رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أمام المسيح المصلوب الصليب حاضر وحاضر بكثافة في الرسالة إلى غلاطية، وذلك تجاه الشريعة. بالصليب وحده نخلص. وذاك ما فهمه بولس على طريق دمشق: هو لا يضطهد المسيحيّين، بل يضطهد يسوع المسيح الذي لا يزال حاضرًا يحمل كلَّ صليب، ويموت في كلِّ شهيد، ويُضطهد في كلِّ مضطهَد. العالم يرفض الصليب ويحسبه جهالة، كما يرفض الإنجيل بما هو إنجيل، فينتزع منه الأساس وهو أنَّ هذا المصلوب هو ابن الله. فكيف يتجاسر بعض كتّابنا فيقوموا بتدوين »إنجيل خامس« يعارض الأناجيل الأربعة، ويعلنون منذ البداية أنَّ يسوع هو إنسان من الناس وحسب؟ وهنا يجيب المزمور: ماذا يصنع لي الناس؟ وماذا يصنع لي يسوع إن لم يكن الله وابن الله؟ حينئذٍ يتردَّد كلام اليهود: »لا يقدر أن يخلِّص نفسه فكيف يقدر أن يخلِّص البشر؟« أ- أنا أفتخر بصليب ربِّنا نظرة بولس غير نظرة العالم. من يفتخر بالصليب إلاَّ المجنون؟ ولمن كان الصليب؟ للصوص الكبار، للقتلة، للعبيد، للخوَنة. ونضع يسوع بين هؤلاء؟! في الواقع، هو وضع نفسه هناك: صُلب بين لصَّين وما استحى من ذلك. وفي هذا قال الرسول للغلاطيّين: »ارتسم المسيح أمام عيونكم مصلوبًا« (غل 3: 1). فلا نبحث عن صورة أخرى. مثلاً، صورة المسيح الممجَّد الذي لا يمرُّ في الآلام. كأن يُرفَع إلى السماء بقدرة إلهيَّة، كما تصوَّروا صعود إيليّا في تلك المركبة الناريَّة. فهل اللحم والدم يرثان الملكوت؟ (1 كو 15: 50). كلاّ. فاللافاني فينا هو الذي يرث الملكوت بعد أن مات الموت على صليب الربّ. لماذا راح الغلاطيّون في خطِّ التعليم الجديد الذي حمله المتهوِّدون؟ لأنَّه أسهل على الفهم. ما هذا الإله الذي يصير إنسانًا ويُصلَب ويكون صليبه مرفوعًا في كلِّ مكان؟ هذا مستحيل. أو أنَّ الذي صُلب لم يكن الربَّ يسوع، بل »يهوذا« (يوضاس) الذي أخذ صورته، فحسب الناس أنَّ يسوع صُلب. أخطأ الناس، شُبِّه لهم ذلك كما قالت الهرطقات منذ القديم. فيسوع ما أخذ جسدًا، بل تظاهر. أو يسوع ما كان ابن الله، كما قال أريوس، بل خليقة سامية من الخلائق، كما يقول اليوم شهود يهوه. أمّا الإيمان فواضح. ذاك الذي في الجسد هو من نسل داود. هو إنسان. وهو ابن الله الذي برزت قدرته حين قام من بين الأموات. ذاك هو »ربُّنا يسوع المسيح« (رو 1: 3-4). فلماذا البحث عن مسيح آخر؟ لأنَّ الصليب يشكِّل عثرة لنا كما كان للرسل الذين رافقوا يسوع. بعد أن اعترف بطرس بيسوع أنَّه المسيح ابن الله الحيّ، وسمع الإنباء الأوَّل بالآلام، انفرد بيسوع وعاتبه: »حاشا لك يا ربّ أن تلقى هذا المصير!