مزمور 82 - تفسير سفر المزامير
ديان الأرض وملكها
يسجل لنا هذا المزمور في عبارات مختصرة خطة الخلاص وغايتها، ويكشف عن حب الله الفائق للبشرية. فهو يفتح المشهد بصورة المخلص كديانٍ يجد مسرته في المؤمنين المقدسين به وله، فيقيم منهم مجمعًا مقدسًا يدعوه "مجمع الآلهة". فإن كان هو الله الخالق، فقد وهب مؤمنيه البنوة لله، بل ويقف في وسطهم كمن يعتز بهم.
أما خطة خلاصه للبشرية، فيلخصها في العبارات 2-4، حيث وهو الخالق والديان والقاضي لكل المسكونة، ينزل إلينا كفقيرٍ ومسكينٍ، ويسمح لنفسه أن يُحاكم، فتسلمه خاصته للأمم الذين يصلبونه. يقبل الظلم ولا يفتح فاه، لكي يرفع ثقل الخطية وأحكامها عنا.
وهو حكمة الله، يُسلم نفسه للجهال؛ وهو النور يحاكمه أبناء الظلمة. بهذا يزعزع أسس الأرض، ليصير هو الأساس الذي تُبنى عليه كنيسته ويُعلن ملكوته. يدين الأرض على فسادها، ليحطم الفساد ويهب الأمم برَّه. بهذا يملك على كل الأمم بعد أن يقيم من الأرضيين شبه سمائيين.
1. الديان ومجمع الآلهة
1.
2. تسليم نفسه للقضاء
2-4.
3. الظلمة تهاجم النور
5.
4. يقيم من الأموات شبه سمائيين
6-8.
من وحي مز 82
1. الديان ومجمع الآلهة
كثيرًا ما يعلن كلمة الله عن نفسه أنه الديان، لا ليرعب البشر، وإنما بالحق لأنه ينتظر أن يلتقي بهم، ليحملهم إلى الأمجاد الأبدية. إنه يود أن يعلن أنه قائم في مجمع الآلهة، في وسطهم يقضي.
اَللهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ اللهِ.
فِي وَسَطِ الآلِهَةِ يَقْضِي [1].
يرى البعض أن المزمور يتحدث عن الله بكونه قاضي القضاة وأيضًا الملوك والرؤساء. فإن كان قد سمح بقيام تنظيمات بشرية، وطلب الخضوع لها. فإنه من جانب هؤلاء القادة يلزمهم أن يدركوا أنهم خدام الله، وُضعوا لمساندة الضعفاء، والدفاع عن المظلومين، وتدبير أمور الشعب. يليق بهم أن يكونوا ممثِّلين له "في شفتيّ الملك وحي، في القضاء فمه لا يخون" (أم 16: 10).
إن كان الله يسمح بقيام قادة أشرار، فإنه إذ يقدس الإرادة الحرة، يسمح لهم أن يمارسوا عملهم بقسوة قلوبهم، لكنه هو ديان الجميع. قيل لهم: "اُنظروا ما أنتم فاعلون، لأنكم لا تقضون للإنسان بل للرب، وهو معكم في أمر القضاء، والآن لتكن هيبة الرب عليكم. احذروا وافعلوا، لأنه ليس عند الرب إلهنا ظلم ولا محاباة ولا ارتشاء" (2 أي 19: 6-7).
في عظة للقديس جيروم على هذا المزمور يستلفت نظره أن الكتاب المقدس يتحدث عن الله بعبارات بشرية، حتى ندرك معاملاته معنا. تارة يتحدث عنه واقفًا مع القديسين، إذ نسمع هنا: "الله قائم في مجمع الآلهة" (مز 82: 1). كما نسمعه يقول لموسى النبي: "وأما أنت فتقف هنا معي" (تث 5: 31). وحين كان آدم مقدسًا كان يقف كما مع الله.
وحينما نخطئ نراه ماشيًا، كما نظره آدم وحواء عندما سقطا في العصيان. إذ قيل: "وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة... فاختبأ آدم وحواء من وجه الرب" (تك 3: 8). لقد تحرك ليقول له: "آدم، أين أنت؟" (تك3: 9).
أما عن جلوس الرب، فيظهر إما كديان أو ملك. يقول إشعياء: "رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل" (إش 6: 1). كما يقول دانيال النبي: "وكنت أرى أنه وُضعت عروش وجلس القديم الأيام... فجلس الدين وفُتحت الأسفار" (دا 7: 9-10). لقد رأى الديان الجالس على العرش. هكذا يراه البعض واقفًا، وآخرون ماشيًا، وآخرون جالسًا، بل وحين يسمح لنا بتجربة نراه كأنه نائم (مت 8: 24). "استيقظ، لماذا تتغافى يا رب؟" (مز 44: 23).
يرى القديس كيرلس الكبير[1]أن مجمع الآلهة هنا يشير إلى جماعة الفريسيين (لو ١١: ٤٢)، إذ هم طامعون شغوفون بالربح القبيح وفي نفس الوقت مدققين في ملاحظة شريعة العشور في حرفية، بالرغم من تجاهلهم للحق والعدالة ومحبة الله.
* يقف العلي في مجمع أبناء العلي الذين عنهم قال العلي نفسه بفم إشعياء: "ربيت بنين ونشَّأتهم؛ أما هم فعصوا عليّ" (إش1: 2). نفهم بالمجمع شعب إسرائيل، لأن كلمة "مجمع" كانت الكلمة المناسبة عنهم، وإن كانوا أيضًا دُعوا كنيسة.
