العذراء الأم عند الصليب
"وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه، وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية" (يو19: 25).. جاءت بكل الإيمان ابنة إبراهيم، لتقف إلى جوار صليب ابنها الوحيد.. نظرت العذراء وحيدها معلقًا فوق الإقرانيون، وتذكّرت كلمات الملاك حينما بشرها بميلاده: "ها أنت ستحبلين، وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابن العلى يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (لو1: 31-33).
كان الوعد صريحًا أن ابنها سوف يملك إلى الأبد، ولن يكون لملكه نهاية..
ولم تكن في إيمانها أقل من أبيها إبراهيم.. بل قد شهدت لها أليصاباتبالروح القدس "طوبى للتى آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو1: 45).
آمنت بالميلاد العذراوي من الروح القدس وهو أمر عجيب لم يحدث من قبل وتم ما قيل لها.. وآمنت أن ابنها سوف يخلّص شعبه من خطاياهم، وأنه سوف يقوم في اليوم الثالث كما وعد تلاميذه، وبهذا يملك إلى الأبد..
بهذا الإيمان وقفت العذراء مريم وهى تنظر السيد المسيح منهكًا، ينازع الموت على الصليب، وهو القوى الذي قهر الموت بقوة قيامته.
إبراهيم وذبيحة الابن الوحيد
لقد جاز إبراهيم امتحانًا صعبًا حينما قال له الله: "يا إبراهيم.. خذ ابنك وحيدك، الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك" (تك22: 1، 2).
وقد شرح معلمنا بولس الرسول كيف استطاع إبراهيم أن يعبر هذا الامتحان الصعب وذلك بالإيمان فقال: "بالإيمان قدّم إبراهيم إسحق -وهو مجرّب- قدّم الذي قَبِلَ المواعيد وحيده الذي قيل له إنه بإسحق يدعى لك نسل. إذ حَسِبَ أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضًا" (عب11: 17-19).
كان إبراهيم واثقًا في صدق وعد الله، بأن النسل المقدس سوف يأتي من إسحق، الذي يتوقف عليه خلاص البشرية بمجيء السيد المسيح من هذا النسل. ولهذا فلم يشك في صدق وعد الله، وكان متأكدًا أن إسحق سوف يعود إلى الحياة من بعد تقديمه ذبيحة.. أي أنه سوف يقوم من الأموات. وبهذا الإيمان أمكنه أن يعبر الامتحان، وأن يتجاوز مشاعره البشرية كأب.. لأنه كان ينظر إلى الأمور المختصة بالأبدية، وليس إلى الأمور الزمنية.
وقد بارك الله إبراهيم وقَبِل ذبيحة محبته "وقال بذاتي أقسمت يقول الرب، إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة وأُكثر نسلك تكثيرًا.. ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي" (تك22: 16-18).
إيمان مريم العذراء
هكذا استحقت العذراء مريم التطويب، لأنها آمنت مثلما آمن إبراهيم، أن الله قادر على الإقامة من الأموات..
ولهذا ففي سرد الكتاب المقدس لأحداث القيامة، نرى الكل في البداية مضطربين ومذبذبين في تصديقهم لقيامة السيد المسيح، حتى أنه "ظهر للأحد عشر وهم متَّكِئون، ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم، لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام" (مر16: 14).
أما السيدة العذراء فلم يذكر عنها شيء من مثل ذلك، بل كانت واثقة من القيامة حتى وهى واقفة عند الصليب،ولم تتأرجح بين الشك والتصديق مثل مريم المجدلية التي قالت "أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه" (يو20: 13)، والتي وبخها السيد المسيح حينما ظهر لها بعد ذلك، وأمرها أن تذهب وتخبر التلاميذ أنه سوف يصعد إلى السماء بعد أن يظهر لهم في الجليل.
نحن لا ننكر أن جميع التلاميذ قد آمنوا بيقين القيامة بعد أن ظهر لهم السيد المسيح. حتى توما الذي شك في البداية، عاد فآمن حينما وضع يده في مكان المسامير والحربة في جسد الرب القائم من الأموات.
ولكن السيد المسيح طوّب الذين "آمنوا ولم يروا" (يو20: 29). وبهذا طوّب العذراء مريم التي آمنت بالقيامة قبل أن تراها.. ولكنها مع هذا قد فرحت مع ولأجل الكنيسة كلها، حينما أبصرت وحيدها العريس السمائي وهو قائم منتصر مكلل بالمجد.. كما أبصرته وهو صاعد إلى السماء ليجلس عن يمين الله.
طوباك أنتِ يا من ارتفعتِ فوق جميع القديسين، في إيمانك المتشح بالتواضع وإنكار الذات.. اشفعى فينا أمام ابنك الوحيد ليصنع معنا رحمة كعظيم رحمته.