« (مت 16: 22). وبدا بطرس »شيطانًا« لأنَّه يحاول أن يعيق مسيرة الخلاص. واليهود في غلاطية، والذين تبعوهم، يحاولون أن يُزيلوا عثار الصليب. يعتبرونه أنَّه غير موجود. يُبعدونه عن نظرهم مع أنَّ فيه خلاصهم. لهذا، يعودون إلى الممارسة اليهوديَّة والتفكير اليهوديّ، لئلاَّ يُضطهدوا. فالمعروف أنَّ الديانة اليهوديَّة كانت مقبولة لدى السلطة الرومانيَّة، بحيث لا يُفرَض على اليهوديّ أن يشارك في عبادة الأصنام، شأنه شأن جميع الخاضعين للسلطة الرومانيَّة. واليهوديّ أيضًا كان معفًى من خدمة الجيش مع الآخرين لأنَّه لا يستطيع أن يشارك الوثنيّين في طعامهم. فلماذا لا يكون »المسيحيّ« يهوديٌّا، أقلَّه بالاسم فينعم بمثل هذه الامتيازات؟ قال الرسول للغلاطيّين: تأخذون بهذه الطريق »لئلاَّ تُضطهدوا لأجل صليب المسيح« (غل 6: 12). هم يهربون. يأخذون الطريق السهلة والباب الواسع، مع أنَّ الربَّ قال: »ادخلوا من الباب الضيِّق. فما أوسع الباب وأسهل الطريق المؤدِّية إلى الهلاك، وما أكثر الذين يسلكونها. لكن، ما أضيق الباب وأصعب الطريق المؤدِّية إلى الحياة، وما أقلَّ الذين يهتدون إليها« (مت 7: 13-14). أمّا بولس فأخذ الباب الضيِّق. ما افتخر بيهوديَّته وهو الفرّيسيّ المتزمِّت، وما تعلَّق بالشريعة فاستعدَّ للموت من أجلها، بل افتخر بالصليب وما افتخر إلاَّ به. مرَّة أجبروه على الافتخار، فافتخر أنَّه عبرانيّ، إسرائيليّ، من ذرِّيَّة إبراهيم (2 كو 11: 22) ولكنَّه قال: »كلامي كلام جاهل«. »فأنا أفتخر بضعفي« (آ30). فالمسيح بضعفه على الصليب خلَّص العالم، وهكذا يكون الرسول الذي اعتبر نفسه »مصلوبًا« (غل 5: 24). فإذا أراد أن يرافق المسيح في مجده يجب أن يرافقه في عاره. وإذا أراد أن يكون مع يسوع في القيامة، يحمل الصليب ويرافقه إلى الموت على الجلجلة. وماذا يصلب الرسول؟ الأهواء والرغبات. أصلبُ بغضي. أصلب بحثي عن المال وطمعي على إخوتي وأخواتي. أصلب روح الزنى والحسد والخصومة. وحين يصلب المؤمن اللحم والدم فيه، العنصرَ البشريّ، يكون مصلوبًا بالنسبة إلى العالم وبالتالي يحرَّر من عبوديّاته التي صارت له بعد اليوم موتًا. حين نهرب من الصليب، نطلب الطمأنينة والهدوء، نترك أهواءنا تسير بنا كما تشاء وتستعبدنا. أمّا إذا تمسَّكنا حقٌّا بالصليب، فنحن ندلُّ على أنَّنا نستند فقط على نعمة الله ولا نريد سندًا آخر، لا الختان ولا الشريعة اليهوديَّة. لا هذا الامتياز ولا ذاك بحيث نفترق عن الآخرين. بالصليب صار العالم ميتًا بالنسبة إليَّ، وأنا صرتُ ميتًا بالنسبة له بحيث لا سيطرة له بعدُ عليَّ. ب- فأموت معه وأقوم معه تلك هي المسيرة التي سارها المسيح، ونحن نتبعه لأنَّنا نؤمن به. فالإيمان هو الاستسلام. هو التسليم بما يطلبه الربّ. وقدَّم الرسول مثَل إبراهيم الذي برَّره الله لإيمانه (غل 3: 6). فإذا كان الغلاطيّون يريدون العودة إلى إبراهيم، فماذا ينتظرون لكي يفهموا الطريق التي أخذها. قال له الربّ: »اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك« (تك 12: 1). فمضى دون أن يجادل ولا أن يسأل. قال الكتاب: »فانطلق أبرام، كما قال له الربّ« (آ4). وكذا نقول عنه حين »امتحنه« الله. »بكَّر في الغد وأسرج حماره وشقَّق حطب المحرقة« (تك 22: 3). إلى أين؟ ليقدِّم ابنه ذبيحة للربِّ على ما كان يفعل الوثنيّون. أظهر محبَّته لله، ولكنَّ الله لا يريد مثل هذا التعبير عن المحبَّة، فأمَّن له كبشًا »أخذه وقدَّمه محرقة بدل ابنه« (آ13). عنه قالت الرسالة إلى العبرانيّين: »بالإيمان لبّى إبراهيم دعوة الله فخرج إلى بلد وعدَهُ الله به ميراثًا. خرج وهو لا يعرف إلى أين هو ذاهب، وبالإيمان نزل في أرض الميعاد كأنَّه في أرض غريبة« (عب 11: 8-9). ما هي الضمانة؟ لا ضمانة بشريَّة. كلمة الله تكفي . فلماذا يطلب الغلاطيّون الضمانات؟ أما يكفيهم الصليب؟ بل هم يطلبون الشريعة، تلك التي تحمل اللعنة. هنا عاد الرسول إلى سفر التثنية في الكلام عن أحكام متفرِّقة: »وإذا وجدتُم على رجل جريمةً تستوجب القتل، فقُتل وعلِّق على خشبة، فلا تتركوا جثَّته على الخشبة إلى اليوم الثاني، بل في ذلك اليوم تدفنونه لأنَّ المعلَّق معلون من الله« (تث 21: 22-23). يسير المشترع بحسب الشريعة، فيصير المعلَّق »ملعونًا«. واليهود قالوا لبيلاطس: »لنا شريعة، وهذه الشريعة تقضي عليه بالموت لأنَّه زعم أنَّه ابن الله« (يو 19: 7). وهكذا جعلت »الشريعة« يسوع »ملعونًا«، بعد أن عُلِّق على خشبة، وكلُّ ذلك »من أجلنا« (غل 3: 13). زالت اللعنة، وحلَّت البركة محلَّها، بشكل خاصّ لغير اليهود، للأمم، بحيث ينال الجميع »بالإيمان الروحَ الموعود به«. الإيمان نداء من قبل الله. ويتطلَّب جوابًا من قبل الإنسان. رفض اليهود أن يتجاوبوا مع هذا النداء »فعثروا بحجر العثرة«. أترى الغلاطيّون يريدون أن يتبعوا هذا السبيل؟ إن فعلوا كانوا أغبياء، ونسوا ذاك الذي ولدهم للمسيح. قال: »يا أولادي الصغار الذين أتوجَّع بهم مرَّة أخرى في مِثل وجع الولادة، حين تتكوَّن فيهم صورة المسيح« (غل 4: 19). أجابوه: والآخرون يغارون علينا، يحبّوننا. لا يزعجوننا. قال الرسول: »غيرتُهم لا صدقَ فيها« (آ17). فالهدف هو أن يفصلوكم عنّي. والسبب؟ »لأنّي قلت لكم الحقَّ، حسبتموني عدوٌّا لكم« (آ16). وفي النهاية، يعلن الرسول: »تحيَّرت في أمركم« (آ20). كيف أستطيع أن أتكلَّم معكم؟ هل تريدون أن أغيِّر لهجتي. هنا نحسُّ بألم بولس تجاه هذه الكنيسة التي استقبلته أفضل استقبال في أوَّل مرَّة جاء إلى غلاطية، وكان مريضًا. حسبوه »ملاك الله، بل المسيح يسوع« (آ14). بل استعدُّوا أن يقلعوا عيونهم ويعطوها له« (آ15). |
|