لم يدع الرسل (الكنيسة) قط مجمعًا بل دائمًا كنيسة، إما لأجل التمييز، أو لأنه يوجد بعض الاختلاف بين كلمة المجمع التي منها أخِذ الاسم Synagogue والاجتماع الذي فيه دعيت الكنيسة "إكليسيا". فان المجمع هو اجتماع القطيع، وتسمى قطعان flocks، وأما الاجتماع فهو أكثر مناسبة للمخلوقات العاقلة مثل البشر... اعتقد أنه من الواضح أي مجمع للآلهة يقف فيه العلي[2].
* يقول البعض لنرسم صورة للمسيح مع والدته الثيؤتوكس وهذا يكفي...
كلماتكم عديمة التقوى تثبت أنّكم تحتقرون القدّيسين تمامًا. من الواضح إنّكم لا تحرمون الصور، ولكنكم ترفضون تكريم القدّيسين.
تصنعون صور للمسيح لأنّه هو الممجّد، ومع ذلك تحرمون القدّيسين من المجد المستحق لهم، وتدعون الحقيقة نفاقًا. يقول الرب: "أمجّد الذين يمجّدونني". يوحي الله للرسول بالكتابة: "إذًا ليس بعد عبدًا بل ابنًا، وإن كنت ابنًا فوارث لله بالمسيح" (غل 4: 7) وأيضًا: "فإن كنّا أولادًا، فإنّنا ورثة أيضًا، ورثة الله، ووارثون مع المسيح. إن كنّا نتألّم معه، لكي نتمجّد أيضًا معه". إنّكم لا تشنّون الحرب ضد الصور، ولكن ضد القدّيسين أنفسهم.
القدّيس يوحنا اللاهوتي، الذي اتكأ على صدر يسوع، قال: "لأنّه إذا أُظهر نكون مثله" (1 يو 3: 2). كما أن أيّ شيء متصل بالنار يصبح نارًا، ليس من طبيعته ولكن بالاتّحاد، والحرق، والاختلاط مع النار، كذلك أيضًا بالجسد الذي أخذه ابن الله. بالاتّحاد مع أقنومه، اشترك الجسد في الطبيعة الإلهيّة (دون أن يفقد الناسوت سماته) وبهذا الاتصال أصبح الله غير متغير، ليس فقط بعمل النعمة الإلهيّة، كما هو الحال في حالة الأنبياء، ولكن أيضًا بمجيء النعمة نفسه. الكتاب المقدّس يسمي القدّيسين آلهة، عندما يقول: "الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي" (مز 82: 1).
يفسّر القدّيس غريغوريوس هذه الكلمات على أنّها: الله قائم في مجمع القدّيسين يحدّد المجد المستحق لكليهما. كان القدّيسون خلال حياتهم الأرضيّة مملوءين من الروح القدس، وعندما تم مسارهم، لم يترك الروح القدس أنفسهم ولا أجسادهم في القبر[3].
* أول شيء، الأماكن التي أرتاح فيها الله القدوّس وحده في أماكن مقدّسة: وهي الثيؤتوكس والقدّيسون. هؤلاء الذين أصبحوا مثل الله بقدر المستطاع، حيث اختاروا أن يتعاونوا مع الاختيار الإلهي. لذلك سكن الله فيهم. فإنّه حقًا يدعوهم آلهة، ليس بالطبيعة ولكن بالتبنّي، مثلما ندعو قضيب الحديد الساخن مشتعلًا، ليس بطبيعته، ولكن لأنّه اشترك في العمل مع النار.
إنه يقول: "تكونون قدّيسين، لأنّي قدّوس الرب إلهكم" (لا 19: 2) هذا أولًا، وبعد ذلك اختيار الخير، فبمجرّد أن نختار الخير، يساعد الله الذين اختاروا الخير أن يزيدوا في الخير، لأنّه يقول: "وأسير بينكم" (لا 26: 12). نحن هياكل الله، وروح الله ساكن فينا (1 كو 3: 16) "وأعطاهم سلطانًا على أرواح نجسة حتى يخرجوها، وشفوا كل مرض وكل ضعف" (مت10: 1). وأيضًا: "من يؤمن بي، فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها" (يو 14: 12). "يقول الرب حاشا لي؛ فإني أكرم الذين يكرّمونني" (1 صم 2: 30) و"إن كنّا نتألّم معه، لكي نتمجّد أيضًا معه" (رو 8: 17) "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي" (مز 82: 1).
لذلك حيث أنّهم آلهة، ليس بالطبيعة، ولكن لأنّهم شاركوا الطبيعة الإلهيّة، فيجب أن يبجّلوا، ليس لأنّهم يستحقّونه، ولكن لأنّهم يحملون في داخلهم ذاك الذي هو معبود بالطبيعة.
نحن لا نبتعد عن الحديد المشتعل ونرفض أن نلمسه بسبب طبيعته، لكن لأنّه اشترك مع ما هو ساخن بالطبيعة. والقدّيسون يبجّلون لأن الله مجدهم. ومن خلاله أصبحوا مخيفين للأعداء، ومفيدين للإيمان. هم ليسوا آلهة بطبيعتهم، ولكن لأنّهم كانوا خدّامًا محبّين لله، لذلك نبجّلهم، لأن الملك يتكرم من خلال العبادة المقدمّة لخدّامه المحبوبين. هم خدّام طائعون، وأصدقاء مقربون، ولكنّهم ليسوا الملك نفسه.
