رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تأملات في سفر نشيد الأناشيد (26) إني أقوم وأطوف في المدينة..نش3:2 السبت 29 يونيو 2013 بقلم المتنيح: قداسة البابا شنودة الثالث الروحيون يقرأون هذا السفر, فيزدادون محبة الله. أما الجسدانيون, فيحتاجون في قراءته إلي مرشد يفسر لهم, لئلا يسيئوا فهمه, ويخرجوا عن معناه السامي إلي معان عالمية.. تقول عذراء النشيد: 'في الليل علي فراشي, طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته. إني أقوم وأطوف في المدينة, في الأسواق وفي الشوارع, أطلب من تحبه نفسي' (نش3: 1, 2). هذا يدل علي أن الإنسان -مهما بعد عن الله- ففي قلبه اشتياق إلي هذا الإله, حتي لو دخل في الليل, ورقد علي فراشه..! اشتياق إلي الله: لايزال في القلب حنين إلي الله.. فينا نفخة إلهية تشتاق إلي مصدرها (تك2:7). فينا روح علي صورة الله, كشبهه (تك1:26, 27). وهذه تجعل الإنسان بطبيعته يشتاق إلي الله. * فالاشتياق إلي الله, جزء من طبيعة الإنسان ومن فطرته.. فإن قلنا إن محبة الأم لطفلها جزء من طبيعتها تجري في دمها, وكذلك محبة الأب لابنه.. نقول كذلك إنه أمر طبيعي بالأكثر, أن إنسانا يحب الله ويشتاق إليه. وليس هذا عند الشعوب المتحضرة المتمدينة فحسب, بل حتي عند الشعوب البدائية أيضا.. ومن الناحية الأخري, محبة العالم شئ دخيل علي الإنسان ليس في طبعه الأصلي. أما محبة الله فهي طبيعته الأصيلة. لذلك مهما بعد الإنسان عن الله, لابد أن يعود فيشتاق إليه. مثل عقرب البوصلة, لابد أن يتجه إلي الشمال, مهما طال بعده عنه. لهذا لا يصح أن ييأس الإنسان, مهما طال بعده عن الله. لا تيأس, فطبيعتك بفطرتها ميالة, لذلك حتي في الليل -وأنت علي فراشك- يعود اشتياقك إليه, مثل الابن الضال: ذهب إلي كورة بعيدة, ثم عاد واشتاق إلي أبيه, ورجع إليه, ومثل أوغسطينوس: بعد متاهة طويلة في الفلسفة وفي ملاذ العالم, عاد أخيرا ليقول للرب: تأخرت كثيرا في حبك, أيها الجمال الذي لا يوصف.. وأنت مهما تهت وبعدت, في أعماقك بذرة محبة الله. فلا تظنوا أن الرعاة والوعاظ والمرشدين والآباء الرسل هم وحدهم الذين دخلت محبة الله إلي قلوبهم! كلا, فمحبته موجودة فيكم من الأصل. كل ما في الأمر, أنهم يزيلون ما ترسب فوقها وأخفاها. * 'في اليل علي فراشي, طلبت من تحبه نفسي'. هناك لحظات تمر علي الإنسان, يجد نفسه مشتاقة إلي الله. لا يعرف متي تأتي؟ ولا كيف؟ ولا أين؟ ولا يستطيع أن يحدد مواعيد لهذا الاشتياق. والكتاب يقول: 'ملكوت الله لا يأتي بمراقبة' (لو17:20). كما قال الرب أيضا: 'الريح تهب حيث تشاء, وتسمع صوتها, ولكنك لا تعلم من أين تأتي, ولا أين تذهب' (يو3:8). إنها زيارة من زيارات النعمة, لا تأتي بمراقبة. أنت لا تعرف متي يتحرك شعورك نحو الرب, ولكنك في وقت ما تسمع صوتا يناديك في داخلك, ويحركك نحو الله, مهما كنت خاطئا, ومهما بعدت, ومهما ضللت.. زيارة النعمة هذه تثير مشاعر الحب الإلهي أو تعيدها.. عدم الإحساس بوجود الله: من العجيب أن هذه العروس تقول: 'طلبته فما وجدته', بينما الله في داخلها, وهو الذي حرك قلبها لكي تطلبه! بدونه ما كان ممكنا لها -وهي علي الفراش- أن تطلبه! وهو الذي مد يده من الكوة, فأنت عليها أحشاؤها (نش5:4). ولكن لماذا -علي الرغم من وجوده فيها- تقول: 'فما وجدته'؟!. أحيانا يكون ربنا فينا, ونحن لا نشعر به!! مثلما حدث لتلميذي عمواس, إذ كان الرب يسير معهما ويتحدث إليهما, وهما لا يعرفانه (لو24:15, 16). أو مثلما قيل عن تجسد السيد الرب: 'إن النور أضاء في الظلمة, والظلمة لم تدركه' (يو1:5). وأيضا مثلما قال القديس أوغسطينوس للرب: 'كنت معي, ولكنني من فرط شقاوتي لم أكن معك!'