رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تعليم السيد المسيح عن العطاء مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ هذه العبارة الجميلة قالها الرب يسوع المسيح أثناء خدمته على الأرض، ولكن لم يكتبها الإنجيليون الأربعة بل ذكرها القديس بولس الرسول إذ قال: "متذكرين كلمات الرب يسوع المسيح أنه قال: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع20: 35). وهذه العبارة بالصورة التي دونت بها؛ تدل على أن الأناجيل الأربعة الإنجيل لم تذكر كل كلام السيد المسيح، ولكن كان هناك تقليدًا شفاهيًا تناقله التلاميذ وصار مشهورًا بينهم. ومن المعلوم طبعًا أنه لم يكن من السهل تدوين كل كلمة قالها السيد المسيح على مدى ثلاث سنين وأربعة أشهر. ولكن الأناجيل ذكرت أقوالًا منتقاة بحسب حكمة إلهية في إلهام كُتَّاب الأناجيل لتدوين ما كتبوه في أناجيلهم الأربعة. وبالنسبة لمعجزات السيد المسيح فهي أيضًا لم تسجل كلها في الأناجيل الأربعة. ولذلك قال القديس يوحنا في الأصحاح قبل الأخير من إنجيله: "وآيات أُخر كثيرة صنعَ يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب" (يو20: 30). وكذلك قال في الأصحاح الأخير: "وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع إن كُتبت واحدةً واحدةً فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (يو21: 25). لقد أرشد الروح القدس كُتّاب الأناجيل في اختيار ما ذكروه من المعجزات لحكمة إلهية معينة. حول العطاء لقد أوصى السيد المسيح في تعاليمه بعدم محبة المال. وأوضح أنه من العسير أن يخدم الإنسان الله والمال. وكذلك أوصى بالعطاء بلا حدود في قوله: "من سألك فاعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده" (مت5: 42). وكذلك في قوله: "من سخرك ميلًا واحدًا فاذهب معه اثنين" (مت 5: 41). وأوصى بالعطاء بلا مقابل فقال "أقرضوا وأنتم لا ترجون شيئًا" (لو6: 35). ووعد السيد المسيح بمجازاة من يتنازل عن ممتلكاته فقال: "كل من ترك بيوتًا أو.. أو حقولًا من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية" (مت 19: 29). وقيل عن السيد المسيح إنه يحب المعطى المسرور "المعطى المسرور يحبه الله" (2كو9: 7). وفى قول السيد المسيح: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع20: 35) تحذير من الأنانية، ومن محبة النصيب الأعظم، ومن محبة العالم كقول القديس يوحنا الرسول: "إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب" (1يو2: 15). وكذلك في قول السيد المسيح ترغيب في العطاء الذي يجلب السعادة الروحية للمعطى إذ أنه يتشبه بالله في عطائه. الله الذي وهب الخليقة نعمة الوجود، والذي منح الإنسان نعمة العقل والنطق والخلود، والذي يفتح يمينه ويشبع كل حي غنى من رضاه، والذي سعى في طلب الضال وتعب من أجل خلاصه، ومنحه نعمة النجاة، ويقوده بروح قدسه حتى يحصل على الحياة. حقًا إن من يعطى بمحبة وسرور وسخاء يصير شبيهًا بالله. بولس الرسول وكلمات الرب إن بولس الرسول لم يكن قد آمن بالسيد المسيح حينما صعد السيد المسيح إلى السماء. وبهذا لا يكون قد استمع بنفسه إلى تعاليمه الإلهية أثناء وجوده على الأرض. ولكنه كان بالطبع يصغى بشغف -بعد أن آمن- لكل ما حكاه الذين عاصروا هذه التعاليم. وقد تأثر كثيرًا حينما سمع هذه العبارة نقلًا عن السيد المسيح أنه "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ". عاش بولس الرسول بهذا المنهج وقال: "حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان" (أع20: 34). وقال أيضًا: "فضة أو ذهب أو لباس أحد لم أشته" (أع20: 33). كان معلمنا بولس الرسول كم وينبوع من العطاء الذي لا يتوقف وكان يقول عن نفسه وعن الآباء الرسل: "كفقراء ونحن نغنى كثيرين. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2كو6: 10). كان لا يبخل بمحبته على أحد.. بل كان عجيبًا في محبته حينما قال لأهل كورنثوس "كلما أحبكم أكثر أُحَب أقل" (2كو12: 15). أي أنه كلما زاد في محبته لهم كانت محبته المتزايدة تُقابَل بحب أقل منهم، لأنهم لم يدركوا أبعاد هذه المحبة التي كانت تتجه أحيانًا نحو النصح، وأحيانًا نحو التأديب، من أجل خيرهم وخلاص أنفسهم. ولكنه على العموم لم يكن يبالى بردود الفعل في مقابل محبته، لأنها محبة لم يمكنها إلا أن تحب، ولا تتوقف عن الحب. هناك أشخاصٌ يتوقفون عن المحبة إذا لم تُقابَل محبتهم بالعرفان. ولكن حتى الحب ينطبق عليه كلمات الرب يسوع التي قالها "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ". ألم يكن هو أيضًا الذي قال: "إن أحببتم الذين يحبونكم في أجر لكم، أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك..؟! فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (مت5: 46-48). فلسَي الأرملة إنها قصة عجيبة حدثت في وجود الرب يسوع في الهيكل: جاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع. فدعا تلاميذه وقال لهم: "الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة. لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل ما عندها، كل معيشتها" (مر12: 42- 44) والأسئلة التي قد تتبادر إلى الذهن عند قراءة هذه الواقعة المؤثرة هي كما يلي: أولًا: كيف تتبرع أرملة فقيرة في خزانة بيت الرب وهى تحتاج إلى مساعدة؟! ثانيًا: كيف تتبرع بكل ما عندها، كل معيشتها. مع أن الناموس طالبها بالعشور فقط؟! ثالثًا: لماذا سمح السيد المسيح لهذه الأرملة أن تفعل ذلك، ثم تخرج وليس معها ما تقتات به وهى أرملة فقيرة؟! رابعًا: لماذا لم يأمر تلاميذه بمنحها مبلغًا من المال لمساعدتها بعد أن صارت لا تملك شيئًا بل "ألقت كل ما عندها، كل معيشتها" (مر12: 44)؟ إن القصة قد بدأت هكذا: "جلس يسوع تجاه الخزانة ونظر كيف يلقى الجمع نحاسًا في الخزانة. وكان أغنياء كثيرون يلقون كثيرًا فجاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع" (مر12: 41، 42). أراد السيد المسيح أن يلقن تلاميذه درسًا في العطاء، وأن يعطيهم فكرة عن مقاييسه التي تختلف عن مقاييس عامة البشر. أراد أن يفهموا أن قيمة عمل الإنسان في نظره لا تتوقف على حجم هذا العمل، ولكن على المشاعر والدوافع التي تقترن به، وأن كل فضيلة تخلو من الحب والاتضاع لا تحسب فضيلة عند الله. لاشك أن هذه الأرملة قد امتلأ قلبها بمحبة الله ولهذا أعطت كل ما عندها، كل معيشتها،وبالفعل عاشت الوصية التي تقول "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك" (مت22: 37). وفى تواضعها لم تخجل من أن تضع قدر ضئيل جدًا من المال في وسط الأغنياء الذين يملكون الكثير ووضعوا نقودًا كثيرة. لقد عرَّضتْ نفسها لسخرية واحتقار الآخرين، ولكن دافع الحب عندها جعلها تقدم أقصى ما عندها حتى ولو بدا ضئيلًا في أعين الآخرين. لقد عاشت هذه المرأة الوصية بغض