عندما يصلّي المرء بإيمان مقدّمًا دعواه باسم صديق مفضّل، فإن الملك يقبل الدعوة من خلال الخادم الأمين، لأنّه يقبل التكريم الذي أعطي لخادمه. لذلك هؤلاء الذين يتقدّمون إلى الله من خلال الرسول يستمتّعون بالشفاء، لأن ظل الرسل أو مناديلهم ومناشفهم التي تلمسهم مملوءة من الدواء. هؤلاء الذين يرغبون في عبادتهم مثل الله ممقوتون ويستحقّون النار الأبديّة. أما الذين بسبب عجرفتهم يرفضون أن يكرّموا خدّام الله، فسوف يحكم عليهم على عجرفتهم وإظهارهم عدم التكريم لله. الأطفال الذين أساءوا إلى أليشع هم مثل لذلك، لأن الدببة افترستهم (2 مل 2: 23)[4].
2. تسليم نفسه للقضاء
حَتَّى مَتَى تَقْضُونَ جَوْرًا،
وَتَرْفَعُونَ وُجُوهَ الأَشْرَارِ؟ سِلاَهْ [2].
إن كان السلوك بالظلم شرًا، فإن من يقضي بالظلم أشر. لم يستطع الحكيم أن يرى قضاة يحكمون بالظلم، إذ يقول: "وأيضًا رأيت تحت الشمس، موضع الحق، هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور" (أم 3: 16).
"وترفعون وجوه الأشرار". إن كان القضاة والقادة يحكمون بالظلم، فإن من يمتدحهم على شرهم، يشاركهم شرورهم.
ليس من حب أعظم من أن يسلم الخالق نفسه لخليقته، ويقبل الديان أن يُحاكم بأيدٍ بشريةٍ. دعا نفسه وهو الذي يُغطي الشاروبيم وجوههم بأجنحتهم من بهاء عظمته، ذليلًا ومسكينا وفقيرًا، بل وكأنه يتيم! سلَّم نفسه لحكم الصلب والموت، لكي يرفع عنا خطايانا، وننعم ببِّره، ونتأهل للتمتع بالميراث الأبدي.
* العبارات التالية موجهة على وجه الخصوص إلى القضاة. إن كانوا قضاة علمانيين، فالمعنى بالنسبة لهم واضح. أما إن كانوا قضاة في الكنيسة، فيلزمنا أن نفهم أنهم الأساقفة والكهنة. "حتى متى تقضون ظلمًا؟" [2] من يفسد القضاء هو قاضي ظلم، ذاك الذي يقول عنه الإنجيل لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا (لو 18: 2). "حتى متى تقضون جورًا؟" لقد أعطيتكم سلطانًا على قطيعي وعلى شعب الله، يلزمكم أن تكونوا قضاة لا ذئاب[5].
* "حتى متى تقضون جورًا، وترفعون وجوه الأشرار؟" [2]. وفي موضع آخر: "حتى متى تثقل قلوبكم" (مز 4: 2 الفولجاتا) هل إلى أن يأتي ذاك الذي هو نور القلب؟ إني أقدم ناموسًا، وأنتم تقاومونه بعنادٍ. أرسلت أنبياء، وأنتم تعاملتم معهم بالظلم أو قتلتموهم أو تواطأتم مع الذين فعلوا هكذا معهم... جاء الوارث الآن، فهل لكي يُقتل؟ أليس من أجلكم أراد أن يكون كابن تحت أوصياء؟ أليس من أجلكم جاع وعطش كمن هو في احتياج؟ ألم يصرخ إليكم: "تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب" (مت11: 29)؟ ألم يصر فقيرًا وهو الغني لكي بفقره يغنيكم (2 كو 8: 9)؟[6]
اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ.
أَنْصِفُوا الْمِسْكِينَ وَالْبَائِسَ [3].
يوبخ الرب قضاة إسرائيل: "لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم" (إش 23: 1). "تجاوزوا في أمور الشر، لم يقضوا في الدعوى دعوى اليتيم، وبحق المساكين لم يقضوا" (إر 5: 28).
يرى القديس أغسطينوس أن الحديث موجه إلى اليهود الذين رفضوا السيد المسيح الذي جاء إليهم كذليلٍ ويتيمٍ ومسكينٍ وبائسٍ، وأرادوا قتله، قائلين: "هذا هو الوارث، هلم نقتله، ويصير لنا الميراث".
* لم يقل اقضوا للصدِّيق أو للنبي أو للكاهن، لأن هؤلاء سبيلهم أن يحتملوا الظلم، بل قال: "لليتيم والفقير والبائس"، لأن هؤلاء يستثقلون الظلم لضعفهم من الفقر أو من صغر السن أو من ضعف الرأي.
نَجُّوا الْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ.
مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ أَنْقِذُوا [4].
* لقد جعل الظالم في منزلة السبع المارد، والفقير بمنزلة الخروف، فيقول خلصوه من يده، أي من عنفه وظلمه.
