الكنيسة القبطية في القرن السادس عشر
البابا يؤانس الرابع عشر
البطريرك السادس والتسعون
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1571 - 1586م)
ظروف رسامة البابا يؤانس الرابع عشر:
كانت نياحة البابا غبريال السابع إبان الضائقة المسيطرة على البلاد نتيجة غزو العثمانيين أرض مصر، وتعسُّف الغزاة الجُدد في وسائلهم لابتزاز أموال وخير مصر وكذلك رجالات مصر الأفذاذ وإرسالهم إلى تركيا، ما جعل الأقباط إذ ذاك في حالة من القلق النفسي. فكان من الطبيعي أن يتأخر الأقباط في اختيار خليفة للبابا غبريال لمدة سنتين ونصف.
+ ثم استطاع الأساقفة والأراخنة الأقباط أن يجمعوا أنفسهم ويُركِّزوها على وجوب التشاور معاً في أمر انتخاب راعي الكنيسة الأعلى، ومِن ثمَّ تباحثوا معاً وتفاوضوا. فتوجَّهوا معاً إلى برية شيهيت - كالمعتاد - يسألون رؤساءها وشيوخها فيمَن يستحق لهذه الخدمة المقدسة. وبعد البحث الطويل، وقع اختيار الجميع على الراهب يوحنا (المنفلوطي) من دير السيدة العذراء براموس. فاستصحبوه إلى مصر حيث وضع الأساقفة أيديهم على رأسه فيما يُسمَّى بـ ”الشرطونية“ ليصير رئيساً لأساقفة كرسي الإسكندرية باسم ”يؤانس الرابع عشر“، فأصبح البابا يؤانس الخليفة السادس والتسعون للقديس مار مرقس الرسول. وكان ذلك صبيحة الأحد 22 برمودة سنة 1287ش/ 17 أبريل سنة 1571م.
شخصية البابا يؤانس:
كان هذا البابا شيخاً صَهَرته الأيام، وعرف بالاختبار والتجارب مدى عناية الله. فكان يُعبِّر عن اختباره وحنكة تجاربه بأنه كلما وقَّع على رسالة أو مرسوم صادر عنه، أن يُضيف إلى جانب توقيعه الجملة التالية: ”الهُدى بالله الهادي“ وتحتها: ”الخلاص للرب يا الله، الخلاص“(1).
السلطان التركي
يفرض جزية على المسيحيين:
وكالمعتاد فَرَضَ السلطان التركي العثماني ”مراد“ في الآستانة (اسطنبول) الجزية على المسيحيين. فبذل البابا يؤانس جهده في دفعها بتحصيلها من الأقباط، فقام بزيارة شعبه في صعيد مصر، وكان يُعاونه الراهب فيلبُّس الذي من دير المحرَّق. ولكن لم يتأخر أحد من الأقباط عن القيام بمعاونته في جمع رسوم الجزية المطلوبة.
+ وقد توجَّه البابا يؤانس بزيارتين رعويتين أُخريين إلى أبنائه في الصعيد لتثبيتهم بسبب مضايقات وزراء الدولة المتولين على مصر.
إلزام الأقباط واليهود باستعمال زي خاص:
في أيام رئاسة البابا يؤانس أصدرت الدولة مرسوماً بتغيير لون العمائم التي يلبسها الأقباط على رأسهم لتكون سوداء اللون، كما ألزمت اليهود بلبس الطراطير(2)!
تفشِّي الطاعون وارتفاع الأسعار:
كان من نتيجة تفشِّي الطاعون سنة 1580م، أن أهلك العدد الوفير من الشعب المصري. فكانت النتيجة الحتمية لهذا الموت الجماهيري، ارتفاع أسعار الحاجيات، لأن الأيدي المنتجة قد نقصت نقصاً كبيراً، مما أدَّى إلى حصاد شحيح للمحصولات الزراعية(3).
