تعليم السيد المسيح عن الجهاد الروحي
الحواس الخمس
الخمس عذارى في مثل العرس تشير إلى حواس الإنسان.
فكما أن للإنسان حواسًا جسدية، هكذا لديه حواس روحية مُناظرة لها.
وبالصوم والصلاة يتفرغ الإنسان لكي تنمو فيه قوة الحواس الروحية، وتمتلئ آنيته من زيت النعمة وفعل الروح القدس ومحبة الله الغنية.
فى الصوم والصلاة والتأمل في كلام الله بقيادة الروح القدس، تنمو روحيات الإنسان، ويتقوى بالروح، ويصير الروح قادرًا أن يقود الجسد.
وكما قال الكتاب "إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون" (رو8: 13).
وكما قال قداسة البابا شنودة الثالث: إن روح الإنسان تقود الجسد، وروح الله يقود روح الإنسان، فمن له شركة الروح القدس يستطيع أن يحيا بالروح، وينقاد بالروح، وتتقدس مسيرة حياته وأفعال جسده.
فحينما يأكل الإنسان طعام الجسد -منقادًا بالروح- فإنه يأكل لمجد الله "إذا كنتم تأكلون، أو تشربون، أو تفعلون شيئًا، فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1كو10: 31).
لذلك فبعدما أكمل إبليس كل تجربة، وأكمل السيد المسيح صومه عنا معلمًا إيانا.. "إذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" (مت4: 11).. وأنهى صومه بطعام أعدته له الملائكة.. فيا له من منظر رائع يفوق العقول!!
وقال السيد المسيح: "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو3: 6).
فالإنسان الجسداني تقوى عنده الحواس الجسدية وتقود حياته، والإنسان الروحاني تقوى عنده الحواس الروحية وتقود حياته.
فحاسة السمع الروحية مثلًا تجعل الإنسان قادرًا على سماع صوت الله بوضوح، مثلما قال السيد المسيح: "والخراف تسمع صوته" (يو10: 3).
وقال أيضًا: "كل من هو من الحق يسمع صوتي" (يو18: 37).
وعن ذلك يقول المزمور: "إني أسمع ما يتكلم به الرب الإله لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولقديسيه وللذين رجعوا إليه من كل قلوبهم" (مز84: 8). الإنسان الروحي يسمع صوت الإله واضحًا في حياته. يسمع وصايا السيد المسيح ويفهمها. يسمع صوت الروح وينقاد لهذا الصوت في داخله لأن "الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رو8: 14).
نأخذ مثلًا التليفون اللاسلكي، لكل جهاز مدى للاستقبال، لا يستطيع بعده أن يلتقط موجات الإرسال. فكلما قويت حاسة السمع الروحية في الإنسان كلما ازداد صوت الله وضوحًا في عقله، وقلبه، وحياته.
وجهاز التليفون اللاسلكي يحتاج إلى شحن للبطاريات لكي يكون قادرًا على استقبال الموجات اللاسلكية، هكذا أيضًا يحتاج الإنسان الروحي إلى شحنة روحية، بأن يمتلئ من الروح القدس لكي يصير له القدرة على الاستماع إلى صوت الله.
والامتلاء من الروح القدس يتم بممارسة الوسائط الروحية مثل ممارسة التوبة والاعتراف والتناول من الأسرار المقدسة. وكذلك ممارسة الجهادات الروحية باتضاع مثل الصوم والصلاة واحتمال الضيق والمشقات والآلام، مثلما قال القديس بطرس الرسول: "كما اشتركتم في آلام المسيح افرحوا. لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضًا مبتهجين. إن عُيّرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم" (1بط4: 13، 14).
إن من يحتمل الآلام من أجل المسيح يصير أهلًا لأن يحل عليه "روح المجد والله".
ممارسة الحياة الروحية والمواظبة على العبادة بحرارة والصلوات المتواصلة من قلب خاشع تؤهّل الإنسان للامتلاء من الروح القدس.