3. الظلمة تهاجم النور
ليس أمَّر من أن يقضي الجهال على كل الحكمة بالموت، ويمشوا في النور لكي يطفئوا النور الإلهي.
يا للعجب لقد تركهم يمارسون شهوة قلوبهم، لكي بصليبه تهتز أساسات الأرض، وتتشقق الصخور، وتعلن الخليقة استياءها، فلا تعطي الشمس ولا القمر نورهما. بهذا إذ تتزعزع أسس الأرض، يصير هو أساس المبنى السماوي فينا، وإذ تحل الظلمة الخارجية، نطلب نوره الإلهي في أعماقنا، يشرق علينا نحن الجالسين في الظلمة بكونه شمس البرّ والشفاء في أجنحتها.
يقيم منا نحن الذين متنا بالخطايا مثل أبينا آدم، أبناء للعلي؛ وعوض السقوط نقوم لنتحدى الموت. ليس للجحيم سلطان علينا، ولا لأبواب الجحيم أن تحبسنا، بل وتنفتح أمامنا الأبواب الدهرية لندخل مختفين في البكر القائم من الأموات.
لاَ يَعْلَمُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ.
فِي الظُّلْمَةِ يَتَمَشُّونَ.
تَتَزَعْزَعُ كُلُّ أُسُسِ الأَرْضِ [5].
لم يكن جهلهم بالأمر العارض يمكن أن يلتمس لهم العذر فيه، لكنه جهل إرادي. إنه لأمر مؤسف أن لا يعرف رجال العدالة العدل، وأين يعوِّج القضاة القضاء، وأن لا يعلم الإنسان واجبه.
"في الظلمة يتمشُّون". لقد أظلمت بصيرتهم الداخلية، فأحبوا الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة (يو 3: 19). تركوا سبيل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة (أم 2: 13).
* "لا يعلمون ولا يفهمون، في الظلمة يتمشون" [5]. "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8). وهؤلاء أيضًا لو عرفوا لما قبلوا أن يطلبوا أن يُطلق باراباس ويُصلب المسيح. لكن لأن العمى السابق الحديث عنه قد حدث جزئيًا في إسرائيل إلى أن يكمل دخول الأمم، هذا العمى الذي لذاك الشعب أدى إلى صلب المسيح.
"تتزعزع كل أسس الأرض". إنها تتزعزع وستتزعزع، حتى يتحقق دخول ملء الأمم. فإنه عندما حدث بالفعل عند موت الرب إذ تزعزعت الأرض، وتشققت الصخور (مت 27: 51). وإن فهمنا "أسس الأرض" أولئك الذين هم أغنياء في فيض الأرضيات، فبالحقيقة سبق فأخبر أنهم سيتزعزعون سواء بقبولهم الانحطاط والفقر والموت فيكونون موضوع حب وتكريم في المسيح[7].
* أولئك الذين كنت أدعوهم آلهة، يدعون قضاة أشرارًا، بسبب رذائلهم. إنهم لا يعلمونني، ولا يفهمون أحكامي [5]. "في الظلمة يتمشون". إنهم يتلمسون الطريق في الظلمة، لأنهم نسوا النور. أقول: "أنتم نور العالم" (مت 5: 14)، لكنكم تركتم النور، وصرتم ظلمة[8].
* "تتزعزع كل أسس الأرض" [5]. ها أنتم ترون نوع العقوبة التي تحل بالحكام الأشرار، فبسبب القضاة الأشرار تتزعزع أسس الأرض... لقد رفضوا المسيح الذي كان يجب أن يكون أساسهم، والذي عليه قام المهندس بالبناء (1 كو 3: 10)، ووضعوا أساساتهم هم على الأرض[9].
4. يقيم من الأموات شبه سمائيين
لم يكن ممكنًا للجحيم أن يغلق أبوابه عليه، ولا للقبر أن يحبسه، إنما يقيم ليدين فينا كل شهوة أرضية، ويحطم كل سلطان للموت علينا. يملك علينا نحن الذين كنا أرضًا، وبه نصير شبه سمائيين.
أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ،
وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ [6].
إذ هاجم اليهود السيد المسيح لأنه قال عن نفسه أنه ابن الله، مساويًا نفسه بالآب، قال لهم: "أليس مكتوبًا في ناموسكم أنا قلت إنكم آلهة؟ إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن أن ينقض المكتوب، فالذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف، لأني قلت إني ابن الله؟" (يو 10: 35-36).
إذ صم القضاة الأشرار والحكام آذانهم، ولم يقبلوا كلمة النصح، وصمموا على السلوك في الظلمة، يرفع المرتل نظره الله، سائلًا إياه أن يدين الأرض بنفسه لينصف المظلومين. هذا ومن جانب آخر، يطلب المؤمن الله أن يدين الأرض، وينزع عنه وعن إخوته الشهوات الزمنية ومحبة الأرضيات، ليحمل الكل الفكر السماوي.