تمييز ولاة مصر الروم على الأقباط في مصر،
وتدخُّل البابا الروماني:
بدأ الولاة المُعيَّنون من قِبَل الدولة العثمانية الغازية في تركيا يُفضِّلون ”الروم“، وهم بقايا المذهب الخلقيدوني منذ القرن الخامس، على الأقباط. وقد رأى بابا روما فرصة هذه المعاملة الجائرة لتكون وسيلة لضمِّ أبناء الكنيسة القبطية تحت لواء كنيسته بدعوى أن يتمتعوا بحمايته، ولكنه فشل في ذلك، لأن الأقباط باعتبارهم أبناء هذا الوطن - مصر - فضَّلوا استقلالهم عن أية قوة أرضية مع سوء المعاملة على استغلالهم تحت لواء البابوية الرومانية.
تجدُّد المساعي لضم الكنيسة القبطية
لكنيسة روما:
في سنة 1583م حضر إلى مصر وفد من قِبَل البابا الروماني غريغوريوس الثالث عشر مؤلَّفاً من أكثر من واحد من علماء إكليروسه، ونزلوا ضيوفاً بالدار البطريركية في عهد البابا يؤانس الرابع عشر؛ فأحسن ضيافتهم، وبالغ في إكرامهم، لأنه كان شيخاً متواضعاً مُحباً للسلام والمسالمة. ولكنهم ظلُّوا يحاولون إقناعه بأنَّ انحيازه وتبعيته لكنيسة رومية سوف يعود على أبناء الكنيسة بالخير، ومقابل ذلك أوهموه بأن البابا الروماني لا يطمع في شيء سوى بالاعتراف له بالرئاسة العامة على الكنيسة المسيحية في العالم، وأنَّ هذا ليس بشيء بجانب المنافع التي تعود عليه وعلى أبناء الكنيسة القبطية. أما هو فيبقى بطريركاً على الأقباط كما هو بدون نقص شيء من كرامته أو سلطته(4).
ومن شدة تأثير البعثة البابوية على البابا يؤانس ولظروف كِبَر سنِّه، وبسبب وطأة الاضطهاد الذي يراه مـن قِبَل الولاة، قَبِلَ هذا البابا مبدئياً فكرة الاتحاد، وتسرَّع وكتب بذلك للبابا الروماني غريغوريوس سنة 1299ش/ 1583م(5).
وبعد أن رأى الوفد البابوي المَيْل من البابا الإسكندري للاتحاد المعروض عليه، أشاروا عليه أن يدعو جميع أساقفته ليسردوا هم عليهم هذا الأمر ويعرضوا عليهم طلبات البابا الروماني ويشرحوا لهم الغرض منها. ففعل كما أشاروا.
اجتماع الأساقفة،
وحدوث بلبلة وضجة بينهم:
ولما وصل الأساقفة إلى القاهرة، أَمَرَ البطريرك بعقد مجمع في بابلون، ولما كان اليوم المُعيَّن لمناقشة الموضوع، قام أحد رجال الوفد وتكلَّم عن المهمة التي حضروا من أجلها وغاية البابا الروماني.
وبالرغم من إظهار الارتياح والاتجاه لإيجاد الاتحاد والأُلفة بين طوائف المسيحيين (وهذا أمر يشتاق إليه الجميع)؛ إلاَّ أنه لما دار الحديث والبحث والمناقشة في تفاصيل طلبات البابا الروماني، عَلَت الأصوات واشتد النزاع، وقويت المحاججة والمعارضة. إذ عارض البعض أشد معارضة ومؤيِّدين معارضتهم بأنَّ موافقتهم على طلبات البابا الروماني، تضرُّ في المستقبل باستقلال الكنيسة الذي دفع ثمنه آباؤهم بسفك الدم، كما تجرُّ إلى مشاكل واضطرابات هم في غِنَى عنها مهما تكون الحالة.
أما الأب البطريرك البابا يؤانس، فلشيخوخته وبساطته، مال إلى الفريق الموافق على عقد الاتفاقية والاتحاد، ظنّاً منه أن معارضة الفريق الآخر مبنية على حفظ الرئاسة المطلقة لشخصه، وأن في هذا الاتحاد فائدة حقيقية لأبناء أُمته، فأثَّر على أفكار البعض بالموافقة، وأَمَرَ بتحرير عقد الاتفاق بالمعنى الذي أشار إليه مندوبو بابا روما. وهكاذ انفضَّ المجمع(6).
