رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 139 - تفسير سفر المزامير الله العجيب للغاية في علاقته معىيكشف هذا المزمور عن سمات الله الفائقة التي يختبرها الإنسان الأمين في علاقته بالله. أما من يحاول الهروب منه، فيكتشف أنه يدخل في معركة خاسرة. تقوم أمانتنا في علاقتنا به على أساس إدراكنا أنه العالم بكل شيء، يعرف كل شيءٍ، حتى أسرارنا الخفية؛ والحاضر في كل مكان؛ والكلي القدرة؛ والكلي القداسة. هذه السمات الخاصة بالله، ليست بنودًا إيمانية عقلية نلتزم بقبولها، لكنها بالأكثر خبرة ممتعة يعيشها المؤمن في شركته مع الله. لهذا دعا أحد كبار المعلمين اليهود، ابن عزرا Aben Ezra هذا المزمور: "تاج كل المزامير". قيل عنه: لا يوجد موضع يتحدث عن سمات الله العظيمة بطريقة مدهشة مثلما عرضها هذا المزمور الرائع للغاية. فريد هو هذا المزمور في الحديث عن اهتمام الله بالإنسان، يحاصره الله من كل جهة، لأنه يحبه ويرعاه ويعمل لحساب مجده؛ روح الله يود ألا يفارقه، وإمكانيات الله تُقدم له، لأنه بدون الله يعجز عن أن يخطو. ينشغل بخلقته ويعمل فيه منذ بدء تكوينه كجنينٍ في الرحم، لذا فالإجهاض جريمة ضد الخالق المهتم بالجنين. أما عن معرفة الله التي يختبرها المؤمنون الملتصقون به فهي: 1. يعرف الله أعماقنا [1-6]، يعرفها أكثر من معرفتنا نحن لأنفسنا، لذا يليق بنا أن نكون منفتحين عليه، وأمناء، فنستريح في محبته (1 يو 4: 18). لا تقوم معرفته على قدرته وحدها، بل وعلى محبته لنا. عينه علينا ليرعانا، فلا مجال للخوف. 2. يعرف الله أين نذهب [7-12]، ليس فقط لأنه كائن في كل مكان، ولا يخفي عنه شيء، وإنما لأنه في محبته يطلب أن يرافقنا، في صعودنا وهبوطنا، في رحيلنا شرقًا أو غربًا، أي في انطلاقنا نحوه، أو محاولة هروبنا منه. في نمونا الروحي وحتى في لحظات سقوطنا. ما دام فينا نَفَسٌ واحدٌ، فهو يترجى توبتنا أي رجوعنا إليه. إن كان الأشرار يحاولون الهروب من الله، كما فعل أبوانا الأولان بعد سقوطهما، فيليق بنا نحن أن نهرب إليه حتى بعد سقوطنا. 3. يعرف من نحن [13-16] إنه خالقنا، وواضع خطة لنا، وواهبنا الحياة لنحقق رسالتنا. يعرف ما هو لصالحنا، ويهبنا الحرية والقدرة على التعقل لكي نقبل عمله فينا وبنا. 4. يعرف ما نفكر فيه [17-18]. إذ هو مشغول بنا، يطلب أن يكون موضوع تفكيرنا، لذا يليق بنا أن نتأمل فيه، وننعم بأسراره الإلهية (في 4: 8). 5. يعرف ما نحبه [19-22]. لذا يليق بنا أن نحبه في شخصه، ونبغض الشر (مز 79: 10)، فلا يحتل العالم مكانة في قلوبنا (1 يو 2: 15-17). 6. يعرف اشتياقاتنا [23-24]. يلزمنا أن تعترف بأننا نجهل حتى أعماقنا ذاتها (إر 17: 9-10)، لذا يليق بنا أن نسلمه قلوبنا، فيلهبها بالاشتياقات المقدسة، وندرك أنه هو طريق الحق الذي يلزمنا أن نسلك فيه. 1. الله العالم بكل شيء 1-6. 2. الله الحاضر في كل مكان 7-12. 3. الله صانعنا في الرحم 13-18. 4. الله حامينا من الأشرار 19-22. 5. اختبرني يا الله 23-24. من وحي المزمور 139 1. الله العالم بكل شيء لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ يَا رَبُّ قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي [1]. يبدأ المزمور بالحديث عن الله بكونه العالم بكل شيءٍ. هذه المعرفة المطلقة لله ليست عقيدة مجردة، بل هي خبرة عاشها المرتل في حياته، مختبرًا اهتمام الله بل دقائق حياته في كل مراحلها. هذه المعرفة لم تدفع المرتل إلى الخوف والرعب، بل إلى الفرح الداخلي والتهليل والتسبيح. إن كان الله يعرف حتى أفكارنا الخفية وعواطفنا وشهواتنا وكل أعمال إنساننا القديم، فإن في سلطانه أن يغَّيرها ويجددها، ويقدس كل ما في داخلنا. معرفته تهبنا الفرصة للمطالبة بعمله الإلهي فينا، لبنياننا وإعدادنا للمجد الأبدي. يعرف كل إنسانٍ في البشرية، وكل شيءٍ عنه، ولا يُخفى عنه شيء. بمعرفته لحقيقة الأمور، يقدم لنا ما هو لبنياننا مع تقديسه لحرية إرادتنا، فلا يُلزمنا بشيء بدون إرادتنا. حينما نقول: "اختبرتني"، لا يعني عدم معرفة الله لي قبل أن يختبرني، حاشا! فالله عالم بكل شيء، لكن هنا المعرفة ليست إدراكًا لأمور لم يكن يعرفها، إنما هي معرفة الالتصاق به. هذا ما يؤكده القديس يوحنا الذهبي الفم[1]. يرى القديس أغسطينوس أن المتكلم هنا هو ربنا يسوع الذي شاركنا فيما نحن فيه، إذ تجسد وصار إنسانًا، يتحدث باسمنا، حتى نتمتع نحن بشركة الطبيعة الإلهية، أي نأخذ مما له، نحمل بنعمته الحياة الجديدة التي تليق بنا كأعضاء جسده. * كلمة "جربتني" بالنسبة لله لا تعني أنه لا يعرف الأمور إلا بعد التجربة. حاشا! بل معناها كما أن الإنسان يتيقن بالتجربة، ويعرف حقيقة الأمور، هكذا أنت يا رب تعرف بغير اختبار حقيقة الأمور قبل كونها. الأب أنسيمُس الأورشليمي أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. [2] يعرفنا عندما نجلس لنستريح، ويعرفنا حين نقوم لنمارس أوجه الحياة والأنشطة المختلفة. يعرف ما نفكر فيه، وما سنفكر فيه. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن تعبير "جلوسي وقيامي" يشير إلى الحياة كلها. وكأن الله يعرف كل حياتي بدقائقها. ولئلا يظن أحد في غباوة أن معرفة الله لحياة الإنسان تقوم على اختبار الله له دون سابق معرفة، لهذا أضاف العبارة: "فهمت فكري من بعيد". فمن يعرف مسبقًا الفكر الخفي في العقل لا يحتاج إلى اختبار الإنسان ليعرف أعماله الظاهرة. كان الله يعرف أيوب قبل أن يسمح له بتجربته، وقال عنه: "رجل كامل ومستقيم، يتقي الله" (أي 2: 3). لكنه سمح بتجربته لكي يكافئه على ثباته ويؤكد شر إبليس، وأيضًا ليجعل الآخرين يقتدون به. كان الله يعلم أن أهل نينوى لا يستحقون الهلاك، لأنهم سيصلحون موقفهم بالتوبة، لكنه أعلن ذلك خلال الخبرة العملية. * ماذا يعني هنا بجلوسي وقيامي؟ الذي يجلس يضع نفسه، فالمسيح جلس في آلامه، وقام في قيامته. يقول أنت تعرف هذا، بمعنى إنك تريد ذلك وتستحسنه، وأنا أفعل ذلك حسب إرادتك. إن أردت أن تطبق هذه الكلمات الخاصة بالرأس (المسيح) على الجسد (الكنيسة)، فالإنسان يجلس حين يتواضع بالندامة، ويقوم حين تُغفر خطاياه، ويرتفع إلى الرجاء في الحياة الأبدية. لا ترفعوا أنفسكم ما لم تتواضعوا أولًا. فإن كثيرين يريدون القيام قبل الجلوس؛ يريدون أن يظهروا أبرارًا قبل أن يعترفوا أنهم خطاة[2]. * "فهمت أفكاري من بعيد"... ماذا تعني "من بعيد"؟ وأنا ابلغ إلى وطني الحقيقي، أنت عرفت أفكاري... الابن الأصغر ذهب إلى كورة بعيدة. بعد تعبه وآلامه وضيقته واحتياجه فكرَّ في أبيه، ورغب في العودة، وقال: "أقوم وأذهب إلى أبي". قال: "أقوم" لأنه جلس قبل ذلك[3]. القديس أغسطينوس * قوله "جلوسي وقيامي" معناه كل أعمالي التي أمارسها جالسًا وقائمًا، في راحتي، وفي شدتي. وأيضًا: "فهمت أفكاري من بعيد"، أي قبل أن تخطر في قلبي. الأب أنسيمُس الأورشليمي مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. [3] جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "سبلي وسجيتي أنت فحصت، وكل طرقي سبقت ورأيت". يرانا حينما نسير، وعندما نجلس، بمعنى آخر عينه علينا على الدوام. ليس شيء من طرقنا مخفي عنه. * يقول: "مسلكي". ماذا؟ إلا أنه مسلك رديء، المسلك الذي سار فيه (الابن الضال) تاركًا والده... ما هو مسلكي؟ الذي به قد خرجت[4]. القديس أغسطينوس * يقول: أنت تعرف ليس فقط أفكاري، وليس فقط أعمالي، بل كل شيءٍ يحدث، وأيضًا ما سيحدث[5]. القديس يوحنا الذهبي الفم * قبل أن تأتي بنا إلى الوجود بحثت، أي عرفت يقينًا بما أنك فاحص سبلي، أي سيرتي وحياتي... أما كلمة سجيتي فباليونانية تترجم "حنكي"... أي عرفت كلامي، أنه ليس فيه غش، أي قولي ليس مغايرًا لما في قلبي. الأب أنسيمُس الأورشليمي لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا [4]. إنه يعرف ما سننطق به قبل أن نفتح أفواهنا. يعرف المستقبل كما الماضي والحاضر؛ كل شيءٍ مكشوف أمامه. ما هي الكلمة التي في لساني؟ إذ اختار الابن الأصغر المسلك الشرير، وذهب إلى كورة بعيدة، أراد الرجوع إلى أبيه، فقال في نفسه. ما قاله واعترف به هو أنه فارق أباه وابتعد. عرف أبوه أنها كلمة صادقة تخرج من لسان القلب الداخلي. إنه يريد أن يترك مسلكه الرديء، ويسلك طرق أبيه الصالحة. * أعترف لك، إنني أسلك في طريقي أنا، فصرت بعيدًا عندك. لقد رحلت عنك، أنت الذي كنت لي نافعًا، وظننت أنه لخيري أن أتركك[6]. القديس أغسطينوس مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ [5]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "ها أنت يا رب عرفت كل الأخيرات والأولات. أنت جبلتني، وجعلت عليّ يدك". كل شيءٍ مكشوف وعريان أمامه، هذا الذي نلتزم أن نقدم أمامه حسابًا عن تصرفاتنا (عب 4: 13). وإذ يدرك تمامًا كل شيءٍ عنا، يستطيع أن يحفظنا من خلف ومن الأمام. يده دومًا علينا لحمايتنا. * لقد عرفت أعمالي الأخيرة عندما كنت ُأطعم الخنازير؛ وعرفت أعمالي القديمة عندما طلبت منك نصيبي في الميراث. أعمالي القديمة كانت بداية شروري الأخيرة. الخطية القديمة عندما سقطنا، والتأديب الأخير عندما دخلنا في متاعب وأخلاقيات خطيرة. هل ستكون الأخيرة بالنسبة لنا؟ ستكون هكذا إن كنا نرجع الآن (للرب)[7]. * "أنت جبلتني"، أين؟ في هذه الطبيعة القابلة للموت... "وجعلت يدك عليّ". يدك التي تجازي فتنزل بالمتكبرين. فمن الصالح طرح المتكبر أرضًا لكي ما يرفعه (الرب) متواضعًا[8]. القديس أغسطينوس * أنت أوجدتني، ووضعت يدك عليّ. لهذا نحن مدينون بميلادنا، وحياتنا لا لأنفسنا، بل بالكامل لخالقنا[9]. الأب بطرس خريسولوجوس * "أنت خلقتني ووضعت يدك علي". لقد انتقل من القدرة على سبق المعرفة إلى القوة الخالقة، ومن القوة الخالقة إلى سبق المعرفة. إنه ليس فقط خلق أولئك الذين لم يكن لهم وجود في ذلك الوقت، وإنما يحفظ تحت سلطانه الذين يخلقهم. عن هذا كله يشهد أيضًا بولس للمسيح بالكلمات: "الله بعد ما كلَّم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواعٍ وطرقٍ كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء". بعد ذلك أشار إلى الخالق: "الذي به أيضًا عمل العالمين والأجيال". وإذ تحدث عنه ككائن قال أيضًا: "والذي هو بهاء مجده ورسم جوهره"، ثم أظهر قوة معرفته السابقة بالكلمات: "وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب 1: 1-3). وإذ كتب إلى أهل كولوسي قال نفس الشيء: "فإنه فيه خُلق الكل ما في السماوات وما على الأرض... سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق". هذا إشارة إلى قوته الخالقة. بعد ذلك لكي يسير إلى قوة معرفته السابقة أضاف: "الذي فيه يقوم الكل" (كو 1: 16-17). بنفس الطريقة شهد يوحنا لكلا القوتين: "كل شيءٍ به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان". قال هذا لكي يلقي ضوءًا قويًا على قوته الخالقة. بعد ذلك تحدث عن معرفته السابقة: "فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس" (يو 1: 3-4). هذا أيضًا ما عالجه النبي في هذا الموضع، قائلًا: "خلقتني"، كإشارة إلى قوته الخالقة، وبعد ذلك أشار إلى معرفته السابقة: "ووضعت يدك عليّ". ماذا يعني بقوله "وضعت"؟ أنت تدير، أنت تنّظم، أنت تقود! الأمر الذي أشار إليه بولس بقوله: "به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع 17: 28). فإننا محتاجون إلى قوته، ليس فقط في الخلقة، وإنما أيضًا في الوجود والاستمرار في الحياة[10]. القديس يوحنا الذهبي الفم عَجِيبَةٌ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ارْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا [6]. معرفته غير المحدودة تحير عقولنا. فهي فوق كل إدراكنا. يليق أن ننحني أمامه معترفين بأن معرفته تفوق كل إدراكنا. يرى كثير من الآباء أن خلقة الإنسان عجيبة فوق كل المخلوقات، إذ تضم فيها ما هو مائت أي الجسد مع النفس الخالدة، تمثل عالمًا غريبًا يضم ما يشبه الملائكة، أي النفس البشرية، وما يشبه الحيوانات، أي الجسد. * أنصتوا الآن واسمعوا أمرًا غامضًا بحق، لكنه يجلب سعادة ليست بقليلة في فهمها. تحدث الله مع موسى خادم الله القديس بسحابة، لأن الحديث بطريقة بشرية يستلزم أن يتحدث مع عبده خلال شيءٍ من عمل يديه يتخذه لنفسه... وإذ اشتاق موسى ورغب في رؤية مظهر الله الحقيقي، قال لله الذي كان يتحدث معه: "إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك أرني نفسك" (راجع خر 33: 13). هكذا اشتاق بغيرة متقدة هذا النوع من القول، بأن يتنازل في تعامله معه بطريقةٍ بها يمكنه رؤية وجه الله. قال له الله: "لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر 33: 20). إني أضعك في نُقرة من الصخرة، واجتاز، وأسترك بيدي حتى اجتاز، فتنظر ورائي. من هذه الكلمات يثور نوع آخر من اللغز، أي شكل الحق الغامض. يقول الله: "متى اجتاز تنظر ورائي"، كما لو كان له وجهه من جانب وظهره من جانب آخر. حاشا أن تكون لنا مثل هذه الأفكار عن الجلالة..! في هذه الكلمات أسرار قديرة... هؤلاء الذين ثاروا ضد الرب، الذي رأوه (حين جاء متجسدًا)، الآن يطلبون مشورة كيف يخلصون. فقيل لهم: "توبوا، وليعتمد كل واحدِ منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا" (أع 2: 38) ها هم رأوا ظهره هؤلاء الذين لم يستطيعوا أن يروا وجهه. لأن يديه كانتا علي أعينهم، ليس إلى النهاية، وإنما حتى يجتاز. وبعد أن اجتاز رفع يده عن أعينهم... فرأوا التلاميذ، وقالوا: "ماذا نصنع؟" في البداية كانوا عنفاء، وبعد ذلك صاروا محبين. في الأول كانوا في غضبٍ، وبعد ذلك صاروا في مخافةٍ. في الأول كانوا قساة، وبعد ذلك صاروا مبتهجين. في الأول كانوا عميان، وبعد ذلك صاروا مستنيرين[11]. القديس أغسطينوس * علمك يا الله عجيب في جميع مخلوقاتك، لاسيما من صُنعك لي أنا الإنسان. لأن خلقتك لي هي أكثر عجبًا من سائر مخلوقاتك، بما أنك ضممت يا الله في الإنسان المائت الذي هو الجسد والغير المائت أي النفس، الهيولي والبريء من الهيولي، الناطق وغير الناطق. هذه الأضواء جميعها في شخص واحدٍ، وهو أمر أكثر عجبًا، ومعرفتك هذه قد فاقت قدرتي، لن أستطيع أن أدركها بالفعل، لأنها عجيبة. الأب أنسيمُس الأورشليمي * الآن ما يعنيه هو مثل هذا: إنني أتمتع بمعرفتك السابقة، وأدرك أنك تعرف كل شيءٍ مقدمًا. وأنك خلقتني من العدم. ومع هذا فإني غير قادر أن تكون لي معرفة عنك كاملة وواضحة ودقيقة. إنما بالحري هي تدهشني، أي أنها تسمو عني، إنها أقوى من أن اقتنيها بعقلي. هذه هي الدرجة التي تجعلني في دهشة، الدرجة التي هي عظيمة. فإن كانت مدهشة وعظيمة، فهل يمكن الاستحواذ عليها؟ لا يمكن! لهذا يضيف: "لا استطيع أن أفعل شيئًا في مواجهتها... إنه لا يعني: ليست لي معرفة الله، إنما ليس لي المعرفة الكاملة الواضحة[12]. القديس يوحنا الذهبي الفم * لتراعوا ما هو مكتوب في سفر الجامعة: "قلت أكون حكيمًا، أما هي (الحكمة) فبعيدة عني. بعيدٌ ما كان بعيدًا، والعميق العميق من يجده" (جا 7: 23-24). لتراعوا ما قيل في المزامير: "عجيبة هذه المعرفة، فوقي ارتفعت، لا أستطيعها" (مز 139: 6). يقول سليمان: "مجد الله إخفاء الأمر" (أم 25: 2). لهذا كثيرًا ما أقرر التوقف وعدم الكتابة. صدقوني، إني أفعل هذا. ولكن لئلا أوجد في حالة إحباط، أو بسبب صمتي ينقاد الذين يسألونني منكم إلى عدم التقوى، ويُسلمون للنزاع، لهذا أضغط على نفسي وأكتب إلى قداستكم ما أرسله إليكم باختصار[13]. البابا أثناسيوس الرسولي 2. الله الحاضر في كل مكان أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ [7] الله ليس فقط عالم بكل شيءٍ، وإنما هو أيضًا حاضر في كل مكانٍ، في ذات اللحظة. حضوره في كل مكان لا يعني وحدة الوجود، أي المذهب القائل بأن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظاهر للذات الإلهية Pantheism. يؤكد الكتاب المقدس أن الله ليس شيئًا، بل هو شخص غير الخليقة. هل يوجد مكان فيه يتجنب الإنسان روح الله؟ هل يوجد موضع يختفي فيه الإنسان من الحضرة الإلهية؟ الشعور بالرغبة في الهروب من روح الله أو وجهه، أمر يرجع منذ سقوط آدم وحواء، إذ حاولا باطلًا الهروب من خالقهما. هذا الشعور صار غريزيًا في حياة الإنسان، يظهر بوضوح حين يرتكب طفل خطأ ما يحاول الاختفاء من والديه. يليق بنا أن ندرك أن الله في محبته يتنازل ويرغب في اللقاء بنا حتى ندرك حنوه، ونطلب الرجوع إليه. * أي موضع يمكن أن يحمي الهارب من الله؟ الذين يحمون الهاربين، يسألونهم: ممن أنتم هاربون؟ وإن وجدوا عبيدًا لسيدٍ أقل منهم قوة يحمونه دون خوفٍ، قائلين في قلوبهم: "ليس له سيد يقدر أن يتعقبه". ولكن إن أخبروا بأن له سيد صاحب سلطان، إما أنهم يمتنعون عن وقايته، أو يحمونه وهم في رعبٍ شديدٍ، لأنه يمكن أن يُخدع الإنسان حتى وإن كان صاحب سلطان. لكن من يقدر أن يخدع الله؟ من الذي لا يراه الله؟ ممن لا يطلب الله الهارب منه؟ أين يمكن للهارب أن يذهب من وجه الله؟ أن يرده من هنا أو هناك![14] القديس أغسطينوس * يشير إلى الله بكونه روحًا وحضورًا، بمعنى أين أذهب منك؟ أنت تملأ كل شيءٍ، وحاضر بالنسبة لكل أحدٍ، ولكن ليس كجزءٍ، بل بكليتك لكل واحدٍ. بإشارته إلى ما هو فوق وما هو أسفل، الطول والعرض، والارتفاع والعمق يشير إلى أنه حاضر في كل مكانٍ. لم يقل: "أينما أذهب تتبعني وتمسكني"، إنما "أينما أذهب أنت هناك"، أجدك سابقًا لي. هذا هو السبب لقوله: "معرفتك عجيبة لي". ربما يعترض أحد: ما لم تعرفها تمامًا كيف تكون عجيبة؟ لأنها تفوق عقلي، تبتلع ذهني، فإننا لا نستطيع أن نمسك بوضوح أشعة الشمس، لذلك فنحن ندهش تمامًا لها. هكذا في حالة معرفة الله، فإننا لا نجهله تمامًا، فنحن نعرف أنه موجود، وأنه محب، وأنه صالح، وأنه لطيف ورقيق، وأنه في كل مكان. أما عن كيانه هو أو ما هي عظمة أقواله أو كيف هو في كل مكان، فهذا نجهله. لهذا بعد إشارته إلى الأشياء التي معرفتك تدهشني وتكريم معرفة كيانه، وقوته الخالقة، وعنايته الإلهية، وعدم القدرة على إدراكه وعدم إمكانية فحصه، تباعًا يصف إلى حدٍ ما قوته، هكذا فإنها تحمل قوة محيِّرة تمامًا لمن يبحث عنها بعقله البشري[15]. القديس يوحنا الذهبي الفم * [رسالة إلى امفيلوخوس عند رسامته أسقفًا] مبارك هو الله الذي من جيل إلى جيل يختار الذين يسرونه، يميز الآنية المختارة، ويستخدمهم لخدمة القديسين. لذلك إذ أردت أن تهرب، كما أنت تعترف بذلك، ليس مني، وإنما تهرب من الدعوة التي قُدمت عن طريقي. لقد اصطادك بشبكة النعمة الأكيدة، وجاء بك إلى وسط بيسيديا Pisdia لتصطاد النفوس للرب، وتسحب فريسة إبليس من الأعماق إلى النور. لتقل مع الطوباوي داود: "أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟"[16] القديس باسيليوس الكبير * لاحظوا سرّ الثالوث في ذاك الإيمان الكامل. يتحدث النبي مع الآب، معلنًا أن الابن هو وجه الآب، وموضحًا أن الروح القدس منتشر خلال كل شيءٍ[17]. الأب قيصريوس أسقف آرل * لا يظن أحد أنه يقدر أن يهرب من حكم الله[18]. * يليق بكل شخصٍ أن يفحص ضميره أولًا وعندئذ يفكر في أعمال الشخص الذي يدينه. إن حديث هذا فإن الرغبة في ممارسة عمل الوظيفة الكنيسة العليا تنتهي من الذين عينوا لها، إن كان الذين يرغبون في السيطرة على الناس يهتمون بالأكثر بالحكم على أنفسهم عن الحكم على الآخرين. لا يظن أحد أنه قادر على الهروب من حكم الله، إذ يقول النبي: "أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟" (مز 139: 7) هذه الأمور تنطبق بالأكثر على الذين يرأسون على حكم الشعب[19]. العلامة أوريجينوس * روح الرب يملأ المسكونة، ولذلك يرتل داود: "أين أذهب من روحك" (مز 138: 7) وأيضًا مكتوب في سفر الحكمة: "روحك غير الفاسد هو في ملء الأشياء" (حك 12: 1). ولكن الأشياء المخلوقة هي في أماكن محددة لها... إن كان الروح يملأ كل الأشياء، وهو في الكلمة، حاضر في كل الأشياء. وإن كان الملائكة أقل منه، وحيثما يُرسلون فهناك يكونون حاضرين، إذن فلا ينبغي أن يُشك في أن الروح ليس بين الأشياء المخلوقة، وليس هو ملاكًا على الإطلاق، كما تقولون أنتم، بل هو فوق طبيعة الملائكة[20]. البابا أثناسيوس الرسولي * "يا رب ملجأ كنت لنا في دورٍ فدورٍ" (مز 90: 1). غضبك عدل، إنك لا ترسل إنسانًا إلى جهنم ظلمًا. "أين أذهب من روحك؟" (مز 139: 7)، وإلى أين أهرب منك إلا بالالتجاء إليك؟ إذن فلنفهم أيها الأحباء الأعزاء بأنه إن كان لا يستطيع أحد أن يلجم لسانه، نلتجئ إلى الله الذي يستطيع أن يلجمه. إن أردتم أن تلجموه لا تستطيعون لأنكم بشر. "وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يقمعه". لاحظوا التشبيه المماثل لذلك في الحيوانات التي نروِّضها، فالحصان لا يستطيع أن يروِّض نفسه، والجمل لا يروِّض نفسه، والفيل لا يروِّض نفسه والأفعى لا تروِّض نفسها، والأسد لا يروِّض نفسه، هكذا لا يستطيع الإنسان أن يروِّض نفسه. لكن لو أراد الإنسان لأمكنه أن يروِّض الحصان والثور والجمل والفيل والأسد والأفعى. ليتنا نبحث عن الله حتى يروِّضنا[21]. * نصير إلى حال أفضل باقترابنا من ذاك الذي ليس من هو أفضل منه. نذهب إليه ليس بالسير بل بالحب. سيكون بالأكثر حاضرًا بالنسبة لنا قدر ما نستطيع أن ننقي الحب الذي به نقترب إليه، فإنه لا يُحد بمكانٍ مادي. إنه حاضر في كل مكان، حاضر بكماله. ونحن نذهب إليه لا بحركات أقدامنا، بل بسلوكنا. السلوك عادة يميز لا بما يعرفه الإنسان، بل بما يحبه: إن كان الحب صالحًا أو شريرًا يكون السلوك صالحًا أو شريرًا[22]. القديس أغسطينوس * وجه الآب هو الابن، لأنه شعاع مجده وصورة أقنومه. وأما روحه فهو الروح القدس. فإذن قول النبي يشير إلى الثالوث القدوس. المُخاطب هو الآب، ووجهه هو الابن، وروحه هو الروح القدس. هذا الإله، المثلث الأقانيم موجود في السماء، وعلى الأرض، وحاضر في كل مكان، ولكن ليس حضوره مكانيًا، بل بما أنه مبدع الكون والكافة ومالئ الكل، فهو غير منحصر في مكانٍ معين. الأب أنسيمُس الأورشليمي إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ، فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ، فَهَا أَنْتَ [8]. لنفترض أن إنسانًا صعد إلى السماء فهل يختفي هناك عن الله؟ مستحيل، فإن السماء عرش الله (مت 5: 34). وإن جعل فراشه في الهاوية، أي يتحرر من الجسد، فسيجد الله أيضًا هناك. لن نستطيع أن هرب من وجه الله إلا بالاحتماء فيه هو نفسه. نهرب من المجازاة بالاختفاء فيه. ليكن لنا جناحا الحب، فنطير إلى الحب ذاته ونختفي فيه. * أين يذهب أحد أو يهرب من ذاك الذي يدرك كل شي؟[23] القديس إكليمنضس الروماني * ما يتحدث عنه هنا هو الله الحاضر في كل مكان، وهو يُظهر هنا أن هذا هو ما لا يستطيع أن يدركه، أي أن الله موجود في كل مكان... فإن النبي لم يعرف كيف يكون هذا، إنما يرتعد ويرتبك في حيرة عندما يفكر في هذا؟[24] القديس يوحنا الذهبي الفم * يرى داود أن كل المعاصي التي في العالم مكشوفة أمام عيني الله. لا السماء ولا الأرض ولا البحار ولا الكهف العميق ولا الليل نفسه يمكن أن يخفي الخطايا عنه. يدرك المرتل كيف أن الجرائم والشر هي خطايا في نظر لله، لذلك صرخ: "لك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت" (مز 51: 6)[25]. الأب بطرس خريسولوجوس * ما هي قمة تشييد هذا البناء الذي نؤسسه؟ إلى أين ستبلغ قمة هذا البناء العالية؟ أقول للحال إلى رؤية الله . والآن ترى كم هو عظيم أن تعاين الله. إن الذي ارتفع إلى هذا يستطيع أن يفهم كل ما أقوله وما يسمعه. قد وعدنا برؤية الله، رؤية الله ذاته تتعالى لأنه حسن أن نرى الذي يرانا، فالذين يعبدون آلهة باطلة يرونها بسهولة، ولكنهم يرون التي لها أعين ولا تبصر. وأما نحن فقد وُعدنا بمعاينة الله الحي المبصر حتى نشتاق لرؤية ذلك الإله الذي يقول عنه الكتاب المقدس: "الغارس الأذن ألا يسمع؟ الصانع العين ألا يبصر؟" (مز94: 9) ألا يسمع ذلك الذي صنع لك ما تسمع به، أما يرى ذلك الذي خلق ما ترى به؟ لذلك يقول في المزمور حسنًا: "افهموا أيها البلداء في الشعب، ويا جهلاء متى تعقلون" (مز 94: 8)، لأن كثيرين يرتكبون أفعالًا شريرة، ظانين أن الله لا يراهم. حقيقة إنه يصعب عليهم أن يعتقدوا أنه لا يستطيع رؤيتهم، بل يظنون أنه لا يريد ذلك. قليلون هم الملحدون تمامًا الذين يتم فيهم المكتوب: "قال الجاهل في قلبه ليس إله". هذا جنون القليلين فقط. فإذ قليلون هم الورعون تمامًا، فانه ليس بأقل منهم أيضًا هم الملحدون تمامًا، وأما غالبية البشر فيقولون هكذا، ماذا؟ هل يفكر الله الآن فيّ، حتى يعرف ما أفعله في منزلي، وهل يهم الله ما قد أختار فعله على سريري. من يقول هذا؟ "أفهموا أيها البلداء في الشعب ويا جهلاء متى تعقلون؟" (مز 94: 8) فبكونك رجلًا من شأنك أن تعلم كل ما يحدث في منزلك، وأن تصلك أفعال خدمك وأقوالهم. ألا تظن أن لله عملًا كهذا أن يلاحظك، الذي لم يتعب في خلقتك؟ أفلا يثبت عينيه عليك ذاك الذي صنع عينيك؟ إنك لم تكن موجودًا وقد خلقك وأعطاك الوجود. ألا يهتم بك الآن وأنت موجود، الذي "يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" (رو 4: 17)؟ إذن لا تعد نفسك بهذا فإنه يراك، إن أردت أو لم ترد. وليس هناك مكان تستطيع أن تختبئ فيه عن عينيه. "إن صعدت إلى السماء، فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت" (مز 139: 8). عظيمة هي أتعابك بينما لا ترغب في الانفصال عن الأعمال الشريرة، مع هذا فإنك لا ترغب في أن يراك الله . حقا يا له من تعب مضني! كل يوم ترغب في صنع الشر ومع هذا أتشك في أنك لا تُرى؟ استمع إلى الكتاب المقدس القائل: "الغارس الأذن، ألا يسمع؟ الصانع العين، ألا يبصر؟" (مز 94: 90). أين تستطيع أن تخفي الأعمال الشريرة عن أعين الله؟ إن لم تمت عنها، فبالحق تعبك مضني[26]. القديس أغسطينوس * من جهة اليونانيين يقول البعض إن الله نفس (Soul) العالم[27]. وآخرون قالوا إن سلطانه يسود السماء وحدها دون الأرض. ويشترك البعض معهم في خطأهم، مسيئين استخدام العبارة القائلة: "حقك إلى السحاب"[28]، فتجاسروا بتحديد عناية الله بالسحب والسماوات، عازلين الله عن شؤون الأرض، ناسين المزمور القائل: "إن صعدت إلى السماوات، فأنت هناك، وإن نزلت إلى الجحيم، فأنت هناك" (مز 139: 8). فإن كان ليس شيء أعلى من السماوات والجحيم أدنى من الأرض، فإن من يدير أمور الجحيم السفلي يهتم بالأرض أيضًا[29]. القديس كيرلس الأورشليمي إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْر [9]. جناحا الصبح هما تلميح لأشعة الشمس في الصباح التي تعبر من الشرق إلى الغرب بسرعة 186000 ميلًا في الثانية حتى إن استطعنا أن نسير من أقصى المسكونة بسرعة الضوء،، فسنجد الرب هناك ينتظرنا لكي يقودنا ويسندنا. * إن كنت بالخطية تنحدر إلى أعماق الشر، وتستخف بالاعتراف، قائلًا: "من يراني؟"... فأنت هناك أيضًا حاضر لكي تُعاقب... لذلك ليتني أهرب من وجهك الذي يجازي؛ كيف؟ "إن أخذت لي جناحين بالغداة وأقمتهما، وأسكن في أواخر البحر" [9]. هكذا استطيع أن أهرب من وجهك... أهرب في رجاءٍ وفي اشتياق، بجناحي الحب... لنهرب إلى الله في رجاء![30] القديس أغسطينوس * يليق بكِ ألا تسمحي لاقتراحات الشر أن تنمو فيكِ، أو بابل التي للارتباك أن تنال قوة في صدركِ. اذبحي العدو وهو صغير، ولا يكون لديكِ محصول من الزوان، أزيلي الشر وهو بعد برعم[31]. القديس جيروم * ندهش حين نتطلع إلى البحر المفتوح وأعماقه التي بلا حدود؛ بل وندهش في خوفٍ عندما ننحني ونرى مدى أعماقه. بهذا فإن النبي انحنى وتطلع إلى بحر حكمة الله غير المحدودة! لقد صُدم في رعدة. وخاف في أعماقه، ورجع إلى خلف، وهو يقول بصوتٍ عالٍ: "أشكرك، فإنك مُعجب برهبةٍ؛ عجيبة هي أعمالك" [14]، وأيضًا: "عجيبة هي المعرفة فوقي، ارتفعتْ، لا أستطيعها" [6][32]. القديس يوحنا الذهبي الفم فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ، وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ [10]. بعد أن يكشف المرتل عن معرفة الله أمر مدهش وعجيب للغاية، تفوق الفكر البشري، حتى حضوره بكليته في كل مكانٍ لا يمكن فحصه، فإنه بعناية الإلهية لا يتركنا في حيرة، بل يده تمسكنا لنختبر عمليًا وجوده ورعايته وحنوه. إن كانت يد الله الآب تشير إلى كلمته الإلهي المتجسد، ويمينه إلى كلمة الله أو قوة الله ربنا يسوع المسيح، فبتجسده حقق الخلاص بالصليب، فدخل بنا إليه بكونه الطريق، وأمسك بنا لكي ننعم بالأحضان الإلهية. أينما كانت تحركاتنا، ومهما تكن سرعتها، فإن الله بمحبته لنا يعيننا ويسندنا. * هذا الشكل (شكل الصليب) قد ترنم به العظيم داود في مزاميره، قائلًا: "أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السماوات (الارتفاع) فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية (العمق) فها أنت. إن أخذت جناحي الصبح الذي هو شروق الشمس (العرض)، وسكنت في أقاصي البحر (هنا يتحدث عن الغروب)" (مز 139: 7-10). أرأيت كيف أن بكلامه هذا يرسم الصليب أمامنا![33] القديس غريغوريوس النيسي * ليكن هذا هو رجاؤنا، وهذه هي تعزيتنا. لنأخذ خلال الحب الجناحين اللذين فقدناهما بالشهوة. فإن الشهوة تُكلس الجناحين اللذين لنا، وتنحدر بنا من حرية سمائنا، أي من حرية نسمات روح الله. من هناك حيث تحطمنا وفقدنا أجنحتنا، وصرنا كما يُقال محبوسين تحت سلطان الصياد. لهذا خلصنا (ربنا) بدمه فنهرب ولا نسقط في الفخ. يقيم لنا أجنحة بوصاياه، ونبسطها مرتفعين ومتحررين من الفخ... إذن نحن في حاجة إلى أجنحة، نحتاج أن يقودنا، فإنه هو عوننا. لدينا حرية الإرادة، ولكن حتى بهذه الحرية للإرادة ماذا يمكننا أن نفعل ما لم يسندنا ذاك الذي يوصينا؟