يقدم لنا العلامة أوريجينوس: تعليقًا روحيًا على لا 17:16. "ولا يكن إنسانُ في خيمة الاجتماع من دخوله للتكفير قي القدس إلى خروجه، فيكفر عن نفسه وعن بيته وعن كل جماعة إسرائيل"، بقوله: [أظن أن الذي يتبع المسيح يخترق معه إلى داخل الخيمة، ويصعد معه إلى أعلى السماوات، لا يكون بعد إنسانًا، وإنما يكون كالقول "كملاك الله" (مت 30)، وتكمل فيه كلمات الرب: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العليّ كلكم" (مز 6:82). إذن لنكن مع الرب روح واحد، وفي مجد قيامته نعبر إلى طقس الملائكة، وبهذا لا يكون هناك إنسان[10].] بمعنى آخر إذ انطلق ربنا يسوع المسيح إلى الأقداس يكفر عنا، لا يقدر إنسان أن يكون معه ما لم يتحد فيه كعضو في جسده المقدس، فنحسب كسمائيين، نحمل حياته السماوية فينا!
* يوجد أبناء كثيرون لله، كقول الكتاب: "أنتم آلهة، بنو العلي كلكم" (مز 82: 6)... لكن واحد فقط هو الابن بالطبيعة، ابن الآب الوحيد، خلاله يُدعى كل البقية أبناء. وهكذا توجد أرواح كثيرة، لكنه يوجد فقط روح واحد بالحق ينبثق من الله نفسه، ويهب نعمة اسمه وتقديسه [11].
* نحن آلهة لا بالطبيعة بل بالنعمة. "والذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله" (يو 1: 12). لقد خلقت الإنسان لهذا الهدف، أن يصير من البشرية آلهة. "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي تدعون كلكم" (يو10: 34)... جعلتكم آلهة كما جعلت موسى إلهًا لفرعون (خر 7: 1)... لقد وُلدنا جميعًا متساوين، أباطرة وعامة الشعب، وسنموت متساوين، بشريتنا من نوعٍ واحدٍ![12]
* أعني كما قلت لموسى: ها أنا أقمتك هذا اليوم إلهًا على فرعون، وأخوك هارون يكون لك نبيًا، كذلك أقمتكم آلهة لكي تقضوا على الناس كما يقضي الله. وبنو العلي تدعون، إذ ضارعتموه في حكمه بالعدل. وقال القديس كيرلس إن المسيحيين لقبولهم ابن الله واعترافهم بلاهوته، صاروا آلهة بالنعمة، وأبناء العلي بالوضع لا بالطبيعة. لأن الله (الآب) وابنه بالطبيعة هما واحد ونعني ربنا يسوع المسيح.
* أي أسماء أخذها الله مني وأي أسماء أعطاني إياها؟
هو نفسه "الله"، وقد دعاني بذلك. فبالنسبة له هو الله من حيث طبيعة جوهره... أما أنا فآخذ مجرد شرف الاسم فحسب "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز ٨٢: ٦)... لقد دعاني إلهًا لمجرد نوال شرف.
وهو نفسه دُعيَ إنسانًا وابن الإنسان والطريق والباب والصخرة... هذه الكلمات استعارها مني[13].
* قيل في موضع آخر: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز 82: 6). هؤلاء عندما يقول لهم الله هكذا إنما يتقبلون بنوّة لم تكن لهم من قبل. أما هو فلم يولد ليصير على حال لم يكن عليه من قبل، بل هو مولود من البدء ابن الآب. هو فوق كل بداية وكل العصور، ابن الآب مشابهًا[14] للآب الذي ولده في كل شيء. أبدي من أبٍ أبديٍ، حياة من حياةٍ، نور من نورٍ، حق من حقٍ، حكمة من الحكيم، ملك من ملكٍ، الله من الله، قوة من قوةٍ[15].
القديس كيرلس الأورشليمي
* يلزمنا أن نسأل من أجل الذين لا يزالون أرضًا، ولم يبدأوا بعد ليكونوا سماءً، لكي تتم مشيئة الله حتى في هؤلاء...
كما تتم مشيئة الله في السماء، أي فينا نحن، إذ بإيماننا قد صرنا سماءً، هكذا تتم على الأرض، أي في الذين لم يؤمنوا بعد، هؤلاء الذين لا يزالون أرضًا بسبب ميلادهم الأول منها، فيولدون من الماء والروح، ويبدأون أن يكونوا سماءً[16].
* إن كنا أبناء الله، إن كنا بالفعل بدأنا نصير هيكله، إن كنا (بقبول الروح القدس) نعيش مقدسين وروحيين، إن كنا نرفع عيوننا من الأرض إلى السماء، إن كنا نرفع قلوبنا مملوءة بالله والمسيح إلى العلويات والإلهيات، وليتنا لا نفعل شيئًا لا يليق بالله والمسيح، كما يحثنا الرسول[17].
يقول القديس إكليمنضس السكندري [صار كلمة الله إنسانًا (يو 14:1)، لتتعلم من الإنسان (السيد المسيح) كيف يصير الإنسان إلهًا.] ويضيف أيضًا [من الممكن أن يصير الغنوسي إلهًا "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز 6:82).]
* لقد اغتنينا بروح الله، لأن روحه جاء ليسكن في قلوبنا، وأخذنا وضعنا بين أبناء الله، لكننا لم نفقد ما نحن عليه. إننا بشر حسب الطبيعة، وإن كنا نصرخ: "أبا الآب"[18].
