الأحد العاشر من زمن السنة
﴿اِغفِرْ لَنَا خَطايانا﴾
أَيُّها الإخوَةُ والأخواتُ في الْمَسيحِ يَسوع. تَأخذُ الْمُواجَهَةُ بَينَ السَّيدِ الْمَسيحِ وأَعيانِ اليَهودِ مَنْحَىً تَصَاعُديًّا. فَبَعدَ أنْ لَامَهُ الكَتبَةُ عَلَى غُفرانِهِ لخَطَايَا الْمُقعَد، في إِنجيلِ الأحَدِ السَّابِع، ثُمَّ انْتَقَدَهُ الفِرّيسيونَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ لِلسَّبت، في إنجيلِ الأحدِ التَّاسِع، نَرَى الكَتَبَةَ يَتَصَدَّرونَ الْمَشهَدَ مُجدَّدًا، مُفْتَرينَ عَلَى الْمَسيحِ كَذِبًا وإفْكًا، بأَقبَحِ الكَلامِ وأَشنَعِ الأوصَاف، إِذْ قَالُوا إنَّهُ: ﴿بَعلُ زَبول، سيّدُ الشّياطين﴾ (مر 22:3).
فَفِي حينِ أنَّ الْمَلاكَ سَاعَةَ البِشَارَة، قَدْ أَوضَحَ لِلعَذراءِ قَائِلًا: ﴿إنَّ الرَّوحَ القُدُسَ سَيَنزِلُ عَلَيكِ، وقُدرَةَ العَليِّ تُظَلِّكُ، لِذَلِكَ يَكونُ الْمَولُودُ قُدُّوسًا، وابنَ اللهِ يُدعَى﴾ (لوقا 35:1). لَمْ يَرَى هَؤلاءِ الأغبِيَاء في الْمَسيح، وقَدْ عُمِيَتْ أَبْصَارُهُم وبَصَائِرُهُم، إِلّا رُوحًا نَجِسًا. وأَسَاؤُوا إلى الصُّورَةِ الإلهيّة، لَمَّا نَعَتُوهُ بهذَا الوَصفِ الْمُشِين "بعلِ زَبول"، الّذي يَليقُ بهم لا بالْمَسيح. فالكَلِمَةُ "بَعلُ زَبول" تَعني سَيّدُ الأقْذَارِ وسَيّدُ الزِّبَالَةِ. والْمَسيحُ الإلهُ والإنْسَان، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ شَائِبَة. أَمَّا هُمْ فَكَانُوا كَومَةً مِنَ القَذَارَةِ، يَسْتَلِذُّونَ بِنَجَاسَتِهِم، ويُريدونَ أَنْ يُلَطِّخَوا الْمَسيحَ بِهَا، ولكِنَّهُ يَبْقَى سَاميًا عَنْ دَنَاءَتِهم، وسِهَامُهمُ الْمَسمُومَة لم تُصِبْهُ ولا حَتّى بِخَدش.
يا أَحِبَّة، نحنُ نِلْنَا رُوحَ اللهِ سَاعَةَ الْمَعمودِيَّة، وهَذَا أَمرٌ لا شَكَّ فيه. ولَكِنَّ السُّؤَالَ الّذي يحتَمِلُ عِدَّةَ إِجَابَاتٍ، هُوَ: هَلْ حَافَظتَ وتُحَافِظُ عَلَى رُوحِ اللهِ سَاكِنًا فِيك، أَمْ أنَّكَ خَسِرتَ الرُّوحَ الإلهيّ، عِندَمَا اختَرتَ أَنْ يَسكُنَكَ "بعلُ زبول"؟ فَصَارَ الفِكرُ مُلَطَّخًا، والقَلبُ مُلَطَّخًا، والعَينُ والِّلسَانُ والجَسَدُ كُلُّهُ مُلَطَّخ. وَاسْتَبدَلتَ رُوحَ النَّقَاوَةِ والقَدَاسَة، بِرُوحِ القَذَارَةِ والنَّجَاسَة!
وكَمَا أنَّ مَسْكِنَنَا الأرضِيّ، يحتَاجُ دومًا لِلتَّنظيفِ والتَّنقيَةِ مِنَ الأوسَاخِ والغُبَار، لِيَظَلَّ جميلًا مُرَتَّبًا. فَكَذلِكَ نحنُ، الَّذين نحيَا في هَذَا العَالم، بحَاجَةٍ دَائِمَةٍ للاغتِسَالِ والتَّطهيرِ الْمُستَمِر، مِمَّا يَعلَقُ بِنَا مِن وَسَخِ الخَطَايا وغُبارِ الآثَام. ومَنْ وَحدَهُ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَهَبَنا هَذا التَّطهير، سِوَى رُوحِ الله، رُوحِ الغُفرَان؟! ولذلِكَ جَاءَ حُكمُ الْمَسيحِ قَاسِيًا عَلَى الكَتَبَة، وهو حُكْمٌ اتَّخَذوهُ هُمْ عَلَى أَنفُسِهِم، إذْ: ﴿جَدَّفُوا عَلَى الرُّوحِ القُدس، فَلا غُفرانَ لَهم أبدًا، بلْ هم مُذنِبونَ بِخَطيئةٍ لِلَأبَد﴾ (مر 29:3).