قراءة الأسفار المقدسة بروح الصلاة والتأمل والشوق الحار لمعرفة الله تؤهّل الإنسان للامتلاء من الروح القدس. لهذا نقف بخشوع في الكنيسة أثناء قراءة الإنجيل المقدس لكي نؤهّل لهذا الامتلاء، وتغتذي أرواحنا بكلمات الإنجيل وتتقوّى حاسة السمع الروحية فينا.
كيف توجد الحواس الروحية في الإنسان؟
هذا الأمر شرحه السيد المسيح لنيقوديموس حينما قال له: "إن كان أحد لا يولد من فوق (من الماء والروح) لا يقدر أن يرى (يدخل) ملكوت الله" (يو3: 3، 5). بمعنى أن الروح القدس يخلق فينا في المعمودية حواسًا خمس روحية تؤهلنا لميراث الحياة الأبدية. ومن ضمن هذه الحواس الخمس الروحية حاسة النظر التي يمكن للإنسان بها أن يعاين ملكوت الله. لهذا قال معلمنا بولس الرسول: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (2كو5: 17). إن الروح القدس يخلق فينا بالفعل هذه الحواس وينميها بعد ذلك بوسائط النعمة الروحية.
العذارى الحكيمات
الحواس الخمس الروحية المنيرة ترمز إلى مصابيح الخمس عذارى الحكيمات. والآنية الممتلئة من الزيت ترمز إلى امتلاء قلب الإنسان من الروح القدس. حيث ينير الروح القدس الحواس. مثلما قال السيد المسيح: "إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّرًا" (مت6: 22)،فالحواس التي يعمل فيها الروح القدس تجعل الجسد مقدسًا منيرًا خاليًا من شوائب الخطية وظلمتها.
لذلك قيل عن الأبرار: "حينئذٍ يضئ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت13: 43).
اليد اليمنى لها خمسة أصابع، وأصحاب الحواس الخمس الروحية المنيرة سوف يكون نصيبهم عن يمين الملك المسيح. إذ يقيم الخراف عن يمينه.
واليد اليسرى لها خمسة أصابع، وأصحاب الحواس الخمس المظلمة سوف يكون نصيبهم عن يسار الملك المسيح. إذ يقيم الجداء عن يساره.
هذه الحواس الخمس عمومًا هي البصر، والسمع، والشم، واللمس، والتذوق.
1- حاسة البصر الروحية يستطيع الإنسان الروحي أن يعاين بها ملكوت الله.
2- وحاسة السمع الروحية يستطيع الإنسان الروحي أن يستمع بها إلى صوت الله، وإلى تسابيح السمائيين.
3- وحاسة الشم الروحية يستطيع الإنسان الروحي أن يستنشق بها ويشم رائحة المسيح الذكية، ورائحة حياة القداسة كقول سفر النشيد عن السيد المسيح "لرائحة أدهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق. لذلك أحبتك العذارى" (نش1: 3). وأيضًا "مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته" (نش1: 12). هذه الرائحة الذكية تملأ نفس الإنسان الروحي بالنشوة الروحية وتتزايد محبته للسيد المسيح وتأسره هذه المحبة. فما أجمل تعبير رائحة الناردين الخالص الكثير الثمن عن رائحة موت السيد المسيح، التي هي رائحة الحياة، لأنها رائحة الحب. وحيث يكون الحب فهناك الحياة لأن "الله محبة". وقد صدق الفيلسوف الفرنسي الذي قال: [أن نحب معناها أن نوجد]. بمعنى أنه لا معنى للوجود بدون المحبة.
كان قبول السيد المسيح للناردين من المرأة ساكبة الطيب، هو قبول لموته بدافع الحب. لهذا قال: "إنها ليوم تكفيني قد حفظته" (يو12: 7). إنه قبول للموت من منطلق الحياة. أي هو موت مُحيى، ورائحة حياة لحياة في الذين يخلصون.
4- وحاسة اللمس الروحية يستطيع الإنسان الروحي أن يتلامس بها مع عمل الله وحضوره في حياته.
إن المرأة نازفة الدم قد قالت في نفسها: "إن مسست ولو ثيابه شفيت" (مر5: 28). لذلك فالإنسان الذي يتلامس مع الحق الذي في المسيح ويدرك الحد الفاصل بين النور والظلمة، يكون كمن لمس هُدب ثوبه، فينال الشفاء.
