شركة الحب الإلهي _ مكاريوس الكبير
شركة الحب الإلهي في الآلام والمجد
القديس مكاريوس الكبير
.. الرب يأتي إلى كل نفس تطلبه بالحق، وإذ يقترب منها فإنه يسحق ويبيد قوة الظلمة التي أسرت النفس وحجزتها وعوقتها.
يجب على النفس أن تُكِنَّ لعريسها المسيح المقترن بها شوقاً بمثل هذا المقدار وحُبًّا مثل هذا، كزوجة حكيمة مُحِبَّة لرجلها، تراه يُلقى مراراً في السجن أو في القيود أو في عذابٍ آخر، فتظهر بسبب محبتها له وكأنها مُقيَّدة معه ومشتركة في آلامه؛ بل ومتوجعة ومُعذبة في أحشائها أكثر منه.
وتماماً كما كانت مريم الواقفة بقرب الرب المصلوب،
تبكي بدموع غزيرة بسبب لوعة الحب،
فتظهر كأنها مصلوبة معه؛
هكذا أيضاً النفس التي أحبَّت الرب،
وقبلت نار عشقه وسَعَت بالحق لأن تتحد بعريسها المسيح،
ينبغي أن تكون شريكة في آلامه،
وأن تحفظ دائماً أمام عينيها جروحه التي جُرح بها من أجلها،
وتذكر في كل حين كل ما تألَّم به لأجلها
ذاك الذي هو غير قابل للألم،
وكيف تعذب لأجلها ذاك المترفِّع عن كل عذاب،
وكيف أنه وهو في صورة الله أخذ صورة عبد.
وهكذا تكون متألِّمة معه وتكون أسيرة (مقيدة) معه، لأنها بهذا تتمجَّد أيضاً معه.
وكما تدحرج الحجر وأزيح عن القبر بقوة الله، وبهذا رأت مريم الرب، هكذا أيضاً بقوة وزيارة الروح القدس، يتدحرج ينزاح الحجر الذي يغطي النفس وحجاب الخطية، وتحسب النفس مستحقة أن ترى وجه المسيح وتستريح في روحه، حالما تتخلص وتتحرر من حجر الخطية التي كان يغطيها.
وفي الواقع، أن كل نفس تحب الرب تكبلها الشياطين الردية التي تحاربها ولا تدعها تتقدم نحو المسيح المحيي، وهذا يحدث بموافقة وسماح من الله. إنه في الواقع يجربها كيما يرى إن كانت تحب سيدها حقاً، وإن كانت تثبت في كلامه رغم العذابات المؤلمة، وإن كانت لا تنكره بتكاسلها - برفض أتعاب الطريق والهروب من الحرب ضد الأرواح الشريرة - أو بالأولى إن كانت تظل صالحة وهي باقية حتى خلال السنوات الطويلة وهي هدفاً لتجارب الشر، بل تثابر للرب بكل ثبات، معتبرة إنه حتى إن كان قد أهملها، فلأنه حسبها غير جديرة بأية معونة.
وإذ يرى الرب شجاعة النفس وصبرها في التجارب، وإنها تخرج مزكاة من التجربة، يظهر لها بصلاحه، ويستعلن هو نفسه ويضيئها ببهاء لا مثيل له من نوره، ويدعوها إليه.
يقول لها : "قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي" (نش 2).
وهي من جانبها تركض للقائه، وتعاتبه قائلة:
"لماذا يارب تركتني هكذا طويلاً لمثل هذا الألم ولتعييرات أعدائي؟ وإذ كنت أطلبك وجدني حرس الليل الطائف بالمدينة وضايقوني (نش 5)"
ولكن الرب المفعم بنور باهر يجيبها مقوياً ومشجعاً بهذه الأقوال:
"إنك على صواب، تعالي في سلام، يا صديقتي، الجميلة جداً، يا حمامتي" (نش 2)
والرب يعاتب النفس ويريها آثار المسامير ويقول لها:
"انظري علامات المسامير،
انظري الجلدات،
انظري البصاق،
انظري الجروح،
هذه كلها تألمتُ بها من أجلكِ،
(أنتِ التي جُرحتِ بجراحات عديدة، وجُربتِ من قبل عدد كبير من الأعداء).
لأني بمحبتي للبشر جئتُ أطلبكِ وأُحرِّركِ،
لأني منذ البدء جبلتكِ على صورتي،
وخلقتكِ لتكوني عروساً لي.
قاسيت الآلام من أجلك،
واحتملت تعييرات لا تحصى من أجل فدائك أنا الذي أعلو عن التعيير.
أما كان ينبغي أن تتألمي من أجل خيرك وصالحك؟"
وإذ يتعاتب ويتحادث بهدوء هكذا مع النفس، يبيِّن لها أنه حتى قوة احتمال الآلام نفسها هو الذي يهبها لها، وهو الذي يقويها في تجربها ويشجعها خفية.
وإذ تسمع النفس كل ذلك، تدرك أن ليس لها في ذاتها أي شيء، بل إن كل صلاحها يرجع إلى الرب عريسها الجميل الحلو. وإذ تُقدِّر من كل قلبها الحديث والحب والإرادة التي وهبها الله إياها، تجيبه:
"هوذا يارب، هوذا جسدي عفيف، وهوذا نفسي نقية، فخذني كلي، وضمني تحت يمينك. وأرحني في حضنك"
ويعلن الرب نفسه لها على هيئتين، أي في منظر مزدوج:
1- وهو في الآمه
2- وهو في مجد نوره
والنفس ترى الآلام التي احتملها من أجلها،
وترى أيضاً المجد الفائق الذي لنوره الإلهي،
فتتغيَّر إلى تلك الصورة عينها،
من مجدٍ إلى مجد كما من الرب الروح (2 كو 3).
وهكذا تتقدَّم في كلتا الهيئتين: في هيئة آلامه، وهيئة نوره المجيد،
حتى تنسى بصورة ما طبيعتها الخاصة، إذ تكون مأسورة بالله،
وممتزجة ومتحدة بالإنسان السماوي (1 كو 15: 47) وبالروح القدس،
بل تصير هي نفسها روحاً.
أنها تكون مثل شحاذ فقير جداً، وهو ماض من باب إلى باب كيما يحصل على قوته اليومي، ثم يصبح فجأة ملكاً بين عشية وضحاها. والخير الذي تجده النفس بين يديها يجعلها تنسى فقرها، وهكذا النفس التي تغتني بالغنى السمائي لا تذكر بعد فقرها الأول ...
لنطلب الرب إذن، ولننظره يستعلن بحبه، ويخلصنا منذ الآن من الظلمة، وهكذا يلمع جسد ضعفنا في القيامة بنور يغمر النفس ويضيئها، والجسد أيضاً سيتمجد مع النفس.
الرب قريب منا، لنطلبه بقلب مُخلِص.