* العمل الداخلي مع عناء الحب القلبي يجلب الطهارة، والطهارة تجلب هدوء القلب الحقيقي، وهذا الهدوء يجلب التواضع، والتواضع يجعل الإنسان مسكنًا لله! والأرواح الشريرة مع الشيطان قائدها تُطرَد بعيدًا عن هذا المسكن مع أوجاعها المخجلة، وبذلك يصير الإنسان هيكلًا لله، مقدّسًا، مستنيرًا، مطهَّرًا، مُغتنيًا بالنعمة، مملوءًا بكل رائحةٍ زكية وحنوّ وابتهاج، ويصير الإنسان حاملًا لله (ثيؤفوروس)، بل بالحري يصير إلهًا حسب القول: "أنا قلتُ إنكم آلهة، وبنو العليّ كلّكم" (مز 82: 6).
* ارفع نظر قلبك الداخلي إلى الله، واستوثق من رؤيته مليًا، ثم اسأل منه ما تشاء باسم يسوع المسيح، فسيعطي لك، وفي لحظة يتم طلبك، لأنه في دقائق رفعة إيمانك الصادق به يصير اتحادك معه، وحينئذ ما تطلبه يكون لك حسب مشيئته، سواء كان من أجل خلاصك أنت أو لقريبك. لأنك في هذه اللحظة تكون شريك الألوهية باتحاد الروحي مع الله أنا قلت إنكم آلهة (مز 6:82) في ذلك الوقت لا يكون بينك وبين الله شيء لا مسافة زمنية ولا مكانية، وحالما تنطق بكلماتك يكون سماعها فاستجابتها وتحقيقها، لأنه قال فكان. هو أمر فصار (مز 9:33)، ألم يكن هذا هو الحال بالضبط في تحويل الأسرار المقدسة!
في عبارات قويّة يتحدّث القديس إكليمنضس السكندري عن فاعلية المعموديّة في حياة المؤمنين قائلًا: [هذا الأمر عينه يحدث لنا نحن أيضًا الذين قد صار لنا المسيح مثالًا. فإنّنا إذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نصير أبناء، وكأبناء نصير كاملين، وككاملين نضحي غير مائتين، كما قيل: "أنا قلت أنكم آلهة، وبنو العليّ كلّكم" (مز 82 (81): 6)].
[يُدعى هذا العمل بأسماء كثيرة: أعني نعمة واستنارة وكمالًا وحميمًا.
فهو حميم، به نغتسل من خطايانا،
ونعمة، إذ تنزع عنّا عقوبات تعديّاتنا،
واستنارة به نرى نور الخلاص المقدّس، أعني إنّنا نشخص به إلى الله بوضوح، وندعوه كمالًا، إذ لا ينقصه شيء، لأنه ماذا ينقص من يعرف الله؟![19]]
* ستلاحظون أيضًا كيف أن حكمة الله تعطي لقب الآلهة، ليس فقط للكائنات السماوية التي هي أسمى منا، بل وللناس المقدسين بيننا الذين يتميزون بحب الله (مز 82: 1؛ 95: 3)[20].
الأب ديونيسيوس الأريوباغي
* إن كانوا يظنون أن (المسيح) يُدعى إلهًا، لأن اللاهوت يسكن فيه، كما كان حال الكثيرين من القديسين، لأن الكتاب يدعوهم آلهة هؤلاء الذين جاءتهم كلمة الله" (يو 10: 35). فإنهم بهذا يضعونه بين الناس، بل يقارنوه بهم. يحسبون بنفس الطريقة التي عليها الآخرون، كما قيل لموسى: "أنا جعلتك إلهًا لفرعون" (خر 7: 1). بنفس الطريقة قيل أيضًا في المزامير: "أنا قلت إنكم آلهة" (مز 82: 6)[21].
* "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز 82: 6)... إننا آلهة ليس بالطبيعة، وإنما بالنعمة.
"وأما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله" (يو 1: 12). لقد خلقت الإنسان بهذا الهدف، أن أجعل من البشر آلهة...
تخيلوا عظمة كرامتنا؛ نحن نُدعى آلهة وأبناء!
إنني أجعلكم آلهة، كما جعلت موسى إلهًا لفرعون، حتى إذ تصيرون آلهة، تتأهلون أن تكونوا أبناء لله[22].
* إنه الله الحقيقي، الواحد مع الآب الحقيقي، أما بقية الكائنات الأخرى التي قال لها: "أنا قلت إنكم آلهة" (مز 82: 6)، فلهم هذه النعمة من الآب فقط بشركتهم في الكلمة بالروح. فهو ذات ختم الآب، بكونه النور من النور، وقوة جوهر الآب وصورته[23].
لَكِنْ مِثْلَ النَّاسِ تَمُوتُونَ،
وَكَأَحَدِ الرُّؤَسَاءِ تَسْقُطُونَ [7].
إذ يتشامخ البعض بسبب مراكزهم أو السلطان المُعطى لهم، لذلك يؤكد المرتل أنهم لا يزالون مثل باقي البشر، يليق بهم أن يدركوا أن الموت سيلحق بهم يومًا ما، فيُجردهم من مراكزهم وسلطانهم، وينزل بهم من كراسيهم، ليقفوا كسائر البشر أمام الديان العادل.
وقد قيل لنا: "لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 7:82). على من ينطبق هذا القول بأن كثيرين من الرؤساء قد سقطوا؟ يرى الأب سيرينوس أن الرؤساء هم الملائكة، سقطوا عن رتبهم المتنوعة من مواضعهم السمائية ثمرة شرهم، وأنهم أيضًا حملوا رتبًا حسب درجة شرهم. وكأنهم كما حملوا رتبًا متنوعة في حياتهم الملائكية، نالوا في سقوطهم رتبًا مضادة حسب درجة شرهم.