إن لمسة بسيطة من يد السيد المسيح الشافية تستطيع أن تنزع الخطية مثلما طهر الأبرص حينما مد السيد المسيح يده ولمسه وقال "أريد فاطهر" (مت8: 3) فللوقت طهر برصه وشفى.
هناك لمسات كثيرة يعملها الله في حياة الإنسان ويحسها الإنسان الروحي. ويقول مع عروس النشيد: "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني" (نش2: 6، 8: 3). إن من يتلامس مع الله يصير الرب له سندًا قويًا في حياته كما قيل عن هذه العروس "من هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟" (نش8: 5).
5- وحاسة التذوق الروحية يستطيع الإنسان الروحي أن يتذوق بها حلاوة الحياة مع الله.
يقول الكتاب "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" (مز33: 8).
وتقول عروس النشيد "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين، تحت ظله اشتهيت أن أجلسوثمرته حلوة لحلقي" (نش2: 3).
هذه المذاقة الروحية جعلت كثير من القديسين ينسون كل مسرات العالم ومشتهياته، لأن مذاقة حب السيد المسيح كانت أشهى من كل أطياب العالم.
في هذه العشرة العجيبة دخلت عروس النشيد، واستغرقتها مشاعر الحب حتى نسيت كل ما عداه وأنشدت قائلة "ليقبلني بقبلات فمه لأن حبك أطيب من الخمر" (نش1: 2).
وكلما أعطى الإنسان نفسه الفرصة ليتذوق حلاوة المسيح، كلما زادت أشواق الحياة معه.
الباب الضيق
قال السيد المسيح: "ادخلوا من الباب الضيّق. لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدّى إلى الهلاك. وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدّى إلى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونه" (مت7: 13، 14).
لقد رسم السيد المسيح بحياته طريق الأمجاد، وبعدما تألّم على الصليب قال لتلاميذه: "كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده" (لو24: 26).
وكان دائمًا يردد أن من أراد أن يتبعه فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعه (انظر لو9: 23).
التلمذة للمسيح تحتم حمل الصليب. وبدون الصليب تصير المسيحية كالعروس بلا عريس.
والحياة مع المسيح فيها شركة الآلام مع المسيح كقول معلمنا بولس الرسول: "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهًا بموته" (فى3: 10). وقال أيضًا: "كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا" (2كو1: 5)
من أراد أن يلتقي مع المسيح فلن يمكنه أن يلتقي به إلا في طريق الصليب، في طريق الآلام، في الطريق الكرب، ومن الباب الضيّق.
ولكن من يدخل إلى هذا الطريق، يجد هناك تعزيات كثيرة.. فكثيرون يحاولون تخيّل شكل السيد المسيح، وصورته البهية ويتمنون اللقاء به ليهنأوا بهذا اللقاء. ويوجد من هو مستعد أن يضحّى بكل غالٍ ونفيس في سبيل أن يرى السيد المسيح ويلتقي به.
ولكن السيد المسيح رسم لنا طريقة الالتقاء به.. هناك في درب الصليب. إذ لا يمكن أن نلتقي مع المسيح بدون صليبه.. لأن صليبه هو قوة الله للخلاص.
الصليب هو سر القوة والنصرة على الخطية، وعلى محاربات الشيطان. والصليب هو علامة حب الله لنا، وهو أيضًا علامة المصالحة بإتمام الفداء وإيفاء الدين. فقبول الصليب هو قبول لمحبة الله ودخول إلى شركة الحب معه.
إن مجد المحبة هو أن تتألم من أجل من تحب. كما أن مجد الينبوع هو أن يسقى ويروى ويغسل.
في درب الصليب تبدأ النفس في الدخول إلى شركة العرس الروحي. وتبدأ في تذوّق حلاوة المحبة المتبادلة بين المسيح والعروس.
حينما قال بولس الرسول: "كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا" (2كو1: 5). كان يقصد أن الكنز المخفي لاكتشاف وتذوّق حلاوة الحياة مع المسيح هي من خلال قبول التألّم مع من أحبنا وسلّم نفسه كفارة عن خطايانا.
