الأحد الخامس من زمن السنة
﴿أُطلُبوا الرَّبَّ الإله، اِلْتَمِسوا وَجهَهُ كُلَّ حَين﴾ (مز 4:105)
عِندَما وَضَعَ القِدّيسُ بندكتوس (مُبَارك) أُسسُ الحياةِ الرَّهبانِيَّةِ في الغَربِ، رَفعَ شِعَارًا مُؤَلَّفًا مِنْ كَلِمَتَينِ اثْنَتين (:Ora et Labora صَلِّ واعمَل). فَالصَّلاةَ يا أَحِبَّة، الّتي تَربِطُنَا وتَجمَعُنَا باللهِ خَالِقِنَا وأَبينَا، هِيَ مَا يُقدِّسُ حَيَاتَنَا وكُلَّ أَفعَالِنَا. فَمِنْ رَحمِ الصَّلاةِ الْمُستَقيمَة، تُولَدُ الأعمَالُ الصَّالِحَة. وفي وَاحِدةٍ مِنَ الصَّلَوات، نَبتَهِلُ إلى اللهِ قَائِلين: "نَسأَلُكَ يَا رَبّ أَنْ تَسبِقَ أَعمَالَنَا بإلهامِكَ، وتَصحَبَهَا بمعونَتِكَ، لِكَي تَبتَدِأَ مِنْكَ، وتَنتَهي بِكَ". فاللهُ هُوَ البِدَايَةُ وهُوَ الغَايَةُ لِكُلِّ شَيء، وهُوَ الهَدَفُ والْمُنتَهَى والقِبْلَةُ والعَاقِبَةُ الّتي إليها "يُفتَرَضُ أن تَسيرَ وتَتَوَجَّهَ" كُلُّ حَيَاتِنَا نَحنُ الْمُؤمِنين.
وهَا هُوَ الرّبُّ في إنجيلِ هَذا الأحدِ الخامِسِ مِن زَمنِ السَّنَة، يُعَلِّمُنَا كَيفَ تَكونُ حَياةُ الْمُؤمِن، مَزيجًا مِنَ العَملِ الصَّالحِ ومِنَ الصَّلاة. فَنَراهُ يُبرِأُ الجُموعَ مِنْ عِلَلِهَا، ويُعَلِّمُهَا ويَرعَاهَا ويُرشِدهَا، ثُمَّ يَنْعَزِلُ في خُلوَة بَعيدًا عَنْ كُلِّ هَذَا الصَّخَب، ليُمضِيَ الوَقتَ في الصَّلاةِ أيضًا، مُعْطِيًا إيّانا مِثالَ الحَياةِ الْمَسيحيّةِ الصَّالِحة، والّتي هيَ: عَلاقَةٌ وثيقَةٌ ثابِتةٌ مَعِ الله، وشَهادَةٌ حَسنَة نُؤَدِّيهَا بِكُلِّ عَمَلٍ وقَولٍ وفَكر صَالحٍ ومُسْتَحَبٍّ وشَريف.
ولَعَلَّ واحِدةً مِنْ كُبرَى الْمُعْضِلاتِ الّتي نَختَبِرُهَا، أَنَّنَا لا نُقيمُ أَحيانًا كَثيرةً هَذَا التَّوازُنَ بَينَ حَياتِنَا الإنْسَانِيَّةِ ومُتَطلّبَاتِها العَديدَة، وبينَ الحَاجَةِ إلى الصَّلاةِ والِّلقَاءِ مَعِ الله! فالحياةُ ذاتُ الإيقاعِ الْمُزدَحِمِ بالأعمَالِ والانْشغَالات، كَثيرًا مَا تَجعَلُنَا مُنْصَرِفينَ عَنِ الله، مُنْشَغِلينَ عَنهُ بِكُلِّ شَيء، مُهْمِلينَ بَل وحَتَّى مُهَمِّشينَ اللهَ لِأتفَهِ الأسبَابِ والأمُور. نَجِدُ الوَقتَ لِنذَهبَ ونأتي، ونَعمَلَ ونَدرسَ، ونأكُلَ ونَلهو ونَحتَفِل، ولا نَجِدُ الوَقتَ لِكَي نَختَلي مَع الله، وَاضِعينَ ذَرائِعَ ومُبَرِّراتٍ لا تَنتَهي، وأَغلَبُهَا أقبَحُ وأبشَعُ مِنْ ذَنبِنَا هَذَا.