* لكن مثل الناس تموتون" [7]. ها أنتم ترون الإنسان يموت. أما الله فلا يموت. آدم أيضًا طالما أطاع الوصية لم يمت، كان إلهًا ولم يمت. بعد أن ذاق الشجرة الممنوعة مات للحال. في الواقع يقول له الله: "يوم تأكل منها تموت" (تك 2: 17)[24].
* إن كان أحد ليس بعد كذابًا، ويثبت في الحق، مثل هذا ليس بإنسانٍ، بل يقول له الله ولمن هم مثله: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز ٨2: ٦)، ولا تُضاف العبارة: "بالحقيقة تموتون كبشرٍ" (مز ٨2: ٧).
إن لم يثبت أحد في الحق، فمن الواضح أن إبليس القتال من البدء لا يثبت في الحق... وقد جاء السبب مُعبرًا عنه بعد ذلك: "لأنه ليس فيه حق". أما السبب أن الحق ليس فيه فهو أنه خُدع ويقبل الكذب، وأنه خدع نفسه بنفسه. على هذا الأساس حُسب أشر من كل بقية المخدوعين، إذ خُدعوا بواسطته، أما هو فخلق الخداع لنفسه[25].
* لست مثلكم، ولا أحاكي خستكم التي تمرستم عليها جيدًا. فأنا لم آتٍ من نفسي، ولا أنا بمرسل نفسي مثلكم، بل أنا آتٍ من السماء، والذي أرسلني هو حق، وليس مثل الشيطان مرسلكم، شيطان الكذب، الذي تقبلون روحه، فتتجرأون على التنبؤ بالكذب، الذي هيجكم لتخترعوا كلمات من الله، فهو ليس حقًا، لأنه كذاب وأبو الكذاب (يو ٨: ٤٤).
* إنه بنوعٍ من القوة (العنف) يخطئ الإنسان، لهذا يتطلب الأمر الإصلاح بالضعف (التواضع). إنه بالكبرياء يخطئ، ويلزم التواضع لكي يتأدب. كل الأشخاص المتكبرين يدعون أنفسهم شعبًا قويًا. لهذا فإن كثيرين (آخرين) يأتون من المشارق والمغارب، ويجلسون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات (مت 8: 11)... انظروا فإنكم مائتون، وتحملون جسمًا جسديًا يفسد. "كأحد الرؤساء تسقطون، مثل الناس يموتون" (راجع مز 82: 7)، وتسقطون كالشيطان...
الشيطان متكبر، إذ ليس له جسم مائت، إنه ملاك. أما أنتم فقد قبلتم جسمًا مائتًا... لكي ما تتواضعوا بضعفكم العظيم، فإنكم تسقطون كأحد الرؤساء. إذن هذه هي أول نعمة كعطية من الله تجلبنا أن نعترف بضعفنا. فكل ما نفعله من صلاح، وكل ما لدينا من قدرات، فإننا ننال هذا فيه، حتى من يفتخر فليفتخر في الرب (1 كو 1: 31). يقول: "لأني حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 10)[26].
* بما أنكم تفسدون الحق، وتغشون حكمتكم بالظلم، لذلك تموتون موت ذوي الآراء البشرية، وهو الموت الحاصل من الخطية. وتسقطون بإرادتكم من الشرف المعطى لكم، كما يسقط رؤساء الوثنيين وحكامهم، وكما سقط الشيطان أحد رؤساء الملائكة.
* تجرب بعض الشياطين النجسة الإنسان كإنسانٍ، وبعضها كحيوانٍ أبكم.
النوع الأول (من التجارب) يبث فينا أفكار المجد الباطل أو الكبرياء أو الحسد أو الدينونة، هذه التي لا تصيب أي حيوان أبكم.
أما النوع الثاني فيثير فينا الغضب والشهوة، وهذه الأمور نشترك فيها مع الحيوانات غير الناطقة، وهي مخيفة، تحط من الطبيعة العاقلة.
من أجل هذا يقول الروح القدس بالنسبة للأفكار التي تأتى للإنسان كإنسانٍ: "أنا قلت لكم إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 6:82-7).
أما بالنسبة للأفكار التي تتحرك في الإنسان كحيوانٍ أبكم، فيقول: "لا تكونوا كفرسٍ أو بغلٍ بلا فهم، بلجامٍ وزمامٍ زينته يُكَمُّ لئلا يدنو إليك" (مز 9:32)[27].
* لأننا لم ننل نعمة تؤخذ منا أو تتغير كما كان الحال مع اليهود. وما قيل لهم لا ينطبق علينا عندما قيل: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 82: 6-7). والسبب أنهم نالوا نعمة العبودية لله، بينما نلنا نحن نعمة البنوة التي لا تتغير، كما يعلمنا بولس الرسول: "إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ: أبّا أيها الآب" (رو 8: 15). فترى الحقيقة أننا ننادي الله كأبانا الذي في السماوات وقت التقدم من الأسرار الإلهية، بسبب النعمة المعطاة لنا بالروح... لأن الروح هو الذي يؤهلنا أن ندعوه الله "أبانا". في تلك اللحظة هؤلاء الذين يدعون الله أبانا، وينتظرون نوال الأسرار وهم كلهم خطاة. بسبب الخطايا التي ارتكبناها منذ المعمودية ننال الأسرار بمواظبة[28].