[34] القديس أغسطينوس فَقُلْتُ: إِنَّمَا الظُّلْمَةُ تَغْشَانِي. فَاللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! [11] * الظلمة هنا تعني الضيق. فإنه يعني هذا: صرت محصورًا بالمتاعب، وقلت لنفسي: "الظلمة تغشاني، أي الظلمة تطأني تحت قدمها. وجاءت في ترجمة أخرى: "الظلمة تحجبني، والليل صار نورًا في عجزي"، وجاء في ترجمة أخرى: "يشرق الليل حولي". ماذا يعني هذا؟ يقول: "فجأة تحول الضيق إلى خيرٍ، أو بالحري ليس الضيق تحول إلى خير، وإنما وإن كان الضيق ضغط عليّ، صرت في حال أفضل. لم يقل إن الليل قد زال، إنما الليل يضيء، فمع بقاء الليل ليلًا واضح أن المتاعب والكوارث (يشير إليها بتعبير الليل) لم تعد تطأني تحت قدمها، بل أضاء نور في الليل، أي غطاني العون. تحولت الأمور إلى ما يضادها وتظهر هكذا عندما يريد الله. ألم تروا الأتون يشتعل والندى يُرطبِّ دون أن ينطفئ الأتون ولا الندى يجف، المطر والنار معًا؟ (في قصة الثلاثة فتية في أتون)[35]. القديس يوحنا الذهبي الفم * الآن أؤمن بالمسيح، الآن انطلق عاليًا بجناحي الحب الثنائي... وإذ أتطلع إلى طول الطريق أقول لنفسي: "والليل يضيء في بهجتي"... شكرًا له، ذاك الذي بحث عني حين كنت هاربًا، ذلك الذي يضرب ظهري بالجلدات، والذي استدعاني من الدمار، وجعل ليلي نورًا. فإن الليل طويل، ونحن نعبر هذه الحياة. كيف صار الليل نورًا؟ لأن المسيح نزل إلى الليل[36]. القديس أغسطينوس الظُّلْمَةُ أَيْضًا لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هَكَذَا النُّورُ [12]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فقلت أترى تقدر الظلمة تتوطأني، أو الليل هو ضياء في تنعمي. لأن الظلمة لا تظلم منك، والليل مثل النهار يضيء". إن ظن أحد أنه يختفي في الظلمة من وجه الرب، فهو يثق في ملجأ باطل عاجز عن تخبئته. فالليل لا يُبطل الحضرة الإلهية. الظلمة بالنسبة لله ليست ظلامًا. لا مجال للاختفاء من الله. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الليل تُنسب له الظلمة كأمر طبيعي، وإذ يريد الله يجعل النور منسوبًا لليل كأنه أمر طبيعي لليل. هكذا بالنسبة للضيقات فإنها تحمل المتاعب كأمرٍ طبيعي لها، وإن أراد الله فإنها تصدِّر راحة للشخص كأن الراحة هي أمر طبيعي للضيق. يرى القديس أغسطينوس أن الليل الذي يضيء مثل النهار تحقق بتوبة الناس أو تكريس قلوبهم لله، فتتحول من الظلمة إلى النور. يرى القديس أمبروسيوس أن العبارة هنا تشير إلى قيامة السيد المسيح حيث أشرق بنور قيامته في فجر الأحد حيث كانت الظلمة سائدة. * الليلة الثالثة سوف تبتدئ، والرب يقوم بالليل، وسيكون نهار في الليلة الخاصة بذاك الذي يقوم، ويتحقق الكتاب المقدس: "والليل مثل النهار يضيء". هذا هو الأمر العظيم الذي رآه إبراهيم وفرح، ذاك اليوم الذي قال عنه أيضًا داود: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ونبتهج فيه". سأُقدم إليه لا بخدمة شاقة، بل بثمر البهجة[37]. القديس أمبروسيوس * ها أنتم ترون، أن عمل العناصر يتغير إلى ما هو مضاد لها، متى أراد الله، ويصير ما هو مضاد كأنه معيَّن لها في الأصل تمامًا. بمعنى آخر، أن أردتم، فإن الليل يكون هكذا، يكون له نور ينسب إليه كما له الظلمة تمامًا. لكي يشير إلى هذا، أضاف: "مثل ظلمته كذلك أيضًا ضوءه" (12 LXX)[38]. القديس يوحنا الذهبي الفم * قيل له في مزمور آخر: "أنت تضيء سراجي؛ الرب إلهي ينير ظلمتي" (مز 18: 28). لكن من هم أولئك الذين يظلمون ظلمتهم، والتي لا تظلم لدى الله. الأشرار المنحرفون، عندما يخطئون بالحق يكونون ظلمة. وعندما لا يعترفون عن خطاياهم التي يرتكبونها، بل يدافعون عن أنفسهم، فيظلمون ظلمتهم. لذلك إذ تخطئون تكونون ظلمة، وبالاعتراف بظلمتكم، تنالون أن تصير ظلمتكم نورًا، أما بدفاعكم عن ظلمتكم، تُظلم ظلمتكم... ليتنا لا تُظلم ظلمتنا بالدفاع عن خطايانا، عندئذ يصير الليل نورًا في بهجتنا[39]. * هذا يتحقق في قلوب المكرسين الذين يقول عنهم القديس بولس: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب" (أف 5: 8)[40]. القديس أغسطينوس * عندما أفكر بأن الرب حاضر في كل مكان ومعني بالكافة، هل يتركني في الظلمة التي هي الشدائد والأحزان لكي تغشاني وتضغط عليّ بثقلها وتميتني؟ فإن معونتك ونصرتك تحضر وأنا في ليل المصائب، وتجعلني كأني في ضوء النهار والابتهاج والنعيم. لم تحول الظلمة إل نور، ولا الليل إلى نهار، ولا الأحزان إلى فرح، بل أبقيت الأشياء على ما هي عليه. لكنك جعلتها تفعل بيّ على ضد طبيعتها. فالليل يضيء لي، فتختفي ظلمته بالنسبة ليّ. وذلك مثلما كانت النار بالنسبة للثلاثة فتية، فصارت بردًا بالنسبة لهم، ومحرقة لأهل بابل حسب طبيعتها. فإنك أنت الذي أوجدت الكائنات من العدم، وتقدر على إزالتها، هكذا تقدر أن تخصص لها أفعالًا تضاد طبيعتها. فتجعل آلام الأحزان مثل أفراحها، وضياء الليل مثل ظلمته، ليس تخيلًا بل حقيقة. وأيضًا الشيء الذي تخفيه الظلمة لا يظلم لديك ولا يختفي عنك، لأن يضيء الليل عندك كالنهار. الأب أنسيمُس الأورشليمي * كذلك نحن المسيحيين الذين هم خدام المسيح يجب أن نقف بالحقيقة بيقظة مثل "العبد الصالح والأمين" (مت 25: 23) المتلهفين أن يعطوا سيدهم كرامة، لنطوق أنفسنا بالنسك، مقوين داخلنا بالشدة، مالئين مصابيح قلوبنا بزيت البهجة الذي للروح، ومستنيرين بالصلاة. بهذه الطريقة نحارب بشجاعة رغبتنا في الاستمتاع بالنوم. بهذه الطريقة ستصبح الظلمة لنا نورًا، وكما قال النبي: "فالليل يضيء حولي" (مز 139: 11)، والظلمة لن تظلم عقولنا، لذا لنمضى الليل المظلم بيقظة كما لو كان نهارًا ساطعًا[41]. مارتيريوس - Sahdona * ليظهر الله لكم الليلة الظلام الذي يتلألأ كالنهار، إذ قيل عنه: "الظلمة لا تظلم لديك، الليل مثل النهار يضيء" (مز 139: 12). لينفتح باب الفردوس في وجه كل واحدٍ منكم، عندئذ تبتهجون بمياه المسيح[42] التي لها رائحة ذكية[43]. القديس كيرلس الأورشليمي * هل للمسيح فكر في الخارج، وآخر في البيت؟ ما هو غير شرعي في الكنيسة، لا يمكن أن يكون شرعيًا في البيت. ليس شيء مخفيًا عن الله. "الليل يضيء كالنهار" أمامه. ليمتحن كل إنسانِ نفسه، وبهذا يقترب من جسد المسيح (1 كو 11: 28)[44]. القديس جيروم * كذلك أيضًا إليشع حين شفى برص نعمان مجانًا أخذ جيحزي المكافأة، أخذ مكافأة عمل آخر. أخذ المال من نعمان، وأخفاه في الظلام، لكن الظلام غير مخفيٍ عن القديسين (مز 139: 12). فلما أتى سأله إليشع، وقال له كما قال بطرس: "قولي لي أبهذا المقدار بعتما الحقل؟!"