وهَذَا يجعلُني أَتَسَاءَلُ وإيِّاكُم: هل الله مِهمٌّ في حَياتي أَصلًا؟ هَلْ لَهُ فِعلًا الْمَكانَةَ الأولَى في قَلبِي؟ هل عَلاقَتي مَعهُ صَادِقَة، إيماني حَقيقيّ؟ هَل هُوَ الدَّافِعُ والْمُحرِّكُ والغَايَةُ لِوُجُودِي؟ أَمْ أنَّ مَكَانَتَهُ مُتَردِّيَة وضَائِعَة، بَينَ عَشَراتِ الانشِغَالاتِ والأُمور؟! وكَمْ أَخَشَى أنَّها مَكانَةٌ مَفَقودَةٌ عند كَثيرين!
لَعَلَّ مَثَلَ الدِّرهَمِ الْمَفقُود، الّذي أَضَاعَتهُ الْمَرأَةُ ذَاتُ الدَّرَاهِمِ العَشرة (راجع لوقا 8:15)، هُوَ اللهُ الَّذي أَضعنَاه! وفي الوَقتِ الَّذي بَحَثَتْ تِلكَ الْمَرأةُ حَتَّى وَجَدَتْ دِرهَمَهَا الثَّمينَ الْمَفقُود، لا نُكَلِّفُ نحنُ أَنْفُسَنَا عَنَاءَ البَحثِ عَنه، لِأنَّنَا بِبَسَاطَةٍ نَملِكُ تِسعةَ دراهمٍ تجعَلُنَا نَحسُّ بالاكتِفَاء والاسْتِغنَاء، فَلا نَشعُرُ بالحاجَةِ إلى الدّرهَمِ العاشِر، أَي إلى الله! ولَكِنْ سَتَأتي سَاعَةٌ فيها نَترُكُ كُلَّ تِلكَ التِّسَعة رَغمًا عَنَّا، لِنُدرِكَ بَعدَ أَنْ يَكونَ قَدْ فَاتَ الأوَان، أنَّ الحَاجَةَ الكُبرَى كَانَتْ للدِّرهم العَاشر، الّذي أَهَملنَاهُ وتَقَاعَسنَا في البَحثِ عَنهُ، فَنُمسِي نحنُ الضَّائِعينَ في الظُّلمَةِ الأبديّة.
﴿أُطلُبوا الربَّ الإله، اِلْتَمِسوا وَجهَهُ كُلَّ حَين﴾ (مز 4:105). هَكَذا يُصَلّي صَاحِبُ الْمَزامير، مُعرِبًا عَنْ حَاجَتِهِ الحَقيقيّةِ لله. صَلاةٌ نَابِعَةٌ مِنَ القَلبِ الْمُحبِّ للهِ بِصِدق وفي كُلِّ وَقت، لا تِلكَ الأقوالِ البَالِيَةِ الّتي نَتلُوهَا فَقَطْ عِندَ الْمَواقِفِ والأحَدَاث، أو طَلَبًا لِلرَّغَباتِ والأُمنِيَات. هَذهِ لَيسَت صَلاة، هَذا بِبَسَاطةٍ نِفَاقٌ وكَذِبٌ قَائِمٌ عَلَى مَصلَحَة، وهو شَيءٌ كَريهٌ جِدًّا ومَمقوتٌ لِلغايَة!
﴿أُطلُبوا مَلكوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، تُزَادُوا هَذَا كُلَّهُ﴾ (متى 33:6). هَكَذا عَلَّمَنا الْمَسيحُ الرّب: الأولَويَّةُ تَكونُ دَومًا لله، فَوقَ كُلِّ الأشياءِ والأمور. هَذا يا أَحِبَّة مَا نَجَحَتْ مَريمُ في فِعلِه، وهَذا مَا فَشِلَتْ مَرتا في أنْ تَفعَلَهُ حَينَها، فَجَاءَها قَولُ الرّبِّ ناصِحًا: ﴿إنَّكِ في هَمٍّ وارْتِبَاكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة، مَع أنَّ الحاجةَ إلى أمرٍ واحِد﴾ (لوقا 41:10). وعَليه، نحنُ بحاجَةٍ لأنْ نُراجِعَ طَبيعَةِ ومَدَى صِدقِ عَلاقَتِنَا باللهِ وحَاجَتِنَا إليه، عَلَّنَا نَنجَحُ مِثلَ مَريم في اختِيَارِ النَّصيبِ الأفضَل، ونَنجُوَ عِندَمَا تَدنو السَّاعَة، مِنَ الفَشَلِ والإخفاقِ الأبديّ!