* تحدث عن سقوط الشيطان وملائكته وقد رثاهم النبيان حزقيال وإشعياء:
"يا ابن آدم ارفع مرثاة على ملك صور وقل له:
هكذا قال السيد الرب: أنت خاتم الكمال ملآن حكمة وكامل الجمال. كنت في عدن جنة الله.
كل حجر كريم، ستارتك عقيق أحمر وياقوت أصفر وعقيق أبيض وزبرجد وجزع ويشب وياقوت أزرق وبهرمان وزمرد وذهب.
أنشأوا فيك صنعة صيغة الفصوص وترصيعها يوم خلقت.
أنت الكروب المنبسط المظلل وأقمتك. على جبل الله المقدس كنت. بين حجارة النار تمشيت.
أنت كامل في طرقك من يوم خُلقت حتى وُجد فيك إثم.
بكثرة تجارتك ملأوا جوفك ظلمًا فأخطأت.
فأطرحك من جبل الله، وأبيدك أيها الكروب المظلل من بين حجارة النار.
قد ارتفع قلبك لبهجتك. أفسدت حكمتك لأجل بهائك.
سأطرحك إلى الأرض، وأجعلك أمام الملوك لينظروا إليك.
قد نجست مقادسك بكثرة أثامك بظلم تجارتك" (حز 11:28-18).
ويقول إشعياء عن شيطان آخر:
"كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟!
كيف قُطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟!
وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السماوات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله، وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال.
أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي" (إشعياء 12:14-14).
يخبر الكتاب المقدس أن الشيطان لم يسقط وحده من حالته المباركة، بل يسقط التنين ومعه ثلث الكواكب (رؤ 4:12).
في أكثر وضوح يقول أحد الرسل: "والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم، بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام" (يهوذا 6).
هذا أيضًا وقد قيل لنا: "لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز7:80). على من ينطبق هذا القول بأن كثيرين من الرؤساء قد سقطوا؟[29]
قُمْ يَا اللهُ.
دِنِ الأَرْضَ،
لأَنَّكَ أَنْتَ تَمْتَلِكُ كُلَّ الأُمَمِ [8].
لم يقل: "دِن الأرض والسماء"، لأن السماء بلا خطية. فمن كان أرضًا سيُدان، أما من صار بالمسيح يسوع سماءً فيتمجد ويكلل ولا يُدان.
* قم يا الله. دِن الأرض. قم، فإن سفينتنا تلطمها الأمواج. قم يا الله، دن الأرض، لأن القضاة الأشرار يموتون مثل آدم، ويسقطون كأحد الرؤساء. قم، دِن، فإنك تخلص خليقتك... قم، فإنك تألمت لأجلنا، ومت لأجلنا، وتقوم وتخلصنا.
لنقل هذا بطريقة أخرى: يا من أتيت في تواضعٍ ومذلةٍ، تعال كَديانٍ وحررنا[30].
* الآن يجلس يهب المغفرة، لكن حين تأتي النهاية يقوم للدينونة، إذ يُقال: "قم يا الله، دن الأرض" (مز82: 8)[31].
* لقد انفتحت الأرض، الذي به يفَّلحها بأوامره ورحمته المملوءة حنوًا، محطما الشهوات الأرضية[32].
من وحي مز 82
عجيب أنت أيها الديان الأعظم
* عجيب أنت أيها الديان في تدبيرك وفي محبتك.
وأنت ديان الجميع تسألنا أن نخضع لكل ترتيب بشري.
نقدم الكرامة لمن لهم الكرامة،
ونخضع لأصحاب السلاطين.
ولكن تبقى ديان القضاة والرؤساء والعظماء.
فوق العالي من هو أعلى منه،
لا تترك البشرية تفترس بعضها البعض.
* في تواضع وأنت ديان المسكونة كلها تجلس مع مؤمنيك وتكرّمهم.
أقمت منهم أبناء لك، لا بالطبيعة بل بالتبني.
تكرم خدامك فتدعوهم آلهة،
من أجل السلطان الذي تهبه لهم.
* في تواضعك أقمت من خدامك قضاة.
قبلت من أجلنا أن تحمل جور خليقتك في طول أناةٍ عجيبة.
صرت مع المذلين والأيتام والمساكين والبائسين،
واحدّا معهم كأنك فقير.
اطمأنت نفوس المنسيين والمتألمين،
إذ وجدوا المخلص نفسه واحدًا منهم.
* يليق بالقضاة أن يقضوا بالعدالة للذليل واليتيم،
وينصفوا البائس والمسكين.
فإن هذا العمل هو لحساب المخلص نفسه.
* التحف البشر بالظلمة،
وهاجموا النور الحقيقي.
خجلت الشمس وأيضًا القمر، بل وكل الطبيعة من فساد البشر.
تزعزعت الأرض، وتشققت الصخور
تعلن احتجاجها على بني البشر.
ويبقى الديان في حبه يحتمل الآلام والعار، حتى موت الصليب.
بموته أمات الموت،
وبقيامته وهبنا الحياة المقامة.
* بصعوده حوَّل أرضنا إلى سماء،
لا نعود نخشى يوم الدينونة،
لأننا صرنا سماءً.
ليقم ويدين الأرض،
وأما السماء فتمتلئ مجدًا!