النظر عن حالتها الشخصية، فبالرغم من فقرها الشديد، إلا أنها أرادت أن تنال بركة العطاء وتقديم العشور؛ ولكن ماذا تكون عشورها..؟! ربما لا توجد عُملة متاحة من النقود تساوى عُشر الفلسين وحتى لو وُجدت فإنها أرادت أن تقدم تكريمًا لرب الجنود يتخطى الحد الأدنى للعطاء وهو العشور.. لذلك "ألقت كل ما عندها، كل معيشتها" (مر12: 44)، ولسان حالها يقول: (اقبل يا رب تقدمتي المتواضعة التي لا تليق بجلالك.. ولكن هذا هو كل ما عندي). موقف السيد المسيح كان عطاء هذه المرأة عظيمًا جدًا في عيني الرب لذلك لم يعترضها ولم يمنعها ولم يجرح مشاعرها بأن يمنحها صدقة في ذلك التوقيت بالذات.. كانت الملائكة تسبح بتسابيح البركة وكان المشهد عظيمًا اهتزت له أعتاب السماء على مثال سلم يعقوب حاضرًا بملائكته الأطهار صاعدين ونازلين وسجّل الإنجيل المقدس هذا المشهد العجيب ليكون عبرة للكنيسة في جميع الأجيال. إنها أنشودة حب ابتهج لها قلب السيد المسيح وأراد أن يلفت أنظار تلاميذه ليقفوا مبهورين أمام هذا المشهد العظيم الذي كان حضوره فيه هو مصدر جلاله وعظمته. وخرجت الأرملة الفقيرة بكل وقار القداسة، محاطة بجماهير الملائكة الذين اجتذبهم حب هذه المرأة وتواضعها. إن هذه الأرملة الفقيرة التي كانت غنية بمحبتها وتواضعها هي رمز للكنيسة التي ترملت بعد خروجها من الفردوس وقال لها الرب بفم إشعياء النبي: "لا تخافي لأنك لا تخزين. ولا تخجلي لأنك لا تستحين. فإنك تنسين خزي صباك وعار ترملك لا تذكرينه بعد. لأن بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه ووليك قدوس إسرائيل إله كل الأرض يُدعى. لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب، وكزوجة الصبا إذا رذلت قال إلهك. لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهى عنك لحظة، وبإحسان أبدى أرحمك قال وليّك الرب" (إش54: 4-8). لاشك أن الرب قد أحسن كثيرًا إلى هذه المرأة الأرملة الفقيرة بعد خروجها من الهيكل وتولاها بعنايته بعد أن قدّمت له كل ما عندها.. كل معيشتها. وهكذا أيضًا الكنيسة من خلال القديسة مريم العذراء قد قدّمت كل ما عندها بكل الحب والاتضاع، جسدًا وروحًا إنسانيًا عاقلًا اتخذه الرب ناسوتًا كاملًا من العذراء مريم ليدخل به مع البشرية في عهد جديد. وكان الجسد والروح الإنساني اللذين اتخذهما الرب هو ما يرمز إليه فلسَي الأرملة اللذان لهما أعظم قيمة في عيني الرب "ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة" (مر12: 43). وهكذا نسمع الرب يقول هذه الأنشودة الشعرية بفم إشعياء النبي: "أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية: هأنذا أبنى بالأثمد حجارتك وبالياقوت الأزرق أؤسسك وأجعل شُرفك ياقوتًا وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيرًا" (إش54: 11- 13). بعد ميلاد الرب البتولي من العذراء مريم بفعل الروح القدس، صار السيد المسيح هو كل ما عندها، كل معيشتها. وليس للعذراء مريم فقط بل للكنيسة كلها، كان السيد المسيح هو كل ما عندها، كل معيشتها كما نقول في أوشية الإنجيل (لأنك أنت هو حياتنا كلنا). وجاء يوم الفداء وقدّمت العذراء مريم راضيةً على الصليب ابنها الوحيد ناسوتيًا، وقدّمت الكنيسة كل ما عندها، كل معيشتها في خزانة الرب.. وقَبِلَ الآب تقدمة البشرية إليه، التي هي نفسها عطية الآب للبشرية.. وكانت أعظم تقدمة.. وكان سلم يعقوب.. وكان رضى الآب. |
|