا بنيتى هناك حيث لا فراق إلى الأبد ولا تعب ولا معناة ولا ضيق !! .. ربما تفرد بولس ، عن الفتاة أو عن غيره من الناس فى الاتساع الذى أعطاه للمسيح فى قلبه ، والفرصة ليعمل به السيد المعجزات العجيبة والمجيدة ، ... وقد قاس بولس الحياة بعرضها وليس بطولها ، وقاسها ببذلها وليس بما يغنم الإنسان أو يأخذ منها ، .. وما أكثر الذين داخل الحظيرة الدينية أو خارجها ، طبعوا التاريخ بأعمق طابع ، دون أن يتأثروا بمرور السنين فى حياتهم ، وعلى العكس وجد الكثيرون الذين شاخوا فى سن الرجولة بأفكارهم أو مشاعرهم أو إراداتهم .. كتب شيشرون أجمل كتبه وهو فى الثالث والستين من عمره ، وسقط أفلاطون على كرسيه وهو يكتب ويفكر فى الحادية والثمانين فى العمر ، وكتب أسقراطس أجمل كتبه وهو فى الرابعة والتسعين ، هذا فى الوقت الذى اعتبر روجر بيكون نفسه عجوزا وهو فى الثالثة والخمسين ، وانتحب السير وولتر سكوت وهو فى الخامسة والخمسين ، للشيب الذى كلل رأسه ، ... غير أن بولس لم يكن لديه الوقت ليفكر فى السنين التى تمر فى حياته ، إذ كانت الحياة والموت على حد سواء بالنسبة له : « بل بكل مجاهرة كما فى كل حين كذلك الآن يتعظم المسيح فى جسدى سواء كان بحياة أم بموت . لأن لى الحياة هى المسيح والموت هو ربح » ( فى 1 : 20 و 21 ) لقد خف وزن الأرض بالنسبة للرجل بل تلاشى ، بعد أن صعد إلى السماء الثالثة : « وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها » ( 2 كو 12 : 4 ) . « لأن ليس أحد منا يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته . لأننا إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت . فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش لكى يسود على الأحياء والأموت !!..». ( رو 14 : 7 - 9 ) .
هوت الفأس أو السيف ، وسقط عملاق الأجيال ، وعاش مثلا من أخلد الأمثال لأجمل حياة ، صدحت فى اللحظة الأخيرة بأغنية لم يغن مخلوق اسمى منها وأعظم : « قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعى حفظت الإيمان وأخيراً قد وضعلى إكليل البر الذى يهبه لى فى ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لى فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً » ( 2 تى 4 : 7 و 8).