فَالْمَسيحُ بَعدَ القِيامَةِ الْمَجِيدَة، مَنَحَ تَلاميذَهُ رُوحَ الغُفران، قَائِلًا: ﴿خُذُوا الرُّوحَ القُدُس. مَنْ غَفرتُم لهم خَطَاياهُم تُغفَر لَهم. ومَنْ أَمْسَكتُم عَليهم الغُفرانَ يُمسَكُ عَليهم﴾ (يوحنّا 22:20-23). لذلِكَ، التَّجديفُ عَلَى الرُّوحِ القُدس، هوَ تَجدِيفٌ عَلَى رُوحِ الغُفرَان، ورَفضٌ قَاطِعٌ للغُفرَان. ومَنْ كَفَرَ بالغُفرانِ الإلهيّ، فَكَيفَ أو مَنْ يُغفَرُ لَه؟! وعَليِهِ لا غُفرانَ لَهُم، إذْ نَبَذوا الغُفرَانَ مِنَ اللهِ الغَفَّار، وجَحَدوهُ مِنَ الْمَصدَرِ والأَسَاس.
يا أَحِبَّة، إنْ كَانَ اللهُ يَرحَمُ ويَغفِر، فَعَلَى الإنْسَانِ أَنْ يَتُوبَ ويَندَم. فَالْمَغفِرَةُ والتَّوبَةُ خَطَّانِ يَلْتَقِيَان. والإنسانُ القَادِرُ عَلَى الْتِمَاسِ التَّوبَة، هو إنْسَانٌ مُؤمِنٌ بالغُفران، وعَليهِ يَنَالُ الغُفرَان. وإنْ كَانَ اللهُ يَرحَمُ ويَغفِر، فَعَلَى الإنْسَانِ أيضًا أن يرحَمَ ويغفِر. فالْتِمَاسُ الْمَغفِرَةِ لِنَفسِكَ مِنَ الله، ثُمَّ الاحجَامُ عَنْ مَنحِهَا للآخرين، خَطَّانِ لا يَلتَقيَان!
قَدْ لا يَغفِرُ لَكَ البَشرُ ذَنبًا اقْتَرفتَهُ، لَيسَ لِأنَّهُم أَفْضَلُ أو أَنْقَى مِنك، بَلْ لأنَّ غَالِبيَّةَ النَّاس يَرونَ في التَّصلُّبِ والقَسوةِ والإدانَةِ قُوَّةً وبَأسًا، أَمَّا الغُفرانُ والْمُسَامَحَةُ فَهِيَ في نَظَرِهم ضُعفٌ وخُنوع! ولكن، يا صَديقي الْمُتَصَلِّب، كَيفَ لَكَ أَن تَلتَمسَ الْمَغفرةَ مِنَ الله، وأنتَ لا تَرحَمُ ولا تَغفِر؟ وكَيفَ لَكَ يا أَيُّهَا الْمُنَظِّر، أَنْ تحكُمَ وتَرجُمَ غَيرَك، وأَنتَ مِثلُهُ مُتَسَربِلٌ بالضُّعفِ، ورُبّما في سِرِّكَ تَفُوقُهُ إثمًا ونجاسَة؟!
مَنْ يَسْكُنُ فيهِ رُوحُ الله، وإنْ رُمِيَ بِسِهَامِ الافتِرَاءِ والبُهتَان، يَظَلُّ سَلِيمًا مُنَزَّهًا، لأنَّهُ يَرتَفِعُ بروحِ اللهِ الّذي يَسمُو بِهِ نحوَ العُلَى. كَمَا يحَثُّنَا الرَّسولُ بُولسُ في الرّسَالةِ إلى أَهلِ قُولِسّي، بِقَولِهِ: ﴿اِرْغَبوا في الأُمورِ الَّتي في العُلَى، لا في الأُمورِ الَّتي في الأَرض. فَقَدْ خَلَعتُمُ الإِنسانَ القَديم وأَعمَالَهُ، وَلَبِستُمُ الإِنسَانَ الجَديد﴾ (قول 2:3، 9-10). أَمَّا الّذي يَحيا في القَذَارَة، ويَستَلِذُّ في الْمعصية، ويَسمَحُ لِبعل زبول أَنْ يَستَوطِنَه، فَهُوَ مَنْ يَنطَبِقُ عَليهِ قَول الرُّسولِ بطرسَ في رسالتِهِ الثَّانية: ﴿قَدْ كَانَ خَيرًا أَلاَّ يَعرِفُوا طَريقَ البِرِّ، مِنْ أَنْ يَعرِفُوُهُ، ثُمَّ يُعْرِضُوا عَنِ الوَصِيَّةِ الْمُقدَّسَة. لَقَدْ صَدَقَ فيهِمِ الْمثَلُ القائِل: مَا اغتَسَلَتِ الخِنزيرةُ حتَّى تَمَرَّغَتْ في الطِّين﴾ (2بط 21:2-22).