تطبيقات عملية
1- الخدمة الصعبة
الخدمة السهلة يتهافت عليها كثيرون، ولكنهم في هذا النوع من الخدمة لن يتلامسوا مع قوة المسيح التي تعمل في الخدمة، والتي تعين الآنية الخزفية.
ولكن من يقبل الدخول إلى الخدمة الصعبة، أو الخدمة الشاقة فهناك يختبر عمل الله في الخدمة. ويبتدئ الرب يُظهر هذا العمل فيتمجد الله، ويشعر الناس بحضور الرب وعمله.. فتدخل الخدمة إلى أعماق نفوس الناس.
لهذا قال السيد المسيح: "إن كان أحد يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي. وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب" (يو12: 26).
المسألة تبدأ بقبول الصليب.. ويتبع ذلك عمل الآب في الخدمة بصورة تفوق قدرات الإنسان الخادم البشرية. وهذه هي الكرامة الحقيقية التي لا يتوقعها الإنسان ولكنه يعايشها ويختبرها ويتعزى.
2- التضحية والعطاء بسخاء
يستدعى قبول صليب التجرّد والزهد والفقر الاختياري. كما كان القديس الأنبا أبرام أسقف الفيوم يصنع في خدمته؛ وفي المقابل كان الرب يتمجّد ويغمر الخدمة ببركات كثيرة وأموال طائلة لأن "الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير" (لو16: 10). يضاف إلى ذلك أن القديس الأنبا أبرام لشدة عطفه وحنانه لمساعدة المرضى والمحتاجين، قد منحه الرب موهبة الشفاء وصنع المعجزات. حقًا قال السيد المسيح: "ليس أحد ترك.. لأجلى.. إلا ويأخذ مئة ضعف" (مر10: 29-30).
3- الشهادة للحق
جاء السيد المسيح إلى العالم ليشهد للحق. وقال: "كل من هو من الحق يسمع صوتي" (يو18: 37). وقد بذل حياته ثمنًا لشهادته للحق.
وفى وسط عالم يموج بالمتغيرات والصعوبات تكون الشهادة للحق ذات ثمن باهظ. مثلما حدث مع إرميا النبي الذي كانت رسالته لتوبيخ شعبه في زمانه داعيًا إياهم للتوبة -كما أوضح لنا قداسة البابا شنودة الثالث أطال الرب حياته. واحتمل إرميا النبي الكثير من أجل رسالته الصعبة، وهو الإنسان الوديع الباكي الذي كان يميل إلى البُعد عن المشاكل ولكن كانت إرادة الله له أن يتحمل هذه الأعباء التي تفوق طاقته.
4- الجهاد ضد الخطية
يقول معلمنا بولس الرسول: "لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية. وقد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين: يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخُر إذا وبخك" (عب12: 4، 5).
إن الجهاد ضد الخطية هو من لوازم حياة التلمذة الحقيقية للمسيح. لهذا قال الكتاب "أما المتنعمة فقد ماتت وهى حية" (1تى5: 6).
لا يمكن أن يجتمع النور والظلمة معًا.. لهذا فالتوبة هي بداية الطريق إلى الله كقول السيد المسيح في دعوته: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" (مت4: 17).
في وسط جهادات الحياة الروحية يختبر الإنسان عمل الروح القدس وهو يقوده إلى موكب النصرة.. ليفرح في وسط صفوف الأبرار.
ولكن دائمًا يلزمنا أن نجاهد وأن "نحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع" (عب12: 1، 2).
مع العريس
وهكذا نرى في كل جوانب الحياة مع الله أن اللقاء مع المسيح يلزمه معانقة وقبول الصليب. وأن من يهرب من الضيقة يهرب من الله؛ لأنه يفقد فرصة اللقاء معه، في وسط الضيقة يحمله ويعزّيه. كقول السيد المسيح لعروس النشيد عن عشرته معها في طريق الألم المؤدّى إلى حلاوة التعزية: "قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس. قطفتُ مُرّي مع طيبي. أكلتُ شهدي مع عسلي. شربتُ خمري مع لبنى. كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش5: 1).