، هكذا تساءل إليشع: من أين أتيت يا جيحزي؟ لم يسأله عن جهل، لكنه في أسفٍ يسأله: "من أين أتيت" (2 مل 5: 25)، من الظلام أتيت، وإلى الظلام تذهب. لقد بعت شفاء الأبرص، يكون البرص ميراثك. كأن إليشع يقول: إنني نفذت أمر القائل: "مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا" (مت 10: 8)، لكن أنت بعت هذه النعمة (المجانية). يقول إليشع: "ألم يذهب قلبي معك؟" (2 مل 5: 26) لقد كنت هنا محصورًا بالجسد، لكن الروح الذي أعطاني إياه الرب رأى الأمور البعيدة، وكشف لي بوضوح ما كان يحدث في موضع آخر. انظروا كيف أن الروح القدس ليس فقط ينزع الجهل، بل ويهب المعرفة؟! انظروا كيف ينير أرواح الناس؟![45] القديس كيرلس الأورشليمي * نعم، كان يليق بالرب أن يأتي لابسًا بشريتنا، ليغيِّر البشر، ويصالحهم مع أبيه. لقد جاء بلا سلاح وأخذ درع الإنسان الذي هو الجسد، وبه انطلق وصارع الموت وغلبة الموت. وهكذا بواسطة جسدٍ مائتٍ قتل عدوّنا، وبالجسد الذي كان سلاحًا للخطية دان الرب الخطية بالجسد (رو8: 3)! في الحقيقة إنّ الأعداء عندما يهجمون فجأةً يُجهِدون أنفسهم في هدم الأسوار بكل الأسلحة والمعدّات اللائقة بالحرب ضدّ المكان الذي يُهاجمونه، أي القاذفات وبقية آلات الحرب. هكذا قبض العدو على آدم الذي سقط تحت سلطانه مستخدمًا جسده كسلاحٍ ضدّه! وبهذه الطريقة أسر وسبى جميع البشر. ولكنّ المسيح جاء بالوسيلة عينها واتخذ الناسوت كسلاحٍ سحق وأباد به أسوار وحصون الشيطان وكل آلاته ومعدّاته الرهيبة التي نصبها ضدّ الإنسان كما هو مكتوب: "الليل (لديك) مثل النهار يُضيء، كالظلمة هكذا النور" (مز 139: 12)، أي أنّ الله يستخدم الظلمة كالنور، لأنه "كما في آدم هلك الجميع، هكذا في المسيح سيُحيا الجميع" (1 كو 15: 22)[46]. القديس مقاريوس الكبير * بلغني أن إنسانًا كسلانًا أخذ في حضنه الكتاب المقدس من الساعة السابعة (أي الواحدة بعد الظهر) حتى غروب الشمس، ولم يقدر أن يفتحه البتّة، وكأنه مربوط برصاص. لكن أنبا أنطونيوس فعل كما أظهر له الملاك: فتارةً كان يجلس ولعمله ممارسًا، وتارةً أخرى يقوم وللصلاة ملازمًا (وتارةً يجلس ولكلام الله قارئًا). وقد حظيَ باستنارة لدرجة أنه قال لأحد فلاسفة زمانه: ’يكفيني أن أتأمل في طبيعة المخلوقات دائمًا، وأتلو في أقوال الرب حتى ظلمة الليل‘. إلى هذا الحدّ كان يتصل بالله، وكان ليله يضيء كالنهار كما قيل: "الظلمة أيضًا لا تظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء" (مز139: 12). القديس نيلوس السينائي 3. الله صانعنا في الرحم لأَنَّكَ أَنْتَ اقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي [13]. خلال المعاملات مع الله أدرك المرتل أن الله ليس فقط عالم بكل شيءٍ، وحاضر في كل مكانٍ، وإنما أيضًا كلي القدرة، بقدرته خلق الإنسان وخلال محبته اللانهائية يود أن يعمل دومًا لبنيان مخلوقه المحبوب. كثيرًا ما يقف رجال الله في دهشة أمام الخالق العجيب في عمله حتى في الحَبَل بالإنسان وتكوين الجنين حتى يوم ميلاده، الأمور التي لم يكن العلم قد أمكنه تصوير تكوين الجنين ونموه، وحتى مع تقدم العلم تبقى معرفة الإنسان ورؤيته لهذا الأمر محدودة. ما كان يدهش له رجال العهد القديم كما عبَّروا عن ذلك، يتناغم مع الحكمة التي يكتشفها العلم باستمرار، والتي تمجد الخالق الكلي القدرة (راجع مز 22: 9-10؛ 71: 5-6؛ أي 10: 8-11؛ إش 49: 2؛ إر 1: 5). تشير الكلية إلى الشهوة، فاقتناء الرب لكليتي معناه إخضاع شهوتي مع أفكاري. ينتقل المرتل من الحديث عن الله بكونه الحاضر في كل مكانٍ إلى اهتمامه بالإنسان منذ بدء تكوينه في الرحم. كان "القلب" عند اليهود يشير إلى الأفكار، أما "الكليتان" فيشيران إلى العواطف والشهوات سواء المقدسة أو الشريرة. إن كان الحبل بالإنسان وتكوين الجنين ونموه تُعتبر أمورًا تفوق الفكر البشري مهما بلغ تقدم العلم، فكم بالأكثر الحبل بالمؤمن وتكوينه في مياه المعمودية، لكي ما يولد كابن لله الآب، وعضو في جسد المسيح، وهيكل للروح القدس! * المقتني (الله) في الداخل. إنه لا يشغل القلب وحده، بل والكليتين؛ ليس فقط الأفكار، بل وإلى المباهج[47]. القديس أغسطينوس * قد يقول شخص غبي: "وماذا يفيدني إن كان (الله) عظيمًا وصاحب سلطان وعالم بالغيب؟ أظهر لي أي نفع نناله من هذا؟" لذا يضيف: "لأنك تقود إنساني الداخلي يا رب"، مشيرًا إلى الشخص ككل بذكره للجزء (الكُلْية). إنه ليس بالأمر التافه الثقة في عنايته الإلهية، إننا نحن مِلكْ الله: فإن المالك يهتم ويعين. ولكي يشير إلى هذا يضيف الكلمات التالية: "اقتنيتني من بطن أمي". بمعنى أنك حفظتني في كل الأوقات، واهتممت بي، وجعلتني في أمانٍ منذ السنوات الأولى، وأنا في المهد، بالعمل علمتني ما أقوله[48]. القديس يوحنا الذهبي الفم * يقول داود: إذا نظرت إلى تكويني وطبيعتي كإنسان فإنني أتسأل ما هو مزيج القوى التي تحركني؟ (مز 139: 13-16). كيف يمتزج الخالد بالفاني؟ كيف أنحدر إلى أسفل، ومع ذلك أُرفع إلى فوق؟ ماذا يسبب عدم استقرار النفس؟ لماذا تعطي النفس (الروح) الحياة، ومع ذلك تشترك في الألم؟ كيف يكون العقل محدودًا وغير محدود في نفس الوقت، ويكون داخلنا ويطوف الكون بحركة سريعة؟ كيف يُنقل العقل عن طريق الكلام؟ كيف يتحرك في الهواء ويدخل مع الأشياء؟ كيف يشارك في الحس وفي نفس الوقت يعزل نفسه عن الحواس؟ وتوجد أسئلة أهم من ذلك. ماذا كانت أول مرحلة في عملية تشكيلنا وتجميعنا في مصنع الطبيعة؟ وما هي المرحلة النهائية في التشكيل؟ ما هو الدافع للحصول على الطعام والتزود به؟ ما هي الغريزة التي تهدينا إلى أول ينابيع ومواد الحياة (صدور الأمهات)؟ كيف يتغذى الجسم بالطعام، أما النفس فتتغذى بالكلمة؟ ما هي الجاذبية الطبيعية التي تربط الآباء والأبناء معًا؟ كيف تنتج اختلافات ثابتة في المظهر نتيجة لعدد كبير غير محدود من العوامل الخاصة؟ كيف يكون نفس الكائن الحي فانيًا وخالدًا معًا؟ يجعله تغيير حالته يموت وتجعله الولادة خالدًا، يموت ويرحل ثم يعود مرة أخرى، مثل مجرى النهر دائم التدفق. وتوجد الكثير من النواحي التي يمكن أن نفكر فيها من ناحية أطرافنا وأعضاء أجسامنا، وكيفية توافقها معًا وتناسقها، كيف تتباعد، ولكن تعمل معًا كعضوٍ واحدٍ، وكيف يحتوي بعضها على البعض الآخر، وكل ذلك بتنسيق داخلي في طبيعتها. ويوجد الكثير من الحقائق عن الكلام والسمع، كيفية إخراج الأصوات بواسطة الأحبال الصوتية واستقبالها بواسطة الأذن. وانتقال الأصوات للآذان عن طريق الهواء الممتد بين مصدر الصوت والأذن. كما أنه يوجد الكثير من الحقائق عن البصر، واتصاله الغامض بالأشياء، فإن البصر لا يتم توجيهه إلا بالإرادة. وكما يتحرك البصر مع الإرادة يحدث نفس الشيء مع العقل، فإن البصر يقع على المنظورات بنفس السرعة التي يمتزج بها العقل بالأفكار. وتوجد حقائق كثيرة عن باقي الحواس التي تستقبل مؤثرات خارجية لا تراها عين العقل، توجد حقائق عن الراحة في النوم وعن عمل الخيال في الأحلام، وعن الذاكرة والذكريات، والغضب والرغبة. باختصار عن كل ما يُسيِّر أمور هذا العالم الصغير الذي نسميه الإنسان[49]. القديس غريغوريوس النزينزي * يعيننا الربُ حينما يخلقنا، فهو يعضدنا حينما يأمر بولادتنا. ومن ثم يقول البار: "عضدتني من بطن أمي" (مز 139: 13LXX)، أي من الرحمِ. ماذا يقصد "قبلما صورتُك في البطن عرفتك" (إر 1: 5)، فالذين يخلقهم الربُ يعينهم أيضًا. يعينهم حتى في ميلادهم، "وقبلما خرجتَ من الرحم قدستُك" (إر 1: 5). هو معيننا، لأنه عضدَنَا بيديه. ويُدعى معينًا كخالق للجنسِ البشرى. وهو معيننا، لأنه عضدَنَا بافتقادِه، ليحمينا. وعلى هذا الأساس، يقول المرتل نفسه في نصٍ لاحق "الساكنُ في سِتر العلى، يقول للرب: أنت معيني وملجأي (حصني)" (مز 91 :1). فأول عونٍ هو في عمل اللهِ فينا. والثاني في حمايتنا. اسمعوا حقًا موسى يقول: "باسطًا جناحيه قبلهم، وأعانهم على كتفيه". (تث 32: 11 LXX). أعانهم كالنسر المعتادِ على فحص نسله ليحفظه ويأتي بمن لاحظ أنهم يملكون مزايا لنسلٍ حقيقي، وهبة العهد الصحيح، ويرفض الذين يجد فيهم ضعفًا في أصلِ سلالتهم في سنهم المبكرة[50]. القديس أمبروسيوس أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذَلِكَ يَقِينًا [14]. أعمال الله عجيبة في خلقة الجنين منذ بدء تكوينه إلى اكتمال نموه وولادته. يتكون من 60 تريليون خلية، مئة ألف ميل من ألياف الأعصاب، و60 ألف ميل من الشرايين والأوردة الحاملة للدم و250 عظمة الخ[51]. يصف المرتل تكوين الجنين بإبداع في الإتقان والجمال. كل عضو هو من عمل الفنان الإلهي العجيب. لنذكر كمثالٍ المخ وقدرته على تسجيل الأحداث والأصوات والألوان والروائح والذاكرة الخ. وقدرته على أخذ قرارات سريعة وإبلاغ أعضاء الجسم الأخرى لتتحرك معًا في تناغم وانسجام. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: كيف يقول المرتل إن نفسه تعرف ذلك يقينًا، بينما يقول في نفس المزمور إنه لا يعرف الله كما هو؟ يجيب إنه يعرف يقينًا أن الله عظيم وسامٍ فوق كل فهمٍ وإدراكٍ. معرفتنا اليقينية عن الله تؤكد لنا جهلنا لأسرار طبيعته وإدراك جوهره، وجهلنا يسندنا على الشهادة بمعرفته. * "أعترف لك، لأنك تصنع عجائب برهبةٍ، عجيبة هي أعمالك. ونفسي تعرف ذلك يقينًا". عن ماذا يتكلم؟ يقول: لقد خلقتني، لكنني لا أعرف كيف خلقتني. أنت تعتني بي، لكن بعقلي لا أستطيع أن أدرك العناية الإلهية ككلٍ في وقتٍ واحدٍ. أنت حاضر في كل مكان، لكنني لا أفهم ذلك. أنت تعرف المستقبل مقدمًا، والماضي، وأسرار عقولنا؛ حتى هذا لا أستطيع إدراكه بعقلي. أقصد أنك تغير طبيعة الأشياء، وتجعل من الأشياء الباقية كما هي تحمل سمات مضادة، وتجعل من هذه السمات المضادة كأنها أصيلة وطبيعية. إذ يجتمع (المرتل) هذا كله معًا، يُصدر صرخة عظيمة... ويقول: "اعترف لك، لأنك تصنع عجائب برهبةٍ". بمعنى أنك عجيب في المظهر، وعجيب في الكيان. "عجيبة هي أعمالك، ونفسي تعرف ذلك يقينًا". يقول: لماذا أتكلم عنك، إن كان في أي الأحوال ما تفعله هو مملوء عجبًا[52]. القديس يوحنا الذهبي الفم * التطلع إلى السماء والأرض لا يجعلنا نعرف الله أفضل من الدراسة الجادة لوجودنا. يقول النبي: إنني بمهابة وعجب قد خُلقت، بمعنى إنني إذ ألاحظ نفسي أعرف حكمتك غير المحدودة[53]. القديس باسيليوس الكبير * من أين تعرف نفسي ذلك يقينًا إلا لأن الليل هو نور في مسرتي؟ إلا لأن نعمتك حلت عليّ وأنارت ظلمتي؟ إلا لأنك اقتنيت كليتي؟ إلا لأنك رفعتي من بطن أمن؟[54] القديس أغسطينوس * أنصحك بفحص العجائب الكثيرة التي في جسمك. فصحيح إنك كائن صغير، لكنك عالم كبير. وفي هذا المعنى قال داود النبي: "إن أعمالك معجزات، ونفسي عالمة بذلك أي علم" (مز 139: 14). إنّ معرفة دقيقة لجسم الإنسان تقود حتمًا إلى معرفة الكائن العظيم الذي خلقه[55]. القديس باسيليوس الكبير لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي، حِينَمَا صُنِعْتُ فِي الْخَفَاءِ، وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ الأَرْضِ [15]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: لم يختفِ عنك عظمي الذي صنعته في الخفاء، وشخصي في أسافل الأرض". لاحظ إذ يتحدث المرتل عن عمل الله بالنسبة لتكوين الجنين يتحدث عن نفسه، فيقول على سبيل المثال: "عظامي". يؤكد المرتل معرفة الله له الدقيقة والعجيبة منذ اللحظة الأولى لبدء خلقته، حين كان يتكون في الرحم خفية كمن هو في أعماق الأرض لا يراه أحد. لا يقدر الإنسان أن يعرف كيف يتكون عظام الجنين في رحم أمه، ولا حال الإنسان نفسًا وجسدًا بعد دفنه في القبر. يرى القديس أغسطينوس أن العظام هنا تشير إلى قوة النفس وثباتها. فإن الله يهب المؤمنين قوة الصبر، فلا تنكسر قوتهم أمام ثورة الخصوم المحيطين به. * ما هو المدهش في أن يكون ملاك شجاعًا؟ لكنه لأمر عظيم أن يكون الجسد شجاعًا. من أين يأتي الجسد بالشجاعة، بينما هو إناء أرضي، إلا لأن فيه عظم صُنع سرًا؟[56] القديس أغسطينوس * مرة أخرى يتحدث عن المعرفة، ويظهر الله أنه يعرف كل هذه الأشياء... إنك تدرك خلقتي بدقة، جزءًا فجزءًا، وتعرفني حتى في أقل أعضائي، وفي نموي. وكما يقول المسيح: "شعور رؤوسكم محصاة"[57]. القديس يوحنا الذهبي الفم رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا [16]. عندما كان داود النبي جنينًا في رحم أمه لم يكتمل بعد شكله، إنما كان في المراحل الأولى لوجوده رأى الله مرنم إسرائيل الحلو[58]. وفي كتاب الله كانت كل أيام حياة داود، وذلك بواسطة الفنان الإلهي قبل أن يُعلن عن مجيء داود بالصرخة الأولى عند ولادته[59]. تطلع إليّ الله وأنا جنين لم اكتمل، ورآني تمامًا كما لو كانت خلقتي قد اكتملت. رآني وأنا أنمو يومًا فيومًا، ولم يفلت يوم من أمام عيني إلهي. هكذا يشعر المرتل كيف يهتم الله بكل كبيرة وصغيرة في حياة الإنسان، لأنه المحبوب والثمين جدًا في عينيه. جاءت الترجمة عن القديس أغسطينوس: "رأت عيناك ما هو غير كامل فيّ، وفي كتابك كلها تكتب"، ويعلق عليها قائلًا: * (رأت عيناك) ليس فقط ما هو كامل، بل وما هو ناقص. ليت غير الكاملين لا يخافون، بل يتقدمون. ليس لأني قلت أنهم لا يخافون، أن يحبوا النقص، ويستمروا فيه... ليتهم يتقدمون ما استطاعوا. ليتهم في كل يوم ينالون إضافة، ليتهم يقتربون كل يوم ولا يسقطون من جسد الرب؛ أي لينضموا في الجسد الواحد بين الأعضاء الأخرى، فيحسبوا أهلًا أن ينالوا ما يُقال لهم[60]. القديس أغسطينوس * "رأت عيناك شخصي قبل أن أكتمل"... أنت تعرفني حينما لم أكن قد تشَّكلت بعد... عيناك نظرتني بوضوح كما لو كنت قد تشَّكلت وخُلقت بالكامل وليس كمن لم يكتمل بعد[61]. القديس يوحنا الذهبي الفم مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اللهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا! [17] جاءت الترجمة عن السبعينية والقبطية: "وأنا لقد أكرم عليّ أصفياؤك جدًا يا الله، واعتزت رئاستهم جدًا". يكرَّم المرتل أصفياء الله الذين يعملون بكل وسيلة مقدسة لحساب ملكوت الله، ويخدمون كنيسته المقدسة. يفكر المرتل في خطة الله ورعايته لروحه ونفسه وجسده. وكما يقول Andrew