تبدُّد المشورة البشرية وانتصار الإرادة الإلهية:
ولكن إرادة الله التي تفوق كل إرادة أفسدت تدابير مبعوثي البابا الروماني، فقد اشتدَّت أثناء هذه الفترة سوء معاملة الوزير إبراهيم باشا للبابا يؤانس وشعبه، حتى اضطر خوفاً من بطش الوزير إلى التوجُّه للإسكندرية. وعندما هدأت الحالة، عاد البابا من الإسكندرية، وقبل أن يصل إلى القاهرة، كان قد غادر هذه الحياة الدُّنيا(7).
وفي أثناء هذه الفترة من الزمن كان مبعوثو البابا الروماني قد أعدُّوا المعاهدة التي اتُّفق على إبرامها، وانتظروا قدوم البابا من الإسكندرية للتوقيع عليها منه ومن الأساقفة. ولكن البابا يؤانس كان قد توفِّي في تلك الليلة في بلدة النحارية، تاركاً الدنيا وما عليها، ففشل المجمع، وذهبت كل هذه المجهودات البشرية سُدًى. ولكن مؤرِّخي الكنيسة الكاثوليكية ينسبون هذا الموت الفجائي إلى فِعْل فاعل، ويدَّعون أنه مات مسموماً(8).
نياحة البابا يؤانس ودفنه:
وبعد أن أسلم البابا يؤانس الروح بيدي الرب، أنزلوه باكر يوم الاثنين، واستلم جثمانه الأقباط وأحضروه إلى كنيسة القديسة بربارة بمصر القديمة بقصر الشمع، وكفَّنوا جسده بالأكفان والأطياب، ورفعوا القرابين المقدسة، ووضعوا جسده بالكنيسة المذكورة بحضور جمهور من الشعب المسيحي(9).
+ وبعد الصلاة الجنائزية، حملوا جسده إلى ”برما“ (قرب طنطا) حيث دفنوه في كنيستها. وبعد فترة نقلوه إلى برية شيهيت - دير السريان. وكانت نياحته يوم 3 النسيء 1302ش/ 1586م.
+ أما مبعوثو الحبر الروماني، فقد ارتاب الوالي في أمرهم، فقبض عليهم بوصفهم ”جواسيس“ واتهمهم بأنهم يُثيرون الفتنة بين رعاياه. ولكنه أفرج عنهم بعد أيام نظير فدية قدرها 5000 قطعة من الذهب، فعادوا لساعتهم إلى بلادهم(10).
+ ومن الشهادات التي توضِّح ما بذله مبعوثو البابا الروماني من جهد وما لاقَوْه من رفض لمحاولاتهم ضم الكنيسة القبطية لكنيسة روما، خطاب أرسله ”سيريل“ (كيرلس) لوكار البطريرك الكاثوليكي الخلقيدوني للإسكندرية (1594-1613م) إلى سفيرهم في لاهاي ردّاً على خطاب ذلك السفير، يُحدِّثه فيه عمَّا يُسمِّيه ”الهراطقة في الشرق“، وقد جاء في ذلك الخطاب بالفرنسية ما ترجمته كما يلي:
- ”... لقد بذل البابا (الروماني) الشيء الكثير، كما احتمل الشيء الكثير ليصل إلى اتفاق معهم (مع الأقباط). وستضحك يا سيدي لو أنك عرفتَ الدهاء الذي استعمله الأقباط في هذا الشأن، وإلى أي مدى انطلى على البابا الروماني، مع أن بارونيوس المؤرخ الجديد، وقبل أن يتعرَّف على واقع الأمور، وربما تزلًُّفاً منه للبابا الروماني تبعاً للعادة التي كانت متَّبعة في بلاط روما؛ كان متعجِّلاً في أن يمنحه الفخر في كَوْنه حقَّق تحويل الأقباط إلى كنيسة روما، فاختار أن يُقدِّم تقريراً عن هذا التوفيق في سجلاَّته. وقد ثبت بعد ذلك بقليل أن كل ما قاله (المؤرخ) كان باطلاً تماماً“(11).
