المسيح والتركيز في التعليم والبعد عن السطحية
للمتنيح الأنبا غريغوريوس
كانت هذه النقطة من أعظم توجيهاته,ومن أوضحها في تعليمه.كان يلح علي الدخول إلي أعماق الأشياء,والاهتمام بجوهرها ولبابها,وعدم الوقوف عند أطرافها وسطوحها.إذا تكلم عن وصية إلهية فكان يدخل بتلاميذه وسامعيه إلي فحواها ومضمونها العميق,ومغزاها الباطني.ولذلك كان يلوم قادة اليهود ورؤساءهم ممن ركزوا اهتمامهم علي مظهر الوصية,دون حقيقة جوهرها.
تأمل تعاليمه في موعظته علي الجبل تجده مثلا في كلامه عن وصية القتل -وهي الوصية السادسة من الوصايا العشر- يبين أن القتل لا ينحصر فيما فهمه زعماء اليهود من فعل ظاهر تنحل به عقدة الاتحاد بين الروح والبدن,وإنما مفهوم القتل يمتد إلي أفعال أخري كالغضب,وهو علة القتل وسببه,كما أنه -أي الغضب- هو في ذاته قتل للغاضب,وللمغضوب عليه.إنه يقتل الغاضب نفسه بما يثيره في ذاته من انفعالات ضارة مدمرة قد يسقط بسببها فاقد الحياة أو علي الأقل قد يصاب بسببها بأمراض في جسده تؤدي به عاجلا أو آجلا إلي موت محقق ليس للجسد فقط بل للنفس أيضا,وللعقل أحيانا.يقول السيد المسيح:قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تقتل,ومن قتل,يستوجب حكم القضاء.أما أنا فأقول لكم:إن كل من غضب علي أخيه من غير سبب,يستوجب حكم القضاء.ومن قال لأخيه راقا يستوجب حكم المجلس.أما من قال يا أحمق فيستوجب نار جهنم (متي5:22,21).
فلم يكتف السيد المسيح بتعليمه بالمفهوم السطحي الخارجي لفعل القتل,وإنما وجه النظر إلي أن هناك ما هو علة وسبب للقتل,ينبغي أن يتجنبه الراغبون في طاعة الله ومحبة الفضيلة,وأعني به الغضب,الذي يولد القتل ويقود إليه,ولابد للإنسان من أن يتحكم في انفعال الغضب حتي يستطيع أن يتجنب رذيلة القتل,فضلا عن أن الغضب هو في ذاته قتل,من نوع باطني مستور.ولذلك فإن السيد المسيح بتعليمه عن مقاتلة الغضب لم يغير من نص الوصية القديمة بزيادة أو نقص,وإنما مد آفاق المفهوم من الوصية القديمة من دون إلغاء لنص الوصية السادسة من الوصايا العشر.وهذا المد هو في واقع الأمر كشف لما كان مستورا من الوصية,ودخول إلي أعماقها.
وكذلك صنع في حديثه عن الوصية السابعة من الوصايا العشر,قال:سمعتم أنه قيل للأولين لا تزن.أما أنا فأقول لكم:إن كل من نظر إلي امرأة لكي يشتهيها فقد زني بها فعلا في قلبه (متي5:28,27).
فلربما يتبادر إلي الذهن لأول وهلة أن السيد المسيح يقدم في هذا النص تعليما يتعارض أو يتناقض مع الوصية السابعة.ولكن بشئ من التفكير العميق يتبين لنا أنه في موعظته علي الجبل,يلقي ضوءا جديدا علي الوصية القديمة.فينير ما خفي منها علي السطحيين من زعماء اليهود وقادتهم,ومن تأثر بتعليمهم السطحي الخارجي,من دون أن يغير من نص الوصية,أو يلغي منطوقها.إنه له المجد ينبه الأذهان إلي فعل أسبق من فعل الزني,وهو فعل الاشتهاء,واشتعال الرغبة في الجنس,مبينا أن هذا الفعل الأخير هو الأسبق,وهو المحرك والمثير,والعامل الدافع إلي فعل الزني الظاهري,وليس ذلك فقط,بل إن فعل الاشتهاء واشتعال الرغبة في الجنس هو في حقيقته وجوهره,زني بكل معني الكلمة.وكل الفارق بينه وبين الزني المعروف بين الناس,أن فعل الاشتهاء هو زني تام يحدث في داخل النفس والبدن,وإن كان الناس لا يرونه في الظاهر,ولا يتعقبه القانون الوضعي,ولا تكتمل له الأدلة الظاهرة الدالة عليه.إن الاشتهاء واشتعال الرغبة في الجنس هو زني حقيقي,لكنه باطني مستور عن عيون الناس,فالنفس تتدنس بالرغبة وبالشهوة وبالهوي,وتنفعل بالفكر وتستمرئه وتلتذ به,وأما البدن فينفعل كذلك بما تنفعل به النفس المرتبطة به,ويستجيب للرغبة والشهوة,فتتحرك الأعصاب والعضلات,بل إن الانفعال يثير الغدد الصماء فتفرز في الدم إفرازاتها,وتغير من تركيبه,وتتحرك تبعا لهذا كله سائر أجهزة الجسم بكل أعضائها وأنسجتها وخلاياها,وعلي رأسها جميعا الجهاز العصبي بكل شعيراته وغدده,وبهذا يكون فعل الزني قد تم بكل مفهوماته في داخل النفس والبدن.وإذن فهو زني تام,بكل ما في الكلمة من معني.وعلي هذا فإن السيد المسيح بتعليمه علي الجبل,كشف عن هذا النوع من الزني الباطني,وهو في واقع الأمر الزني الحقيقي من حيث باطن الوصية وجوهرها.