Ivy إن كل خلية من خلايا جسمه دون أدنى استثناء تعرف ما هو دورها لتحقق الغاية منها لصالح الجسد ككلٍ[62]. * لقد تم أيضًا إضافة الأرجوان مع الذهب والإسمانجوني، وهذا يشير إلى أنه بينما يتأمل قلب الكاهن في الأمور التي يعظ بها، يجب عليه أن يميت كل الرغبات الشريرة مهما كانت ضعيفة ويصدها بقوة، ناظرًا إلى داخله المتجدد، ومحصنًا حقه في الملكوت السماوي بسلوكه في هذه الحياة. ولقد كان بطرس الرسول يعنى هذا السمو الروحي عندما قال: "وأما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي". (1 بط 2: 9) أما عن القوة التي بها يمكنه أن يتغلب على الخطية، فيقول يوحنا الحبيب معضدًا الرعاة، ومعزيًا إياهم: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله". (يو 1: 12) ولقد تأمل صاحب المزامير في هذه القوة حين قال: "ما أكرم أفكارك يا الله عندي! ما أكثر جملتها!" (مز 139: 17) فبالحق عندما يُحتقر القديسون في عيون الناس ترتفع عقولهم إلى أعلى المراتب[63]. الأب غريغوريوس (الكبير) إِنْ أُحْصِهَا، فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الرَّمْلِ. اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكَ [18]. يستحيل على إنسان ما أن يحصي الرمل، هكذا يستحيل إحصاء العاملين في كرم الرب بإخلاص. كثيرون لا يعرفهم أحد سوى الله العارف القلوب والخفايا. ربما يقصد بقوله: "استيقظت" لحظة ميلاده، ففي العبارات السابقة [13-18] يؤكد أن الله وحده كان قريبًا منه خلال التسعة شهور قبل ميلاده. أما بعد ميلاده، فالصورة اختلفت تمامًا، لكن يبقى الله هو معينه والمحامي عنه ومرشده. يتحدث عن لحظة ميلاده أنها لحظة استيقاظه، فإنها اللحظة الأولى التي فيها يرى نور النهار[64]. * كثيرةٌ هي الأمور التي تغلي في قلبك، وهي تقول: "إن أحصها، فهي أكثر من الرمل" (مز 139: 18). أيها الأخ، لا يعلم أحد ما سيصل إليه حالٍ هذا المكان إلاّ "الله العارف القلوب" (أع 15: 8)، وهو قد أكّد لي (اهتمامه به). إذن، ضع في قلبك أنّ الرب لن ينبذه، بل احفظ ذلك وبجِّله لمجد اسمه المجيد، الذي له المجد إلى الأبد. ومن الآن فصاعدًا كُنْ حُرًّا من الهمّ وعِش في هدوءٍ، لأنّ كل الأمور تأتي في ميعادها وترتيبها. القديس برصنوفيوس 4. الله حاميه من الأشرار لَيْتَكَ تَقْتُلُ الأَشْرَارَ يَا اللهُ. فَيَا رِجَالَ الدِّمَاءِ ابْعُدُوا عَنِّي [19]. بعد أن تحدث عن رعاية الله منذ اللحظة الأولى لتكوينه في رحم يوم ميلاده، ينتقل المرتل إلى الأشرار المقاومين لله، رجال الدماء، والذين يستحقون العقوبة. * هذا ما يسأله (المرتل) أن يحدث، لا أن يهلك وجود الناس وإنما أن يغَّيرهم من الخطية إلى البرّ[65]. القديس يوحنا الذهبي الفم الَّذِينَ يُكَلِّمُونَكَ بِالْمَكْرِ، نَاطِقِينَ بِالْكَذِبِ هُمْ أَعْدَاؤُكَ [20]. أَلاَ أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ، وَأَمْقُتُ مُقَاوِمِيكَ [21]. لا يحمل داود النبي كراهية شخصية، ولا رغبة في الانتقام من أشخاص دفاعًا عن شخصه، إنما لا يطيق الشر، بل يبغضه، وإن كان يطلب خلاص الأشرار بتوبتهم ورجوعهم إلى المخلص الذي ينتظرهم، بل يسعى ليعمل بروحه القدوس فيهم، دون إلزام من جانبه. * لذلك عندما يرتبط داود تمامًا بعهد سلام الروح، يشهد بأنه ليس على توافق مع الأشرار إذ يقول: "ألا أبغض مبغضيك يا رب، وأمقت مقاوميك؟ بغضًا تامًا أبغضتهم. صاروا لي أعداء" (مز 139: 21-22). يتضح هنا أن بُغْضْ أعداء الله بغضًا تامًا يعني أن نحب أشخاصهم لكننا نوبخ أفعالهم، نوبخ سلوكهم الشرير حتى نكون ذوي نفع لهم[66]. الأب غريغوريوس (الكبير) * لنكره هؤلاء (الهراطقة) المستحقين للكراهية، ولنبتعد عن هؤلاء الذين يبتعد الرب عنهم، ولنقل نحن أيضًا بكل شجاعةٍ إلى الله عن الهراطقة، "ألاّ أبغض مبغضيك يا رب وأمقت مقاوميك؟!" (مز 139: 21) لأنه توجد عداوة حقيقية، إذ مكتوب "سأضع عداوة بينك وبين نسلها" (تك 3: 15)، لأن الصداقة مع الحيّة تصنع عداوة مع الله وتوجد موتًا![67] القديس كيرلس الأورشليمي بُغْضًا تَامًّا أَبْغَضْتُهُمْ. صَارُوا لِي أَعْدَاءً [22]. العداوة هنا ضد الشر لا الأشرار، أو كما يقول القديس أغسطينوس نحب خليقة الله، ونبغض ما هو غريب عنها. هنا يعلن المرتل عن بغضه للشر، ليس خوفًا من نتائج الشر، إنما لأنه لا يطيق الشر. بحبه لله القدوس يكره الشر كعدوٍ. * ماذا يعني "بغضًا كاملًا (تامًا)؟ إني أبغض فيهم آثامهم، وأحب خلقتهم. هذا هو معنى أن تبغض بغضًا كاملًا. فليس من أجل الرذائل تكره البشر، ولا من أجل البشر تحب الرذائل. انظروا ماذا يكمل: "صاروا لي أعداء"، ليس فقط من أجل أنهم أعداء الله، وإنما من أجله نفسه أيضًا، (إذ لا يطيق الشر)[68]. القديس أغسطينوس * يليق بالإنسان أن يشتهي التحرر من الرذيلة، ليس هربًا من آثارها، وإنما لأنه يبغضها حسب ما ورد في الأسفار المقدسة[69]. * الروح القدس غير محدود في مكانٍ، بل هو حاضر في كل مكانٍ وروح مطلق، سكب ذاته في عقول التلاميذ بالرغم من وجوده في أقاليم مختلفة وأماكن بعيدة وأصقاع منفصلة في العالم كله، ولا يمكن لشيءٍ ما أن يهرب منه أو يخدعه[70]. القديس أمبروسيوس 5. اختبرني يا الله اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ، وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي، وَاعْرِفْ أَفْكَارِي [23]. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا [24]. يؤكد المرتل أن ما فيه من بغضه ليس طريقًا باطلًا، لأنه لا يكره إنسانًا، بل يشتهي أن يتمتع الكل بالحياة الأبدية، ويسلك الكل في المسيح بكونه الطريق الأبدي. من وحي المزمور 139 لألتقِ بك، فأتعرف على نورك! * لألتقِ بك، فتشرق بنور معرفتك في داخلي. تتهلل نفسي، إذ أراك مشغولًا بي. تعرف سقطاتي لكي تقيمني، وتعرف قيامي لكي أثبت في نعمتك. تعرف أفكاري لكي تقدسها. تعرف كلماتي كما أعمالي، فتوَّجه كل حياتي! تعرف أعماقي أكثر مما أعرفه أنا عن نفسي! تعرفني لا لكي تدينني، بل لكي تحييني فيك! تعرفني، فأدرك حبك، وأتعرف عليك. * لألتقِ بك، فأدرك حضورك في كل مكان. أدرك سكناك في داخلي. وأتمتع بروحك الناري يلهب أعماقي. لأهرب إليك، وأختفي فيك. تحول ظلمتي إلى نورٍ مشرقٍ. وتملأ قلبي بقوة قيامتك، فأستعذب الصلب معك! * لألتقِ بك يا خالقي القدير! كونتني وأنا بعد جنين. نسجتني في بطن أمي. أرى حتى في جسدي أعمالك العجيبة! أتيت بي من العدم. وعندما هويت إلى الأعماق، رفعتني بقوة صليبك! * نقشت اسمي على كفك، سجلته في سفر الحياة. تُعد لي مكانًا في الأحضان الإلهية، وتدخل بي إلى المقادس السماوية. * مشغول بي في سماواتك، كأنه ليس في الخليقة آخر غيري! عجيب في حبك وخلاصك! مع كل صباح، تلهب قلبي نحو القداسة. تعدَّني لكي التقي بك وجهًا لوجه، أحيا في مقادسك معك يا أيها القدوس! * أشكرك، لأنك تمرر الخطية في فمي. لن أطيقها، ولن استعذب ملذاتها. لست أخشى عواقبها، إنما أريد أن أكون أيقونة لك أيها القدوس. إني أبغض ما أنت تبغضه، وأرفض عدو الخير وكل أعماله! انتزعني من فمه الدنس، فإنه يطلبني مأكلًا له. وانتزع الخطية من فمي وقلبي. لأتمتع بمائدة السماء، وأنعم بطعام الملائكة! |
|