. إبراهيم أبو الآباء ظهر له الرب مع ملاكين (تك18:2, 17), ولكنه لم يدرك وجود الرب, وإلا ما كان أحضر لهم لحما ولبنا (تك18:7, 8). وهكذا قال الكتاب: 'لا تنسوا إضافة الغرباء, لأنها بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون!' (عب13:2). أحيانا يكون الله معك, وأنت غير شاعر بوجوده. وقد تظن أنه قد تخلي عنك, بينما أنت الذي ينقصك الإدراك الروحي لوجود الله معك. وقد تقول له: 'إلي متي يارب تنساني؟ إلي الانقضاء!' (مز13:1). ولا يكون الرب قد نسيك. لأنه إن نسيت الأم رضيعها لا ينساك (أش49:15). إنما أنت الذي لم تعد تحس وجود الله فيك! بالإيمان تستطيع أن تدرك وجوده معك, كما قال داود: 'تأملت فرأيت الرب أمامي في كل حين, لأنه عن يميني فلا أتزعزع' (مز16:8). وكما قال إيليا النبي: 'حي هو رب الجنوب الذي أنا واقف أمامه' (1مل18:15). البحث عن الله: أحيانا يخفي الله ذاته عنك, لكي تبحث عنه.. لا يسمح لك أن تراه, لكي تشتاق إلي رؤيته, يظهر حينا, ويختفي حينا آخر (مت2:9) مثل النجم الذي ظهر للمجوس.. لكي يتحرك القلب فيبحث ويسأل. الله لا يريد أن تكون المحبة من طرف واحد: هو يحبك, وأنت راقد علي فراشك, يريدك أن تحبه كما يحبك, فتبحث عنه.. لهذا تجد أن العروس لما طلبته فلم تجده, قالت للتو: 'إني أقوم وأطوف في المدينة, في الشوارع وفي الأسواق, أطلب من تحبه نفسي'. ولاحظوا أنها لم تقل أقوم, بل إني أقوم, كنوع من التأكيد والإصرار علي البحث. وهكذا زال تكاسل النفس, إذ شعرت بالتخلي, ولو كان شكليا.. ياليت كل واحد منكم يخرج من اجتماعنا هذا أو من قراءة هذا المقال وهو يقوم ويطوف يبحث عمن تحبه نفسه, أعني الله الذي يحبه, كما قالت عذراء النشيد.. في الأسواق: اذهب واشتر لك زيتا, لكي لا ينطفئ مصباحك (مت25:9). أو كما قيل في سفر الرؤيا: 'أشير عليك أن تشتري ذهبا مصفي بالنار, وثيابا بيضا لكي تلبس, فلا يظهر خزي عريتك' (رؤ3:18). أو كما قال الرب: 'ومن ليس له سيف, فليبع ثوبه ويشتر سيفا' (لو22:36).. اذهب إلي الأسواق, وادفع ثمن ما تشتريه وابحث عن الرب هناك. طف وابحث أين تجد الله.. هل في الكنائس في الأديرة, في بيوت الخلوة, أو في أماكن الخدمة.. أم حيث تراه.. المهم أن تنشط وتبحث, ولا تستمر راقدا علي فراشك.. انظر أي طريق يوصلك إلي الله, وسرف فيه: طريق التوبة, طريق الصلاة والتأمل, طريق الخدمة, طريق القراءة والاجتماعات.. الطرق المؤدية إلي الله كثيرة. اختر ما يناسبك منها. كلمة 'أقوم' تعطينا معني طيبا. فعلي الرغم من أن الخلاص يقوم به الله وحده, إلا أنه لابد لك من أن تشترك معه, من جهة الاستجابة لعمله فيك: أن تشترك معه, أن تطلبه وتبحث معه.. 