+ ولكن ما فعله الأقباط ليس دهاءً، كما وصفه هذا المؤرخ، بل هو المنهج الذي اتخذه الأقباط منذ القديم في مثل هذه الأحوال، وهو تمسُّكهم بوطنيتهم وولائهم لوطنهم مصر فوق أي اعتبار، ومهما كانت الآلام والضيقات التي يُعانون منها بسبب مسيحيتهم. وهذا شرف لهم ولمصر دائماً.
استشهاد الراهب القديس يوحنا القليوبي:
وفي أيام البابا يؤانس الرابع عشر أراد الحُكَّام إرغام الراهب يوحنا (القليوبي) من دير القديس أنبا بيشوي بالبرية المقدسة على إشهار إسلامه، فلم يقبل، وتمسَّك بإيمانه بالرب يسوع المسيح. فحكموا عليه بحمله على جَمَل والمرور به في المدينة، وغرسوا في يديه سكاكين حادة، ووضعوا على أكتافه مشاعل نار متَّقدة. وكان يتحمَّل كل هذه العذابات بصبر وجَلَدٍ، متمسِّكاً بإيمانه بالرب يسوع المسيح. ولما رأوا ثباته في الإيمان، حملوه على عود خشب وهو صابر على ذلك العذاب الأليم، إلى أن أسلم الروح في الساعة التاسعة من نهار يوم الأحد المبارك الموافق 30 هاتور سنة 1298ش/ 6 ديسمبر سنة 1582م. وكل هذه العذابات تمَّت تنفيذاً لحُكم السادة العَدُول الأفندية وصاحب السعادة وغيرهم من العلماء.
وبعد أن أسلم الروح بيد الرب، تَسَلَّم جسده الأقباط وأحضروه إلى كنيسة القديسة بربارة بمصر القديمة بقصر الشمع، وكفَّنوه بالأكفان الطاهرة والأطياب الثمينة، وعملوا له كل ما يُلائمه من الإكرام والتبجيل بالكنيسة المذكورة بحضور جمهور من الشعب القبطي(12).
محنة أهل النوبة المسيحيين،
واندثار المسيحية من بلاد النوبة:
لم تقف آلام الأقباط عند هذا الحد، بل تضاعف أضعافاً، ذلك أنه كان على أهل النوبة، وكلهم من المسيحيين، أن يدفعوا الجزية لحاكم مصر.
وكثيراً ما كانوا يتغافلون عن دفع الجزية، فكانوا يحاربون المصريين في الحدود المتاخمة لبلدهم، فإذا ما انتصروا استمروا في زحفهم شمالاً. ولكنهم كانوا يرتضون دائماً في نهاية الأمر بالتفاوض، فيعودون إلى بلادهم. على أن العثمانيين تعسَّفوا في حُكْمهم أكثر من غيرهم، وضيَّقوا الخِناق عليهم، إلى حدِّ أن الحكومة النوبية أصبحت في أيدي المسلمين بعد أن كانت منذ اندثار الوثنية في أيدي المسيحيين.
+ ولكن سطا أوزديمير الوالي الشركسي لليمن على النوبة، واستولى على منطقة إبريم التي كانت الحصن الواقي للنوبة الجنوبية. وحين سيطر على المنطقة، أقام فيها حاميات من الجنود الشراكسة في أسوان وإبريم وصاي(13).
+ وباستقرار الحُكَّام الغُزاة الوافدين من قِبَل الدولة العثمانية، أصبح التعذيب والإرهاب وابتزاز الأموال هي وسائلهم المعتادة. ونتج عن هذه الخطة أن المسيحيين من النوبيين، اتخذوا طُرقاً ثلاثة (كُلاًّ حسب تقديره): إما الاستشهاد، أو الهجرة، أو التحوُّل إلى الإسلام.