ومن آيات تعليمه بالدخول إلي أعماق الحياة الدينية وعدم الاكتفاء بسطحيات الديانة وظواهر النصوص,وشكليات الأداء الخارجي للطقوس الدينية,توبيخه لزعماء اليهود وقادتهم الدينيين ومن يجري مجراهم في الاهتمام بالمظهر دون الجوهر.تأمل قوله مثلا:الويل لكم أيها القادة العميان القائلون:إن من أقسم بالهيكل فلا عليه,وأما من أقسم بذهب الهيكل فقد التزم بقسمه.أيها الأغبياء والعميان,أيهما أعظم أهو الذهب أم الهيكل الذي يقدس الذهب...الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون لأنكم تطهرون خارج الكأس والصحفة في حين أن باطنهما ممتلئ نهبا ونجاسة.أيها الفريسي الأعمي طهر أولا داخل الكأس والصحفة حتي يكون خارجهما طاهرا أيضا.الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون,لأنكم تشبهون القبور المبيضة التي تبدو من الخارج جميلة في حين أنها من الداخل ممتلئة عظام أموات وكل نجاسة.هكذا أنتم,تبدون للناس في ظاهركم أبرارا,في حين أنكم في باطنكم ممتلئون رياء وإثما ( متي23:16-28) وقال لهم الرب:أنتم أيها الفريسيون تطهرون خارج الكأس والصحفة,في حين أن باطنكم ممتلئ نهبا وخبثا.أيها الأغبياء أليس الذي صنع الخارج هو الذي صنع الداخل أيضا؟ فالأحري بكم أن تعطوا ما عندكم صدقة,ومن ثم يكون كل شئ طاهرا لكم (لوقا11:39-41).
وقال أيضا في تعليمه وهو يوبخ حرص معلمي اليهود علي طهارة المظهر دون الجوهر,واهتمامهم الشديد بغسل أيديهم,وبغسل الآنية والأدوات علي حساب اهتمامهم بطهارة بواطنهم:اسمعوا لي جميعا وافهموا.لا شئ مما هو خارج الإنسان إذا دخله يمكن أن ينجسه,وإنما ما يخرج من فم الإنسان...وحين جاء من عند الجمع ودخل البيت سأله تلاميذه عن المثل.فقال لهم:أهكذا أنتم أيضا بلا فهم؟ ألا تفهمون أن كل ما هو في الخارج إذا دخل الإنسان لا يمكن أن ينجسه,لأنه لا يدخل في قلبه وإنما في جوفه ثم يندفع إلي الخارج وبذلك جعل كل الأطعمة طاهرة.ثم قال:إن ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجس الإنسان.لأنه من الداخل,من قلوب الناس,تخرج الأفكار الشريرة,يخرج الزني,والفجور,والقتل,والسرقة,والطمع,وال خبث,والمكر,والعهارة,والعين الشريرة,والتجديف,والكبرياء,والجهل.فهذه الشرور كلها تخرج من الداخل,وهي التي تنجس الإنسان.وأما الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجس الإنسان (مرقس7:14-23),(متي15:10-20).
ومن بين أقواله التي يستحث بها تلاميذه وكل الناس إلي الدخول إلي الأعماق في كل شئ,قوله في مثل الزارع:وسقط البعض علي البقاع الصخرية,حيث لا تتوافر التربة,فسرعان ما نبت,إذ لم يكن له عمق في الأرض.حتي إذا أشرقت الشمس احترق,وإذ لم يكن ذا جذور جف (متي13:6,5),(مرقس4:6,5) وقوله لسمعان بطرس:تقدم إلي العمق وألقوا شباككم للصيد (لوقا5:4) وفي مواجهته لليهود قال لهم:لا تحكموا حسب الظاهر وإنما احكموا بالحق (يوحنا7:24).
تلك بعض صفات المعلم الأعظم,ومميزات شخصيته,التي تبرزه كمعلم نموذجي ومثالي,منه يتعلم المعلم كما يتعلم التلميذ,مواصفات المعلم كما يجب أن يكون,في صفاته الشخصية ومؤهلاته الذاتية.وقد يتوافر لبعض المعلمين بعض تلك الصفات والملامح والمميزات بنسبة متواضعة أو مرتفعة.أما في المسيح ففيه كل هذه الصفات والخصائص,مجتمعة,متلائمة,متكاملة,متناسقة, إلي جانب غيرها من صفات أخري لم نذكرها ولا نعيها,ولا نستطيع أن نحصرها,لجهلنا بها,وعدم معرفتنا لها كلها.وفي كل صفة من تلك وهذه الصفات,بلغ المسيح أعلي مراتب الكمال التي هي أرفع من منالنا وأعلي من منسوبنا.ومع ذلك يجد المعلم,كل معلم,في هذه السيرة الطاهرة المقدسة لهذا المعلم الأعظم,نموذجا يحتذيه,ومقياسا يقيس نفسه به,ويقتبس منه,ويأخذ عنه.