'أقوم وأذهب معه إلي أبي' (لو15:18). هكذا قال الابن الضال.. أقوم وأرد أربعة أضعاف لكل من ظلمته, كما قال زكا العشار (لو19:8). حقا, إننا في بعض أوقات نقول: 'قم أيها الرب الإله, وليتبدد جميع أعدائك' (عد10:35). والرب نفسه يقول: 'من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين, الآن أقوم, يقول الرب, اصنع الخلاص علانية' (مز12:5). ولكن علي الرغم من كل ذلك, لابد أن تقوم مع المسيح, تعمل مع الرب.. ترفع الحجر, لكي يقيم الرب لعازر (يو11:41). أنت تقدم الخمس خبزات, والرب يباركها ويشبع بها الألوف (يو6:9-12). أنت ترمي الشبكة, الرب يأتي بالسمك, أنت تغرس وتسقي, والله هو الذي ينمي (1كو3:6). المهم أن تقوم وتعمل مع الرب. إنني حينما أعمل عملا, إنما أبرهن علي محبتي للرب ورغبتي في الخير, فالله لا يرغمني إرغاما علي عمل الخير, ولكني أقوم من نفسي. علي فراشي قد أحلم بالرب, ولكني لا أجده إلا إذا قمت. تأكدوا أن الملائكة يفرحون في السماء, وهم يرون هذه النفس تقوم وتطوف في المدينة وفي الشوارع بحثا عن الرب (لو15:7). هناك أشخاص يبدلون عبارة 'وعلمنا طرق الخلاص' في القداس الإلهي بعبارة 'طريق الخلاص' علي الرغم أن الكلمة القبطية تعني حرفيا (طرق), مفسرين ذلك بأن للخلاص طريقا واحدا هو الفداء. هذا حق أنه من جهة الله هناك طريق واحد, هو الصليب وقد تم, ولكن من جهتنا لا ننال بركات الفداء إلا بطرق هي الإيمان والمعمودية والتوبة. كما أن حياتنا الروحية اللازمة للخلاص لها طرق تؤدي إلي الله: منها الخدمة أو الوحدة, الزواج أو البتولية, الحزم أو الطيبة.. والمهم أن يتخذ كل واحد نوع الطريق الذي يناسبه وكما قال مارإسحق: 'لمعرفة الله باختلاف الطبائع البشرية, لم يجعل طريقا واحدا مؤديا إلي الخلاص, لئلا يفشل من لا يستطيع السير فيه, وإنما جعل أمام الإنسان طرقا عديدة. حتي أن الذي لا يناسبه طريق لصعوبته, يسير في الآخر لسهولته'. وما دامت هناك طرق عديدة فلا تيأس. إن لم تجد في نفسك قابلية للصلاة, الجأ إلي القراءة والتأمل. وإن لم تجد قابلية للقراءة رتل. وإن لم تستطع شيئا من ذلك كله اخرج وافتقد واخدم. ولكن لا تيأس أبدا. ابحث في الطرقات والشوارع والأسواق.. ولهذا لا يجوز لأب الاعتراف أن يجعل أبناءه صورة منه! ولا يجوز أن يجعلهم كلهم صورة واحدة من بعضهم البعض! فربما ما يناسب واحدا منهم, لا يناسب غيره.. لاختلاف نفسياتهم.. كذلك أنت: إن أعجبك طريق في الحياة, لا تشجع كل إنسان علي السلوك فيه! ربما ما يناسبك, لا يناسبه. عروس النشيد طافت في الطرقات, ولم تجد الرب. فلم تعتذر وتكف عن البحث. وإنما قابلت الحرس الطائف وسألتهم (نش3:3). هؤلاء الحرس, هم حراس المبادئ والقيم. أقامهم الرب علي شريعته وعلي رعيته, يرشدون الناس إلي الطريق.. وما أن جاوزتهم قليلا, حتي وجدت من تحبه نفسها.. لم تقل شيئا مما قالته للحرس, ولا ما قد قالوه لها, وإنما ركزت علي هدفها, وهو الوصول إلي حبيبها.. يوجد أشخاص يكفي أن تقول لهم المشكلة. فتنحل.. حتي بدون إرشادات أو حلول تسمعها منهم, تكفي بركتهم وصلواتهم. الملاحظة الأخيرة, هي أن هذه العروس تعبت كثيرا حتي وجدت من تحبه نفسها, ولم تجده من أول طلب, ولا من أول بحث, وكانت وراء ذلك حكمة إلهية, لكي تتمسك بمن تعبت لأجله. قال القديس باسيليوس الكبير: 'إن الأشيائ التي تحصل عليها بسهولة, قد تفقدها أيضا بسهولة, لهذا أحيانا لا يستجيب الله بسرعة'. ولأن هذه العروس تعبت حتي وجدت من تحبه, لذلك عندما وجدته قاله: 'امسكته ولم أرخه' (نش3:4) |
|